نايف الزهراني
New member
تَدَرّج المعاني ـ صلاح الدين الزعبلاوي
من النقاد من يتعلق بظاهر النص المدرج في المعاجم، على اختصار وجمود، وعلى قصد وإجمال، وفي غير بسط أو إحاطة أو استيعاب. والكشف عن دلالات الكلم مرهون بتبين أصول اشتقاقها أو اجتلاء مدارجها في المجاز والنقل، وتعرّف مساريها في أداء أغراضها والتعبير عن قصودها، واستشفاف قرائنها في متباين مواقعها في الاستعمال والتركيب.
فمن الخطأ أن يظن ظان أن معاجم اللغة وما إليها من أسفار النحو وحواشيها، وكتب الصرف وشروحها، هي عدة اللغوي وحدها، وأن نقولها معوّل تحقيقه وغاية بحثه وحكمه دون سواها. والصحيح أن مراجع اللغوي، إلى ذلك، كتب التفسير والأدب ودواوين الشعر وصحف الرسائل والرقاع، ومصنفات القوم في التاريخ والأخبار والأسفار، بل مؤلفاتهم في مختلف العلوم والصناعات ووضائعهم في الحكم والأمثال.
وقد دأب الأئمة الأوائل في كثير مما دونوه وألّفوه على البحث عن أصل اللفظ، لما تواضعوا عليه من أنه لابد للكلم في كل مادة أن يشتق بعضها من بعض فترد إلى جنس من المعنى يعد أصلاً لما يشتق منها جميعاً. بل تابع بعضهم البحث في تدرج معناه وفي تقلبه وتنقله وتجدد دلالاته في مراحل حياته، ولكنهم لم يستوفوه فيتخذوه منهجاً وسنناً.
وقد عني علم اللغة الحديث بهذا منذ القرن الماضي وأسمى العلماء أصول البحث فيه: علم معاني الأسماء Science de Sémantique واللفظ مستعار من اليونانية Sêmantikos أي المعنى ولعل أول رسالة ألفّت في ذلك رسالة العالم اللغوي الفرنسي ( ميكال بريال: Michel Bréal عام 1897، وعنوانها Essai de Sémantique و (بريال) هذا من العلماء المحققين في علم اللغة التاريخي، وقد توفي 1915م(1).
يقول العالم الإنكليزي (سكيت ولتر وليم) المتوفى عام 1914: (يُنصح المؤلف بتحقق طبيعة استعمال اللفظ في أول نشأته. ويُعين في هذا التحقق ملاحظة النصوص المنقولة التي جرى اللفظ في أثنائها منذ نشأته الأولى)(2). ويقول الأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح في مقاله الطريف (مدخل إلى علم اللسان الحديث)(3): (اللسان لا يحدد مضمونه المادي والصوري إلا على أساس المواقع التي تقع فيها وتتعاقب عليها عناصره، إما في درج الكلام فيما يخص الوحدات الدالة، وإما في مدارج الجهاز الصوتي فيما يخص العناصر غير الدالة(4)، وذلك مثل مدلولات الألفاظ فإنها لا تحدد إلا بسياقاتها، لا بما تذكره المعاجم من معانيها، لأن المعاجم تكتفي غالباً بذكر بعض المعاني بالاعتماد على بعض السياقات. وإنما يكون المعجم هو أساس في تحديدها إذا لم يرد اللفظ في أي نص إلا في الذي يذكره هو وحده) ويردف (فبتلك المواقع التي يشاهدها اللغوي في الكلام المسموع يستطيع أن يعرف، بالموضوعية المطلقة، أنواع الأداء وتشعبات المعاني الجزئية. ثم بالنظر في كيفية تقابلها بعضها ببعض وتعاقبها على الموضع الواحد، ودخول هذه على تلك، يستطيع أيضاً أن يكشف عن وضعها ونظامها..). فعلى الناقد إذاً ألا يتلمس معاني الكلم في نصوص معاجمنا وما يتصل بها وحسب، بل عليه أن يبتغيها في معالمها الأخرى، ويتطلبها من مآتيها المتعددة. ويؤديه هذا إلى البحث عن أوجه تصرف الكلم في متنوع النصوص المحكية، وصور دلالاتها في سائر الموضوعات المطروحة، كما يقتاده إلى التماس وجوه التقلب التي تلحق بها وصور تجدد أغراضها ومراميها، وانحرافها عن أصولها وتشعبها عن جذورها وذلك بتبدل الموضوعات والبيئات وتغير الأفكار والأحكام واختلاف العصور والأزمان. والأصل في اللفظ أن تتباين شعاب معانيه فيكون له من تدرجه وتقلب دلالاته مجال بسيط ومذهب فسيح.
* * *
هذا والسبيل إلى تدرج المعاني هو المجاز والنقل. والذي نريده ها هنا بالمجاز معناه اللغوي الشامل الذي أخذ به المبرّد في كامله (2/301) وابن جنيّ في خصائصه (2/446) وابن رشيق في عمدته. وهو طريق القول ومأخذه على حد تعبير ابن رشيق، أي كل ما جزت به الأصل لمناسبة في التركيب والاستعمال فاحتاج في إعادته إليه، إلى تأويل بإظهار مواضع الحذف أو الزيادة أو التقديم أو التأخير أو غير ذلك. فهو لا يقتصر على استعارة أو مجاز كما فعل أصحاب البيان. فقد ذهب هؤلاء إلى أن المجاز هو انتقال اللفظ من المعنى الذي وضع له إلى المعنى الذي انتهى إليه بمناسبة أو علاقة تبنى على مجرد التشبيه كالاستعارة أو غير التشبيه كسببية أو مجاورة كما هو المجاز المرسل أو تشبيه تمثيل كما هو المجاز المركب. ولم يتعدوا به هذا الحد إلى ما يتناوله علم البيان وهو يشمل التشبيه والمجاز والكناية جميعاً، أو ينطوي عليه البديع من وجوه تحسين الكلام.
قال المبرّد: (من الآيات التي ربما يغلط في مجازها النحويون قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، والشهر لا يغيب عنه أحد، ومجاز الآية: فمن كان منكم شاهد بلده في الشهر فليصمه. والتقدير فمن كان شاهداً في شهر رمضان فليصمه. ونصب الشهر للظرف لا نصب المفعول). كما حكا الثعالبي في فقه اللغة(546). وأوضح المبرد كلامه فقال (أي أن نصب الشهر نصب الظروف لا نصب المفعول به).
وقال ابن جني: (أبواب الحذف والزيادات والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف كلها من المجاز).
ومهما يكن من أمر فإنه إذا أريد باللفظ ما وضع له أصلاً، في التقدير، فإنه الحقيقة، وإذا جازوا به موضعه الأول هذا في اللغة فأوقعوه موقعاً آخر بسبب يصل ما انتقل منه بما انتقل إليه، فإنه المجاز. فلابد أن يكون ثمة سبب يصل المجاز بالحقيقة. وقد جاء في المزهر (1/211): (المجاز كل كلام تجوز به عن موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنة بينهما في الذات أو المعنى). وقال الشريف الجرجاني في تعريفاته: (المجاز ما تعدى محله الموضوع له إلى غيره بمناسبة بينهما، أما من حيث الصورة أو من حيث المعنى اللازم المشهور، أو من حيث القرب أو المجاورة). ومن ثم كان لابد لكل مجاز من حقيقة. قال صاحب الكليات(50): (الأصل أن يكون لكل مجاز حقيقة).
هذا وليس يبعد أن يعتد المجاز بكثرة استعماله أصلاً فيتفرع عليه مجاز آخر، لكنه لا يخرج عن كونه مجازاً. ولابد هنا من وضوح العلاقة بينه وبين الأصل الأول على كل حال. قال الزمخشري في الأساس: (ومن مجاز المجاز تداعت إبل بني فلان هُزلت أو هلكت)، وأصله الأول (تداعى القوم لمهم) إذا دعا بعضهم بعضاً فاجتمعوا لأمر مهم. وقد بُني على هذا قولهم (تداعت الحيطان للخراب) كأن بعضها دعا بعضاً للسقوط والانهيار. ثم تفرع على هذا قولهم (تداعت عليه الحيطان) إذا تهدمت و (تداعى البنيان) إذا تصدع، وتداعت الإبل إذا هزلت أو هلكت. فليس ينكر، على هذا، أن يتفرع مجاز على مجاز، بتعاقب الحقب والأجيال، وأن يختلف القول بالأصلية والفرعية بتباين وجهات النظر والاعتبار.
