مما تقرر في علم البلاغة أن لكلٍ من الجملة الاسمية والجملة الفعلية غرضاً ومعنى تؤديه لا تصلح له الأخرى، وقد عقد الشيخ عبد القاهر الجرجاني فصلاً في (دلائل الإعجاز) سمّاه (القول على فروق في الخبر)، تحدث فيه عن الخبر حين يأتي اسماً وحين يأتي فعلاً، وبيّن أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجددَّه شيئاً بعد شيء، أما الفعل فموضوع على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد شيء.
وضرب لهذا أمثلة، فإذا قلت: (زيد منطلق)، فقد أثبت الانطلاق فعلاً له، من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئاً فشيئاً، بل توجبه وتثبته فقط، وتقضي بوجوده على الإطلاق.
وأما الفعل فإنه يُقصد فيه إلى ذلك (يقصد: التجدد والحدوث)، فإذا قلتَ: زيد ها هو ذا ينطلق، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً، وجعلتَه يزاوله ويزجِّيه.
ثم جاء بمثالين آخرين ليجلّي ما قال.
وبعدها خصص الكلام في الخبر حين يكون صفة مشبهة، فقال: ومتى اعتبرت الحال في الصفات المشبهة وجدت الفرق ظاهراً بيّناً ولم يعترضك الشك في أن أحدهما لا يصلح في موضعه صاحبه،فإذا قلتَ: (زيد طويل)، و(عمرو قصير)، لم يصلح مكانه (يطول) و(يقصر)، وإنما تقول: (يطول) و(يقصر)، إذا كان الحديث عن شيء يزيد وينمو كالشجر والنبات والصبي ونحو ذلك، مما يتجدد فيه الطول أو يحدث فيه القصر، فأما وأنت تتحدث عن هيئة ثابتة، وعن شيء قد استقرّ طوله، ولم يكن ثمَّ تزايدٌ وتجدد، فلا يصلح فيه إلا الاسم.
هذه مقدمة عن الفرق بين الخبر حين يكون فعلاً وحين يكون اسماً، وبالأخص إذا كان الاسم صفة مشبهة، لننطلق منها إلى الآية الكريمة: { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }، فنجد المفسرين قد طبّقوا هذه القاعدة في بيان السر البياني وراء اختلاف النظم في الجملتين الكريمتين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ): جاء الخبر صفة مشبهة، والمعنى أن المؤمناتِ لسن حلالاً للمشركين.
(وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ): جاء الخبر جملة فعلية، والمعنى أن المشركين لا يحلون للمؤمنات.
والخطاب في الجملتين لولاة الأمور بعدم جواز التخلية بين المسلمة وزوجها المشرك، وليس الكلام هنا يتعلق بالمؤمنين وبحكم زواجهم من الكافرات، كما ظهر لي من سؤال الأخ الفاضل فاروق:
بالنسبة للمؤمنات لماذا جاء التحليل بالصيغة الإسمية"حل"وبالنسبة للمؤمنين جاءت بالصيغة الفعلية"يحلون"؟؟
المعنى في الجملتين الكريمتين واحد وهو تحريم زواج المسلمات من الكفار، ولكن مجيء الخبر مرة أخرى بشكل آخر (الفعل) كان بهدف المبالغة في التحريم، والتأكيد، حيث قال أبو حيان إن التحريم انعقد بالجملة الأولى: (لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ)، وجاء قوله: { ولا هم يحلون لهن } على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة، لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر، علم أنه لا حل بينهما البتة. وقيل: أفاد قوله: { ولا هم يحلون لهن } استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل، كما هو في الحال ما داموا على الإشراك وهن على الإيمان.
وقال البقاعي: { لا هن } أي الأزواج ـ المسلمات ـ { حل } أي موضع حل ثابت { لهم } أي للكفار باستمتاع ولا غيره. ولما كان نفي الحل الثابت غير مانع من تجدد حل الرجال لهن ولو على تقدير من التقادير وفرض من الفروض، قال معيداً لذلك ومؤكداً لقطع العلاقة من كل جانب: { ولا هم } أي رجال الكفار { يحلون } أي يتجدد في وقت من الأوقات أن يحلوا { لهن } أي للمؤمنات حتى لو تصور أن يكون رجالهن نساء وهن ذكوراً ما حلوا لهن.
ورحم الله أبا السعود الذي لا يشقّ له غبار في كشف مكامن الآيات بكلمات موجزة دقيقة، قال: { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فإنَّه تعليلٌ للنهي عن رجعهنَّ إليهمِ، والتكريرُ إما لتأكيدِ الحرمةِ أو لأنَّ الأولَ لبـيانِ زوالِ النكاحِ الأولِ والثانيَ لبـيانِ امتناعِ النِّكاحِ الجديدِ.
وقال الألوسي مثله ثم أضاف: ويشعر بذلك التعبير بالاسم في الأولى والفعل في الثانية.
ثم نقل عن الطيبي قوله: إنه أسندت الصفة المشبهة إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلاماً بأن هذا الحكم يعني نفي الحل ثابت فيهن لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن، وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذاناً بأن ذلك الحكم مستمر الامتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغيير باستبدال الهدى بالضلال، وجوز أن يكون ذلك تكريراً للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة.
وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم بالعكس والتبديل كالذي في قوله تعالى:{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }[البقرة: 187]. ولعل الأول أولى.
وفطن ابن عاشور لوجه آخر، فقال:
إن رجوع المرأة المؤمنة إلى الزوج الكافر يقع على صورتين:
إحداهما: أن ترجع المرأة المؤمنة إلى زوجها في بلاد الكفر، وذلك هو ما ألح الكفار في طلبه لمّا جاءت بعض المؤمنات مهاجرات.
والثانية: أن ترجع إلى زوجها في بلاد الإِسلام بأن يخلى بينها وبين زوجها الكافر يقيم معها في بلاد الإِسلام إذا جاء يطلبها ومُنع من تسلمها. وكلتا الصورتين غير حلال للمرأة المسلمة فلا يجيزها ولاة الأمور، وقد عبر عن الصورة الأولى بجملة { لا هن حل لهم } إذ جعل فيها وصف حل خبراً عن ضمير النساء وأدخلت اللام على ضمير الرجال، وهي لام تعدية الحلّ وأصلها لام الملك فأفاد أن لا يملك الرجال الكفار عصمة أزواجهم المؤمنات وذلك يستلزم أن بقاء النساء المؤمنات في عصمة أزواجهن الكافرين غير حلال، أي لم يحللهن الإِسلام لهم. وقدم { لا هن حل لهم } لأنه راجع إلى الصورة الأكثر أهمية عند المشركين إذ كانوا يَسألون إرجاع النساء إليهم ويرسلون الوسائط في ذلك بقصد الرد عليهم بهذا.
وجيء في الجملة الأولى بالصفة المشبهة وهي { حل } المفيدة لثبوت الوصف إذ كان الرجال الكافرون يظنون أن العصمة التي لهم على أزواجهم المؤمنات مثبتة أنهم حلّ لهم.
وعبّر عن الثانية بجملة { ولا هم يحلون لهن } فعُكس الإِخبار بالحل إذ جعل خبراً عن ضمير الرجال، وعدي الفعل إلى المحلَّل باللام داخلة على ضمير النساء فأفاد أنهم لا يحلّ لهن أزواجهن الكافرون ولو بقي الزوج في بلاد الإِسلام.
ولهذا ذكرت الجملة الثانية { ولا هم يحلون لهن } كالتتمة لحكم الجملة الأولى، وجيء في الجملة الثانية بالمسند فعلاً مضارعاً لدلالته على التجدد لإِفادة نفي الطماعية في التحليل ولو بتجدده في الحال بعقد جديد أو اتفاق جديد على البقاء في دار الإِسلام خلافاً لأبي حنيفة إذ قال: إن موجب الفرقة هو اختلاف الدارين لا اختلاف الدين.
{ على أن لا يشركن } أي يوقعن الإشراك لأحد من الموجودات في وقت من الأوقات { بالله } أي المَلِك الذي لا كفؤ له { شيئاً } أي من إشراك على الإطلاق.
ولما كان الشرك بَذْلَ حق المُلْكِ لمن لا يستحقه، أتبعه أخذ مال المالك بغير حق لاقتضاء الحال لذلك بتمكن المرأة من اختلاس مال الزوج وعسر تحفظه منها فقال: { ولا يسرقن } أي يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية، وأتبع ذلك بَذْلَ حق الغير لغير أهله فقال: { ولا يزنين } أي يُمَكِّنَّ أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح.
ولما كان الزنى قد يكون سبباً في إيجاد أو إعدام نسمة بغير حقها، أتبعه إعدام نسمة بغير حقه فقال: { ولا يقتلن أولادهن } أي بالوأد، ولما ذكر إعدام نسمة بغير حق ولا وجه شرعي أتبعه ما يشمل إيجاد نسمة بغير حل، فقال مقبحاً له على سبيل الكناية عنه بالبهتان وما معه بالتصوير له بلوازمه وآثاره لأن استحضار القبيح وتصوير صورته أزجر عنه فقال: { ولا يأتين ببهتان } أي ولد من غير الزوج يبهت من إلحاقه به حيرة في نفيه عنه { يفترينه } أي يتعمدن كذبه. [البقاعي]
بسم الله الرحمن الرحيم..
جزاك الله خيرا أختي الفاضلة "باحثة" وفيت وكفيت..اتضحت الصورة بجلاء..
وأرجو في المرة القادمة أن يكون الخط بحجم أصغرفمثلا 4 كاف لأنه يملأ الشاشة بشكل كبير..
وجزاك الله خيرا..
دائما في انتظارالرد عن آيات "النسخ"
وجزاك خيراً كذلك، إن شاء الله سأصغر الخط في المرات القادمة.
بالنسبة لموضوع النسخ أرجو أن تعذرني للتأخير الذي تم والذي لا أعلم إلى متى سيستمر، ولكن إن شاء الله سأجد الوقت لإنهائه بأسرع ما يمكن.
أسأل الله لنا جميعاً أن يبارك لنا في أوقاتنا لتتسع لمشاغلنا.