تشويق المهج بحِكَمِ وفضائل الحج

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .. أما بعد :
فها قد دخلنا في أشهر الحج ، مما يحرك في قلب كل مؤمن الشوق لأداء الحج فريضة ونافلة .
وقد فرض الله تعالى على عباده فرائض ، وجب عليهم أن يلتزموها ولا يضيعوها ؛ وجعل لمن أدى هذه الفرائض - فضلا منه - أجرًا وجزاءً ، وتوعد المقصرين - عدلا منه - عز وجل - نكالًا وعذابًا ، { جَزَاءً وِفَاقًا } [ النبأ : 26 ] . ومع أنه يجب على العباد أن يذعنوا لأمر ربهم ويسارعوا إلى طاعته ، فهو سبحانه المستحق لذلك وحده ؛ فقد أودع الله تعالى فيما فرض على عباده فضائل ووجوهًا من الْحِكَم ، منها ما هو ظاهر جلي ، ومنها ما هو باطن خفي ، مما يُرَغِّب العباد ويشوقهم إلى نيل فضائل هذه العبادات ، والنظر في حِكَمِهَا الظاهرة والباطنة .
وقد تناول العلماء في شروحهم بعض هذه الحِكَم بالبيان ، وأفرد بعضهم الحديث عن حِكَم العبادات إما في عناوين خاصة عند الحديث عنها ، أو في مصنفات منفردة .
وقد نالت فريضة الحج اهتمام العلماء بالحديث عن الحِكَم المبثوثة في كل نسك من مناسكها ؛ وبينوا ما ظهر لهم من حِكَمٍ أدركها المتأملون وأحسها العابدون ؛ مما كان فيه إعانة على الطاعة ، والاجتهاد في أدائها على الوجه الذي يحصِّل فيه العابد ما في هذه العبادة من فضل وأجر ؛ فإن النفوس تتوق إلى الْحِكَمِ الباطنة لتعلي همتها ، وترقى بها من الدرجات أعاليها .
ويتجدد شوق المؤمن دائمًا إلى بيت الله الحرام للحج أو العمرة ؛ لقول الله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } [ البقرة : 125 ] ؛ ومثابة ، أي : مرجعًا يثوب إليه العمار والحجاج ؛ والمراد أنه يقصده الناس بالتعظيم ، ويلوذون به ؛ أي : يزوره ناس ويذهبون ، فيخلفهم ناس ... وهكذا . وقال ابن جماعة - رحمه الله : قيل إن سبب هذا الشوق دعاء إبراهيم  حيث قال : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] ، قال جماعة من المفسرين : معناه تحنُّ إليهم ، ولو قال : ( فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ) لحجه اليهود والنصارى ( 1 ) ؛ أي : لو كان دعاء إبراهيم ( أفئدة الناس ) لا ( أفئدة من الناس ) ، لكان جميع الناس حتى اليهود والنصارى يدخلون في الدعاء ، ولكنه خصَّ ، واستجيب له .
وهذه رسالة جَمعتُ فيها ما انتهيت إليه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال أهل العلم حول فضائل الحج وحِكَمِهِ ، رجاء أن ينتفع بها المسلمون ، فيكون مشوِّقًا لهم لأداء الحج والعمرة ؛ ولذلك سميته :
( تشويق الْمُهَجِ بحِكَمِ وفضائل الحج )
واخترت لفظ ( حكم ) بدلا من لفظ ( أسرار ) وإن استعمله بعض العلماء ؛ إذ الحكمة تظل حكمة ظهرت أم خفيت ؛ وأما السرُّ فهو سر ما خفي ، فأما إذا ظهر لم يعد سرًّا ؛ والعلم عند الله تعالى .
وسأتناول في هذه الرسالة ما يلي :
فضل مكة
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
فضل الحج المبرور والعمرة
فضل تكرار الحج كل خمسة أعوام
الاستخارة قبل الحج والحِكمة منها
التوبة ورد المظالم قبل الحج
التزود للحج
فضل الاقتصاد في نفقة الحج
اختيار الرفقة الصالحة
مواعظ في الطريق
الخروج من البلد
المخاوف التي يلاقيها في الطريق
رفع الصوت بالتلبية
دخول مكة
عند رؤية البيت
تقبيل الحجر وفضله
فضل الطواف
الالتصاق بالملتزم
النظر إلى البيت عبادة
فضل ماء زمزم
حِكَم السعي بين الصفا والمروة
فضل يوم عرفة
حِكَم الوقوف بمزدلفة
فضل الحلق
فضل أيام التشريق
فضل رمي الجمار
نحر الهدي
بِرُّ الحج
طواف الوداع
وماذا بعد الحج
استقبال الحاج
فضل الموت في الحج
فضل الموت بعد الحج
والله أسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبي ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

( 1 ) انظر ( هداية السالك ) : 1 / 129 - دار البشائر - بيروت .
 
فضل مكة
مكة هي البلد الحرام والبلد الأمين ، وقد ذكروا لها أسماء كثيرة ، منها : بكة سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة ، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها ؛ والبيت العتيق ، والبيت الحرام ، وأم القرى ، والقادس لأنها تطهر من الذنوب ، والمقدسة ، والحاطمة لأنها تحطم الجبابرة ، والبلدة ، والكعبة ... وغير ذلك ، وكثرة الأسماء تدل على فضل المسمى .
وروى أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ رضي الله عنه قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ ، يَقُـولُ : " وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَيَّ ؛ وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ " ( 1 ) .
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسُ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ ، وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهَا ، فَيَنْزِلُ بِالسِّبْخَةِ ، فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ ، يَخْرُجُ إِلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ " ( 2 ) .

الترهيب من فعل السيئات بمكة
روى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه كان يَقُولُ فِي قَوْلِهِ عز وجل : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } [ الحج : 25 ] ، قَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ، وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ ، لَأَذَاقَهُ اللهُ عز وجل عَذَابًا أَلِيمًا ( 3 ) .

( 1 ) - أحمد : 4 / 305 ، والترمذي (3925) وصححه ، وابن ماجة (3108) ، وصححه ابن حبان (3708) ، والحاكم (4270) .
( 2 ) البخاري (1881) ، ومسلم (2943) واللفظ له.
( 3 ) أحمد : 1 / 428، 451 وهو موقوف صحيح . ورواه أبو يعلى (5384) والبزار (2024) ، والحاكم : 2 / 388 موقوفًا ومرفوعًا ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي .
 
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة
قال تعالى: { وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1 ، 2 ] ، قال ابن عباس ومجاهد والسدي والكلبي : هي عشر ذي الحجة ( 1 ) .
وقال تعالى : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } [ الحج : 28 ] ، قال ابن عباس  : الأيام المعلومات أيام العشر ( 2 ) . وروي مثله عن أبي موسى الأشعري ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم ، وهو مذهب الشافعي ، والمشهور عن أحمد بن حنبل ( 3 ) .
وروى البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ " ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " ( 4 ) .
وعند الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ " ( 5 ). وفي رواية للدارمي عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ عز وجل ، وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا ، مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى " قِيلَ : وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟! قَالَ : " وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ " قَالَ : وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا ، حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ( 6 ) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .

( 1 ) - القرطبي / 20 / 36.
( 2 ) علقه البخاري عنه بصيغة الجزم ؛ كتاب العيدين : باب فضل العمل في أيام التشريق ، ووصله البيهقي في الكبرى ( 10439 ) .
( 3 ) انظر ( تفسير القرآن العظيم ) للحافظ ابن كثير عند الآية ( 28 ) من سورة الحج .
( 4 ) البخاري (969)، وأبو داود (2438)، والترمذي (757)، وابن ماجة (1727).
( 5 ) أحمد: 2 / 75، 131، ورواه عبد بن حميد (807)، والبيهقي في الشعب (3751).
( 6 ) الدارمي ( 1774 ) ، وانظر صحيح الترغيب ( 1248 ) .
 
ما جاء في فضل الحج المبرور والعمرة
1 – روى الشيخان عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَنْ حَجَّ لِلَّهِ ، فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " وفي لفظ لمسلم : " مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " ( 1 ) ، وهذا اللفظ يجمع بين الحج والعمرة ، ويشهد له حديث ابن مسعود الآتي .
2 – روى مسلم عن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رضي الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ : ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ ، قَالَ : فَقَبَضْتُ يَدِي ، قَالَ: " مَا لَكَ يَا عَمْرُو ؟ " قَالَ : قُلْتُ : أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ ، قَالَ : " تَشْتَرِطُ بِمَاذَا ؟ " قُلْتُ : أَنْ يُغْفَرَ لِي ، قَالَ : " أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ " ( 2 ) .
3 - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُـئِلَ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " حَجٌّ مَبْرُورٌ " متفق عليه ( 3 ) . قال النووي - رحمه الله : الأصح الأشهر أن المبرور هو الذي لا يخالطه إثم ؛ مأخوذ من البر ، وهو الطاعة ؛ وقيل : هو المقبول ، ومن علامة القبول أن يرجع خيرًا مما كان ، ولا يعاود المعصية . وقيل : هو الذي لا رياء فيه ، وقيل : الذي لا يعقبه معصية ، وهما داخلان فيما قبلهما ( 4 ) .
4 - وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ " ( 5 ) .
5 – وروى أحمد والترمذي والنسائي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ " ( 6 ) . فالحج والعمرة ينفيان الذنوب صغيرها وكبيرها ، إذا حسنت النية وتمحض الإخلاص .
6 - روى ابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْحَاجُّ ، وَالْمُعْتَمِرُ : وَفْدُ اللَّهِ ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ " ( 7 ) .
7 - روى أحمد والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " جِهَادُ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ : الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ " ( 8 ) .
8 - روى البخاري والنسائي وابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ ، أَفَلَا نُجَاهِدُ ؟ قَالَ : " لَا ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ " ، وعند النسائي أنها قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَلا نَخْرُجُ فَنُجَاهِدَ مَعَكَ ، فَإِنِّي لَا أَرَى عَمَلًا فِي الْقُرْآنِ أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ ؟ قَالَ : " لَا ، وَلَكُنَّ أَحْسَنُ الْجِهَادِ وَأَجْمَلُهُ حَجُّ الْبَيْتِ حَجٌّ مَبْرُورٌ " . ولفظ ابن ماجة أنها قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لا قِتَالَ فِيهِ : الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ " ( 9 ) .
9 - روى أحمد والطبراني عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ " ، قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ ؟ قَالَ : " إِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ " ( 10 ) .
10 - روى أحمد والبيهقي عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ " ( 11 ) .
11 - روى ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استمتعوا من هذا البيت ؛ فإنه قد هدم مرتين ، ويرفع الثالثة " ( 12 ) .
12 - روى أحمد والطبراني عَنْ مَاعِزٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " إِيمَانٌ بِاللهِ وَحْدَهُ ، ثُمَّ الْجِهَادُ ، ثُمَّ حَجَّةٌ بَرَّةٌ ، تَفْضُلُ سَائِرَ الْعَمَلِ كَمَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا " ( 13 ) .