* * *
هذا ويكون تدرج المعنى بالنقل، وذلك بأن يغلب على لفظ معناه المجازي حتى يشتهر به ويُعرف بلا قرينة. وهو ما أسماه أصحاب البيان المجاز الراجح، فيدعى كسب اللفظ معناه الجديد هذا نقلاً. ومن ذلك غلبة الألفاظ الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، على ما قُصد بها شرعاً، ومنه شهرة ألفاظ بمعانيها المستحدثة في موضوعات وعلوم وصناعات شتى، كمصطلحات النحو والصرف والوضع والمعاني والبديع والبيان والعروض والحكمة والعقائد والأصول، ومصطلح الحديث والتفسير، وسواها من مواضعات الطبيعة والفلك والعلوم الرياضية.. قال الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي في كتابه (توجيه النظر إلى أصول الأثر): (الاصطلاح اتفاق القوم على استعمال لفظ في معنى غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة. وذلك كلفظ الواجب فإنه في أصل اللغة بمعنى الثابت واللازم. وقد اصطلح الفقهاء على وضعه لما يثاب على فعله ويعاقب على تركه..)، ثم قال: (واللفظ إذا استعمل في المعنى الذي وضعه له المصطلحون يكون حقيقة بالنسبة إليهم ومجازاً بالنسبة إلى غيرهم. قال في المفتاح: الحقيقة هي الكلمة المستعملة في معناها بالتحقيق. والحقيقة تنقسم عند العلماء إلى لغوية وشرعية وعرفية... فقلت لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة، وقلت شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع، ومتى لم يتعين قلت عرفية. وهذا المأخذ يعرفك أن انقسام الحقيقة إلى أكثر مما هي منقسمة إليه، غير ممتنع في نفس الأمر).
ويدخل في النقل ما وضع لمعنى خاص فاستعمل عاماً. وقد مثل صاحب المزهر لهذا بـ (النجعة) فأصلها طلب الغيث، ثم صار كل طلب انتجاعاً. و(المنيحة) وأصلها الناقة أو الشاة تعطى الرجل ليشرب لبنها ثم أصبحت كل عطية منيحة. ونقل المزهر (1/253) قول ابن فارس في فقه اللغة )كان الأصمعي يقول أصل الورد إتيان الماء، ثم صار إتيان كل شيء ورداً). ونظيره (الصَدر) فإن أصله الانصراف عن الماء ثم أصبح كل انصراف صدراً. قال صاحب المفردات (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً –الآية- والصدر في الحقيقة صدر عن الماء). وقال الجوهري في الصحاح (وطريق صادر أي صدر بأهله عن الماء) ثم قال (والصَدر بالتحريك الاسم من قولك صادرت عن الماء وعن البلاد)، وأردف (وفي المثل تركته على مثل ليلة الصدر، يعني حين يصدر الناس من حجهم). فأورده خاصاً ثم عممه.
و (المجلة) وضعت لمعنى خاص فقيل إنها الصحيفة التي تكون فيها الحِكم، كما قال الجرجاني في تعريفاته، لكنها استعملت لكل كتاب. ففي الصحاح (والمجلة الصحيفة فيها الحكمة. قال أبو عبيد: كل كتاب عند العرب مجلة).
ومما اجتهد فيه أحمد فارس الشدياق في كتابه سر الليال في القلب والإبدال (551) قوله: (ألا ترى لفظة الدار مثلاً في الأصل من دار يدور، فحقيقة معناها الأصلي ربع مستدير، ثم أطلق على كلّ شكل من البناء)، وقوله (بل الأمر نفسه من هذا القبيل لأنه في الأصل ما يؤمر به ثم عمم، وكذلك الشيء فإنه في الأصل مصدر شاء).
ومن النقل أن يوضع اللفظ لمعنى عام ثم يخصص. وقد عرّفوا التخصيص فقالوا أنه قصر العام على بعض ما يتناوله، كلفظ (الدابة). قال الجواهري في الصحاح (دبّ على الأرض يدبّ دبيباً، وكل ماشٍ على الأرض دابة...) فجاء بمعنى الدابة عاماً، ثم قال (والدابة التي تُركت) فخصص. وقال صاحب المصباح: (وكل حيوان في الأرض دابة... وهو قوله تعالى: والله خلق كلّ دابة من ماء. قالوا أي خلق الله كل حيوان مميزاً كان أو غير مميز) ثم قال: (وأما تخصيص الفرس والبغل، عند الإطلاق، فعرف طارئ).
ومما نقل من العام إلى الخاص الصفات الغالبة، وهي التي أفردت عن موصوفها فخصّت بدلالة وغلبت عليها الاسمية. فـ (نكباء) في قولك (ريح نكباء) صفة لها عموم الدلالة لأنها جارية على الفعل فهي تصف (ريحاً) بأنها تتنكب. وهي لا تختص في الأصل بالريح. أما (النكباء) في قول المرزوقي في شرح الحماسة (806): (والنكباء ريح تنكبت عن الرياح الأربع) فإنها صفة غالبة أُفردت عن موصوفها وخُصت بنوع من الرياح، فأنزلت لذلك منزلة الأسماء وجمعت جمعها على (نكباوات). قال المرزوقي (وإذا كثرت النكباوات واشتد هبوبها شمل القحط).
و(الخضراء) في الأصل صفة للبقلة، لكنها استغنت عن موصوفها فخصصت دلالتها فقيل (ليس في الخضراوات صدقة) أي في البقول، فأنزلت منزلة أسماء الجنس. فالخضراء الصفة الغالبة تدل على البقلة دون النظر إلى اللون، وتجمع على الخضراوات لا على الخُضْر.
و(الدكّاء) صفة (للأرض) إذا انبسطت، ولكنها قُطعت عن موصوفها وخُصصت فعُدَّت اسماً للرابية، وجمعت جمع الأسماء على (دكاوات).
و(الدنيا) في الأصل صفة (للحياة) أو (للدار). ثم أفردت عن موصوفها فقيل (الدنيا)، كما قيل (الأولى)، وهما بمقابل (الآخرة). قال تعالى (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة –النساء/ 133)، وقال (وللآخرة خير لك من الأولى- الضحى/4) وقال (ولدار الآخرة خير للذين اتقوا.. يوسف /109). فالدنيا اشتقاقها من (الأدنى) وهو الأقرب. قال الشيخ أبو حاتم الرازي في كتابه الطريف (الزينة في الكلمات الإسلامية العربية 2/143): (أي أن هذه الحياة الآخرة هي الحياة الأخرى، وكل شيء له طرفان فالأدنى منهما إليك الدنيا والأبعد هو الآخرة). وقال صاحب المفردات (ويعبر بالدار الآخرة عن النشأة الثانية كما يعبر بالدار الدنيا عن نشأة الأولى)، وقال (وقد توصف الدار بالآخرة تارة، ويضاف إليها تارة أخرى..). وقال الفراء في هذه الإضافة (هذا كثير في كلامهم أن يضيفوا الشيء إلى نعته إذا اختلف فيه اللفظان كقوله: ولدار الآخرة، وكقوله حق اليقين).
وذكر (الرائد) فيما كان عاماً فخصص. قال ابن الأثير في النهاية (وفي حديث علي –رضي الله عنه- في صفة الصحابة، رضي الله عنهم: يدخلون رواداً ويخرجون أدلة، أي يدخلون عليه طالبين العلم وملتمسين ما عنده، ويخرجون أدلة للناس). ثم قال: (وأصل الرائد الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث). وقد اعتمد هذا الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتاب علم اللغة (229) فقال: (والرائد في الأصل طالب الكلأ ثم صار طالب كل حاجة رائداً). وجرى على ذلك الأستاذ محمد المبارك عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، في كتابه (فقه اللغة).
أقول إن هذا وإن صح، لا يمنع أن يكون لكل من (رائد الكلأ) و (رائد القوم) دلالة خاصة كما هو شأن الصفة الغالبة. ويتبين ذلك إذا رُدّوا إلى معنى الفعل في الأصل فـ (راد) على ما جاء في مفردات الراعب (تردد بطلب الشيء برفق). فالرائد الصفة إذاً المتردد لطلب الشيء برفق، أما الرائد الصفة الغالبة التي أفردت عن موصوفها فإن بها خصوصاً. فليس (رائد الكلأ) أو (رائد القوم) الطالب للشيء يبتغيه وحسب. وما أظن قول الدكتور عبد الواحد (ثم صار طالب كل حاجة رائداً) هو الوجه، وإلا كان كل من احتاج فابتغى حاجته رائداً. بل ما إخال قول الأستاذ المبارك (ثم عمم لكل من يتقدم القوم بطلب شيء) قد أحاط بالدلالة المقصودة واستوفى ملامحها. ذلك أن الرائد هو متقدم قومه الصادق في حديث علي (يدخلون روّاداً ويخرجون أدلة) وحديث عبد القيس (لكنا قوم رادة أي نرود الخير والدين لأهلنا). وقد تفرع على هذا ما جاء في الحديث
(الحمى رائد الموت). قال ابن الأثير (أي رسوله الذي يتقدمه كما يتقدم الرائد قومه) أقول بل هي رسوله الصادق الجاد في طلبه.
ومما يدخل في الصفات الغالبة: السائبة للناقة إذا تركت راغدة لا تُهاج ولا تمنع من ماء أو مرعى، والراحلة للإبل إذا صلحت للرحيل، والسارية لكل ما دب بليل من الهوام، وللسحابة تمطر ليلاً، والسابغة للدرع الواسعة، والصاعقة للنار تسقط من السماء، والجارية للسفينة والأمَة. قال صاحب المصباح (والجارية السفينة سميت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمَة جارية على التشبيه لجريها مستسخرة في أشغال مواليها). ولفظ (الدابة) الذي أتوا به مثالاً متعارفاً لانتقال العام إلى الخاص، ليس إلا صفة غالبة، وكذلك (الماشية) على أنها من مشت المرأة إذا كثر أولادها. ففي الأساس: (وناقة ماشية: ولاّدة، ومنه الماشية والمواشي على التفاؤل).
