ابن قاسم: الفلاَّحُ الزاهد والفقيه المؤرخ!
د. يوسف بن أحمد القاسم 2/5/1429
07/05/2008
طلب مني بعض الإخوة الفضلاء, وعدد آخر من طلاب المعهد العالي للقضاء, أن أترجم للشيخ الجد/ عبد الرحمن بن قاسم- رحمه الله- وقد ذكرت لهم بعض التراجم المكتوبة عنه رحمه الله, والتي أعتقد أنها سطرت جانباً مهماً من حياته, ومنها الترجمة التي كتبها الشيخ/ محمد بن عثمان القاضي- رحمه الله- في كتابه:"روضة الناظرين", والترجمة المختصرة التي كتبها المؤرخ الأديب/خير الدين الزركلي- رحمه الله- في كتابه "الأعلام", والترجمة التي كتبها فضيلة الشيخ/عبدالله بن جبرين- حفظه الله- في "مقدمة حاشية الروض", والترجمة التي كتبها حفيده الداعية/ عبد الملك بن محمد- حفظه الله- في كتابه:"الشيخ عبد الرحمن بن قاسم, حياته, وسيرته, ومؤلفاته", ولكن هذا كله لم يكن شافعاً لي في نظرهم أن أتلكأ عن الكتابة, فضلاً عن أمتنع, وإن لم أكن معاصراً له- رحمه الله- فأجبت إلى ذلك, واكتفيت من القلادة بما أحاط بالعنق, وأقول, مستعيناً بالله تعالى:
هو الفقيه الزاهد/ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (ت1392هـ رحمه الله), ولد في بلدة (البير) المجاورة لبلدة (ثادق) سنة (1312هـ), ونشأ بها, وتلقى فيها وفيما حولها مبادئ العلوم, وأتم بها حفظ القرآن الكريم, وهو في سن التاسعة, وبدت عليه علامات النجابة وهو في أول سني عمره, ولهذا لم تتردد والدته (هيا بنت عباد العباد) أن تدفع به نحو العلم وتحصيله, ومنذ ذلك الحين وهو جاد في طلب العلم, فكان تلميذاً منذ نعومة أظفاره, ثم شب تلميذاً, وشاخ تلميذا, ومات تلميذاً؛ ولم يكن يسمح لأحد أن يصفه بالمشيخة, ومن يناديه ياشيخ, يلتفت إليه منبهاً وممازحاً, ويقول له بابتسامة عريضة: الشيخ جنابك!! فلم يكن يرفع رأساً بهذه الألفاظ, ولم يكن يحفل بغيرها من الألقاب, وما كانت همته إلا نحو العلم, والاغتراف من بحره الجاري, والنهل من معينه الصافي, يتجه للعلم أينما كان, ويفتش عنه في أي مكان, ولو كان بيته في زاويةِ بستانٍ بنجد أو كان مريضاً, وزحف به المرض شطر القاهرة, أو دمشق, أو بيروت, أو باريس, فما يلبث أن تطأ رجله بوابة المستشفى خارجاً منه إلا ويتجه صوب دار الكتب المصرية بمصر, أو دار الظاهرية بالشام, أو مكتبة بيروت العمومية بلبنان, أو مكتبة باريس بفرنسا, متناسياً مرضه, ومتغافلاً عنه, وذلك لينقب عن مكنونات قلبه, أعني: مخطوطات فتاوى شيخ الإسلام, ورسائله, وكتبه, ويجمعها من أدراج تلك المكتبات الدولية, ويحققها, ويخرجها صافية نقية, في ذلك العصر, عصر الجمل واللوري والطائرة المروحية! وذلك ليقدمها على طبق من ذهب لطلاب العلم في عصر المرسيدس والطائرة النفاثة، وعصر التقنية والمعلومات, وكان قد بدأ بجمعها وترتيبها وتحقيقها قبل ذلك بمدة طويلة, أعني: في نجد, والحجاز, وتحديداً بعد سنة 1340هـ (كما جاء في مقدمة مجموع الفتاوى صـ ب) أي: منذ كان أكبر أولاده (عبد الله رحمه الله) في صلبه, فنقب عنها وفتش وهو في ريعان شبابه, وعنفوان نشاطه, حتى جمع منها مجلدات كثيرة, كما أشار إلى ذلك الجد في هامش مقدمته(صـ د), بل كان على وشك طباعتها, لولا أنه نما إلى علمه وجود مسائل لشيخ الإسلام في دار الكتب المصرية, ولذا أجّل طبعها, كما جاء في مقدمة المجموع (1/د) بقلم ابنه العم محمد رحمه الله(جامع مستدرك شيخ الإسلام, والمعتني بتحرير مؤلفات الشيخ محمد بن إبراهيم), ثم تيسر له السفر إلى بعض الدول العربية والغربية بصحبة ابنه محمد, فكان من التنقيب والبحث ما أشير إليه في المقدمة(1/ب-ك).