( 1 ) - البخاري ( 1521 ) ، ومسلم ( 1350 ) .
( 2 ) مسلم (121) .
( 3 ) البخاري (26) ، ومسلم ( 83 ) .
( 4 ) انظر شرح مسلم: 9 / 118، 119.
( 5 ) البخاري (1773)، ومسلم (1349).
( 6 ) أحمد: 1 / 397، والترمذي (810)، والنسائي (2631)، وابن حبان (3693)، ورواه أحمد: 1 / 25 عن عمر.
( 7 ) ابن ماجة (2893) واللفظ له، وابن حبان (4613). ورواه النسائي (2625)، وابن ماجة (2892) وابن خزيمة (2511)، وابن حبان (3692) عن أبي هريرة.
( 8 ) أحمد: 2 / 421، والنسائي (2626).
( 9 ) البخاري (1520، 2784)، والنسائي (2628)، وابن ماجة (2901).
( 10 ) أحمد: 3 /، والطبراني في الأوسط (8405)، وحسنه المنذري في الترغيب: 2 / 106، والهيثمي في المجمع: 3 / 334.
( 11) أحمد:، والبيهقي في الكبرى: 4 / 332، وحسنه المنذري في الترغيب: 2 / 113، وفيه أبو زهير حرب بن زهير ذكره البخاري في الكبير: 3 / 63، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا وذكر حديثه، ومسلم في الكنى والأسماء (1220)، وذكره ابن حبان في الثقات: 6 / 231، وانظر تعجيل المنفعة: 1 / 485؛ وله شاهد رواه ابن أبي شيبة (12660) عن محمد ابن عباد مرسلا، وآخر رواه الطبراني في الأوسط (5694) عن أنس، لكنه من رواية حرب بن زهير عن يزيد الضبعي عن أنس.
( 12 ) ابن خزيمة (2506)، وابن حبان (6753)، والحاكم (1610) وصححه على شرط الشيخين.
( 13 ) أحمد: 4 / 332 بإسناد صحيح، والطبراني في الكبير: 20 / 344، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1091).‌
 
ومن الآثار
1 - عن عمر رضي الله عنه قال: إذا وضعتم السروج ، فشدوا الرحال إلى الحج والعمرة ، فإنه أحد الجهادين ( 1 ) .
قال ابن حجر - رحمه الله : ومعناه إذا فرغتم من الغزو فحجوا واعتمروا ، وتسمية الحج جهادًا إما من باب التغليب ، أو على الحقيقة ؛ والمراد جهاد النفس ، لما فيه من إدخال المشقة على البدن والمال ( 2 ) .
2 - وقال عمر رضي الله عنه يومًا وهو بطريق مكة ، وهو يحدث نفسه : يشعثون ، ويغبرون ، ويتفلون ، ويضجون ، لا يريدون بذلك شيئًا من عرض الدنيا ! ما نعلم سفرًا خيرًا من هذا ( 3 ) . يعني : الحج .
3 - قال سعيد بن جبير - رحمه الله : ما أتى هذا البيت طالب حاجة قط لدين أو دنيا إلا رجع بحاجته ( 4 ) .
4 - وعن جابر بن زيد - رحمه الله - قال : نظرت في أعمال البر ، فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المال ، والصيام مثل ذلك ، والحج يجهد المال والبدن ، فرأيت أن الحج أفضل من ذلك كله ( 5 ) .
قال ابن جماعة – رحمه الله : ووافق أبا الشعثاء على ذلك جماعة من العلماء ( 6 ) .

( 1 ) رواه عبد الرزاق (8808، 9282).
( 2 ) فتح الباري : 3 / 381.
( 3 ) رواه الفاكهي في أخبار مكة ( 887 ) ، وهو في كنز العمال (12388) وقال في الكنز نقلا عن القاموس : يغبرون ، والمغبرة قوم يغبرون بذكر الله ، أي: يهللون ويرددون الصوت بالقراءة وغيرها ، سموا بها لأنهم يرغبون الناس في الغابرة ، أي : الباقية . ويتفلون : تفل كفرح : تغيرت رائحته . ويضجون أضج القوم إضجاجًا : صاحوا وجلبوا ، فإذا جزعوا وغلبوا فضجوا يضجون ضجيجًا .
( 4 ) رواه ابن أبي شيبة ( 12662) ، وانظر هداية السالك : 1 / 18.
( 5 ) رواه أبو نعيم في الحلية : 3 / 87 ، والفاكهي في أخبار مكة ( 888 ) ، وانظر صفة الصفوة : 2 / 141.
( 6 ) هداية السالك : 1 / 8 .
 
فضل تكرار الحج كل خمسة أعوام
روى أبو يعلى وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : إِن عبدًا أصححتُ لَهُ جِسْمه ، ووسعت عَلَيْهِ فِي الْمَعيشَة ، يمضى عَلَيْهِ خَمْسَة أَعْوَامٍ لَا يفد إِلَيًّ لمحروم " قال البيهقي : وقال علي بن المنذر : أخبرني بعض أصحابنا قال : كان حسن بن حيي يعجبه هذا الحديث ، وبه يأخذ ؛ ويحب للرجل الموسر الصحيح أن لا يترك الحج خمس سنين ( 1 ) .
قال جمال الدين بن محب الدين الطبري - رحمه الله : ولعل بعض الكسلانين ممن قد حج يتوهم أن هذا الخطاب مقصور على من لم يأت بالفرض ( 2 ) ولا أهمه الوصول له ، ويقول : لم يكلفني الله تعالى بذلك غير مرة ، وقد أسقطت الفرض . فنقول له : هب أن الله تعالى لم يكلفك حج بيته غير مرة في العمر تخفيفًا عليك ، وجعل ما عداها مندوبًا باختيارك وراجعًا إليك ؛ أما يشوقك ما فهمته من معنى كون البيت بيت الله ، وأنه وضع على مثال حضرة الملوك لأداء خدمته ؟! أما تنبعث همتك للوفود على ساحة الله ، والورود على حياض نعمته ؟! أما لك ذنوب تحتاج إلى العفو عنها بقصد جنابه الكريم ؟! أما لك حاجة تهتم بسؤالها منه عند بابه العظيم ؟! أما لك غرض أن تخالط زمر المترددين إلى فنائه ؟! أما بك فاقة إلى نيل ما أعده من نعمائه ؟! أما علمت أن الزهد فيما عند الله تعالى وصف مذموم ؟! أما بلغك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: إن من أصححت بدنه ، ووسعت في رزقه ، ثم لم يزرني في كل خمسة أعوام عامًا لمحروم " ( 3 ) .

( 1 ) أبو يعلى ( 1031 ) ، وابن حبان ( 3703 ) ، والبيهقي في الشعب ( 4132 ) ، وانظر صحيح الترغيب ( 1166 ) .
( 2 ) يعني قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } .
( 3 ) التشويق إلى البيت العتيق ص 58، 59.
 
الاستخارة قبل الحج والحِكمة منها
تستحب الاستخارة فيما لا يعلم الإنسان الخير فيه ، والحج خير بلا شك ، فلا تكون الاستخارة في أن يحج المسلم أو لا يحج ، وإنما فيما يتعلق بتوقيت أدائه وأسباب ذلك .
روى البخاري عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ ، يَقُولُ : " إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ، ثُمَّ لِيَقُلِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ( أَوْ قَالَ : عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ) ، فَاقْدُرْهُ لِي ، وَيَسِّرْهُ لِي ، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ ؛ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ( أَوْ قَالَ : فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ ) ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي ، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ ، وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ " قَالَ : " وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ " ( 1 ) .
قال المحب الطبري - رحمه الله : وهذه الاستخارة لا ترجع إلى نفس الحج ، فإنه خير لا محالة ، وإنما ترجع إلى تعيين وقت الشروع فيه وتفاصيل أحواله ( 2 ) .
وقال ابن جماعة - رحمه الله : وينبغي أن تكون الاستخارة بعد الاستقامة ، فإن مثل المستخير وهو على العصيان ، كمثل عبد متمادٍ على إباقه ، ويرسل إلى سيده بأن يختار له من خيار ما في خزائنه ، فيُعَدُّ بذلك أحمق بين الحمق ؛ وأن يكون قد جاهد نفسه ، حتى لم يبق لها ميل إلى فعل ذلك الشيء ولا تركه ، ليستخير الله تعالى وهو مُسَلِّمٌ له ، فإن تسليم القياد مع الميل إلى أحد القسمين خيانة في الصدق ، وأن يكون دائم المراقبة لربه سبحانه وتعالى من أول صلاة الاستخارة إلى آخر دعائه ، فإن المناجي للملك إذا تغافل عن الملك ، والتفت بوجهه عنه يمينًا وشمالا ، فهو حقيق أن ينال من الملك الطرد والحرمان ، وينبغي إذا انشرح صدره لشيء بعد الفراغ من الدعاء أن يقدم عليه ، فإن توقفه ضعف وثوق منه بخيرة الله تعالى له ( 3 ) .
هذا ، والعلم عند الله تعالى .

( 1 ) رواه البخاري (1166، 6382، 7390).
( 2 ) التشويق إلى بيت الله العتيق ص 65.
( 3 ) هداية السالك / 1 / 138 / ط دار البشائر، بيروت.
 
التوبة ورد المظالم قبل الحج
توبة الإنسان ورد المظالم من المهمات قبل الحج ؛ وشروط التوبة : الإقلاع عن الذنوب ، والندم على ما مضى منها ، والعزم على عدم العود إليها ؛ وإن كان عنده للناس مظالم من نفس أو مال أو عرض ردها إليهم ، أو تحللهم منها قبل سفره ؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ " ( 1 ) .
قال ابن جماعة - رحمه الله : واعلم أن كل معصية ، أو مظلمة ، أو حق وجب عليك أداؤه ، فإنه كغريم متعلق بك يمنعك من الوصول ، قائل لك بلسان الحال : كيف تقصد ملك الملوك ، طامعًا في رضاه عليك وإحسانه إليك ، وأنت مصرٌّ على معصيته ، عاكف على مخالفته، أفلا تخشى من الرد والطرد وخيبة المسعى ، فيكون حظك من سفرك النصب ، ومن ربك المقت والغضب ( 2 ) .

( 1 ) ـ رواه البخاري (2449، 6534)، والآية من سورة البقرة (197).
( 2 ) هداية السالك / 1 / 138 / ط دار البشائر، بيروت.
 
