ترجيحات الأئمة الكبار في التفسير ينبغي أنْ يتأمّلها من أراد التمكّن من التفسير وينظر إلى ما فيها من دقائق الترجيح و الاستدلال، و لنضرب مثلا لذلك فإمام المفسرين الطبري له ترجيحات غاية في الأهمية و النفاسة تدلّ عظيم منزلته من العلوم الشرعية و تبرهن على إمامته أيضاً في اللغة والنحو وتشير إلى عبقريته الفذّة و من ترجيحات الإمام الطبري ترجيحات قد يضعفها بعض العلماء و قد لا يفهما على وجهها من لم يمعن النظر فيها و يقلب الفكر في اختلاف المفسرين . والمهمّ هو تفهّم وجه استدلاله رحمه الله ووجه ترجيحه قبل التعجّل في الحكم ثمّ من المعلوم أنّ الإمام الطبري قد يرجّح القول ولا يلزم من ترجيحه له في موطن أن يرجحه في موطن آخر لاختلاف السياق فمثلا يرجّح في معنى قوله تعالى ( وسع كرسيه السموات و الأرض ) أن معنى كرسيّه هنا كرسيه عِلمُهُ و قال : إنه الذي يدلّ على صحته ظاهر القرآن و استدلّ بقوله تعالى بعده : ( وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) : 4/ 540 لكن ليس معنى هذا أنّ الطبري لا يثبتُ الكرسيّ إذا ثبت عنده من طريق آخر؛ وإنّما رجّح رحمه الله ما يراه أصحّ هنا بحسب سياق الكلام و استدلّ على ذلك ، و أمّا معنى الكرسي فقيل الكرسيُّ هو موضع القدمين أو هو العرش و هو وهو أصحّ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الكرسي موضع القدمين والعَرْش لا يقدِرُ قَدْرَهُ إلا الله. ( السنة لعبد الله بن أحمد 2/ 454 وتفسير ابن أبي حاتم2/ 491 ( 2601) و الدارمي في الرد على بشر لمريسي:ص67 والإبانة لابن بطة: 3/ 339 و الصفات للدارقطني: صـ 30 والحاكم 2/ 282 .
وممن قال إن المراد بالكرسيّ العرش الحسن البصري رواه عن الطبري: 4/ 539 من طريق جويبر وبه قال الضَّحاك و السدي وغيرهما.
و أمّا القول بأنّ المراد بالكرسي علمه تعالى فمروي عن ابن عباس في روايةٍ عنه: رواه الطبري :4/ 537 و ابن أبي حاتم2/ 490 ( 2599 ) و اللالكائي في اعتقاد أهل السنة: 3/ 405 والبيهقي في الأسماء والصفات: ص233 لكنّ في سند هذا القول ضعفا قال ابن منده: (وهذا حديث مشهور عن مطرِّف عن جعفر بن أبي المغيرة لم يتابعْ عليه)اهـ. وقال أيضا: (ورواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسيُّ علمه ولم يتابَع عليه جعفرٌ وليس هو بالقويّ في سعيد بن جُبير)اهـ. الردّ على الجهمية:1/ 21 وينظر: ميزان الاعتدال: 1/ 417 ترجمة جعفر بن أبي المغيرة . وينظر: السنة لعبد الله بن أحمد:2/ 500 و به قال مجاهد و سعيد بن جبير : وهو في تفسير ابن أبي حاتم2/ 490 عن سعيد بن جبير وتفسير الثعلبي: 2/ 232 عن ابن عباس و مجاهد و سعيد بن جبير ( 2599 ) وممن رجح أنّ المراد بالكرسي العرش الزجاج:1/ 288 و ابن الأنباري وقال : ( الذي نذهب إليه ونختاره : القول الأول ؛ لموافقته الآثار ، ومذاهب العرب ، والذي يحكى عن ابن عباس : أَنَّه عِلْمُه ، إنما يروى بإسناد مطعون وقيل إن كرسيه قًدْرَتَهُ التي بها يُمسك السماوات والأرض, من قولهم: اِجْعَلْ لهذا الحائطِ كرسياً أي اِجعَلْ له ما يعمِدُه ليمسكه حكاه الزجاج و غيره. وينظر: تهذيب اللغة و لسان العرب: ( كرس) و القرطبي:3/ 277 و مجموع الفتاوى: 6/ 584 والعلو للذهبي: ص117 و عمدة القاري:18/126 .