وطالما عجب أهله وأقاربه ومحبوه من ملازمته للكتابة والكتاب, وهو في بيته وبستانه, أو بين عمله وعماله, أو بين أصحابه وأقرانه, في همة وطاقة لا تعرف الملل ولا الكلل, وحين بلغ من العلم مبلغاً, وتبوأ منه شأوا, لم يكن يتشوف إلى الصدارة والمنصب, ولا إلى المال والجاه, ولم يكن يتطلع إلى الألقاب العلمية, والأوصاف الرسمية, وإنما كان همه وهجيراه أن يعثر على فتوى لابن تيمية الإمام, أو على رسالة أو كتاب لشيخ الإسلام, ليعيد النضير إلى نضيره, ويضم المثيل إلى مثيله, حتى تفوق على أقرانه, وتميز على علماء زمانه, أعني: في الجمع والتأليف, وفي السفر والرحلة, وقد كان من وراءه زوجة صالحة, وهي (نورة بنت محمد الزومان) فكانت تحفظه في حلَّه وترحاله, وتخلفه في أهله وولده بخير, وطالما سافر الأشهر تلو الأشهر, وهي تكد في بستانه, وتشرف على أعماله, وتقوم على بقره وأغنامه, ومرّة ودّعها وهي حبلى, وقفل راجعاً من سفره, وإذا بوليده الصغير يتلقاه مستقبلاً, ومرحّباً, ومضيفاً!!
ومع ما حباه الله من علم وفضل, فقد كان على قدر كبير من الأدب والتواضع؛ تواضع لم يكن متكلفاً, وإنما كان سجية وطبيعة, مر ذات يوم في طريق سفره ببستان يملكه أحد معارفه, ففرح برؤيته, وألح أن ينزل ضيفاً عليه, فوافق- ولم يكن من عادته- ولكن بعد أن شرط عليه أن لا يتكلف في تحضير طعامه, بحيث يجهز له ما يقدمه لعماله!! فرضي بالشرط على مضض, وتناول الوجبة هو وإياه, بصحبة عماله؛ نزولاً عند رغبته! وكم كان يقطع المسافات البعيدة على رجليه, من البير إلى الرياض, ومنه إلى بستانه قبيل العمارية, وكان مع ذلك سريع المشي, واسع الخطو, لا يلحق شداً, وقد حدثني صهره, أنه كان لا يلحقه في مشيه وهو بصحبته من البير إلى الرياض إلا إذا بلغ سجدة من القرآن الكريم, فيسجد, فيحاول اللحاق به حال سجوده, ولكن دون جدوى! وقد عرف عنه أنه كان يختم القرآن كل ثلاثة أيام مرتين!!