التزود للحج
روى أحمد والبيهقي عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ " ( 1 ) .
وروى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي اللَّه عَنْهمَا - قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ ، وَيَقُولُونَ : نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } ( 2 ) .
قال ابن جماعة : وليتذكر بإعداد الزاد وضرورته إليه أن ضرورته إلى زاد سفر الآخرة أشد ، فالاهتمام به أحق ، لأن سفر الآخرة أطول ، والتحصيل فيه مأيوس منه ، بخلاف سفر الدنيا ، ولذلك نبه الله عز وجل عليه عند الأمر بالتزود ، فقال : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } لأنها زاد سفر الآخرة ، وكلما طالبتك نفسك بالاهتمام بكثرة الزاد ، فخذها بتكثير زاد سفر الآخرة ( 3 ) .
( 1 ) - أحمد:، والبيهقي في الكبرى: 4 / 332، وحسنه المنذري في الترغيب: 2 / 113، وفيه أبو زهير حرب بن زهير ذكره البخاري في الكبير: 3 / 63، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا وذكر حديثه، ومسلم في الكنى والأسماء (1220)، وذكره ابن حبان في الثقات: 6 / 231، وانظر تعجيل المنفعة: 1 / 485؛ وله شاهد رواه ابن أبي شيبة (12660) عن محمد ابن عباد مرسلا، وآخر رواه الطبراني في الأوسط (5694) عن أنس، لكنه من رواية حرب بن زهير عن يزيد الضبعي عن أنس.
( 2 ) البخاري (1523) .
( 3 ) هداية السالك : 1 / 144 .
 
فضل الاقتصاد في نفقة الحج​
من أبرز مظاهر الحج : التواضع لله تعالى ، ولذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولا تابعيهم بإحسان يتكلفون في النفقة في الحج ؛ روى البخاري عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ : حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا ، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ ( 1 ) . ورواه ابن ماجة من طريق أخرى عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه قَالَ: حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ( أَوْ لَا تُسَاوِي ) ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ " ( 2 ) .
وقد كان الاقتصاد في نفقة الحج من سنن النبيين - أيضًا ؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا ، مِنْهُمْ مُوسَى ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ عباءتانِ قَطْوانِيَّتانِ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ شَنُوءةَ ، مَخْطُومٍ بِخِطَامِ لِيفٍ ، لَهُ ضَفْرَانِ " ( 3 ) .
وروى أبو داود عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ رَأَى رُفْقَةً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ رِحَالُهُمْ الْأَدَمُ ، فَقَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَشْبَهِ رُفْقَةٍ كَانُوا بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَؤُلَاءِ ( 4 ) . وكان ابن عمر : إذا نظر إلى ما أحدث الحجاج من الزي والمحامل يقول : الحاج قليل ، والركب كثير ، ثم نظر إلى رجل مسكين رث الهيئة تحته جوالق ؛ فقال : هذا نعم من الحجاج ( 5 ) .
وذكر ابن الجوزي عن الفضل بن ربيع قال : حججت مع هارون الرشيد ، فمررنا بالكوفة ، فإذا بهلول المجنون يهذي ، فقلت : اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين . فسكت : فلما حاذاه الهودج قال : يا أمير المؤمنين حدثني أيمن بن نابل قال : أنبأنا قدامة بن عبد الله العامري قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث ، فلم يكن ثَمَّ طرد ، ولا ضرب ، ولا إليك إليك . قلت : يا أمير المؤمنين إنه بهلول المجنون . قال : قد عرفته ، قل يا بهلول ! قال : يا أمير المؤمنين .
هب أنك قد ملكت الأرض طُرًّا ... ودان لك البلاد فكان ماذا ؟
أليس غـدًا مصيرك جوف قبر ... ويحثو الترب هـذا ثم هذا ؟
قال : أجدت يا بهلول ، أفغيره ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، من رزقه الله جمالا ومالا ، فعف في جماله ، واتقى في ماله ، كتب في ديوان الأبرار . قال : فظن أنه يريد شيئًا . قال : فإنا قد أمرنا بقضاء دينك . قال : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، لا تقض دينا بدين ، اردد الحق إلى أهله ، واقض دين نفسك من نفسك . قال : إنا قد أمرنا أن تجرى عليك جراية . قال : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، لا يعطيك وينساني ، أجرى عليَّ الذي أجرى عليك ، لا حاجة لي في جرايتك ( 6 ) .

( 1 ) - البخاري (1517) .
( 2 ) ابن ماجة (2890) ، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1122) : صحيح لغيره .
( 3 ) الطبراني في الكبير : 11 / 452 (12283) ، وقال المنذري في الترغيب : 2 / 117: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن .
( 4 ) رواه أبو داود (4144).
( 5 ) انظر إحياء علوم الدين : 1 / 263، وهداية السالك : 1 / 146 .
( 6 ) انظر صفة الصفوة : 1 / 645 ، و( البداية والنهاية ) لابن كثير : 10 / 200 .
 
اختيار الرفقة الصالحة
كان يقال الرفيق قبل الطريق ، ذلك لأن الرفيق إما معين وإما يستعان بالله منه ، فالأول يعينك على الطاعة ، ويذكرك بالله ، ويساعدك في أمور السفر ؛ والثاني يتعبك في سفرك ، لا تجد منه إعانة ، ولا يمسك عنك إذايته .
ومما ورد في اختيار الرفقة الصالحة ، ما ذكره ابن الجوزي - رحمه الله - عن مخول قال : جاءني بهيم يومًا فقال لي : تعلم لي رجلا من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني ؟ قلت : نعم . فذهبت إلى رجل من الحي له صلاح ودين فجمعت بينهما وتواطيا على المرافقة . ثم انطلق بهيم إلى ‏أهله ، فلما كان بعد أتاني الرجل فقال : يا هذا أحب أن تزور (يعن صاحبك) وتطلب رفيقًا غيري . فقلت: ويحك ، فلم ؟ فوالله ما أعلم في الكوفة له نظيرًا في حسن الخلق والاحتمال ، ولقد ركبت معه البحر فلم أر إلا خيرًا ! قال : ويحك ، حدثت أنه طويل البكاء ، لا يكاد يفتر ، فهذا ينغص علينا العيش سفرنا كله . قال : قلت : ويحك ، إنما يكون البكاء أحيانًا عند التذكرة ، يرق القلب فيبكي الرجل ، أو ما تبكي أنت أحيانًا ؟ قال : بلى ، ولكنه قد بلغني عنه أمر عظيم جدًا من كثرة بكائه . قال : قلت : اصحبه فلعلك أن تنتفع به . قال : أستخير الله .
فلما كان اليوم الذي أراد أن يخرجا فيه جيء بالإبل ووُطئ لهما ، فجلس بهيم في ظل حائط ، فوضع يده تحت لحيته ، وجعلت دموعه تسيل على خديه ، ثم على لحيته ، ثم على صدره ، حتى والله رأيت دموعه على الأرض . قال : فقال لي صاحبي : يا مخول ، قد ابتدأ صاحبك ، ليس هذا لي برفيق . قال : قلت : ارفق ، لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم فرق ؛ وسمعها بهيم فقال : يا أخي والله ما هو بذاك ، وما هو إلا أني ذكرت بها الرحلة إلى الآخرة . قال : وعلا صوته بالنحيب . قال : يقول لي صاحبي : والله ما هي بأول عداوتك لي ، وبغضك إياي ، مالي ولبهيم ؟ إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين داود الطائي وسلام بن الأحوص ، حتى يبكي بعضهم إلى بعض ، حتى يشتفوا أو يموتوا جميعًا . قال : فلم أزل أرفق به وأقول : ويحك ، لعلها خير سفرة سافرتها . قال : وكان طويل الحج ، رجلا صالحا ، إلا أنه كان رجلا تاجرًا موسرًا ، مقبلا على شأنه ، لم يكن صاحب حزن ولا بكاء ؛ فقال لي : قد وقعت مرتي هذه ! ولعلها تكون خيرة .
قال : وكل هذا الكلام لا يعلم به بهيم ، ولو علم بشيء منه ما صاحَبَه . قال : فخرجا جميعًا حتى حجا ورجعا ؛ ما يرى كل واحد منهما أن له أخًا غير صاحبه .
فلما جئت أسلم على جاري ، قال لي : جزاك الله يا أخي عني خيرًا ، ما ظننت أن في هذا الخلق مثل أبي بكر ، كان والله يتفضل علي في النفقة وهو معدم وأنا موسر ، ويتفضل علي في الخدمة وأنا شاب قوي وهو شيخ ضعيف ، ويطبخ لي وأنا مفطر وهو صائم . قال : فقلت : فكيف كان أمرك معه في الذي كنت تكرهه من طويل بكائه ؟ قال : ألفت والله ذاك البكاء ، وسرَّ قلبي ، حتى كنت أساعده عليه ، حتى تأذى بنا أهل الرفقة . قال : ثم والله ألفوا ذلك ، فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا ، وجعل بعضهم يقول لبعض : ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منا والمصير واحد ؟ قال : فجعلوا والله يبكون ونبكي .
قال : ثم خرجت من عنده ، فأتيت بهيما فسلمت عليه ، وقلت : كيف رأيت صاحبك ؟ قال : كخير صاحب ، كثير الذكر لله U ، طويل التلاوة للقرآن ، سريع الدمعة ، محتمل الهفوات للرفيق ، جزاك الله عني خيرًا ( [1] ) .
فبمثل هذه الرفقة تتأدب النفوس ، وتصلح القلوب ، ويسعد أهلها في الحل والترحال ، والدنيا والآخرة .

[1] ـ صفة الصفوة / 2 / 105.
 
مواعظ في الطريق
تُذكِّر رحلة الحج في مراحلها الرحلةَ إلى الدار الآخرة ، وقد تكلم أهل العلم بمواعظ تصحب المسافر للحج ، تعينه على أداء الفريضة ، وترده إلى الله تعالى ، وإليك بعض ذلك :

عند ركوب الدابة

قال الغزالي - رحمه الله : وأما الراحلة إذا أحضرها ، فليشكر الله بقلبه على تسخير الله U له الدواب ، لتحمل عنه الأذى ، وتخفف عنه المشقة .
وليتذكر عنده المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة ( وهي الجنازة التي يحمل عليها ) ؛ فإن أمر الحج من وجه يوازي أمر السفر إلى الآخرة ، ولينظر أيصلح سفره على هذا المركب لأن يكون زادًا له لذلك السفر على ذلك المركب ، فما أقرب ذلك منه ، وما يدريه لعل الموت قريب ، ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل ، وركوب الجنازة مقطوع به،وتيسرأسباب السفر مشكوك فيه ، فكيف يحتاط في أسباب السفر المشكوك فيه ، ويستظهر في زاده وراحلته ، ويهمل أمر السفر المستيقن ( [1] ) .
وقال ابن جماعة - رحمه الله:تذكرعنداتخاذكالمركوبوالمحملوحاجتكإليه، مركبك إلى الآخرة ، وهو العمل الصالح ، وتذكر بالمحمل نعشك الذي تحمل عليه ، وخف أن يكون هُيئ لك وأنت لا تشعر ، بلربماركبتهقبلالمحملوأنت لا تشعر ، فإن الأجل مغيب ، والموت بالمرصاد ] وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [ [ الأحزاب : 63 ] ( [2] ) ... قال : وإذا استعصت عليك الدابة ، فتذكر عند استعصائها معصيتك لربك تعالى ، وأن ذلك منك أقبح من الدابة ، وإذا ذلت بعد استعصائها - وهي حيوان لا يعقل - فأنت أولى بأن يردك القرآن عن مخالفتك لربك إلى طاعته ، فلا تكن الدابة في ذلك خيرًا منك ؛ وإذا ندت منك ، فتذكر إباقك عن باب مولاك ، وما يفوتك عند ذلك من لطائفه بك ، وإقباله عليك ، وإذا ضل لك شيء ، وتأسفت عليه ؛ فتذكر أن تأسفك على ما تضيع من عمرك بغير طاعة أجدر وأولى ، فإنه لا عوض عنه ، ولا قيمة له ( [3] ) .