* * *
هذا ولابد أن نأتي بأمثلة نكشف بها عن وجه اشتقاق الكلم بعضه من بعض، وسبل تجدد معانيها وتدرّج دلالاتها وتحولها بالنقل من حال إلى حال. وقد يسلُس الأمر ويستيسر فيبدو داني القطوف قريب النجعة، وقد يصعب وينبو فيبدو شديد المطلب وعث المبتغى فيلجئك أن تتلطف له وتتأتى، وتسلك إليه كل سبيل.
قالوا (لا أبالي) ومعناه لا أهتم، فما هو أصل اشتقاقه؟
قال جماعة المبالاة من البلاء بالفتح. والبلاء في الأصل الاختبار. قال المرزوقي في شرح الحماسة(71): (فلان لا يبالي العواقب، يقال ما باليته بالة وبالية ومبالاة وبلاء وما باليت به، وكأنه أخذ من البلاء). ونحو من ذلك في اللسان والتاج. ففي الأول والبلاء الاختبار، وفي الثاني أصل الابتلاء الاختبار.
وليس بعيداً عن هذا قولهم (المبالاة) من (البِلاء) وهو الهم كما حكاه صاحب المصباح عن أبي زيد، وأوردوا البلاء مصدراً لبالَى كما جاء في اللسان والتاج.
وعلل المرزوقي كيف انتهى (بالى) من معنى البلاء وهو الاختبار إلى المفاخرة فكان الامتناع من مفاخرة القِرن استهانة به واستخفافاً، فقال (وقوله لا يبالي العواقب.. كأنه أخذ من البلاء واستعمل في المفاخرة وتعداد الخصال الحسنة عند المنافرة، ثم كثر استعماله حتى صار يقال في الاستهانة بالشيء).
واستشهد بقول الشاعر (مالي أراك قائماً تبالي) أي تفاخر. وقال في موضع آخر: (وقوله تبالي تفاعل من البلاء فإذا قال لا أباليه كأنه أراد لا أحتفل به فأُعادّه بلائي وبلاءه وأفاخره، هذا أصله). أي أن تبادل الاختبار يقود إلى المفاخرة والمنافرة، فإذا أبيت أن تفاخر خصماً أو تنافره أو تكاثره فقد استخففت به.
وأحسب دون ما ذكرناه قول آخرين أن المبالاة من البال وهو الروع والخاطر، انتقل فيه حرف العلة بالقلب فكان وسطاً فأصبح طرفاً، كما قال ابن فارس في مجمله والمزمخشري في أساسه، وقول جماعة أن أصله المبادرة إلى الاستقاء فمعنى لا أبالي لا أبادر إهمالاً له، كما ارتآه ابن فارس في مجمله، وقد انتهى إلى رده إلى (البال) في مقاييسه، وذكره الفيومي في مصباحه.
ولعله قولهم (لا أباليه) متعدياً، إنما يدل على أصله في التعدية لأنه مفاعلة من البلاء، وهو الاختبار، وقولهم (لا أبالي به) محمول على ما انتهى إليه من معنى، وهو لا أحتفل به ولا أعتد.
* * *
وتقول في معنى ما أباليه وما أبالي به، ما أكترث له. وقد جاء في اللغة كرَثه وأكرثه وكرّثه فاكترث. فما معناه الأول؟ أقول دلّ على ذلك الزمخشري فقال في الأساس: (كرّثه الأمر إذا حركه، وأراك لا تكترث لذلك ولا تنوص: لا تتحرك له ولا تعبأ به، وكرّثته الكوارث أقلقته). فالكرث والإكراث والتكريث هو التحريك في الأصل. وكذلك الإقلاق والإزعاج فحقيقتهما التحريك. فإذا كرثك الشيء فقد جعلك تضطرب حقيقة أو مجازاً، ومن ثم قيل كرثه: ساءه، كما حكاه اللسان.
وتأسيساً على ذلك كان اكتراث في الأصل كتحرك واضطرب، وكاستاء واغتم واهتم في المجاز. وعندي أن قولك (ما اكترث له) متعدياً باللام بني على أصل معناه، أي لا أتحرك له ولا أقلق من أجله. ولكن هل يقال (ما اكترث به) متعدياً بالباء؟ أقول قد جاء ذلك نصاً، وأرى أنه محمول على قولك لا أغتم به ولا أهتم ولا أُعنى، وهو ما انتهى إليه معناه.
على أن من المعاجم ما خطّأ قول القائل (ما اكترث به) كالتاج، فقد جعل صوابه (ما أكترث له) ونسب الخطأ في الأصل إلى الصحاح. وأخذ بهذا الأستاذ محمد العدناني في معجم الأخطاء الشائعة. أقول لم يخطئ الجوهري حين قال (ما اكترث به)، فقد قال الراغب في مفرداته وقد عايش صاحب الصحاح. قال الراغب الأصبهاني (البال الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال ما باليت بكذا بالة، أي ما اكترثت به). وقد قاله صاحب النهاية في موضعين وحكاه عنه ابن منظور في غير مجال.
* * *
وقيل في نحو ما أكترث له (ما آبه له). ففي المعاجم (أبهِ) بالكسر كفرح، و (أبَه) بالفتح كمنع، وقد عدوا الأول باللام والباء فقالوا ما أبهت له وما أبهت به، وعدوا الثاني باللام دون الباء فقالوا ما أبهت له، كما حكاه ابن القوطية والجوهري وصاحب النهاية واللسان. فما أصل معناه؟
يعتد ابن القوطية (أبه) مما جاء على فعَل وفَعِل بمعنى واحد. ويجعل معناه (تنبّه). فإذا استقر هذا فأبِه له بالكسر والفتح تنبه له. وكذلك ما جاء في الصحاح. ولما كان ما يتنبه له في الغالب هو الجليل، فالذي لا ينتبه له ولا يؤبه هو التافه الحقير. ومن ثم قيل فلان لا يؤبه له أي لا يلتفت إليه لحقارته. وعلى ذلك ما جاء في النهاية. وقد عُدّي الفعل بالباء لما انتهى إليه معناه، في السلب، من الاستهانة.
ولكن لِمَ خصت التعدية بالباء هذه بأبه المكسور العين في الماضي دون المفتوح؟ أقول قد يكون ذلك لأن الغالب في اللازم أن يكون كـ (أبِه يأبَه) مثل نَبِه ينبَه الذي هو معناه، من باب فرح يفرح، فهو الأصل. وقد اتَسعوا بتعديته بالباء كما اقتضاه الاستعمال لما آل إليه معناه من الاستهانة. أما (آبَه يأبَه) من باب منع يمنع فلم يتجاوزوا به تعديته الأولى باللام، فليس هو الأصل، لأنه لا يكثر في اللزوم. ولا يُقطع في هذا بيقين على كل حال. على أني رأيت الشدياق في (سر الليال) يسوي بين البابين في التعدية فيقول (وأبه له وبه كمنع وفرح أبْها وتحرك، فطن أو نسيه ثم فطن له) فهل وقف فيه على نص؟
* * *
ويستعمل (التنزه) لترويح النفس بالخروج إلى المكان النزه. أما أصل معناه فكما قال صاحب النهاية (نزه نزاهة وتنزه تنزهاً إذا بَعُد). وقد منعه ابن السكيت على ما حكاه المصباح وجعله فيما تضعه العامة في غير موضعه. وصححه ابن قتيبة فقال: (ذهب بعض أهل العلم في قول الناس خرجوا يتنزهون إلى البساتين أنه غلط، وهو عندي ليس بغلط. لأن البساتين في كل بلد إنما تكون خارج البلد. فإذا أراد أحد أن يأتيها فقد أراد البعد عن المنازل والبيوت، ثم كثر هذا حتى استعملت النزهة في الخضر والجنان). وأكد الزمخشري هذا فقال في الأساس (خرجوا يتنزهون يطلبون الأماكن النزهة، وهي النزهة والنزه مثل غرفة وغرف). كما أيده علي بن حمزة البصري اللغوي في التنبيهات (298) رداً على ابن السكيت فقال: (فلما كانت الروضة إذا بعدت عن الناس كان أحسن.. وجب على المتنزه أن يقصدها ويعتمدها بنزهة. وهو لا يصل إليها حتى يبعد كل البعد عن الناس والمياه فقالوا لمن قصد ذلك تنزه فوافق قولهم الحق ووضعوه في موضعه ثم نقلوه إلى من أراد مثل ذلك فيما هو على المياه وبقربها..).
* * *
ويقال (رُشّح فلان للرئاسة) إذا أُهّل لها. قال الجوهري في الصحاح (والترشيح أن ترشّح الأم ولدها باللبن القليل تجعله في فيه شيئاً بعد شيء إلى أن يقوى على المص. وتقول فلان يرشّح للوزارة أي يربى ويؤهل لها). وقال المرزوقي في شرح الحماسة (1/73): (والترشيح أصله التنبيت والتربية.
ومنه قيل رشحت المرأة ولدها إذا درّجته في اللبن. ثم قيل رشح فلان لكذا توسعاً). ولا يخفى أن تنبيت الشجر غرسه، ومنه تنبيت الصبي تربيته. ونحو من ذلك في الأساس للمزمخشري.
