ترجيح المعني بقوله تعالى ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ) بين ابن جرير وابن كثير

إنضم
15/04/2003
المشاركات
1,698
مستوى التفاعل
5
النقاط
38
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
فقد عنَّ لي أن أكتب في منهج ابن جرير الطبري ( ت : 310 ) ، واحترت في كيفية البداية في ذلك ، ثمَّ رأيت أن أكتب ما أكتبه متفرقًّا متنقلاً بين أودية هذا الكتاب العظيم ( جامع البيان عن تأويل آي القرآن ) الذي لم يكتب عن منهج الإمام فيه كتابة حقَّة حتى الآن .
وقد رأيت أن أذكر في هذه الحلقة آية وقع فيها خلاف في الترجيح بين ابن جرير ( ت : 310 ) وابن كثير الدمشقي ( ت : 774 ) ، وأبين فيها عن شيء من منهج ابن جرير فيما يتعلق بترجيحه بالسياق .
قوله تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة:114) .
أورد الإمام في تفسير الآية قولين :
القول الأول : أن المراد بهم النصارى ، والقائلون بهذا اختلفوا على رأيين في معنى المنع والخراب :
الرأي الأول : أنهم كانوا يطرحون فيه الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه ، وقد رواه مجاهد
الرأي الثاني : أنهم النصارى الذين أعانوا بختنصر على اليهود ، خربوا المسجد ومنعوا من الصلاة فيه ، وهذا مسند إلى قتادة والسدي .
وأما ابن عباس فقال هم النصارى ، ولم يذكر معنى الفساد ولا الخراب .
القول الثاني : أنهم قريش حين منعوا رسول الله يوم الحديبية من البيت ، ورواه عن ابن زيد .
ثم قال : (( وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال عنى الله عز وجل بقوله ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه النصارى وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس وأعانوا بختنصر على ذلك ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده
والدليل على صحة ما قلنا في ذلك قيام الحجة بأن لا قوم في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله وسعى في خرابها إلا أحد المسجدين إما مسجد بيت المقدس وإما المسجد الحرام
وإذ كان ذلك كذلك وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه = صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده غير الذين وصفهم الله بعمارتها إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية وبعمارته كان افتخارهم وإن كان بعض أفعالهم فيه كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم
وأخرى أن الآية التي قبل قوله ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر ولا للمسجد الحرام قبلها فيوجه الخبر بقول الله عز وجل ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه إليهم وإلى المسجد الحرام
وإذ كان ذلك كذلك فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه هو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك وإن اتفقت قصصها فاشتبهت .
فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك إذ كان المسلمون لم يلزمهم قط فرض الصلاة في المسجد المقدس فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون توجيه قوله ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس فقد أخطأ فيما ظن من ذلك
وذلك أن الله جل ذكره إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد ، وإن كان قد دل بعموم قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) أن كل مانع مصليًا في مسجد لله فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين )) .
واعترض ابن كثير الدمشقي ( ت : 774 ) على هذا فقال : (( ثم اختار بن جرير القول الأول واحتج بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس .
قلت والذي يظهر والله أعلم القول الثاني كما قاله بن زيد وروي عن ابن عباس لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كان دينهم أقوم من دين اليهود وكانوا أقرب منهم ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وأيضا فانه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام .
وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم مما فعلوا أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى : ( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ، وقال تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) ، وقال تعالى : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا اليما ) .
فقال تعالى : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) ، فإذا كان من هو كذلك مطرودا منها مصدودا عنها فأي خراب لها أعظم من ذلك وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها ورفعها عن الدنس والشرك )) .
فيه مسائل :
الأولى : اعتماد ابن جرير على الآثار والواقع والسياق في ترجيح ما ذهب إليه ، فحجته الأولى الآثار التي حكاها عن الجمهور ، وهي التي يشهد له الواقع التاريخي ، وذلك أنه قد وقع لبيت المقدس خرابٌ ومنع من الصلاة .
والحجة الثانية السياق ، حيث إن الآيات قبلها في أهل الكتاب ، ولم يجر للعرب ذكر فتصرف الآية إليهم .
وكون الآية تصدق على العرب لا يعني أنها نزلت بشأنهم أولاً ، وهذا الذي يريده الإمام رحمه الله ، والذي يدل على ذلك أنه قال في آخر كلامه : ((وذلك أن الله جل ذكره إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد ، وإن كان قد دل بعموم قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) أن كل مانع مصليًا في مسجد لله فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين )) .
وهذا يعني أنه يرى إدخال العرب وغيرهم ممن يصدق عليهم هذا الوصف ، ولكن تحريره هنا رحمه الله : من المَعْنِيِّ بالآية أولاً .
أما ابن كثير فعكس المسألة ، وجعل دخول النصارى في معنى الآية محتملاً لأجل العموم ، قال : (( قلت وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة التي كانت تصلى إليها اليهود عوقبوا شرعا وقدرا بالذلة فيه إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم )) .
وصارت المسألة هنا : من المَعْنِيِّ بالآية أولاً مع اتفاقهما رحمهما الله على تعميم الآية ، ولا شكَّ أن السياق يدل على ما قاله ابن جرير رحمه الله تعالى .
الثانية : الذي يظهر من كلام ابن كثير الدمشقي ( ت : 884 ) أنه لم يعرِّج على الحجة الثانية ، وهي السياق ، ويبدو أن سبب ذلك طول كلام ابن جرير ، وأنه أخَّر هذه الحجة ، فقرأ أول الاحتجاج ولم يتنبه لها ، والله أعلم ، إذ لو انتبها لها لردَّها ، كما ردَّ الأولى . ( ينظر تعليق محمود شاكر على هذه الآية / 2 : 523 ) .
الثالثة : إن من يقرأ كلام ابن جرير في هذا الموضع وفي غيره يحسن به ألا يتعجَّل في فهم عبارة ابن جرير حتى يقرأه بعناية ؛ نظرًا لأمور ، منها :
1 ـ طول الفصل في الجمل .
2 ـ طول الاحتجاج ، كما هو الحال هنا .
3 ـ وصفه للقول الذي يخالفه وبيان حججه ، وقد يشوبه طول أيضًا ، ثم يكرُّ إلى القول الذي يراه صوابًا فيبيِّن حججه له ، ومن عباراته في هذا الباب قوله ـ بعد كلام طويل في خبر رواه السدي عن أشياخه عند قوله تعالى (( أتجعل فيها من يفسد فيها ـ : ( وهذا الذي ذكرناه هو صفة مِنَّا لتأويل الخبر ، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية ) .
وهذا الاستدراك منه في محلِّه ؛ لأنَّ طول كلامه قد يقطع المرء عن إتمامه ، فيظن أن ابن جرير يرجح هذا القول ، ولكن الأمر ليس كذلك .
وأخيرًا ، فإن أثر الاعتماد على السياق يظهر جليًّا عند ابن جرير الطبري ، وقد استعمل دلالة السياق استعمالاً واسعًا ، وبرز عنده في مجالات متعددة ، وقد كتب فيه الأخ الفاضل عبد الحكيم القاسم ـ وفقه الله ـ المحاضر بقسم الدراسات القرآنية بكلية المعلمين بالرياض رسالة علمية نال بها درجة الماجستير .
وسيأتي إن شاء الله بعض القضايا السياقية عند ابن جرير ، والله الموفق .
 