[1] - إحياء علوم الدين : 1 / 267، 268 .

[2] - هداية السالك : 1 / 148 .

[3] - هداية السالك : 1 / 149 .
 
عند شراء ولبس ثوبي الإحرام
ثوبي الإحرام يشبهان الكفن ، فالكفن لفافات لا مخيط فيها يُفَصَّلُ على الجسم ؛ وكذا ثياب الإحرام ؛ قال الغزالي - رحمه الله : وأما شراء ثوبي الإحرام ، فليتذكر عنده الكفن ولفه فيه ، فإنه فيه سيرتديه ، ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله U ، وربما لا يتم سفره إليه ، وأنه سيلقى الله U ملفوفًا في ثياب الكفن لا محالة ، فكما لا يلقى بيت الله U إلا مخالفًا عاداته في الزي والهيئة ، فلا يلقى الله U بعد الموت إلا في زي مخالف لزي الدنيا ، وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب ، إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن ( [1] ) .

[1] - إحياء علوم الدين : 1 / 268 .
 
الخروج من البلد

قال الغزالي - رحمه الله : وأما الخروج من البلد ، فليعلم عنده أنه فارق الأهل والوطن ، متوجهًا إلى الله U في سفر لا يضاهي أسفار الدنيا ، فليحضر في قلبه أنه ماذا يريد ؟ وأين يتوجه ؟ وزيارة من يقصد ؟ وأنه متوجه إلى ملك الملوكفي زمرة الزائرين له ، الذين نودوا فأجابوا، وشُوِّقوا فاشتاقوا ، واستنهضوا فنهضوا ، وقطعوا العلائق ، وفارقوا الخلائق ، وأقبلوا على بيت الله U الذي فَخَّم أمره ، وعظَّم شأنه ، ورفع قدره ، تسلِّيًا بلقاء البيت عن لقاء رب البيت، إلى أن يرزقوا منتهى مُناهم ، ويسعدوا بالنظر إلى مولاهم ، وليحضر في قلبه رجاء الوصول والقبول، لا إدلالًا بأعماله في الارتحال ومفارقة الأهل والمال ، ولكن ثقة بفضل الله U ، ورجاء لتحقيقه وعده لمن زار بيته ، وليرج أنه إن لم يصل إليه وأدركته المنية في الطريق لقِيَ الله U وافدًا إليه، إذ قال Y: ] وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ [ [ النساء : 100 ] ( [1] ) .

[1] - إحياء علوم الدين : 1 / 268.
 
المخاوف التي يلاقيها في الطريق
قال الغزالي - رحمه الله : وأما دخول البادية إلى الميقات ، ومشاهدة تلك العقبات ، فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة ، وما بينهما من الأهوال والمطالبات ، وليتذكر من هول قطاع الطريق هول سؤال منكر ونكير ، ومن سباع البوادي عقارب القبر وديدانه ، وما فيه من الأفاعي والحيات ، ومن انفراده من أهله وأقاربه وحشة القبر وكربته ووحدته ، وليكن في هذه المخاوف في أعماله وأقواله متزودًا لمخاوف القبر ( [1] ) .

[1] - إحياء علوم الدين : 1 / 268.
 
فضل رفع الصوت بالتلبية
ورد في فضل ذلك أحاديث عن النبي e منها :
1 – روى الترمذي وابن ماجة والدارمي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ t أَنَّ النَّبِيَّ e سُئِلَ : أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " الْعَجُّ ، وَالثَّجُّ " ( [1] ) ، والعج : رفع الصوت بالتكبير والتلبية، والثج : إراقة دماء الهدايا والنسك .
2 - وروى الطبراني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ إِلا بُشِّرَ ، وَلا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلا بُشِّرَ " ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بِالْجَنَّةِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ( [2] ) .
3 - وروى الترمذي وابن ماجة عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ t عَنْ رَسُولِ اللهِ e قَالَ : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ ( وعند ابن ماجة : مُلَبٍّ ) يُلَبِّي ، إِلَّا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا " ( [3] ) .
4 - وروى أحمد وابن ماجة عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ ؛ فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ " ( [4] ) .
قال الغزالي - رحمه الله : وأما الإحرام والتلبية من الميقات ، فليعلم أن معناه إجابة نداء الله U ، فارج أن تكون مقبولا ، واخش أن يقال لك : لا لبيك ولا سعديك ، فكن بين الرجاء والخوف مترددًا ، وعن حولك وقوتك متبرئًا ، وعلى فضل الله U وكرمه متكلا ، فإن وقت التلبية هو بداية الأمر وهي محل الخطر . قال سفيان بن عيينة : حج علي بن الحسين - رضي الله عنهما - فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وانتفض ، ووقعت عليه الرعدة ، ولم يستطع أن يلبي ، فقيل له : لم لا تلبي ؟ فقال: أخشى أن يقال لي : لا لبيك ، ولا سعديك ، فلما لبى غشي عليه ، ووقع عن راحلته ، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه .
قال الغزالي : وليتذكر الملبي عند رفع الصوت بالتلبية في الميقات إجابته لنداء الله U إذ قال : ] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [ [ الحج : 27 ] ، ونداء الخلق بنفخ الصور وحشرهم من القبور ، وازدحامهم في عرصات القيامة ، مجيبين لنداء الله سبحانه ، منقسمين إلى مقربين وممقوتين ، ومقبولين ومردودين ، ومترددين في أول الأمر بين الخوف والرجاء تردد الحاج في الميقات ، حيث لا يدرون أيتيسر لهم إتمام الحج وقبوله ، أم لا ( [5] ) .

[1] - الترمذي ( 827 ) ، وابن ماجة ( 2924 ) ، والدارمي ( 1797 ) .

[2] - الطبراني في الأوسط ( 7779 ) ، وقال المنذري في الترغيب : 2 / 120، والهيثمي في مجمع الزوائد : 3 / 224 : رواه الطبراني في الأوسط بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح .

[3] - الترمذي (828)، وابن ماجة (2921)، وصححه ابن خزيمة (2634) والحاكم (1656).

[4] ـ أحمد: 5 / 192، وابن ماجه، 2923، وصححه ابن خزيمة (2628) وقال الشيخ الألباني: صحيح.

[5] ـ إحياء علوم الدين: 1 / 268.
 
دخول مكة
قال الغزالي - رحمه الله : وأما دخول مكة ، فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمنًا ، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله U ، وليخش أن لا يكون أهلا للقرب ، فيكون بدخوله الحرم خائبًا ومستحقًا للمقت ، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالبًا ، فالكرم عميم ، والرب رحيم ، وشرف البيت عظيم ، وحق الزائر مرعي ، وذمام المستجير اللائذ غير مضيع ( [1] ) .
وقال ابن جماعة - رحمه الله : إذا دخلت مكة فأحضر في نفسك تعظيمها وأمنها وشرفها ، وأن الله تعالى قد أنعم عليك بدخولها ، وأهلَّك لقربه ، ووفقك لقصده ، فاحذر من التهجم على سيدك المنعم عليك ، وأنت متلبس بمخالفته ، فتكون متعرضًا لمقته ، وطهِّر ظاهرك وباطنك له ، وارج رحمته وقبوله ، فإن ذمام الكريم محفوظة ، وحق الزائر مرعي ، وجوار المستجير غير مضيع ( [2] ) .
عند رؤية البيت
قال الغزالي - رحمه الله : وأما وقوع البصر على البيت ، فينبغي أن يحضر عنده عظمة البيت في القلب ، ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه إياه ، وارج أن يرزقك الله تعالى النظر إلى وجهه الكريم ، كما رزقك الله النظر إلى بيته العظيم ، واشكر الله تعالى على تبليغه إياك هذه الرتبة ، وإلحاقه إياك بزمرة الوافدين عليه ، واذكر عند ذلك انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنة ، آملين لدخولها كافة ، ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين ، انقسام الحاج إلى مقبولين ومردودين ، ولا تغفل عن تذكر أمور الآخرة في شيء مما تراه ، فإن كل أحوال الحاج دليل على أحوال الآخرة ( [3] ) .

[1] ـ إحياء علوم الدين / 1 / 269 /.

[2] ـ هداية السالك / 1 / 156.

[3] - إحياء علوم الدين : 1 / 269.
 
تقبيل الحجر وفضله

ورد في تقبيل الحجر وفضله أحاديث منها :
1 - روى الشيخان عَنْ عُمَرَ t أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ : إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ e يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ ([1]). وعند مسلم عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ : رَأَيْتُ عُمَرَ t قَبَّلَ الْحَجَرَ وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ e بِكَ حَفِيًّا ( [2] ) ؛ أي ك معظمًا .
2 - وروى البخاري عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ - رَضِي الله عَنْهمَا - عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ e يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ ؛قَالَ : قُلْتُ : أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ ؟ أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ ؟ قَالَ : اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ e يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ ( [3] ) .
قال الغزالي - رحمه الله : وأما الاستلام فاعتقد عنده أنك مبايع لله U على طاعته ، فصمم عزيمتك على الوفاء ببيعتك ، فمن غدر في المبايعة استحق المقت ( [4] ) .
3 - وروى أحمد والترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " إِنَّ مَسْحَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ يَحُطُّ الْخَطَايَا حَطًّا " ( [5] ) ، لفظ أحمد .
4 - وروى أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e فِي الْحَجَرِ : " وَاللهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ ، يَشْهَدُ عَلَى مَنْ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ " ( [6] ) .
5 - وروى أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ عَمْرٍو t قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ e يَقُولُ : " إِنَّ الرُّكْنَ وَالْمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ ، طَمَسَ اللهُ نُورَهُمَا ، وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهُمَا لَأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ " ( [7] ) .
6 - روى أحمد والترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ " لفظ الترمذي ، ولفظ أحمد : " الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنْ الثَّلْجِ ، حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ " ( [8] ).
قال ابن حجر - رحمه الله : قال : المحب الطبري : في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة ، فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد ( [9] ) . وقال الفاسي - رحمه الله : وذكر إمام المقام وخطيب المسجد الحرام سليمان بن خليل : أنه رأى فيه ( يعني الحجر الأسود ) ثلاث مواضع بيض نقية ، ثم قال : إني أتلمح تلك النقط ، فإذا هي كل وقت في نقص ( [10] ) .
قال ابن جماعة - رحمه الله : والْحَظْ عند ذلك أن الحجر ياقوتة من يواقيت الجنة ، وأن مقبله ومستلمه يضع شفتيه على موضع وضع عليه سيدنا رسول الله e وغيره من رسل الله وأنبيائه وملائكته شفاههم ؛ ويباشر بكفه محلا باشروه بأكفهم - صلوات الله وسلامه عليهم - فاجمع في الاقتداء بهم بين الصورة والمعنى ، وقابل هذه النعمة العظيمة بملازمة التقوى ، ومراقبة الله U في السر والنجوى .. قال : والحظ - أيضًا - أن الحجر الأسود نزل من الجنة أشد بياضًا من اللبن ، فسودته خطايا بني آدم ، وأنها إذا أثرت في الحجر فتأثيرها في القلب أعظم ، فينبغي لذلك أن تجتنب ، ولهذا المعنى - والله أعلم - أبقى الله السواد عبرة ( [11] ) .