* * *
وقال صاحب المصباح في (تعالى): (وتعالى تعالياً من الارتفاع أيضاً. وتعالَ فعل أمر من ذلك. وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل فيقول: تعالَ، ثم كثر في كلامهم حتى استعمل بمعنى هلمَّ مطلقاً، سواء كان موضع المدعو أعلى أو أسفل أو مساوياً، فهو في الأصل لمعنى خاص ثم استعمل في معنى عام). وفي كتاب الفروق لإسماعيل حقي نحو من ذلك. وكذلك في شرح الحماسة للمرزوقي(56).
* * *
وهكذا (عثر) فأصل معنى العثور أن تزلّ القدم بشيء كحفرة فيسقط صاحبها، ومثله (تعثر). ومن ثم كان (العاثور) هو الحفرة، ففي اللسان (.. ومن هذا يقال فلان وقع في عاثور شرٍّ إذا وقع في ورطة لم يحتسبها ولا شعر بها، وأصله الرجل يمشي في ظلمة الليل فيتعثر بعاثور المسيل أو في خدخد سيل المطر..). وعلى هذا فأنت تقول عثر فلان بعاثور أي بحفرة، على الأصل، كما تقول عثر بعاثور شر أي مكيدة أو ورطة على المجاز.
وقد تدرج معنى العثور من الكبو والسقوط إلى الخطأ في العمل والنطق، تقول عثر فلان أو عثر لسانه إذا تعثر. قال الزمخشري (ومن المجاز عثر في كلامه وتعثر).
وقد آل به التوسع فقيل عثر الحظ إذا خاب صاحبه، وعثر جده إذا تعس، وأعثره الله أتعسه، وفي الأساس (وعثر الزمان به وجدّ عثور وأعثر به عند السلطان إذا قدح فيه وطلب توريطه وأن يقع في عاثور).
بل قيل (عثر عليه) إذا اطلع. قال صاحب المقاييس (وقال بعض أهل العلم إنما قيل عثر من الاطلاع وذلك لأن كل عاثر لابد أن ينظر إلى موضع عثرته).
وعندي أن الفعل قد عُدّي بعلى بطريق التضمين. فكأن قولك عثرت عليه، على تقدير عثرت به فاطلعت عليه. ثم شاع أمره. وفي العربية مالا يحصى من الأفعال تجاوزوا بها الأصل إلى المجاز فعدّوها بحرف غير حرفها، ثم شاع استعمالها بهذا الحرف وكأنه الأصل. وقد عقدت لذلك فصلاً في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (المجلد 55، الجزء الأول، عام 1980). فأنت تقول مثلاً (أنس به). قال ابن القوطية (وأهلت بالشيء وأنست به) ونحو من ذلك في الصحاح وغيره من المظان. لكنهم عدوا الفعل بـ (إلى) فقالوا (أنست إليه) كما قالوا (استأنست إليه)، ذكره الزمخشري في أساسه. وكان من حقه أن يفرد فيسلكه في المجاز كما فعل في (سكن إليه واطمأن إليه وركن إليه وانبسط إليه) لكنه لم يفعل، إذ قال: (وأنست به واستأنست به وأنست غليه واستأنست إليه). ولعل عذره هو اشتهار تعديته بـ (إلى). وقل مثل ذلك في (استأنس له وتأنس) فلم يلحقه بالمجاز واكتفى بأن قال (واستأنس له وتأنس: تسمّع) وقد يكون تسمَّح به أيضاً وكثيراً ما قرن المجاز بالحقيقة متى اشتهر وشاع. وعندي أن (أنس إليه) على تضمين الفعل معنى (مال) أو نحوه.
* * *
وانظر إلى تدرج معنى (تفقد)، فقد جاء في معجم الأخطاء الشائعة للأستاذ محمد العدناني أن قول القائل (تفقد مزرعته) خطأ..، صوابه (زارها ودرس أحوالها) لأن تفقد معناه (طلب الشيء عند الغيبة). ثم استدرك فأدرك ما أتى به المعجم الوسيط (تفقد أحوال القوم ودقق النظر فيها ليعرفها حق المعرفة)، وقال (وأنا أؤيده على أن يفوز بموافقة المجمع)! أقول إذا كان أصل (التفقد) تطلب الشيء عند الفقد، فقد تجاوز الفعل هذا المعنى إلى تتبع الشيء وتعرّف أحواله، ثم تعدى هذا إلى متابعة النظر في كل ما يستقيم به حال الشيء أو الشخص الذي تتفقده. فقد جاء في مفردات الراغب (التفقد التعهد، ولكن حقيقة التفقد تعرّف فقدان الشيء)، وهذا يعني أن أصل التفقد تعرّف الفقدان لكنه آل بالمجاز إلى التعهد أو إلى ما انتهى إليه التعهد. ففي المصباح (وتعهدت الشيء ترددت إليه وأصلحته، وحقيقته تجديد العهد به، وتعهدته حفظته).
وقد جاء في نهج البلاغة (ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما -3/102) و (تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله –3/106)، وقول ابن قتيبة في أدب الكاتب (فإن رأيت الكتاب قد تركوا تفقد هذا من أنفسهم..)، وقول أبي حيان في البحر (10/64): في قوله تفقد الطير –أي قوله تعالى: وتفقَّد الطير –النمل/ 20- دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم).
وهكذا صح (التفقد) في التعبير عن الرعاية والتربية والعناية والبر. قال المرزوقي (لم أزل أجري في تربيته وتفقده) إلى أن استكمل شبابه /757) وقال (لحسن توفره وجميل تفقده لأصحابه /923)، وقال (واستصلاح الرعية وتفقد مصالحهم /1091).
بل نحوا بالتفقد فعنوا به الإنعام والإفضال وكأنهم ضمنوه هذا المعنى. قال المرزوقي (بل قد وصّى بها وبأمثالها فيُتفقدون بأوفر الأنصباء عند قسمة الجذور/1050). وقال أبو حيان التوحيدي في (أخلاق الوزيرين/ 336): (فإن كان قد كتب بخطه: يُتفقد فلان بكذا أو يسأل عن فلاه لينظر في مصلحته).
فأين هذا كله من قول العدناني (التفقد طلب الشيء عند الغيبة) ولزومه هذا المعنى، وتعلقه بظاهر النص المدرج في المعاجم على قصد وإجمال، بل سكونه إليه لا يبرحه ولا يتحول عنه. وقد استبان بهذا أن قول الكتاب (تفقد مزرعته) بمعنى تعهدها ورعاها وتوفر عليها، صحيح مستقيم، غني عن أن يجيزه مجمع لغوي أو يقر صحته. وقد قالوا قديماً (فلان يتعهد ضيعته) المغني 2/113.
فيتضح بما قدمنا وفصّلنا القول فيه أن لا وجه لجمود المعنى في اللفظ كما يبدو ذلك حيناً في كثير من المعاجم العربية، وإن اعتماد كثير من المحدثين على ظاهر النص والتعويل عليه في التخطئة والتصويب مخالف لأصول ارتقاء اللغة وسنن تحول معانيها وطرائق تعبيرها بتحول العصور والأجيال. ولو كانت تؤلف في العربية معاجم حديثة على مثال ما يؤلف في اللغات الحية الأخرى، دقة وأحكاماً واستقصاء لأنست بالتجدد والتدرج والتوالد في معاني الكلم، ولمست بمعارضة النصوص المحكية بعضها ببعض ترجمة لحياة كل كلمة تظهرك على قصة حالها وتقفك على مسالك تحولها ودروب تنقلها والتدرج بها حالاً بعد حال. وأنت لو لم تطف بمراحل التقلب جفا عليك وجه الاعتداد به البتة. يقول العالم النفسي السوفييتي ل.س.فيجوتسكي المتوفى عام 1934، أنه لا سبيل إلى احتساب معنى الكلمة أمراً ثابتاً، بل لابد من تصوره في نمو مطرد وتحول مستمر دائب(4). والبحث في تاريخ معاني الكلم وأصول اشتقاقها موضوع شائق له في اللغات الحية الأخرى شأن أي شأن. وأحوج ما يكون إليه المشتغلون بتاريخ الأدب وفقه اللغات. وليست معالجة هذه المسألة في العربية وتدارك ما فات من أمرها بعدما كان من الإغفال، على شيء من اليسر والسهولة. ولا ننسَ ما انتحاه المستشرق الأستاذ فيشر وقد أمضى أكثر عمره (بين سنة 1907 و 1950م) في إعداد معجم تاريخي للغة الآداب العربية حتى نهاية القرن الثالث الهجري، أي حتى منتهى ما وصلت إليه اللغة الفصحى من الكمال كما يقول، فلم يخلّف بعد جهد جاهد ونصب ناصب وطول عناء، غير جذاذات لهذا الذي بذل الطوق في إعداده. ولابد أن تضطلع المجامع اللغوية باستتمامه واستفراغ الوسع في إصداره فلا تدخر دون ذلك سعياً. ولكن هل يمم أئمتنا قديماً مثل هذا السمت من البحث وحاولوا ارتياده والجري على منهاجه؟ أقول لاشك أن كتاب (الزينة) قد استن بهذه السنة ونهج هذا السبيل فإن به لوناً طريفاً من ألوان البحث اللغوي التاريخي. فقد وضع الشيخ أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي المتوفى 322هـ كتاباً جامعاً في أوائل القرن الرابع الهجري كان أول مرجع يستفتى في الأسماء العربية التي نطق بها القرآن الكريم فكانت من مصطلحات الإسلام، كما أشار إليه الدكتور حسين الهمداني في مقدمة الكتاب. وقد حاول مؤلف الكتاب أن يجمع بين ألفاظ عربية شتى تغيرت مدلولاتها ومعانيها في العصر الإسلامي عما كانت عليه في العصر الجاهلي، ففات أقرانه في وضع اللبنة الأولى في علم معاني الأسماء العربية والمصطلحات الإسلامية وكان رائداً متأنقاً في هذا المضمار بل إماماً بارعاً في هذا الركن: Arabic Islamic Sémantics.