ومن همته, وقوة عزيمته أنه كان ينزل مع عمال بستانه وهم يحفرون البئر, على عمق مترين أو ثلاثة, فينزل معهم بقلمه وكتابه "حاشية الروض المربع" ليشرف عليهم, وهو يكتب هذه الحاشية, والتي أشاد بها غير واحد من أهل العلم, ومنهم الشيخ/بكر أبو زيد-رحمه الله- حيث قال في المدخل المفصل(2/775):"وهي في غاية النفاسة, وجلب دقائق الفقهيات والاختيارات, وكان شيخنا عبد العزيز بن باز كثير الرجوع إليها"أهـ, وقال لي مرة- رحمه الله-كلاماً معناه:"لقد كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله- يطلب الحاشية كلما أشكلت علينا مسألة, ونحن في اجتماع اللجنة الدائمة للإفتاء, فلا يكاد يمر أسبوعان إلا ويطلب حاشية الروض" ولنفاستها, وقيمتها العلمية, كان لها صدى في كلياتنا الشرعية, حيث أصبحت الحاشية من مقررات الطلاب في كلية الشريعة بالمملكة, ومرجعاً لكبار العلماء قبل صغارهم, فضلاً عن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية, والذي تسلل إلى كل بيت, وسد فراغاً كبيراً في كل مكتبة, وانتشر انتشار ضوء الشمس في رابعة النهار, والعجيب أن هذين الكتابين قد انشغل بهما- رحمه الله- نحواً من أربعين عاماً, يكتب ويدقق, ويبدي ويعيد, مرة وهو في العريش, ومرة بجانب الساقي وهو يروس, ومرة وكيس البلاستيك مشدود على رأسه؛ نتيجة الدم المتجمع في أعلى الدماغ منذ عشرين سنة, ومرة وهو بجانب السراج, يضيئه فيكتب, ثم يطفئه ويعود للنوم, ثم ينهض من فراشه فيضيئه أخرى, وهكذا في همة وعزيمة تنقطع عندها همم الرجال إلا من رحم الله!! ولا نملك إلا أن ندعو لمن بذل هذا الجهد العظيم بالمغفرة والرحمة, وأن يجعل منازله في عليين, وكل من ساعده, وأعانه, آمين.
ولم تقف عنايته بالعلوم الشرعية والعربية, بل كان مؤرخاً بارعاً, ونسابة كبيراً, ولهذا كان يتعاهده بالزيارة بعض المؤرخين والنسابة, كما حدثني بذلك العم ناصر, من أمثال الأديب/ عبد الله بن خميس, والمؤرخ/حمد الجاسر, واشتهر عنه أنه قال عن ابن قاسم:"كان أستاذي في التاريخ!"أهـ بل كان له كتاب في التاريخ والأنساب, من عدة مجلدات, أحرقه أمام ابنه ناصر, وبعض الحاضرين, بعد صلاة العصر, وقال لهم:"إن المؤلف يجب أن يكون أميناً فيما يكتب وينقل ويدون, فيسجل الحسنات والسيئات..., أو يعرض عن ذلك كله", وقد نما هذا الخبر إلى المؤرخ الكبير خير الدين الزركلي!!, فقال في كتابه الأعلام(3/336):"وأولع في أوليته بالتاريخ, والأنساب, والجغرافية, ووقعت له قضية بسبب التاريخ, فأحرق كثيراً من أوراقه"أهـ, والحقيقة أنها لم تكن أوراقاً, بل كانت عدة مجلدات!!
وهذا الموقف يرصد بدقة, كم كان نزيهاً- رحمه الله-, وقافاً عند حدود الله, ولهذا عُرِف عنه الصدع بكلمة الحق, فقد كان قوَّالاً لها, لا تأخذه في الله لومة لائم, وقد امتحن بسبب كتاب له في تحريم حلق اللحى, ورسائل جمعها يحتوي بعضها على تحريم أخذ المكوس؛ وقصة ذلك: أنه أنكر على رجل لا يتورع عن أخذ الرشوة, وكان يعمل كاتب ضبط عند أحد القضاة, فغضب عليه هذا الرجل, ووشى به, معرِّضاً بكتابه ورسائله عند من يهمه الأمر, فأدخل السجن, ومكث فيه عشرين يوماً!! ومرة عرض عليه القضاء, فرفض, فسجن خمسة عشر يوماً! ومن شديد زهده, وكبير ورعه, أنه كان ينفر من البيوت المسلحة, ولا يدخلها, ويقول: هذه كبيوت الفراعنة!! حتى إنه مرة كان يمشي بعد خروجه من المسجد مع الشيخ محمد بن إبراهيم- وهو من هو في الورع والزهد- ولما وصل بمعيته إلى بيته الذي بناه أخيراً, رجع أدراجه!! وكل يؤخذ من هديه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وللشيخ ابن قاسم- رحمه الله- قصص وأخبار ورؤى يقف أمامها المسلم مندهشاً مما يسمعه من سيرته, والتي تعيد بشريط الذاكرة إلى الوراء, حيث سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى.