فالمقصود أنّ ترجيح الإمام الطبري أنّ المقصود بالكرسي هنا العلم لا يفهم منه نفيه صحة ما ورد من الأخبار في الكرسي الذي هو من أعظم المخلوقات.
قولك أخي الكريم (ثمّ من المعلوم أنّ الإمام الطبري قد يرجّح القول ولا يلزم من ترجيحه له في موطن أن يرجحه في موطن آخر لاختلاف السياق فمثلا يرجّح في معنى قوله تعالى ( وسع كرسيه السموات و الأرض ) أن معنى كرسيّه هنا كرسيه عِلمُهُ و قال : إنه الذي يدلّ على صحته ظاهر القرآن و استدلّ بقوله تعالى بعده : ( وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) : 4/ 540 لكن ليس معنى هذا أنّ الطبري لا يثبتُ الكرسيّ إذا ثبت عنده من طريق آخر؛ وإنّما رجّح رحمه الله ما يراه أصحّ هنا بحسب سياق الكلام و استدلّ على ذلك )
ليس معلوما لنا على الأقل---لم استسغ - مع الإحترام الشديد لك- أن تقول أنّ ما يرجّحه الإمام الطبري في موقع لا يرجّحه في موقع آخر---هذا الأمر لو حصل من واحد منّا لانتقده النّاس عليه أشنع انتقاد فكيف بالإمام الطبري--
المقصود أنه لا يلزم من ترجيح الإمام الطبري هنا أنه ينكر وجود الكرسي الوارد في بعض الأخبار.
و أما اختلاف الترجيح إذا اختلف سياق الكلام فلا مانع منه. لأن المعنى قد يختلف - حفظك الله -.
ابن جرير رحمه الله نص بعد ذكره للأقوال الواردة في تفسير الكرسي على أن أولى الأقوال بتأويل الآية هو أن الكرسي : الكرسي الذي يقعد عليه الرب تبارك وتعالى / حيث قال رحمه الله :
( قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع- ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، إذا ركب، من ثقله" .)
ثم ذكر أن تفسير الكرسي بالعلم هو المناسب لسياق الآية.
وقد علّق الأستاذ محممود شاكر على ما ذكره ابن جرير بقوله :
( العجب لأبي جعفر ، كيف تناقض قوله في هذا الموضع ! فإنه بدأ فقال : إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، من الحديث في صفة الكرسي ، ثم عاد في هذا الموضع يقول : وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن ، فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه . فإما هذا وإما هذا ، وغير ممكن أن يكون أولى التأويلات في معنى"الكرسي" هو الذي جاء في الحديث الأول ، ويكون معناه أيضًا "العلم" ، كما زعم أنه دل على صحته ظاهر القرآن . وكيف يجمع في تأويل واحد ، معنيان مختلفان في الصفة والجوهر ! ! وإذا كان خبر جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، صحيح الإسناد ، فإن الخبر الآخر الذي رواه مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، صحيح الإسناد علىشرط الشيخين ، كما قال الحاكم ، وكما في مجمع الزوائد 6 : 323" رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح" ، كما بينته في التعليق على الأثر : 5792 . ومهما قيل فيها ، فلن يكون أحدهما أرجح من الآخر إلا بمرجح يجب التسليم له . وأما أبو منصور الأزهري فقد قال في ذكر الكرسي : "والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهنى ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : "الكرسي موضع القدمين ، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره . قال : وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها . قال : ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم ، فقد أبطل" ، وهذا هو قول أهل الحق إن شاء الله .