[1] - البخاري (1597) ، ومسلم ( 1270 ) .

[2] - مسلم ( 1271 ) .

[3] - البخاري ( 1611 ) .

[4] - إحياء علوم الدين : 1 / 269 .

[5] - أحمد : 2 / 89 ، والترمذي ( 959 ) وحسنه ، وصححه ابن خزيمة ( 2729 ) ، وابن حبان ( 3698) ، والحاكم (1799).

[6] - أحمد : 1 / 247، 307 ، والترمذي (961 ) ، وابن ماجة ( 2944 ) ؛ وصححه ابن خزيمة ( 2735 ) ، وابن حبان (3711، 3712) .

[7] - أحمد : 2 / 213، 214، والترمذي ( 878 ) وقال: حديث غريب ؛ وصححه ابن حبان ( 3710 ) ، والحاكم ( 1677) والألباني في صحيح الجامع (1633) ، وصحيح الترمذي وصحيح الترغيب . ‌

[8] - أحمد : 1 / 307 ، 329 ، والترمذي (877) وصححه ، وصححه ابن خزيمة ( 2733) ، ورواه النسائي مختصرا (2935) .

[9] - فتح الباري: 3 / 463.

[10] - انظر ( الزهور المقتطفة ) ص 93 - الناشر: مكتبة الثقافة الدينية .

[11] - هداية السالك : 1 / 158.
 
فضل الطواف
روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عَن ابْنِ عُمَرَ t أن رسول الله e قال: " مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا فَأَحْصَاهُ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ ، ولَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللهُ عَنْهُ خَطِيئَةً ، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً ( [1] ) .
وروى الترمذي والدارمي وابن حبان والحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ: " الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ ، إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ " ( [2] ) .
ماذا نستحضر عند الطواف ؟
قال الغزالي - رحمه الله : وأما الطواف بالبيت فاعلم أنه صلاة ، فأحضر في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ما فصلناه في كتاب الصلاة ، واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين ، الحافين حول العرش ، الطائفين حوله ، ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت ، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت ، حتى لا تبتدئ الذكر إلا منه ، ولا تختم إلا به ، كما تبتدئ الطواف من البيت وتختم بالبيت .
واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية ، وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر ( وهي عالم الملكوت ) ، كما أن البدن مثال ظاهر في عالم الشهادة للقلب الذي لا يشاهد بالبصر ( وهو في عالم الغيب ) ، وأن عالم الملك والشهادة مدركة إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح الله له الباب ، وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة بأن البيت المعمور في السماوات بإزاء الكعبة ، فإن طواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت ؛ ولما قصرت رتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف ، أمروا بالتشبه بهم بحسب الإمكان ، ووعدوا بأن من تشبه بقوم فهو منهم ( [3] ) .
وقال ابن جماعة - رحمه الله : وينبغي للطائف أن يستشعر بقلبه عظمة من يطوف ببيته ، فيلزم الأدب في ظاهره وباطنه ، وليحذر من الإساءة في ذلك المحل الشريف ( [4] ) .

[1] - أحمد : 2 / 3 ، والترمذي (959) وحسنه ، والنسائي (2919) ، وابن ماجة (2956) ، وصححه ابن خزيمة (2753) وابن حبان (3697) ، والحاكم (1799) .

[2] - الترمذي (960) ، والدارمي (1847) ، وصححه ابن حبان (3836) ، والحاكم (1686) ، ورواه أحمد : 4 / 64 ، والنسائي (2922) عن طاووس عن رجل ممن أدرك النبي ، وصححه الحافظ في تلخيص الحبير : 1 / 130 ، 131 .

[3] ـ إحياء علوم الدين / 1 / 269 /.

[4] ـ هداية السالك / 1 / 160.
 
لصق الصدر بالملتزم
روى أبو داود وابن ماجة عَنْ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ السَّبْعِ رَكَعْنَا فِي دُبُرِ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْتُ : أَلَا نَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ : أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ ، قَالَ : ثُمَّ مَضَى فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ قَامَ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْبَابِ فَأَلْصَقَ صَدْرَهُ وَيَدَيْهِ وَخَدَّهُ إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ e يَفْعَلُ ([1]) .
عن ابن عباس t قال: الملتزم ما بين الركن والباب ( [2] ) ؛ وعنه أنه كان يلزم ما بين الركن والباب ، وكان يقول ما بين الركن والباب : هنا يدعى الملتزم ، لا يلزم ما بينهما أحد يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه ( [3] ) .
وقال مجاهد - رحمه الله : كانوا يلتزمون ما بين الركن والباب ويدعون ( [4] ) . قال ابن جماعة : سمي الملتزم لأن الناس يلتزمونه ( [5] ) .
قال أبو الزبير : دعوت الله هناك بدعاء فاستجيب لي ( [6] ) .

[1] - أبو داود (1899) وابن ماجة (2962) وفيه المثنى ابن الصباح وهو ضعيف، لكن تابعه ابن جريج عند عبد الرزاق (9044)، وحسن الألباني حديث ابن ماجة.

[2] ـ رواه عبد الرزاق (9047)، وابن أبي شيبة (13778).

[3] ـ رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم / 4060.

[4] ـ رواه ابن أبي شيبة (13780).

[5] ـ رواه البيهقي في الكبرى : 5 / 64 ، وانظر هداية السالك : 1 / 67 .

[6] ـ الاستذكار : 4 / 408 .
 
النظر إلى البيت عبادة
روى عبد الرزاق عن عطاء ومجاهد قالا : النظر إلى البيت عبادة ( 1 ) . ورواه ابن أبي شيبة عن طاووس قال: النظر إلى البيت عبادة، والطواف بالبيت صلاة ( 2 ) .
قال ابن تيمية - رحمه الله : فالنظر إلى البيت عبادة متعلقة بالبيت ، ولا يشترط له الطهارة ولا غيرها ( 3 ) . قال ابن جماعة - رحمه الله : وإذا وقع بصرك على البيت المعظم ، فليكن ذلك مقترنًا بغاية التعظيم والإقبال ، وأحضر في نفسك ما خص به من تشريف النسبة وأوصاف الجلال ، والزم الأدب والخشوع ، والتذلل والخضوع ، واحمد الله تعالى على أن أهلَّك للمثول بحضرة قدسه ، واقدر قدر هذه النعمة العظيمة ( 4 ) .

( 1 ) مصنف عبد الرزاق (9173) ، ورواه ابن أبي شيبة عنهما (14761، 14762).
( 2 ) ابن أبي شيبة (14760) .
( 3 ) مجموع الفتاوى : 26 / 213 .
( 4 ) هداية السالك : 1 / 156 .
 
فضل ماء زمزم

سميت زمزم لكثرتها ، يقال : ماء زمزم ، أي : كثير ؛ وقيل لاجتماعها ( [1] ) .
وروى أحمد وابن ماجة عن جَابِرٍ t قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ e يَقُولُ: " مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ " ( [2] ) . وروى الدارقطني والحاكم عن مجاهد عن ابن عباس t قال : قال رسول الله e : " مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ ، فَإِنْ شَرِبَتْهُ تَسْتَشْفِي بِهِ شَفَاك اللَّهُ ، وَإِنْ شَرِبَتْهُ مُسَْعِيذًا أَعَاذَكَ اللهُ ، وَإِنْ شَرِبَتْهُ لِيَقْطَعَ ظَمَأَكَ قَطَعَهُ" قال : وكان ابن عباس إذا شرب ماء زمزم قال : اللهم أسألك علمًا نافعًا ، ورزقًا واسعًا ، وشفاء من كل داء ( [3] ) .
وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ.. فذكر قصة إسلامه ثم قَالَ : فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَغَسَلْتُ عَنِّي الدِّمَاءَ ، وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا ؛ وَلَقَدْ لَبِثْتُ يَا ابْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي ، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ ؛ وفيه أن رَسُولَ اللهِ e قَالَ له : " مَتَى كُنْتَ هَاهُنَا ؟ " قَالَ : قُلْتُ: قَدْ كُنْتُ هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ ، قَالَ : " فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ " قَالَ : قُلْتُ : مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي ، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ ، قَالَ : " إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ " ( [4] ) .
وروى أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم عن أَبُي جَمْرَةَ قَالَ :كُنْتُ أَدْفَعُ النَّاسَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ t فَاحْتَبَسْتُ أَيَّامًا ، فَقَالَ : مَا حَبَسَكَ ؟ قُلْتُ : الْحُمَّى ، قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، فَأَبْرِدُوهَا بِمَاءِ زَمْزَمَ " ( [5] ) لفظ أحمد .
قال السيوطي - رحمه الله : أخرج الدينوري في (المجالسة) عن الحميدي (وهو شيخ البخاري ) قال : كنا عند ابن عينية فحدثنا بحديث : " مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ "، فقام رجل من المجلس ثم عاد ، فقال : يا أبا محمد ، أليس الحديث الذي قد حدثتنا في زمزم صحيحًا ؟ فقال : بلى ! فقال الرجل : فإني شربت الآن دلوا من زمزم على أن تحدثني بمائة حديث. فقال سفيان t: اقعد فقعد. فحدثه بمائة حديث ([6]).
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والطبراني عن أبي الطفيل عن ابن عباس t قال : كنا نسميها شباعة ( يعني زمزم ) ، وكنا نجدها نعم العون على العيال([7]).
قال ابن القيم - رحمه الله : وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أمورًا عجيبة ، واستشفيت به من عدة أمراض ، فبرأت بإذن الله ، وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريبًا من نصف الشهر أو أكثر ، ولا يجد جوعًا ، ويطوف مع الناس كأحدهم ، وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يومًا ، وكان له قوة يجامع بها أهله ، ويصوم ويطوف مرارًا ( [8] ) .