منقول من موقع الاسلام اليوم
د. يوسف بن أحمد القاسم 2/5/1429
07/05/2008
طلب مني بعض الإخوة الفضلاء, وعدد آخر من طلاب المعهد العالي للقضاء, أن أترجم للشيخ الجد/ عبد الرحمن بن قاسم- رحمه الله- وقد ذكرت لهم بعض التراجم المكتوبة عنه رحمه الله, والتي أعتقد أنها سطرت جانباً مهماً من حياته, ومنها الترجمة التي كتبها الشيخ/ محمد بن عثمان القاضي- رحمه الله- في كتابه:"روضة الناظرين", والترجمة المختصرة التي كتبها المؤرخ الأديب/خير الدين الزركلي- رحمه الله- في كتابه "الأعلام", والترجمة التي كتبها فضيلة الشيخ/عبدالله بن جبرين- حفظه الله- في "مقدمة حاشية الروض", والترجمة التي كتبها حفيده الداعية/ عبد الملك بن محمد- حفظه الله- في كتابه:"الشيخ عبد الرحمن بن قاسم, حياته, وسيرته, ومؤلفاته", ولكن هذا كله لم يكن شافعاً لي في نظرهم أن أتلكأ عن الكتابة, فضلاً عن أمتنع, وإن لم أكن معاصراً له- رحمه الله- فأجبت إلى ذلك, واكتفيت من القلادة بما أحاط بالعنق, وأقول, مستعيناً بالله تعالى:
هو الفقيه الزاهد/ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (ت1392هـ رحمه الله), ولد في بلدة (البير) المجاورة لبلدة (ثادق) سنة (1312هـ), ونشأ بها, وتلقى فيها وفيما حولها مبادئ العلوم, وأتم بها حفظ القرآن الكريم, وهو في سن التاسعة, وبدت عليه علامات النجابة وهو في أول سني عمره, ولهذا لم تتردد والدته (هيا بنت عباد العباد) أن تدفع به نحو العلم وتحصيله, ومنذ ذلك الحين وهو جاد في طلب العلم, فكان تلميذاً منذ نعومة أظفاره, ثم شب تلميذاً, وشاخ تلميذا, ومات تلميذاً؛ ولم يكن يسمح لأحد أن يصفه بالمشيخة, ومن يناديه ياشيخ, يلتفت إليه منبهاً وممازحاً, ويقول له بابتسامة عريضة: الشيخ جنابك!! فلم يكن يرفع رأساً بهذه الألفاظ, ولم يكن يحفل بغيرها من الألقاب, وما كانت همته إلا نحو العلم, والاغتراف من بحره الجاري, والنهل من معينه الصافي, يتجه للعلم أينما كان, ويفتش عنه في أي مكان, ولو كان بيته في زاويةِ بستانٍ بنجد أو كان مريضاً, وزحف به المرض شطر القاهرة, أو دمشق, أو بيروت, أو باريس, فما يلبث أن تطأ رجله بوابة المستشفى خارجاً منه إلا ويتجه صوب دار الكتب المصرية بمصر, أو دار الظاهرية بالشام, أو مكتبة بيروت العمومية بلبنان, أو مكتبة باريس بفرنسا, متناسياً مرضه, ومتغافلاً عنه, وذلك لينقب عن مكنونات قلبه, أعني: مخطوطات فتاوى شيخ الإسلام, ورسائله, وكتبه, ويجمعها من أدراج تلك المكتبات الدولية, ويحققها, ويخرجها صافية نقية, في ذلك العصر, عصر الجمل واللوري والطائرة المروحية! وذلك ليقدمها على طبق من ذهب لطلاب العلم في عصر المرسيدس والطائرة النفاثة، وعصر التقنية والمعلومات, وكان قد بدأ بجمعها وترتيبها وتحقيقها قبل ذلك بمدة طويلة, أعني: في نجد, والحجاز, وتحديداً بعد سنة 1340هـ (كما جاء في مقدمة مجموع الفتاوى صـ ب) أي: منذ كان أكبر أولاده (عبد الله رحمه الله) في صلبه, فنقب عنها وفتش وهو في ريعان شبابه, وعنفوان نشاطه, حتى جمع منها مجلدات كثيرة, كما أشار إلى ذلك الجد في هامش مقدمته(صـ د), بل كان على وشك طباعتها, لولا أنه نما إلى علمه وجود مسائل لشيخ الإسلام في دار الكتب المصرية, ولذا أجّل طبعها, كما جاء في مقدمة المجموع (1/د) بقلم ابنه العم محمد رحمه الله(جامع مستدرك شيخ الإسلام, والمعتني بتحرير مؤلفات الشيخ محمد بن إبراهيم), ثم تيسر له السفر إلى بعض الدول العربية والغربية بصحبة ابنه محمد, فكان من التنقيب والبحث ما أشير إليه في المقدمة(1/ب-ك).