وقد أراد الطبري أن يستدل بعد بأن الكرسي هو"العلم" ، بقوله تعالى : "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما" ، فلم لم يجعل"الكرسي" هو"الرحمة" ، وهما في آية واحدة؟ ولم يجعلها كذلك لقوله تعالى في سورة الأعراف : 156 : "قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء"؟ واستخراج معنى الكرسي من هذه الآية كما فعل الطبري ، ضعيف جدا ، يجل عنه من كان مثله حذرا ولطفا ودقة .
وأما ما ساقه بعد من الشواهد في معنى"الكرسي" ، فإن أكثره لا يقوم على شيء ، وبعضه منكر التأويل ، كما سأبينه بعد إن شاء الله . وكان يحسبه شاهدا ودليلا أنه لم يأت في القرآن في غير هذا الموضع ، بالمعنى الذي قالوه ، وأنه جاء في الآية الأخرى بما ثبت في صحيح اللغة من معنى"الكرسي" ، وذلك قوله تعالى في"سورة ص" : "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب" . وكتبه محمود محمد شاكر .).
بسم الله الرحمن الرحيم
أخوتي الكرام
ينفق على الصروح العلمية ما ينفق ، وعلى بناء المساجد بل وتزخرف ، وعلى ...
وإن الناظر إلى موضوع مثل هذا الموضوع
هو بين أن يكون :
1- له أصالة في العالم . فيعرف من أين نتج هذا
2- وبين باحث أو طالب علم وهو بين مصدق لهذا التأويل أو مكذب أو لا يستطيع الرد على إمام
3- وبين مقلد يقول إمام قال .
ولكن تبقى بقية عند من لم يسوغ هذا التأويل ويسنكره بعلم . فيقول في نفسه لو أن هذه التفاسير تحقق لو أنه يجمع بينها بين يتبن ما يرجح وما يثبت وما يبطل ، وإلى متى سيستمر بنا هذا المطلب وهل سيكون كذا هو مطلب أولادنا .
لذا كانت هناك مشاركة سابقة تقول http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=5181&highlight=%CC%C7%E3%DA+%C7%E1%CA%DD%C7%D3%ED%D1
وهذا المنتدى به من الأفاضل الذين لو اجتمعوا بعد تمويل من جهات لخدمة العلم لوضعوا أيديهم في أيدي بعضهم ولأعدوا من هذا الصرح ما يسره الله لهم .
فلما لا ننادي بتجميع همتهم ، وكذا وقوف مؤسسات قوية لتمويل هذا المشروع بحيث تشرفوا عليه بجامعتكم بالسعودية بين دكاترة وطلبة ماجستير وطلبة صغار في الأقسام كل على ثغرة بحيث يعلو هذا الصرح . وليش شرطًا أن يكون منذ بدايته في أعلى درجة ، فبعد البناء ينمق ويزين .
ما رأي أهل التفسير
ألا ننادي
أشكر الدكتور الميموني على طرحه لمثل هذا الإشكال الذي يحتاج إلى إلى نظر وإعمال ذهن ، وفي رأيي أن الطبري لم يذهب في تفسيره إلى أن المراد بالكرسي في هذا الموضع العلم ، وقد أوهمت عبارة الطبري على غيره من العلماء كابن عطية ، وعنه نقل القرطبي ، وعن القرطبي نقل الشوكاني ، وإليك نص عبارة الطبري : ( قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع- ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، إذا ركب، من ثقله"
حدثني عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
- حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: جاءت امرأة، فذكر نحوه
وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال:"هو علمه" . وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره:"ولا يؤوده حفظهما" على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم، وأحاط به مما في السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ) [غافر: 7]، فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض". )
فقوله ـ رحمه الله : ( ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قاطع بأنه يذهب إلى أن الكرسي مخلوق ، وليس هو العلم ، ثم عقب بقوله : ( وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال:"هو علمه" ) ، وهذا ليس تراجعًا منه عن ترجيحه ، بل بيان لاحتمال قول ابن عباس فحسب ، والطبري يعمل هذا في بعض المواطن التي يقع فيها تنازع في الترجيح ، فيبن اختياره مع بيانه لاحتمال القول الآخر ، ولولا إطالة المقام لسردت أمثلة لذلك ، لكن اكتفي بإحالة القارئ إلى ترجيحه في قوله تعالى : ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ) فقد بين أن السياق مع مسروق والشعبي من أن الشاهد موسى عليه السلام حيث قال : ( والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل ) ثم قال : ( غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل ، وما أريد به.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك، وشهد عبد الله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل ) ، وظاهر من هذا أنه لولا قول هؤلاء العالمين لذهب إلى قول مسروق .