فانظر إلى ما ذكره الرازي مثلاً في (الإثم 225)، فقد أتى بأصل معناه فقال (قال أبو سعيد سمي الإثم إثماً لأن الآثم يُبطئ عن طاعة ربه، ويقال أثِمَ إذا أبطأ والآثم المبطئ. ويقال أثمت الناقة إذا أبطأت). ثم تحول إلى ما تدرج إليه معناه فقال: (فالإثم ضد الأجر يقال فلان مأثوم وفلان مأجور، لأن المأجور يسعى في الطاعة.. وذلك الثواب هو أجر له بعمله. والآثم لم يعمل وأبطأ عن الطاعة فلا أجر له فهو آثم أي مبطئ عن الطاعة). فحاول الربط بين الأصل والمجاز. ثم تابع البحث عن تدرج آخر فذكر أن الإثم ضد البر، وأتى بالحديث (البر ما سكنت إليه القلوب واطمأنت إليه النفوس، والإثم ما حك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه) وهكذا..
وقد ذهب الأستاذ عبد العزيز الميمني إلى أن المفضّل بن سَلَمة المتوفى 291هـ قد ضرب على هذا القالب في كتابه (الفاخر)، وكذلك فعل أبو بكر بن الأنباري المتوفى (328هـ) في كتابه (الزاهر). أقول أما كتاب الفاخر فإن مضامينه تدور كما ذكر مؤلفه في مقدمة الكتاب حول (معاني ما يجري على ألسن العامة في أمثالهم ومحاوراتهم من كلام العرب وهم لا يدرون معنى ما يتكلمون به من ذلك). وأردف المؤلف يقول (فبينّاه من وجوه اختلاف العلماء في تفسيره ليكون مَنْ نظر في هذا الكلام عالماً بما يجري من لفظه ويدور في كلامه). وقد عمد صاحب الفاخر في تحقيق ذلك إلى حكاية ما روي من أحداث دفعت إلى النطق بالأمثال مما كانت تطوع به ألسنة الناس في محاوراتهم ومخاطباتهم، وذكر أول من نطق بها، وبحث في اشتقاق ما جاء بها من ألفاظ وردها إلى أصلها وفصّل القول في معانيها. وقد أفاد أبو بكر محمد بن القاسم بن الأنباري في كتابه (الزاهر) من كتاب الفاخر هذا وبسط ما جاء فيه وكثّره بالشواهد كما قال مختصر الكتاب أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي. قال الزجاجي (وكان المفضل بن سلمة صاحب الفراء قد أنشأ كتاباً في هذا المعنى سماه... فعمد أبو بكر محمد بن القاسم لذلك الكتاب فنقله نقلاً... وبسطه وكثّره بالشواهد). ولا يزال كتاب (الزاهر) مخطوطاً لم يطبع.
هذا وليس كتاب الفاخر والزاهر ولو أفادا في إصابة الغرض الذي ابتغيناه ككتاب الزينة في تحقيق النهج اللغوي التاريخي والجري على أسلوبه.
يقول الدكتور داود حلمي السيد في كتابه (المعجم الإنكليزي بين الماضي والحاضر): (فليس بخاف أن معجميي العربية المحدثين تشدهم تجربة ضاربة في أعماق التاريخ وتقيد حركتهم تقاليد معجمية راسخة تجعلهم دائماً يتلفتون إلى الوراء حين يقررون أي المناهج يتبعون كلما شرعوا في وضع معجم حديث للغة العربية، أهو المنهج التقليدي برمته، أم المنهج الغربي في وضع معجم حديث للغة العربية، أهو المنهج التقليدي برمته، أم المنهج الغربي الحديث برمته. أم يأخذون من هذا وذاك ما يتفق مع طبيعة اللغة العربية). وقال: (ولم أجد أمامي إلا المعاجم العربية القديمة التي مضى على أحدثها أكثر من قرن ونصف من الزمان، أو بعض المحاولات المعجمية الحديثة التي لا ترقى إلى المستوى الذي يجب أن تكون عليه معاجم اللغة العربية في العالم المعاصر، والتي سنعرض لها..). ثم عَرّف المعجم الحديث فقال: (فالمعجم بالدرجة الأولى كتاب كلمات. فهو يحتوي بين غلافيه على مفردات اللغة مصحوبة بمعلومات عن اتيومولوجيتها- أي أصول اشتقاقها الأولى- ومعانيها ومدلولاتها واستعمالاتها). أقول لا شك في أن الطريقة النشوئية في القرن التاسع عشر قد أدت إلى ازدهار المباحث اللغوية التاريخية، وإلى وضع معاجم تكشف عن أصول الكلم وتدرج معانيها، وتأكيد اعتقاد أن –الظاهرة اللغوية- لا تتسم بسمة الوضوح أو الجلاء الذي يراد لها ما لم تدرج في سياقها التاريخي(6). وقد ألّف (سكيت ولتر وليم) العالم الإنكليزي المتوفى عام 1912 معجمه الشهير الذي عول فيه على اللون التاريخي من التسجيل اللغوي، فذكر أصول الكلم وألقى الضوء على هذه الأصول بالرجوع إلى جملة من النصوص التاريخية التي عرضت بها هذه الكلم ليظهر القارئ على أصولها الصحيحة ودلالاتها الأولى، وتدرّج هذه الدلالات من عصر إلى عصر، كما أشار إليه الدكتور السيد الخلوي، وقد أومأنا إليه في موضع آخر.
ولكن إذا كان قد أدى اشتغال علماء اللغة الفرنسيين مثلاً إلى تأليف معاجم في تاريخ الكلم وأصولها وتسنى ذلك بالعودة إلى الأصول التي تحدرت منها لغتهم يونانية كانت أو لاتينية أو غير هذه وتلك، فليس كذلك حال العربية التي لا يصح ردها إلى ما أسموه باللغة السامية الأولى التي تصوروا أنها أم اللغات السامية، كما كانت اللاتينية مثلاً أُمّاً للفرنسية والإيطالية والإسبانية، إذ لم يقف البحث العلمي التاريخي على لغة من هذا القبيل، وإنما يعوّل على الأصول العربية وحدها. ولكن أليس يصح في العربية الاستعانة في تقرير أصول الكلم وتاريخها حيناً، والكشف عن ظلال معانيها بالعودة إلى بعض اللغات السامية؟
يقول الدكتور داود الحلبي في كتابه (الآثار الآرامية في لغة الموصل العامية) المطبوع عام 1935: (إن تمييز الكلمات الآرامية من الكلمات العربية صعب جداً. وما سبب هذه الصعوبة إلا كون اللغتين شقيقتين، أي فرعين من اللغة السامية الأم. حتى إن نحو أربعة أخماس الكلمات الآرامية تشترك والعربية إما حرفاً أو باختلاف يسير في التلفظ أو تبديل بعض الحروف..). وقال: (على أني وجدت بعض كلمات مشتركة معانيها، واضحة كل الوضوح في المعاجم الآرامية، ولكنها في المعاجم العربية مضطربة لم يبت لغويو العرب فيها وذهب كل منهم فيها مذهباً. حتى أن بعضهم أتى في صدد إيضاح أصلها بتأويلات غريبة..). ثم قال (ولو كان للغويين العرب القدماء وقوف على الآرامية لما وقعوا في حيص بيص عند بيان معاني أمثال هذه الكلمات. إذ لا يشك في أن معرفة الآرامية وغيرها من اللغات السامية يكون وسيطاً لحل مشاكل لغوية كثيرة في العربية. كما أن معرفة اللغة العربية تحل مشاكل أخواتها اللغات السامية).
أقول ذلك ما بحثه الدكتور محمد حسني قنطر في مقاله حول العربية واللغات السامية (من دراسات الملتقى الرابع لابن منظور في قفصة، في آب 1976). قال الدكتور قنطر: (إنه من واجب الباحث عن كنه الكلمات العربية وعن تاريخها شكلاً ومضموناً، أي عن التطور الذي اعتراها من حيث هي ظرف ومظروف أن يتجه إلى أخوات اللغة العربية ويستنطقها بالدرس والمقابلة والمقارنة عله يدرك الغاية ويجدحل المشكلة ويتمكن من الإجابة عن الأسئلة التي قد تثيرها الكلمة لديه). وقال: (فإذا عُدت للعبرية مثلاً لفهم كلمة عربية وتعرّف حالها تاريخاً واشتقاقاً، فذلك لا يعني أن اللفظة العربية تولدت من لفظة عبرية، بل حدثتك بالعبرية فعرّفتك بالعربية والعكس بالعكس).