[1] - فتح الباري : 3 / 493 .

[2] - أحمد : 3 / 357، 372، وابن ماجة (3062)، ويشهد له حديثا ابن عباس وأبي ذر الآتيان فالحديث صحيح .

[3] - الدارقطني في السنن: 2 / 289، والحاكم (1739) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي ولم يخرجاه. ا.هـ قال المنذري في الترغيب قد سلم منه فإنه صدوق ، قاله الخطيب البغدادي وغيره ا.هـ. وانظر فتح الباري: 3 / 493.

[4] - رواه مسلم ( 2473 ) .

[5] - رواه أحمد : 1 / 291، والنسائي في الكبرى ( 7614 )، وابن حبان ( 6068 )، والحاكم ( 7439 ) وصححه على شرط الشيخين ، وهو كما قال .

[6] ـ انظر الدر المنثور عند تفسير الآية 19 سورة التوبة.

[7] ـ عبد الرزاق (9120)، وابن أبي شيبة (14134)، والطبراني في الكبير من طريق عبد الرزاق: 10 / 271، قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني في الكبير وهو موقوف صحيح الإسناد.

[8] ـ زاد المعاد: 4 / 356.
 
السعي بين الصفا والمروة

قال الغزالي - رحمه الله : وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت ، فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائيًا وذاهبًا مرة بعد أخرى ، إظهارًا للخلوص في الخدمة ، ورجاء للملاحظة بعين الرحمة ، كالذي دخل على الملك وخرج ، وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد ، فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى ، يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى ( [1] ) .
قال مقيده - عفا الله عنه : وليتذكر أم إسماعيل فإنها هي التي سنت السعي بين الصفا والمروة ، وقد ختمته بقوله : أغث إن كان عندك غواث ؛ فكان لها ذلك ولابنها ، بل وللناس بعدها ؛ زمزم المباركة ؛ فليسعى كسعيها، معلق القلب بالله الكريم راجيًا الغوث .

[1] ـ إحياء علوم الدين: 1 / 270.
 
فضل يوم عرفة
يوم عرفة أفضل أيام العام ، وقد ورد في فضله أحاديث منها :
1 - روى مسلم عَنْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها - قَالَتْ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ ، فَيَقُولُ : مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ " ( [1] ) .
2 - وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ .." الحديث ( [2] ) ؛ وعن أبي مالك الأشعري t أن النبي e قال : " الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّ الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، وَ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ ، ويوم الجمعة ذخره الله لنا ، وصلاة الوسطى صلاة العصر" ( [3] ) ‌.
3 – وروى أبو يعلى وابن حبان عن جابر t قال : قال رسول الله e : " مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ . قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، هُنَّ أَفْضَلُ أَمْ عِدَّتُهُنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ : هُنَّ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ ، فَيَقُولُ : انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ ، جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي ، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي ، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ " ( [4] ) .
وروى مالك عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ ؛ إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ " قِيلَ : وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " أَمَا إِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ " ( [5] ) .
4 - ومنها أن صيامه يكفر ذنوب سنتين ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ t أنَّ رَسُولُ اللهِ e قَالَ : " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ " ( [6] ) .
5 - وروى الترمذي عَنِ ابن عَمْرِو t أَنَّ النَّبِيَّ e قَالَ : " خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ( [7] ) .
روى البيهقي عن الحسين بن الحسن المروزي قال : سألت سفيان بن عيينة عن تفسير قول النبي e: " أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ؛ وإنما هو ذكر ليس فيه دعاء ! قال سفيان: سمعت حديث منصور عن مالك بن الحارث ( [8] ) ؟ قلت : نعم ، قال : ذاك تفسير هذا ؛ ثم قال : أتدري ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى ابن جُدعان يطلب نائله ومعروفه ؟ قلت : لا ، قال : لما أتاه قال :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المـرء يوما كفاه مـن تعرضك الثناء
قال سفيان - رحمه الله : فهذا مخلوق حين ينسب إلى الجود ، قال : يكفينا من تعرضك الثناء عليك حتى تأتي على حاجتنا ، فكيف بالخالق ؟!! ( [9] ) .
قال الغزالي - رحمه الله : وأما الوقوف بعرفة ، فاذكر بما ترى من ازدحام الخلق ، وارتفاع الأصوات ، باختلاف اللغات ، واتباع الفرق أئمتهم في الترددات على المشاعر ، اقتفاء لهم وسيرًا بسيرهم : عرصات القيامة واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة ، واقتفاء كل أمة نبيها ، وطمعهم في شفاعتهم ، وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول ، وإذا تذكرت ذلك ، فألزم قلبك الضراعة والابتهال إلى الله U ، فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين ، وحقق رجاءك بالإجابة .. قال : فإذا اجتمعت هممهم ، وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم ، وارتفعت إلى الله سبحانه أيديهم ، وامتدت إلى أعناقهم ، وشخصت نحو السماء أبصارهم ، مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة ، فلا تظنن أنه يخيِّب أملهم ، ويضيع سعيهم ، ويدخر عنهم رحمة تغمرهم ، ولذلك قيل : إن من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات ويظن أن الله تعالى لم يغفر له ( [10] ) .
وقال ابن جماعة - رحمه الله : وإذا وقفت بعرفة مع الناس ، فتذكر بذلك حال وقوفك بين يدي الله تعالى يوم القيامة مع الخلائق ، وما هم فيه من الأهوال ، منتظرين ما يقضى عليهم من جنة أو نار ؛ وكذلك أهل عرفة منتظرون ما قسم لهم من قبول أو رد .
وتذكر بانتظار غروب الشمس انتظار أهل المحشر فصل القضاء بشفاعة سيدنا رسول الله e .
وتذكر بأحوال الناس في الموقف بعرفة - وهم بين راكب وماش وعاجز - حالهم يوم القيامة ، منهم من يحشر راكبًا على النجائب ، ومنهم من يحشر ماشيًا ، ومنهم من يحشر على وجهه .
واحذر كل الحذر من الوقوف بعرفة وأنت مصر على شيء من المعاصي ، أو ناو العود إلى نوع من المظالم والمناهي ، وانظر بين يدي من أنت واقف ، فإن الله تعالى لا تخفى عليه خافية ( [11] ) .
وسمع علي t يوم عرفة رجلا يسأل الناس ، فقال : أفي هذا اليوم وفي هذا المكان تسأل من غير الله ؟! فخفقه بالدرة . رواه رزين ( [12] ) .

[1] - مسلم (1348).

[2] - رواه الترمذي (3339) وقال: حسن غريب، الطبراني في الأوسط (1087)، وفيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، لكن له شاهد من حديث أبي مالك وهو الآتي؛ ولذلك حسنه الألباني في صحيح الجامع (8200).

[3] - رواه ابن جرير: 30 / 83، والطبراني في الكبير: 3 / 298 (3458) والشاميين (1680) وهو حسن لغيره.

[4] - أبو يعلى (2090)، و ابن حبان (3853). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد: 3 / 253) : رواه أبو يعلى وفيه محمد بن مروان العقلي ، وثقه ابن معين وابن حبان ، وفيه بعض كلام ، وبقية رجاله رجال الصحيح.ا.هـ قلت ويشهد له ما بعده .

[5] - الموطأ : 1 / 422 ، وعنه عبد الرزاق في المصنف ( 8832 ) وهو مرسل صحيح .

[6] - مسلم ( 1162 ) .

[7] - رواه الترمذي ( 3585 ) ، وله شاهد عند الإمام مالك : 1 / 422 عن طلحة بن عبيد الله بن كريز وهو مرسل صحيح.

[8] - يشير إلى ما رواه عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مالك بن الحارث قال : يقول الله U : إذا شغل العبد ثناؤه علي من مسائلته إياي ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين . ورواه ابن أبي شيبة عن الأعمش عن مالك بنحوه ، والحديث رواه الترمذي (2926) عن أبي سعيد مرفوعا وحسنه؛ وفيه عطية العوفي ، وله شاهد من حديث عمر عند البزار ( 137 ) .

[9] ـ رواه البيهقي في الشعب (575).

[10] ـ إحياء علوم الدين: 1 / 270.

[11] - هداية السالك: 1 / 165.

[12] - انظر مشكاة المصابيح (1855).
 
السلف في يوم عرفة

أحوال السلف يوم عرفة كلها قربات لله وحياء منه ؛ بين ذاكر داعٍ ، وباكمستح، ومستغفر تائب ، ومتصدق ابتغاء وجه الله تعالى ؛ ولنذكر بعض تلك الأحوال تنشيطًا للهمم ، وشحذًا للعزائم ؛ والله المستعان :
الجود يوم عرفة :
روى الطبراني عن مصعب بن ثابت قال : بلغني والله أن حكيم بن حزام حضر يوم عرفة ومعه مائةرقبة ، ومائة بدنة ، ومائةبقرة ، ومائة شاة ، فقال : الكل لله ( [1] ) .
وقال الذهبي : قال الصولي : كان المقتدر يفرق يوم عرفة من الضحايا تسعين ألف رأس ( [2] ) .
الاستحياء من الله يوم عرفة :
روى أبو نعيم والبيهقي عن إسحاق بن إبراهيم قال : وقفت مع الفضيل بن عياض بعرفات ، فلم أسمع من دعائه شيئًا ، إلا أنه واضع يده على خده واضع رأسه يبكي بكاء خفيا ، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام ، فرفع رأسه إلى السماء وقال : واسوأتاه والله منك وإن عفوت ، ثلاث مرات . وذكره ابن الجوزي - رحمه الله - عن مهران بن عمرو الأسدي قال : سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفة بالموقف ، وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء ، يقول : واسوأتاه، وافضيحتاه ، وإن عفوت ( [3] ) .
وعن علي بن زيد أنه رأى رجلا عشية عرفة وهو يقول : اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي ، فلا تحرمني الأجر على مصيبتي بتركك القبول مني . ثم ذهب في الناس ، فرأيته غداة جمع يقول : واسوأتاه والله منك ، وإن عفوت ، يردد ذلك ( [4] ) .
راجٍ خائف باك :
ذكر ابن الجوزي عن أحمد بن أبي الحواري قال : دخلت على أبي سليمان الداراني ، فقال لي : يا أحمد ، لي أيام ما بكيت ! فقلت له : حدثني محمود بن خلفأنهرأىرجلاعشيةعرفةعلىرأسجبل،فلمادناالانصرافسمعهيقول: الأمانَ الأمان ، قد دنا الانصراف ، ليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين ؟ قال : فبكى حتى جعلت الدموع تثب من عينيه ولا تسيل على خده ( [5] ) .
وعن حيى بن كامل القرشي قال : أخبرني سفيان الثوري قال : سمعت أعرابيًا وهو متعلق بعرفة ، وهو يقول : إلهي مَنْ أولى بالزلل والتقصير مني ، وقد خلقتني ضعيفا ؟ مَنْ أولى بالعفو عني منك ، وعلمك فيَّ سابق ، وأمرك بي محيط ؟ أطعتك بإذنك ، والمنة لك علي ، وعصيتك بعلمك ، والحجة لك ، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي ، وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني ، إلهي لم أحسن حتى أعطيتني ، ولم أسيء حتى قضيت علي .
اللهم إنا أطعناك بنعمتك في أحب الأشياء إليك : شهادة أن لا إله إلا الله ؛ ولم نعصك في أبغض الأشياء إليك : الشرك بك ، فاغفر لي ما بينهما ، اللهم سري إليك مكشوف ، وأنا إليك ملهوف ، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك ، وإذا صببت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك ، علمًا بأن أزمة الأمور بيدك ، وأن مصدرها عن قضائك ( [6] ) .
آخر يطمع بالوقوف في الشمس بعرفة طمعًا في الوقوف في ظل الله يوم القيامة :
قال ابن جماعة : وقيل لبعض السلف وقد ضحى للشمس بعرفة في يوم شديد الحر : لو أخذت بالتوسعة ، فأنشد :
ضحيت له كي أستـظل بظله .. إذا الظل أضحى في القيامة قالصا