وطالما عجب أهله وأقاربه ومحبوه من ملازمته للكتابة والكتاب, وهو في بيته وبستانه, أو بين عمله وعماله, أو بين أصحابه وأقرانه, في همة وطاقة لا تعرف الملل ولا الكلل, وحين بلغ من العلم مبلغاً, وتبوأ منه شأوا, لم يكن يتشوف إلى الصدارة والمنصب, ولا إلى المال والجاه, ولم يكن يتطلع إلى الألقاب العلمية, والأوصاف الرسمية, وإنما كان همه وهجيراه أن يعثر على فتوى لابن تيمية الإمام, أو على رسالة أو كتاب لشيخ الإسلام, ليعيد النضير إلى نضيره, ويضم المثيل إلى مثيله, حتى تفوق على أقرانه, وتميز على علماء زمانه, أعني: في الجمع والتأليف, وفي السفر والرحلة, وقد كان من وراءه زوجة صالحة, وهي (نورة بنت محمد الزومان) فكانت تحفظه في حلَّه وترحاله, وتخلفه في أهله وولده بخير, وطالما سافر الأشهر تلو الأشهر, وهي تكد في بستانه, وتشرف على أعماله, وتقوم على بقره وأغنامه, ومرّة ودّعها وهي حبلى, وقفل راجعاً من سفره, وإذا بوليده الصغير يتلقاه مستقبلاً, ومرحّباً, ومضيفاً!!
ومع ما حباه الله من علم وفضل, فقد كان على قدر كبير من الأدب والتواضع؛ تواضع لم يكن متكلفاً, وإنما كان سجية وطبيعة, مر ذات يوم في طريق سفره ببستان يملكه أحد معارفه, ففرح برؤيته, وألح أن ينزل ضيفاً عليه, فوافق- ولم يكن من عادته- ولكن بعد أن شرط عليه أن لا يتكلف في تحضير طعامه, بحيث يجهز له ما يقدمه لعماله!! فرضي بالشرط على مضض, وتناول الوجبة هو وإياه, بصحبة عماله؛ نزولاً عند رغبته! وكم كان يقطع المسافات البعيدة على رجليه, من البير إلى الرياض, ومنه إلى بستانه قبيل العمارية, وكان مع ذلك سريع المشي, واسع الخطو, لا يلحق شداً, وقد حدثني صهره, أنه كان لا يلحقه في مشيه وهو بصحبته من البير إلى الرياض إلا إذا بلغ سجدة من القرآن الكريم, فيسجد, فيحاول اللحاق به حال سجوده, ولكن دون جدوى! وقد عرف عنه أنه كان يختم القرآن كل ثلاثة أيام مرتين!!