وقد أتى الدكتور قنطر بأمثلة فأخذ على معجم اللسان أنه لم يوضح مثلاً معنى (لأك) الذي اشتق منه لفظ (الملَك والملائكة) فقال ولعل الباحث لا يوفق إلى المعنى للمادة، وهو معنى الرسالة. فلأك يعني أرسل، والملَك بالفتح المرسل). وأردف: (فالعودة إلى اللغات السامية القديمة التي عرفت هذه المادة تيسِّر إدراك الحقيقة اللغوية).
أقول إن معجم اللسان قد أشار إلى معنى المادة، ولو أن التعويل على معجم عربي واحد في القطع بحرف ومعناه وأصل اشتقاقه ليس بالوجه. فقد جاء في اللسان (فالملك من الملائكة واحد وجمع. قال الكسائي أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك وهي الرسالة) وفي اللسان أيضاً (قال ابن بري ملأك مقلوب من مألك، ومالك وزنه مفعل في الأصل من الألوك. قال وحقه أن يذكر في فصل ألك، لا فصل ملك). فابن بري وسواه قد جعلوا الأصل (ألك) ثم قلب فأصبح (لأك)، فما الذي قالته المعاجم في (ألك).. قال الجوهري (الألوك الرسالة.. وكذلك المألك والمألكة بضم الميم فيهما). وقال ابن القوطية (وألك بين القوم ألْكاً وألوكاً ترسّل والألوك الرسالة منه، والملائكة أيضاً). وقال ابن دريد في الاشتقاق (ومنه قولهم ألكني إلى فلان أي كن رسولي إليه). بل في اللسان ألك بمعنى ترسل. أفليس في هذا ما يجزي لإيضاح معنى الفعل واشتقاقه؟ وقد تصرف العرب في (ألك) فقالوا (استألك). فانظر ما جاء في الأساس (ألِكْني إلى فلان واحمل إليه ألوكي ومألُكتي وهي الرسالة. قال:
ألِكني إليها عمرك الله يا فتى
: بآية ما جاءت إلينا تهادياً
. ومن يستألك لي إليه أي من يحمل رسالتي. وجاء فلان فاستألك ألوكته). أفليس هذا واضحاً جلياً. ومن الطريف أن يكون قائل هذا البيت سحيماً وهو عبد بني الحسحاس، وهو حبشي اشتراه أبو سعيد فشبب بابنته عميرة. وقد نسب لفظ (ألك) فيما نسب إلى الحبشية.
هذا ولا يخفى أن في المظان اللغوية العربية أن (الملائكة) من (ألك بين القول)، وأن أصل المادة عبري أو سرياني أو حبشي. وليس يعني هذا بالطبع أن ثمة تبعية لغوية بين سامية وأخرى. بل ليس في لغات الأسرة أمهات وأخرى بنات كما يقول الأستاذ (فندريس) في كتابه (اللغة)(7). ولا يمنع هذا أن يكون بين الألفاظ السامية المشتركة ما هو أعلق بلغة، منه بلغة أخرى. ولا يُقطع بهذا حتى يوقف على اشتقاق الكلمة. فقد تكون في لغة أظهر وأبرز منها في لغة أخرى أي أكثر تصرفاً. أو تكون واضحة الأصل في إحداها فريدة غريبة يتيمة في سواها. أو تكون الكلمة في المعنى الشائع للزنة التي جاءت بها في لغة ولا تكون كذلك في غيرها وهكذا..
وقد عُني الأب أنستاس ماري الكرملي برد بعض الألفاظ العربية إلى السامية والاستعانة بالأصول السامية في استبانة معانيها وفك مُشكلها وإظهار مكنوناتها على نحو ما فعل في مجلة الثقافة القاهرية، وسواها.
هذا ما وددت الكشف عنه والتمثيل له في سبل تدرج المعاني في الكلم العربية وما تشعب عن ذلك من وجوه الرأي. وأرجو أن أكون قد وفقت إلى إيضاح المنهاج وجلاء الغامض والإفصاح عن المضمون فيما حاولت تحريره من المسائل في هذا القصد.
دمشق 10/2/1982
صلاح الدين الزعبلاوي
* * *
الحواشي:
(1)الدكتور حسين الهمداني في (مقدمة كتاب الزينة للشيخ أبي حاتم الرازي) والدكتور بدر الدين القاسم في ترجمة (تاريخ علم اللغة لجورج مونين).
(2)سكيت واتجاهاته في اللسانيات للدكتور شكري السيد الخلوي في (مجلة اللسانيات لمعهد العلوم اللسانية والصوتية بجامعة الجزائر)، العدد الرابع 73/1974.
(3)المصدر السابق.
(4)في علم اللغة الحديث تقسم البنية اللغوية إلى وحدات لغوية دالة، وأخرى غير دالة. ويقصد بغير الدالة حروف المباني أي حروف الهجاء، وهي أصغر صورة معتمدة، ويدعونها بالفونام. ويقصد بالدالة أصغر وحدة لغوية ذات معنى كالأسماء والأفعال وحروف المعاني ويدعونها بالمورفام، فالفونام أصغر وحدة للأصوات والمورفام أصغر وحدة للمعاني. وقد ميز العالم البولوني بودوان كورتناي المتوفى عام 1929، بين مفهوم الصوت اللغوي وبين الفونام الذي هو وحدة لغوية أساسية. ذلك أن الفونام لا يتضمن أصواتاً لغوية وإنما يتألف من صور صوتية هي وحدات نفسية لا مادية. ومن ثم فرّق كورتناي بين العلم الصوتي الفيزيائي، وهو علم الصوت نفسه، وعلم الصوت النفسي الذي سيغدو بارتقائه وتقدمه علم الأصوات الشفهية. ولكن ما حد الكلمة عند النحاة وحد المورفام في علم اللغة الحديث؟.
قال الإمام جلال الدين السيوطي في الهمع: (وقد اختلفت عباراتهم في حد الكلمة اصطلاحاً. وأحسن حدودها: القول المفرد المستقل أو المنوي معه- كالضمير المستكن وجوباً. فخرج بتصدير الحد بالقول غير ذلك من الدوال كالإشارة والخط.. وبالمفرد، وهو ما يدل جزؤه على جزء معناه، المركب كغلام زيد فهما كلمتان. وبالمستقل أبعاض الكلمات الدالة على معنى كحروف المضارعة وياء النسب وتاء التأنيث وألف ضارب، فليست كلمات لعدم استقلالها).
فتبين بهذا أن ما يدخل في حد المورفام من حروف المضارعة وياء النسب وتاء التأنيث وغيرها مما سمي أبعاض الكلمة لا يدخل في حد الكلمة، على ما اختاره السيوطي، لأنه ليس مستقلاً. على أنه استدرك فقال (ومن أسقط هذا القيد، قيد استقلال اللفظ، رأى ما جنح إليه الرضي، من أنها مع ما هي فيه كلمتان..). وهكذا أشبه حد المورفام في علم اللغة الحديث حد الكلمة عند الرضي، وبدأ هذا العلم مؤيداً لما جاء به بعض النحاة في إبراز البنية اللغوية. قال الرضي في شرح الكافية: (إن قيل إن في قولك مسلمان ومسلمون وبصري وجميع الأفعال المضارعة جزء لفظ كل واحد منها يدل على جزء معناه، إذ الواو تدل على الجمعية والألف على التثنية، والياء على النسبة، وحروف المضارعة على معنى في المضارع، وعلى حال الفاعل أيضاً، وكذا تاء التأنيث في قائمة، والتنوين ولام التعريف وألف التأنيث، فيجب أن يكون لفظ كل واحد منها مركباً، وكذا المعنى، فلا يكون كلمة بل كلمتين، فالجواب أن جميع ما ذكر كلمتان صارتا من شدة الامتزاج ككلمة واحدة، فأعرب المركب إعراب الكلمة..).
وأنت ترى أن الحكم في ذلك اعتباري. ولكن أليس فيما ذهب إليه الرضي من إبراز البنية اللغوية للفظ جلاء لشأن هذه الدوال في تأليف هذه البنية وتحديد معناها؟ والرضي مع ذلك لم يخرج في تصوره لحد الكلمة ورسم نطاقها عن حدود الأوائل في تعريف الكلمة والاقتباس بها. فإذا كانت هذه الدوال قد دلت على ما دلت عليه من المعاني، فكيف تعتد من حروف المبالي أي حروف الهجاء، كما فعل الآخرون، وحروف الهجاء لا تعني غير الأصوات لا تختلف إلا باختلاف مقاطعها؟ ألم يقل سيبويه في فاتحة الكتاب (فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل)، والدوال المذكورة حروف جاءت لمعان، وليس هي بأسماء ولا أفعال، فهي على هذا الحد، كلم، كما ذهب إليه الرضي وغيره.
(5)التفكير واللغة لفيجوتسكي ترجمة الدكتور طلعة منصور المعرفة 178 لعام 976.
(6)البنوية والعقلانية لأنطون شاهين –المعرفة 136 لعام 1971.
(7)ترجمة الأستاذ عبد الحميد الدواخلي والأستاذ محمد القصاص.
----------------
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد الثامن- السنة الثانية- تموز "يوليو" 1982.