إسمحوا لي أيها الأكابر---فالطبري رحمه الله على عظمته لا يمكن أن يتهم بالتناقض ---فالقول الأول له (غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ) اكتفى بعده بذكر حديث الرسول عليه الصلاة والسلام
بينما القول الثاني له (( وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال:"هو علمه" ) فقد استرسل وأطنب وجاء بشواهد لغوية على صحته عنده وواضح أنّه داعم له بقوة
ونحن لا نبحث إلّا موقفه هو---ولا نتدخل فيه---وإنّي لأرى أنّه مع ذكره للحديث لم يعمل به ورجّح مرجحات القرآن عليه والتي وردت في نفس الآية--
الشيخ الكبير جمال حفظه الله
لم يتناقض الطبري رحمه الله ، ومن مارس القراءة في تفسيره يظهر له أنه في بعض الترجيحات بين الأقوال يريد أن ينبه على وجاهة بعض الأقوال بطريقته المعروفة عنه ، وأتمنى أن تتمعن في النظر في ترجيحه الثاني في قوله تعالى ( وشهد شاهد من بني إسرائيل ) لتنظر كيف ذكر الوجه المعتبر لقول مسروق ، ثم تركه لأجل قول الجمهور من مفسري الصحابة والتابعين .
وللطبري رحمه الله تعالى منهج في التعامل مع الأقوال قلَّ أن تجده عند غيره ، غير أن صعوبة عباراته في سبكها قد يجعل القارئ لا يفهم مراده من أول الأمر .
كما أن عنايته بسياق القرآن وظاهره لهما أثر بارز في تفسيره ، فهو يستخدمهما لأمور :
الأول : بيان صحة قول على قول ، فيقدم القول الصحيح على ضدِّه .
الثاني : بيان القول الأولى ، مع أن غيره يكون له وجه صحيح .
الثالث : التنبيه على أن السياق مازال يتحدث عن قضية معينة لم ينتقل عنها بعد ، وكثيرًا ما يستخدمها في القضايا ذات الموضوع الواحد ـكالقصص ـ لذا تراه أحينًا ينحو بعبارته في تفسير بعض العمومات إلى ما يظنه القارئ تخصيصًا ، وهو لا يريد ذلك ، يل يريد التنبيه على أن السياق مازال متصلاً في الحديث عن موضوع واحد .
وما ذُكر في هذا المثال يدخل في باب تنازع قواعد الترجيح للمثال الواحد ، وهذا التنازع موجود في أمثلة تفسيرية كثيره ، ومما يحسن التنبيه عليه أن الطبري رحمه الله تعالى لا يذكر الحديث النبوي ، ثم يعرض عن دلالته إلا أن يكون الحديث عنده غير صحيح ، وهذا ظاهر في تفسيره أيضًا ، ولولا طول النقول لذكرت أمثلة لذلك ، لكن يمكن الرجوع إلى عدم القول بالحديث لضعفه عنده تفسير قوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، ولعتماده الحدبث مع ورود الاختلاف في فهم الآية قوله تعالى ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت ) ، و لايُتصور في عالم مثل الطبري متبع للآثار يذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعرض عنه .