فيا أسفى إن كان سعيي باطلا ً ... ويا حسرتى إن كان حظي ناقصا ([7])

اتهام النفس خضوعًا لله تعالى :
روى البيهقي عن شعيب بن حرب قال : بينا أنا أطوف بالبيت إذ لكزني رجل بمرفقه ، فإذا أنا بالفضيل بن عياض ، فقال لي : يا أبا صالح ، قلت : لبيك يا أبا علي ، قال : إن كنت تظن أنه شهد الموسم شر مني ومنك فبئسما ظننت ( [8] ) .
قال ابن القيم - رحمه الله - يصف حال الحجيج في عرفة :

فَلِلَّهِ كَـمْ مِـنْ عَـبْرَةٍ مُهَرَاقَـةٍ ... وَأُخْـرَى عَلَى آثَارِهَا لا تَقَدَّمُ


وَقَـدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا ... فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيَسْجُمُ


وَرَاحُوا إِلَى التَّعْرِيفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً ... وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُـودُ وَيُكْـرِمُ


فَلِلَّهِ ذَاكَ الْمَوْقِـفُ الأَعْظَمُ الَّذِي ... كَمَوْقِفِ يَوْمِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ


وَيَدْنُـو بِـهِ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلالُهُ ... يُبَاهِي بِهِمْ أَمْـلاكَهُ فَهْوَ أَكْـرَمُ


يَقُـولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً ... وَإِنِّي بِهِمْ بَـرٌّ أَجُـودُ وَأُكْـرِمُ


فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ ... وَأُعْطِيهِمُ مَـا أَمَّـلُوهُ وَأُنْـعِمُ


فَبُشْرَاكُمُ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي ... بِهِ يَغْفِرُ اللَّهُ الذُّنُـوبَ وَيَرْحَـمُ


فَكَـمْ مِنْ عَتِيقٍ فِيهِ كَمَّلَ عِتْقَهُ ... وَآخَـرُ يَسْتَسْعِي وَرَبُّكَ أَكْـرَمُ


[1] - رواه الطبراني في الكبير: 3 / 187 (3075)، وانظر سير أعلام النبلاء: 3 / 50، وصفة الصفوة: 1 / 312.

[2] - سير أعلام النبلاء: 15 / 55.

[3] - رواه أبو نعيم في الحلية: 8 / 88، والبيهقي في الشعب (4196)، وانظر صفة الصفوة: 1 / 476.

[4] - صفة الصفوة: 1 / 513.

[5] - صفة الصفوة: 2 / 530.

[6] ـ صفة الصفوة: 2 / 529.

[7] ـ هداية السالك: 1 / 167.

[8] ـ البيهقي في الشعب (8255)، وانظر هداية السالك: 1 / 166.
 
الوقوف بمزدلفة
قال تعالى : ] فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ [ [ البقرة : 198 ] .
وروى ابن ماجة عن عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ e دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ فَأُجِيبَ : " إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلَا الظَّالِمَ ، فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ " ، قَالَ : " أَيْ رَبِّ إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِنَ الْجَنَّةِ وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ " فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ ، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ e - أَوْ قَالَ : تَبَسَّمَ - فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا ! فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ ؟ أَضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ ، قَالَ : " إِنَّ عَدُوَّ اللهِ إِبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللهَ U قَدِ اسْتَجَابَ دُعَائِي وَغَفَرَ لِأُمَّتِي ، أَخَذَ التُّرَابَ فَجَعَلَ يَحْثُوهُ عَلَى رَأْسِهِ ، وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ ، فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ " ( [1] ) ؛ وقد روى البيهقي في ( الشعب ) هذا الحديث ، ثم قال : وهذا الحديث له شواهد كثيرة ، وقد ذكرناها في كتاب البعث ، فإن صح بشواهده ففيه الحجة ، وإن لم يصح فقد قال الله U : ] وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ [ النساء : 48 ] ، وظُلْمُ بعضهم بعضًا دون الشرك ؛ وفي الحديث الثابت عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ t قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ e : " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ " ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ؟ قَالَ : " وَإِنْ زَنَى ، وَإِنْ سَرَقَ " ( [2] ) ؛ وإنما ذكر البيهقي هذا الحديث لأنه متعلق بحقوق الغير ، وهو مناسب للمقام ؛ والمعلوم أن صاحب الكبائر في مشيئة الله تعالى ، إن شاء عفا عنه ابتداءً ، وإن شاء عذبه بما يستحقه ، ثم كان مآله الجنة ؛ وقد يكون من أسباب العفو ما ذكر في حديث ابن مرداس ، والعلم عند الله تعالى .
وقد ذهب قوم إلى أن أمر المظالم على المشاحة والتشدد ، فاشترطوا لما جاء في حديث ابن مرداس شروطًا ، فقال جمال الدين بن محب الدين الطبري المكي - رحمه الله - في بيان مغفرة الله لحقوق العباد : اعلم أن تحمَّل المظالم والتبعات عن العبد في ذلك الموطن مخصوص - والله أعلم - بمن أخلص لله التوبة عنها ، ورد جميع ما في يده وذمته منها ، وعقد مع الله تعالى فيما عجز عنه في ذلك الوقت نية التخلص منه متى قدر عليه ، واطلع الله من باطنه على صدق النية وإخلاص العزيمة والطوية ، فهذا هو الذي يتحمل عنه ما أعجزه ، إذا مات قبل القدرة على أدائه ، ويتحفه في عقباه بتعويض خصمه عنه وإرضائه ، كرامة لذلك الموقف العظيم ، وجائزة لوفوده إلى بيته الكريم ؛ هذا ما يقتضيه ظاهر تشديد الشريعة في حقوق الآدميين ( [3] ) ؛ وهذا كلام وجيه بلا شك ، وهو صاحبه أقرب إلى العفو والمغفرة ، ولكن ما ذهب إليه البيهقي أوجه ، ونحن نتعامل مع كريم غفار يحب العفو ؛ والعلم عند الله تعالى .
قال ابن جماعة - رحمه الله : وقال بعض السلف : كنت بالمزدلفة وأنا أحيي الليل ، فإذا بامرأة تصلي حتى الصباح ومعها شيخ ، فسمعته وهو يقول : اللهم إنا قد جئنا من حيث تعلم ، وحججنا كما أمرتنا ، ووقفنا كما دللتنا ، وقد رأينا أهل الدنيا إذا شاب المملوك في خدمتهم تذمموا أن يبيعوه ، وقد شبنا في ملكك فارحمنا ( [4] ) .

[1]- ابن ماجة (3013) ، وفيه عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس ، وهو وأبوه مجهولان ، و له شواهد عن ابن عمر عند ابن جرير : 2 / 95 ، وأبي نعيم في الحلية: 8 / 199 ، وعن عبادة عن عبد الرزاق (8831) .

[2] - انظر ( شعب الإيمان ) للبيهقي ( 346 ) ، وحديث أبي ذر رواه البخاري ( 2258 ، 5913 ) ، ومسلم ( 94 ) .

[3] - التشويق إلى البيت العتيق ص 37 - دار الكتب العلمية.

[4] ـ هداية السالك / 1 / 167.
 
فضل الحلق
في الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ " قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ " قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قال : " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ " قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: " وَالْمُقَصِّرِينَ " ( [1] ) . وأخرجاه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ t بلفظ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ " ( [2] ) .
وروى أحمد عَنْ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ t أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ e وَهُوَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ " قَالَ: يَقُولُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : وَالْمُقَصِّرِينَ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ e فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ : " وَالْمُقَصِّرِينَ " ، ثُمَّ قَالَ : وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ ، فَمَا يَسُرُّنِي بِحَلْقِ رَأْسِي حُمْرَ النَّعَمِ ، أَوْ خَطَرًا عَظِيمًا ( [3] ) .
قال ابن جماعة - رحمه الله : وانو عند حلق شعرك أنك قد أسقطت عنك التبعات ، وأدناس الخطيئات ، وفارقت أصحابك في غير التقوى والطاعات ( [4] ) .

[1] - البخاري (1727)، ومسلم (1301).

[2] - البخاري (1728)، ومسلم (1302).

[3] - أحمد : 4 / 177 ، والطبراني في الأوسط ( 2914 ) ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب ( 1160 ) .

[4] - هداية السالك / 1 / 169 .
 
فضل أيام التشريق
قال تعالى : ] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [ [ البقرة : 203 ] .
وروى مسلم عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للهِ U " ( [1] ) .

فضل رمي الجمار
روى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " إِنَّ جِبْرِيلَ ذَهَبَ بِإِبْرَاهِيمَ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَسَاخَ ، ثُمَّ أَتَى الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَسَاخَ ؛ ثُمَّ أَتَى الْجَمْرَةَ الْقُصْوَى فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَسَاخَ " ورواه الحاكم بنحوه ثم قال : قال ابن عباس t : الشيطان ترجمون ، وملة أبيكم تتبعون ( [2] ) .
قال الغزالي - رحمه الله : وأما رمي الجمار ، فاقصد به الانقياد للأمر إظهارًا للرق والعبودية ، وانتهاضًا لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه ، ثم اقصد به التشبه بإبراهيم u حيث عرض له إبليس - لعنه الله تعالى - في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة ، أو يفتنه بمعصية ، فأمره الله U أن يرميه بالحجارة ، طردًا له وقطعًا لأمله ؛ فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه ، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان ، فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان ، وأنه الذي ألقاه في قلبك ، ليفتِّر عزمك في الرمي ، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه ، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به ؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه ، برغم أنف الشيطان .
واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة ، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره ، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله - سبحانه وتعالى - تعظيما له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه ( [3] ) .
وقال ابن جماعة رحمه الله : وانو عند رمي الجمار أنك رميت عيوبك ، وسالف ذنوبك ، وأقلعت عنها ( [4] ) .