** وللمزيد من المقالات ينظر: * * المنتقى من مقالات العربية * *
من النقاد من يتعلق بظاهر النص المدرج في المعاجم، على اختصار وجمود، وعلى قصد وإجمال، وفي غير بسط أو إحاطة أو استيعاب. والكشف عن دلالات الكلم مرهون بتبين أصول اشتقاقها أو اجتلاء مدارجها في المجاز والنقل، وتعرّف مساريها في أداء أغراضها والتعبير عن قصودها، واستشفاف قرائنها في متباين مواقعها في الاستعمال والتركيب.
فمن الخطأ أن يظن ظان أن معاجم اللغة وما إليها من أسفار النحو وحواشيها، وكتب الصرف وشروحها، هي عدة اللغوي وحدها، وأن نقولها معوّل تحقيقه وغاية بحثه وحكمه دون سواها. والصحيح أن مراجع اللغوي، إلى ذلك، كتب التفسير والأدب ودواوين الشعر وصحف الرسائل والرقاع، ومصنفات القوم في التاريخ والأخبار والأسفار، بل مؤلفاتهم في مختلف العلوم والصناعات ووضائعهم في الحكم والأمثال.
وقد دأب الأئمة الأوائل في كثير مما دونوه وألّفوه على البحث عن أصل اللفظ، لما تواضعوا عليه من أنه لابد للكلم في كل مادة أن يشتق بعضها من بعض فترد إلى جنس من المعنى يعد أصلاً لما يشتق منها جميعاً. بل تابع بعضهم البحث في تدرج معناه وفي تقلبه وتنقله وتجدد دلالاته في مراحل حياته، ولكنهم لم يستوفوه فيتخذوه منهجاً وسنناً.
وقد عني علم اللغة الحديث بهذا منذ القرن الماضي وأسمى العلماء أصول البحث فيه: علم معاني الأسماء Science de Sémantique واللفظ مستعار من اليونانية Sêmantikos أي المعنى ولعل أول رسالة ألفّت في ذلك رسالة العالم اللغوي الفرنسي ( ميكال بريال: Michel Bréal عام 1897، وعنوانها Essai de Sémantique و (بريال) هذا من العلماء المحققين في علم اللغة التاريخي، وقد توفي 1915م(1).
يقول العالم الإنكليزي (سكيت ولتر وليم) المتوفى عام 1914: (يُنصح المؤلف بتحقق طبيعة استعمال اللفظ في أول نشأته. ويُعين في هذا التحقق ملاحظة النصوص المنقولة التي جرى اللفظ في أثنائها منذ نشأته الأولى)(2). ويقول الأستاذ عبد الرحمن الحاج صالح في مقاله الطريف (مدخل إلى علم اللسان الحديث)(3): (اللسان لا يحدد مضمونه المادي والصوري إلا على أساس المواقع التي تقع فيها وتتعاقب عليها عناصره، إما في درج الكلام فيما يخص الوحدات الدالة، وإما في مدارج الجهاز الصوتي فيما يخص العناصر غير الدالة(4)، وذلك مثل مدلولات الألفاظ فإنها لا تحدد إلا بسياقاتها، لا بما تذكره المعاجم من معانيها، لأن المعاجم تكتفي غالباً بذكر بعض المعاني بالاعتماد على بعض السياقات. وإنما يكون المعجم هو أساس في تحديدها إذا لم يرد اللفظ في أي نص إلا في الذي يذكره هو وحده) ويردف (فبتلك المواقع التي يشاهدها اللغوي في الكلام المسموع يستطيع أن يعرف، بالموضوعية المطلقة، أنواع الأداء وتشعبات المعاني الجزئية. ثم بالنظر في كيفية تقابلها بعضها ببعض وتعاقبها على الموضع الواحد، ودخول هذه على تلك، يستطيع أيضاً أن يكشف عن وضعها ونظامها..). فعلى الناقد إذاً ألا يتلمس معاني الكلم في نصوص معاجمنا وما يتصل بها وحسب، بل عليه أن يبتغيها في معالمها الأخرى، ويتطلبها من مآتيها المتعددة. ويؤديه هذا إلى البحث عن أوجه تصرف الكلم في متنوع النصوص المحكية، وصور دلالاتها في سائر الموضوعات المطروحة، كما يقتاده إلى التماس وجوه التقلب التي تلحق بها وصور تجدد أغراضها ومراميها، وانحرافها عن أصولها وتشعبها عن جذورها وذلك بتبدل الموضوعات والبيئات وتغير الأفكار والأحكام واختلاف العصور والأزمان. والأصل في اللفظ أن تتباين شعاب معانيه فيكون له من تدرجه وتقلب دلالاته مجال بسيط ومذهب فسيح.
* * *
هذا والسبيل إلى تدرج المعاني هو المجاز والنقل. والذي نريده ها هنا بالمجاز معناه اللغوي الشامل الذي أخذ به المبرّد في كامله (2/301) وابن جنيّ في خصائصه (2/446) وابن رشيق في عمدته. وهو طريق القول ومأخذه على حد تعبير ابن رشيق، أي كل ما جزت به الأصل لمناسبة في التركيب والاستعمال فاحتاج في إعادته إليه، إلى تأويل بإظهار مواضع الحذف أو الزيادة أو التقديم أو التأخير أو غير ذلك. فهو لا يقتصر على استعارة أو مجاز كما فعل أصحاب البيان. فقد ذهب هؤلاء إلى أن المجاز هو انتقال اللفظ من المعنى الذي وضع له إلى المعنى الذي انتهى إليه بمناسبة أو علاقة تبنى على مجرد التشبيه كالاستعارة أو غير التشبيه كسببية أو مجاورة كما هو المجاز المرسل أو تشبيه تمثيل كما هو المجاز المركب. ولم يتعدوا به هذا الحد إلى ما يتناوله علم البيان وهو يشمل التشبيه والمجاز والكناية جميعاً، أو ينطوي عليه البديع من وجوه تحسين الكلام.
قال المبرّد: (من الآيات التي ربما يغلط في مجازها النحويون قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، والشهر لا يغيب عنه أحد، ومجاز الآية: فمن كان منكم شاهد بلده في الشهر فليصمه. والتقدير فمن كان شاهداً في شهر رمضان فليصمه. ونصب الشهر للظرف لا نصب المفعول). كما حكا الثعالبي في فقه اللغة(546). وأوضح المبرد كلامه فقال (أي أن نصب الشهر نصب الظروف لا نصب المفعول به).
وقال ابن جني: (أبواب الحذف والزيادات والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف كلها من المجاز).
ومهما يكن من أمر فإنه إذا أريد باللفظ ما وضع له أصلاً، في التقدير، فإنه الحقيقة، وإذا جازوا به موضعه الأول هذا في اللغة فأوقعوه موقعاً آخر بسبب يصل ما انتقل منه بما انتقل إليه، فإنه المجاز. فلابد أن يكون ثمة سبب يصل المجاز بالحقيقة. وقد جاء في المزهر (1/211): (المجاز كل كلام تجوز به عن موضوعه الأصلي إلى غير موضوعه الأصلي لنوع مقارنة بينهما في الذات أو المعنى). وقال الشريف الجرجاني في تعريفاته: (المجاز ما تعدى محله الموضوع له إلى غيره بمناسبة بينهما، أما من حيث الصورة أو من حيث المعنى اللازم المشهور، أو من حيث القرب أو المجاورة). ومن ثم كان لابد لكل مجاز من حقيقة. قال صاحب الكليات(50): (الأصل أن يكون لكل مجاز حقيقة).
هذا وليس يبعد أن يعتد المجاز بكثرة استعماله أصلاً فيتفرع عليه مجاز آخر، لكنه لا يخرج عن كونه مجازاً. ولابد هنا من وضوح العلاقة بينه وبين الأصل الأول على كل حال. قال الزمخشري في الأساس: (ومن مجاز المجاز تداعت إبل بني فلان هُزلت أو هلكت)، وأصله الأول (تداعى القوم لمهم) إذا دعا بعضهم بعضاً فاجتمعوا لأمر مهم. وقد بُني على هذا قولهم (تداعت الحيطان للخراب) كأن بعضها دعا بعضاً للسقوط والانهيار. ثم تفرع على هذا قولهم (تداعت عليه الحيطان) إذا تهدمت و (تداعى البنيان) إذا تصدع، وتداعت الإبل إذا هزلت أو هلكت. فليس ينكر، على هذا، أن يتفرع مجاز على مجاز، بتعاقب الحقب والأجيال، وأن يختلف القول بالأصلية والفرعية بتباين وجهات النظر والاعتبار.