ومن همته, وقوة عزيمته أنه كان ينزل مع عمال بستانه وهم يحفرون البئر, على عمق مترين أو ثلاثة, فينزل معهم بقلمه وكتابه "حاشية الروض المربع" ليشرف عليهم, وهو يكتب هذه الحاشية, والتي أشاد بها غير واحد من أهل العلم, ومنهم الشيخ/بكر أبو زيد-رحمه الله- حيث قال في المدخل المفصل(2/775):"وهي في غاية النفاسة, وجلب دقائق الفقهيات والاختيارات, وكان شيخنا عبد العزيز بن باز كثير الرجوع إليها"أهـ, وقال لي مرة- رحمه الله-كلاماً معناه:"لقد كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله- يطلب الحاشية كلما أشكلت علينا مسألة, ونحن في اجتماع اللجنة الدائمة للإفتاء, فلا يكاد يمر أسبوعان إلا ويطلب حاشية الروض" ولنفاستها, وقيمتها العلمية, كان لها صدى في كلياتنا الشرعية, حيث أصبحت الحاشية من مقررات الطلاب في كلية الشريعة بالمملكة, ومرجعاً لكبار العلماء قبل صغارهم, فضلاً عن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية, والذي تسلل إلى كل بيت, وسد فراغاً كبيراً في كل مكتبة, وانتشر انتشار ضوء الشمس في رابعة النهار, والعجيب أن هذين الكتابين قد انشغل بهما- رحمه الله- نحواً من أربعين عاماً, يكتب ويدقق, ويبدي ويعيد, مرة وهو في العريش, ومرة بجانب الساقي وهو يروس, ومرة وكيس البلاستيك مشدود على رأسه؛ نتيجة الدم المتجمع في أعلى الدماغ منذ عشرين سنة, ومرة وهو بجانب السراج, يضيئه فيكتب, ثم يطفئه ويعود للنوم, ثم ينهض من فراشه فيضيئه أخرى, وهكذا في همة وعزيمة تنقطع عندها همم الرجال إلا من رحم الله!! ولا نملك إلا أن ندعو لمن بذل هذا الجهد العظيم بالمغفرة والرحمة, وأن يجعل منازله في عليين, وكل من ساعده, وأعانه, آمين.
ولم تقف عنايته بالعلوم الشرعية والعربية, بل كان مؤرخاً بارعاً, ونسابة كبيراً, ولهذا كان يتعاهده بالزيارة بعض المؤرخين والنسابة, كما حدثني بذلك العم ناصر, من أمثال الأديب/ عبد الله بن خميس, والمؤرخ/حمد الجاسر, واشتهر عنه أنه قال عن ابن قاسم:"كان أستاذي في التاريخ!"أهـ بل كان له كتاب في التاريخ والأنساب, من عدة مجلدات, أحرقه أمام ابنه ناصر, وبعض الحاضرين, بعد صلاة العصر, وقال لهم:"إن المؤلف يجب أن يكون أميناً فيما يكتب وينقل ويدون, فيسجل الحسنات والسيئات..., أو يعرض عن ذلك كله", وقد نما هذا الخبر إلى المؤرخ الكبير خير الدين الزركلي!!, فقال في كتابه الأعلام(3/336):"وأولع في أوليته بالتاريخ, والأنساب, والجغرافية, ووقعت له قضية بسبب التاريخ, فأحرق كثيراً من أوراقه"أهـ, والحقيقة أنها لم تكن أوراقاً, بل كانت عدة مجلدات!!
وهذا الموقف يرصد بدقة, كم كان نزيهاً- رحمه الله-, وقافاً عند حدود الله, ولهذا عُرِف عنه الصدع بكلمة الحق, فقد كان قوَّالاً لها, لا تأخذه في الله لومة لائم, وقد امتحن بسبب كتاب له في تحريم حلق اللحى, ورسائل جمعها يحتوي بعضها على تحريم أخذ المكوس؛ وقصة ذلك: أنه أنكر على رجل لا يتورع عن أخذ الرشوة, وكان يعمل كاتب ضبط عند أحد القضاة, فغضب عليه هذا الرجل, ووشى به, معرِّضاً بكتابه ورسائله عند من يهمه الأمر, فأدخل السجن, ومكث فيه عشرين يوماً!! ومرة عرض عليه القضاء, فرفض, فسجن خمسة عشر يوماً! ومن شديد زهده, وكبير ورعه, أنه كان ينفر من البيوت المسلحة, ولا يدخلها, ويقول: هذه كبيوت الفراعنة!! حتى إنه مرة كان يمشي بعد خروجه من المسجد مع الشيخ محمد بن إبراهيم- وهو من هو في الورع والزهد- ولما وصل بمعيته إلى بيته الذي بناه أخيراً, رجع أدراجه!! وكل يؤخذ من هديه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وللشيخ ابن قاسم- رحمه الله- قصص وأخبار ورؤى يقف أمامها المسلم مندهشاً مما يسمعه من سيرته, والتي تعيد بشريط الذاكرة إلى الوراء, حيث سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى.
منقول من موقع الاسلام اليوم