[1] - مسلم (1141) .

[2] - أحمد : 1 / 306 ، وصححه ابن خزيمة ( 2967 ) ، والحاكم ( 1713 ) .

[3] ـ إحياء علوم الدين: 1 / 270.

[4] ـ هداية السالك: 1 / 168.
 
برُّ الحج

روى أحمد عَنْ جَابِرٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ e: " الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ " ، قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ ؟ قَالَ : " إِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ " ؛ ورواه الطيالسي والطبراني والحاكم بلفظ : " إطعام الطعام ، وطيب الكلام " ( [1] ) .
روى البخاري في تاريخه الكبير عن الحسن - رحمه الله – قال : الحج المبرور أن يرجع زاهدًا في الدنيا ، راغبًا في الآخرة ( [2] ) .
والمراد أن لا تشغله الدنيا بزخرفها وزينتها عن الآخرة ، والله المستعان .

[1] ـ أحمد: 3 / 325، 334، والطيالسي (1718)، وعبد بن حميد (1091)، والطبراني في الأوسط (6618، 8405)، والحاكم (1778) وصححه، وحسنه المنذري في الترغيب: 2 / 106.‌

[2] - التاريخ الكبير: 3 / 238، وانظر هداية السالك : 1 / 8.
 
طواف الوداع
قال ابن جماعة - رحمه الله : وإذا فرغت من أعمال الحج ، وأردت العود إلى أهلك ، فودع بيت ربك بالطواف ، ولا تهمل ذلك ؛ فإنه سوء أدب ، لأن بيت الله في أرضه بمنزلة بيت الملك ، فلا يليق المفارقة من غير تحية ( [1] ) .
التفكر في القبول والرد
قال الغزالي - رحمه الله : فإذا فرغ منها كلها ، فينبغي أن يلزم قلبه الحزن والهم والخوف ، وأنه ليس يدري أقبل منه حجه وأثبت في زمرة المحبوبين ، أم رُدَّ حجه وألحق بالمطرودين ؟!! وليتعرف ذلك من قلبه وأعماله ، فإن صادف قلبه قد ازداد تجافيًا عن دار الغرور ، وانصرافًا إلى دار الأنس بالله تعالى ، ووجد أعماله قد اتزنت بميزان الشرع ، فليثق بالقبول ، فإن الله تعالى لا يقبل إلا من أحبه ، ومن أحبه تولاه وأظهر عليه آثار محبته ، وكف عنه سطوة عدوه إبليس لعنه الله .
فإذا ظهر ذلك عليه دل على القبول ، وإن كان الأمر الآخر بخلافه فيوشك أن يكون حظه من سفره العناء والتعب ، نعوذ بالله سبحانه وتعالى من ذلك ( [2] ) .
وبنحو ذلك قال ابن جماعة - رحمه الله : وأَلْزِمْ قلبك الخوف مع الرجاء ، فإنك لا تدري أقبل منك حجك أم لا ؟ وتعرف ذلك من قلبك وأعمالك ، فإن وجدت قلبك قد تجافى عن دار الغرور ، وانصرف إلى الأنس بالله تعالى ، وأعمالك على الاستقامة ، قد تركت المعاصي واستبدلت بإخوانك البطالين إخوانًا صالحين ، وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة ، فاعلم أن هذا دليل القبول .
وإن كان الأمر بخلاف ذلك ، فيخشى أن يكون حظك من سفرك التعب والنصب ، ومن ربك المقت والغضب ، نعوذ بالله من ذلك ( [3] ) .

[1] ـ هداية السالك: 1 / 169.

[2] ـ إحياء علوم الدين: 1 / 272.

[3] - هداية السالك : 1 / 169 .
 
وماذا بعد الحج ؟
قال الله تعالى : ] فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [ [ البقرة : 200 ، 201 ] .
يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها، قال ابن رجب - رحمه الله : وفي الأمر بالذكر بعد انقضاء النسك معنى ، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها ، وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه ، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وقد أمر الله تعالى بذكره عند انقضاء الصلاة ، قال تعالى : ] فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [ [ النساء : 103 ] ، وقال في صلاة الجمعة : ] فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ [ الجمعة : 10 ] ، وقال تعالى : ] فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [ [ الشرح : 7 ، 8 ] ؛ قال الحسن - رحمه الله : أمره إذا فرغ من غزوه أن يجتهد في الدعاء والعبادة.ا.هـ. فالأعمال كلها يفرغ منها ، والذكر لا فراغ له ولا انقضاء ، والأعمال تنقطع بانقطاع الدنيا ولا يبقى منها شيء في الآخرة ، والذكر لا ينقطع ؛ المؤمن يعيش على الذكر ، ويموت عليه ، وعليه يبعث ( [1] ) .
قال ابن كثير - رحمه الله : ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة ، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه ، وهو معرض عن أخراه ، فقال : ] فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [ أي : من نصيب ولا حظ ، وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك ؛ قال ابن عباس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهم اجعله عام غيث ، وعام خصب ، وعام ولاد حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا ، فأنزل الله فيهم : ] فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ[ ، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون : ] رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [ ، فأنزل الله : ] أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [ [ البقرة:202 ] ( [2] ) ؛ ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرى ، فقال : ] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [ ، فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا ، وصرفت كل شر ، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ، ودار رحبة ، وزوجة حسنة ، ورزق واسع ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ومركب هين ، وثناء جميل ، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ، ولا منافاة بينها فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا .
وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة ، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات ، وتيسير الحساب ، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة .
وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا ؛ من اجتناب المحارم والآثام ، وترك الشبهات والحرام . ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء فروى البخاري عن أنس قال : كان النبي e يقول : " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " ( [3] ) ؛ وروى أحمد ومسلم أن قتادة سأل أنسًا : أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي e ؟ قال : يقول : " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " ( [4] ) ؛ وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه . وروى ابن أبى حاتم عن عبد السلام بن شداد - يعني أبا طالوت - قال : كنت عند أنس ، فقال له ثابت : إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم ؛ فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار . وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام ؛ قال : أبا حمزة ! إن إخوانك يريدون القيام ، فادع الله لهم . فقال : أتريدون أن أشقق لكم الأمور ؟! إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، ووقاكم عذاب النار ؛ فقد آتاكم الخير كله ( [5] ) .
وروى أحمد ومسلم عَنْ أَنَسٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e عَادَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ e : " هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ ؟ " ، قَالَ : نَعَمْ ، كُنْتُ أَقُولُ : اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " سُبْحَانَ اللَّهِ لاَ تُطِيقُهُ - أَوْ : لاَ تَسْتَطِيعُهُ - أَفَلاَ قُلْتَ : اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " ؛ قَالَ : فَدَعَا اللَّهَ لَهُ ، فَشَفَاهُ ( [6] ).ا.هـ.
قال ابن رجب رحمه الله : وقد استحب كثير من السلف كثرة الدعاء بهذا في أيام التشريق ؛ قال عكرمة : كان يستحب أن يقال في أيام التشريق : ] رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [ ، وعن عطاء قال : ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجها إلى أهله : ] رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [ ، خرجهما عبد بن حميد في تفسيره ( [7] ) .

[1] - انظر لطائف المعارف ص 316.

[2] - رواه ابن أبي حاتم (1874، 1876)، وروى الضياء في المختارة : 10 / 112 (109) الجزء الأول منه.

[3] - البخاري (4522، 6389)، ورواه مسلم (2690).

[4] - أحمد : 3 / 101. ورواه مسلم (2690)، وأبو داود (1519).

[5] - ابن أبي حاتم ( 1886 ) . ورواه ابن أبي شيبة ( 29600 ) ، وأبو يعلى ( 3397 ) ، والبخاري في الأدب ( 633 ) .

[6] - أحمد : 3 / 107 ، ومسـلم ( 2688 ) ؛ وانظر تفسير ابن كثير عند تفسير الآية رقم (200، 201) .

[7] - انظر ( لطائف المعارف ) ص 315 .
 
فضل الموت في الحج

روى أبو يعلى والطبراني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مِنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فَمَاتَ ، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْغَازِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " ( [1] ) .
وفي الصحيحين عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي اللَّه عَنْهمَا - قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ e بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ e فَقَالَ : " اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " ( [2] ) .
قال جمال الدين بن محب الدين الطبري – رحمه الله : فيا له من سبب نقل المتلبس به إلى الآخرة بصفته ، ويا له من قصد أسفر ليل المجاز فيه عن صبح حقيقته ، ويا له من شعث أسرع به إلى نعيم الجنة ، ويا لها من هيئة لقي الله فيها حاسرًا مضطبعًا :

أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به ... يوم التزاور في الثوب الذي خلعا


وأفخر الفخر أن تأتيه ذا شـعث ... ملبيًا إن رأى أرضاه أو سـمعا ( [3] )

روى أحمد والطبراني والحاكم عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ الْجَنْبِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ t يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ e قَالَ : " مَنْ مَاتَ عَلَى مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ بُعِثَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ حَيْوَةُ : يَقُولُ : رِبَاطٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ( [4] ) .

[1] - أبو يعلى ( 101 ، 6357 ) ، والطبراني في الأوسط ( 5321 ) ، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة ( 2553 ) .

[2] - البخاري ( 1265 ) ، ومسلم ( 1206 ) .

[3] - التشويق إلى البيت العتيق ص 63 .

[4] - رواه أحمد : 6 / 19 ، 20 ، والطبراني في الكبير : 18 / 35 ( 784 ) ، والحاكم ( 1260 ) وصححه .
 
فضل الموت بعد الحج
روى أحمد والترمذي عَنْ أَنَسٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ " فَقِيلَ : كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ " ( [1] ) .
وروى عبد الرزاق عن طلحة اليامي قال : كنا نتحدث أنه من ختم له بإحدى ثلاث - إما قال : وجبت له الجنة ، وإما قال : برئ من النار : من صام شهر رمضان فإذا انقضى الشهر مات ، ومن خرج حاجًّا فإذا قدم من حجته مات ، ومن خرج معتمرًا فإذا قدم من عمرته مات ( [2] ) .
وبهذا نختم هذه المشوقات ؛ سائلين الله أن ينفع بها ، وأن يختم لنا بعمل صالح ثم يقبضنا عليه ؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله وصحبه .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية

[1] ـ رواه أحمد: 3 / 106، 230، والترمذي (2142) وصححه، والحاكم (1257) وصححه على شرطهما.

[2] ـ مصنف عبد الرزاق (8814).
 
عودة
أعلى