(وقوله: { وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ } اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقالبعضهم: معناه: وشهد شاهد من بني إسرائيل، وهو موسى بن عمران عليه السلام على مثله، يعني على مثل القرآن، قالوا: ومثل القرآن الذي شهد عليه موسى بالتصديق التوراة)
ثم أورد أقوال القائلين بذلك من مثل
(عن مسروق في هذه الآية: { وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ } فخاصم به الذين كفروا من أهل مكة، التوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم.)
ونقل أيضا (عن الشعبيّ، قال: إن ناساً يزعمون أن الشاهد على مثله: عبد الله بن سلام، وأنا أعلم بذلك، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة، وقد أخبرني مسروق أن آل حم إنما نزلت بمكة، وإنما كانت محاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه، فقال: { قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللَّهِ } يعني الفرقان { وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ } فمثل التوراة الفرقان، التوراة شهد عليها موسى، ومحمد على الفرقان صلى الله عليهما وسلم.
ثم قال
(وقال آخرون: عنى بقوله: { وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ } عبد الله بن سلام، قالوا: ومعنى الكلام وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل هذا القرآن بالتصديق. قالوا: ومثل القرآن التوراة.)
وذكر منهم
(حدثني يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف التَّنِّيسي، قال: سمعت مالك بن أنس يحدّث عن أبي النضر، عن عامر بن سعد بن أبي وقَّاص، عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام قال: وفيه نزلت { وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ }.
ثمّ خلص إلى النتيجة فقال
(والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل، لأن قوله: { قُلْ أرأيْتُمْ إنْ كانَ مِنْ عنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ } في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش، واحتجاجاً عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دلّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدّم الخبر عنهم معنى، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك، وشهد عبد الله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله، يعني على مثل القرآن، وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمداً مكتوب في التوراة أنه نبيّ تجده اليهود مكتوباً عندهم في التوراة، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبيّ.)
وتوجيه الكلام هو أنّ الطبري مقتنع بكلام مسروق حول الآية وإنّ الشاهد هو موسى- عليه السلام--ولكن الآثار عن الصحابة والتي فيها أنّ الشاهد هو عبد الله بن سلام جعلته يعدل عن اقتناعه---وتصرفه فيه دلالة على خطأ منهج النظر المستقل في كتاب الله بدون أيّ اعتبار لأقوال الصحابة
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
كنتُ مسافراً ولم أطلع على ما دار من حوار مفيد. وأشكر مداخلتكم الكريمة. و هذا جواب موجز كتبته اليوم .
و أقول مقصود كلامي واضح في قولي : (ترجيحات الأئمة الكبار في التفسير ينبغي أنْ يتأمّلها من أراد التمكّن من التفسير وينظر إلى ما فيها من دقائق الترجيح و الاستدلال، ولنضرب مثلاً ..و إمام المفسرين الطبري له ترجيحات غاية في الأهمية و النفاسة تدلّ عظيم منزلته من العلوم الشرعية و تبرهن على إمامته ..) الخ .
و ما ذكرته هو مجرد مثال على قضية خاصة من قضايا أهم و أشمل تدخل تحت عبارتي و القضية الخاصة هي ما قد يقع من التعجل في الحكم على كلام الإمام الطبري و لم أقصد إلى التمثيل بما يتعلق بدقائق و نفائس ترجيحاته و تدليلاته و هو المقصود من كلامي.
و بخصوص كلام الشيخ محمود شاكر – رحمه الله - الذي تكرم بنقله أخي الكريم الشيخ أبي مجاهد العبيدي – حفظه الله – فقد كنت اطلعت قبل أن أضع المشاركة على كلام الشيخ محمود شاكر و لم ترق لي بعض عباراته هنا ..