شيخنا الفاضل نسر كثيرا برؤية بحوثكم الماتعة ومقالاتكم الرائعة فجزاكم الله خيرا

ولي تعليق يسير لعلكم تنظرون فيه :

لعل ابن كثير رحمه الله قد عرج على حجة ابن جرير الثانية في احتجاجه بالسياق .
ورد ابن كثير على هذه الحجة في قوله :
((فانه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ))
فهذا وجه الارتباط بين هذه الاية وماقبلها عنده .
وقد يقول قائل : ان هذا الوجه له اقوى مما ذكره ابن جرير من جهة ان ما ذكره ابن جريربقوله :
((وأخرى أن الآية التي قبل قوله ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم ))
فيه ان الايات تحدثت عن اليهود والنصارى ثم عن النصارى فقط لا عن اليهود والنصارى .

وماذكره ابن كثير فيه ان الايات تحدثت عن اليهود والنصارى ثم عن المشركين.
فمن ناحية الترتيب ماذكره ابن كثير اقرب.

ننتظر تعليقكم شيخنا ابا عبد الملك .
 
تعقبات ابن كثير على بن جرير موضوع شيق وجميل ، وكنت كثيراً أفكر في موضوع تفسيري مقارن بعنوان :
بين ابن جرير وابن كثير

وهذا البحث الذي أورده الشيخ مساعد وفقه الله دليل على أهمية هذا الوضوع .

تنبيه : علق القاضي محمد كنعان على ذكر بختنصر في بعض الروايات ومعاونة النصارى له بقوله :
هذا القول ذهول وسهو ؛ لأن بختنصر أحد ملوك بابل توفي 607 قبل الميلاد .


فهل بختنصر هذا الذي ورد في كلام ابن جرير هو نفس هذا الذي توفي قبل الميلاد - إن صح هذا - ؛ فيكون في ذكره نكارة ؟ أم ماذا ؟

ولعل دراسة التاريخ تفيد في مثل هذه القضايا .

هذا مجرد تنبيه ، وإن كنت أرى أن الصواب في هذه المسألة مع ابن كثير ، وقد ذكر ابن عاشور ما يدل على أنه يميل إلى هذا القول أيضاً .

وابن جرير يهتم بالسياق كثيراً ، حتى إنه أحياناً يرجح معنى بعيداً لأنه أقرب لسياق الآية مثل تفسيره لآية النساء : ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ....) .
 
شكر الله لك ابا عبد الملك
واستدراكات ابن كثير على ابن جرير بحث ماتع , وكذا استدراكات ابن عطية على ابن جرير , وقد جمعت مواضع كثيرة منهما , ثم بعد ذلك علمت انه تم فيهما تسجيل رسائل دكتورا ه في كلا الموضوعين في الجامعة الإسلامية , وتمت مناقشتهما ,
ارجو ممن يستطيع الوصول إليهما , ان يتحفنا بما توصل له الباحثان .
 
لقد أحصيت من خلال جهد متواضع تعقبات ابن كثير لابن جرير - رحم الله الجميع - وهي مفيدة في استنباط طريقتهما ، وكنت أفكر في إخراجها كسلاسل في هذا المنتدى ولكني مازلت مترددا فماذا ترون ؟
 
أرى أخي محمد ألا تتردد في إفادتنا بها
فاطرحها موفقاً بإذن الله ، ولعل تعليقات الإخوة الأعضاء توضحها وتسددها .

وهذا الملتقى مجال رحب لمثل هذا الفوائد .
 
عودة
أعلى