وعندي أن في بعض كلام الشيخ محمود الشاكر ما لا يلزم الطبري و فيه نوع تحامل على إمام المفسرين فهو لم يأت ببدع من القول فقد سبق إلى هذا القول.
و أمّا ترجيح الطبري هنا لمعنى الكرسي أنه العلم فلا تناقض فيه فقد بين أنّ الأولى الأخذ بما دلّ عليه الحديث ثم بين أن السياق القرآني عنده دلّ على ترجيح القول الآخر، والترجيح بالسياق لا يتعارض مع الترجيح بالحديث هنا إذ ليس في صحيح الحديث هنا أنّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فسّر المراد بالكرسي في الآية فالمقصود أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لم يثبت عنه أنه فسر الكرسي في الآية لا بعلم الله ولا بالكرسي أو العرش
ثمّ لا شك أنّ في تفسير الكرسي بالعلم خروجاً عن الظاهر لكنه خروج باجتهادٍ صحيح و إن كان في نظري اجتهادا مرجوحاً. و خبر عبد الله بن خليفة الذي رواه عنه السبيعي بين ابن كثير علته. وموضوع الترجيح بين الأقوال هنا لم يكن هو المقصود من كلامي أصالة.
و أما سؤال د/ جمال جزاه الله خيراً فأقول نعم يوجد في كلام الطبري و غيره أيضا اختلاف الترجيح في الكلمة باختلاف سياقها و هو كثير و مما يحضرني الآن :
اختلاف ترجيحه لمعنى ظن فردّ على من جعلها بمعنى أيقن في قوله تعالى : (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ) في سورة البقرة هذا مع كونه يثبت مجييء ظن بمعنى اليقين و يقول بأن معنى ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) أنه اليقين و يقول في معنى قوله: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ) إنه بمعنى علمتُ و كمثل ترجيحه لمعنى الظلم بحسب السياق و ولمعنى الفرقان بحسب السياق و لمعنى القنوت بحسب السياق.
و الكلام هنا في هذه المشاركات بنبغي في نظري أن يبنى على الإيجاز لأن القص و اللزق مما يسهل اليوم فلهذا آثرت الإيجاز ههنا
ماذكره الدكتور مساعد حفظه الله هو ماقال به الاستاذ طه محد نجار رمضان في كتابه أصول الدين عند الإمام الطبري من ان الأمر يرجع إلى تنازع القواعد عند الطبري إلا أنه نبه إلى أمرين أن الطبري يثبت الكرسي على ماجاء به الأثر بغض النظر عما إذا كان هو المراد بهذه الاية والثاني أن ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما هو مع ضعفه مخالف لما صح عنه ثم ذكر الرواية الصحيحة عن ابن عباس وقول ابي منصور الأزهري وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم فقد أبطل )
ص 287 أصول الدين عند الطبري وهو رسالة ماجستير مقدمة إلى قسم الفلسفة الإلسلامية في كلية دار العلوم جامعة القاهرة بإشراف ا.د مصطفى محمد حلمي
القول بأن المراد بالكرسي العرش أرجح من غيره لأن إطلاق الكرسي بمعنى العلم لغة إما لغة قليلة أو شاذة و حمل ألفاظ الكتاب على المتبادر من معانيها لغة ما لم يدل الدليل على صرفه عن ظاهره أقوى. ...
و ما تفضل بذكره د/ مساعد حفظه الله و د / فهد الرومي مفيد . و أمّا كلام الأزهري (ت: 370هـ) فقد أحلت عليه وكلام الإمام ابن الأنباري : (ت: 328هـ) أحسن منه مع أن ابن الأنباري أجل و أقدم و أعلم بالحديث و بعلوم القرآن من الأزهري رحمهما الله.
و المقصود أن الطبري لم ينكر ورود الكرسي بمعنى العرش كما هو بين من كلامه و لكن التطرق بمثل هذا الترجيح للقدح في الأئمة الكبار كالطبري أو لمزهم مما يحذر منه و يخشى على أصحابه.