* * *
هذا ويكون تدرج المعنى بالنقل، وذلك بأن يغلب على لفظ معناه المجازي حتى يشتهر به ويُعرف بلا قرينة. وهو ما أسماه أصحاب البيان المجاز الراجح، فيدعى كسب اللفظ معناه الجديد هذا نقلاً. ومن ذلك غلبة الألفاظ الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، على ما قُصد بها شرعاً، ومنه شهرة ألفاظ بمعانيها المستحدثة في موضوعات وعلوم وصناعات شتى، كمصطلحات النحو والصرف والوضع والمعاني والبديع والبيان والعروض والحكمة والعقائد والأصول، ومصطلح الحديث والتفسير، وسواها من مواضعات الطبيعة والفلك والعلوم الرياضية.. قال الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي في كتابه (توجيه النظر إلى أصول الأثر): (الاصطلاح اتفاق القوم على استعمال لفظ في معنى غير المعنى الذي وضع له في أصل اللغة. وذلك كلفظ الواجب فإنه في أصل اللغة بمعنى الثابت واللازم. وقد اصطلح الفقهاء على وضعه لما يثاب على فعله ويعاقب على تركه..)، ثم قال: (واللفظ إذا استعمل في المعنى الذي وضعه له المصطلحون يكون حقيقة بالنسبة إليهم ومجازاً بالنسبة إلى غيرهم. قال في المفتاح: الحقيقة هي الكلمة المستعملة في معناها بالتحقيق. والحقيقة تنقسم عند العلماء إلى لغوية وشرعية وعرفية... فقلت لغوية إن كان صاحب وضعها واضع اللغة، وقلت شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع، ومتى لم يتعين قلت عرفية. وهذا المأخذ يعرفك أن انقسام الحقيقة إلى أكثر مما هي منقسمة إليه، غير ممتنع في نفس الأمر).
ويدخل في النقل ما وضع لمعنى خاص فاستعمل عاماً. وقد مثل صاحب المزهر لهذا بـ (النجعة) فأصلها طلب الغيث، ثم صار كل طلب انتجاعاً. و(المنيحة) وأصلها الناقة أو الشاة تعطى الرجل ليشرب لبنها ثم أصبحت كل عطية منيحة. ونقل المزهر (1/253) قول ابن فارس في فقه اللغة )كان الأصمعي يقول أصل الورد إتيان الماء، ثم صار إتيان كل شيء ورداً). ونظيره (الصَدر) فإن أصله الانصراف عن الماء ثم أصبح كل انصراف صدراً. قال صاحب المفردات (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً –الآية- والصدر في الحقيقة صدر عن الماء). وقال الجوهري في الصحاح (وطريق صادر أي صدر بأهله عن الماء) ثم قال (والصَدر بالتحريك الاسم من قولك صادرت عن الماء وعن البلاد)، وأردف (وفي المثل تركته على مثل ليلة الصدر، يعني حين يصدر الناس من حجهم). فأورده خاصاً ثم عممه.
و (المجلة) وضعت لمعنى خاص فقيل إنها الصحيفة التي تكون فيها الحِكم، كما قال الجرجاني في تعريفاته، لكنها استعملت لكل كتاب. ففي الصحاح (والمجلة الصحيفة فيها الحكمة. قال أبو عبيد: كل كتاب عند العرب مجلة).
ومما اجتهد فيه أحمد فارس الشدياق في كتابه سر الليال في القلب والإبدال (551) قوله: (ألا ترى لفظة الدار مثلاً في الأصل من دار يدور، فحقيقة معناها الأصلي ربع مستدير، ثم أطلق على كلّ شكل من البناء)، وقوله (بل الأمر نفسه من هذا القبيل لأنه في الأصل ما يؤمر به ثم عمم، وكذلك الشيء فإنه في الأصل مصدر شاء).
ومن النقل أن يوضع اللفظ لمعنى عام ثم يخصص. وقد عرّفوا التخصيص فقالوا أنه قصر العام على بعض ما يتناوله، كلفظ (الدابة). قال الجواهري في الصحاح (دبّ على الأرض يدبّ دبيباً، وكل ماشٍ على الأرض دابة...) فجاء بمعنى الدابة عاماً، ثم قال (والدابة التي تُركت) فخصص. وقال صاحب المصباح: (وكل حيوان في الأرض دابة... وهو قوله تعالى: والله خلق كلّ دابة من ماء. قالوا أي خلق الله كل حيوان مميزاً كان أو غير مميز) ثم قال: (وأما تخصيص الفرس والبغل، عند الإطلاق، فعرف طارئ).
ومما نقل من العام إلى الخاص الصفات الغالبة، وهي التي أفردت عن موصوفها فخصّت بدلالة وغلبت عليها الاسمية. فـ (نكباء) في قولك (ريح نكباء) صفة لها عموم الدلالة لأنها جارية على الفعل فهي تصف (ريحاً) بأنها تتنكب. وهي لا تختص في الأصل بالريح. أما (النكباء) في قول المرزوقي في شرح الحماسة (806): (والنكباء ريح تنكبت عن الرياح الأربع) فإنها صفة غالبة أُفردت عن موصوفها وخُصت بنوع من الرياح، فأنزلت لذلك منزلة الأسماء وجمعت جمعها على (نكباوات). قال المرزوقي (وإذا كثرت النكباوات واشتد هبوبها شمل القحط).
و(الخضراء) في الأصل صفة للبقلة، لكنها استغنت عن موصوفها فخصصت دلالتها فقيل (ليس في الخضراوات صدقة) أي في البقول، فأنزلت منزلة أسماء الجنس. فالخضراء الصفة الغالبة تدل على البقلة دون النظر إلى اللون، وتجمع على الخضراوات لا على الخُضْر.
و(الدكّاء) صفة (للأرض) إذا انبسطت، ولكنها قُطعت عن موصوفها وخُصصت فعُدَّت اسماً للرابية، وجمعت جمع الأسماء على (دكاوات).
و(الدنيا) في الأصل صفة (للحياة) أو (للدار). ثم أفردت عن موصوفها فقيل (الدنيا)، كما قيل (الأولى)، وهما بمقابل (الآخرة). قال تعالى (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة –النساء/ 133)، وقال (وللآخرة خير لك من الأولى- الضحى/4) وقال (ولدار الآخرة خير للذين اتقوا.. يوسف /109). فالدنيا اشتقاقها من (الأدنى) وهو الأقرب. قال الشيخ أبو حاتم الرازي في كتابه الطريف (الزينة في الكلمات الإسلامية العربية 2/143): (أي أن هذه الحياة الآخرة هي الحياة الأخرى، وكل شيء له طرفان فالأدنى منهما إليك الدنيا والأبعد هو الآخرة). وقال صاحب المفردات (ويعبر بالدار الآخرة عن النشأة الثانية كما يعبر بالدار الدنيا عن نشأة الأولى)، وقال (وقد توصف الدار بالآخرة تارة، ويضاف إليها تارة أخرى..). وقال الفراء في هذه الإضافة (هذا كثير في كلامهم أن يضيفوا الشيء إلى نعته إذا اختلف فيه اللفظان كقوله: ولدار الآخرة، وكقوله حق اليقين).
وذكر (الرائد) فيما كان عاماً فخصص. قال ابن الأثير في النهاية (وفي حديث علي –رضي الله عنه- في صفة الصحابة، رضي الله عنهم: يدخلون رواداً ويخرجون أدلة، أي يدخلون عليه طالبين العلم وملتمسين ما عنده، ويخرجون أدلة للناس). ثم قال: (وأصل الرائد الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث). وقد اعتمد هذا الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتاب علم اللغة (229) فقال: (والرائد في الأصل طالب الكلأ ثم صار طالب كل حاجة رائداً). وجرى على ذلك الأستاذ محمد المبارك عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، في كتابه (فقه اللغة).
أقول إن هذا وإن صح، لا يمنع أن يكون لكل من (رائد الكلأ) و (رائد القوم) دلالة خاصة كما هو شأن الصفة الغالبة. ويتبين ذلك إذا رُدّوا إلى معنى الفعل في الأصل فـ (راد) على ما جاء في مفردات الراعب (تردد بطلب الشيء برفق). فالرائد الصفة إذاً المتردد لطلب الشيء برفق، أما الرائد الصفة الغالبة التي أفردت عن موصوفها فإن بها خصوصاً. فليس (رائد الكلأ) أو (رائد القوم) الطالب للشيء يبتغيه وحسب. وما أظن قول الدكتور عبد الواحد (ثم صار طالب كل حاجة رائداً) هو الوجه، وإلا كان كل من احتاج فابتغى حاجته رائداً. بل ما إخال قول الأستاذ المبارك (ثم عمم لكل من يتقدم القوم بطلب شيء) قد أحاط بالدلالة المقصودة واستوفى ملامحها. ذلك أن الرائد هو متقدم قومه الصادق في حديث علي (يدخلون روّاداً ويخرجون أدلة) وحديث عبد القيس (لكنا قوم رادة أي نرود الخير والدين لأهلنا). وقد تفرع على هذا ما جاء في الحديث
(الحمى رائد الموت). قال ابن الأثير (أي رسوله الذي يتقدمه كما يتقدم الرائد قومه) أقول بل هي رسوله الصادق الجاد في طلبه.
ومما يدخل في الصفات الغالبة: السائبة للناقة إذا تركت راغدة لا تُهاج ولا تمنع من ماء أو مرعى، والراحلة للإبل إذا صلحت للرحيل، والسارية لكل ما دب بليل من الهوام، وللسحابة تمطر ليلاً، والسابغة للدرع الواسعة، والصاعقة للنار تسقط من السماء، والجارية للسفينة والأمَة. قال صاحب المصباح (والجارية السفينة سميت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمَة جارية على التشبيه لجريها مستسخرة في أشغال مواليها). ولفظ (الدابة) الذي أتوا به مثالاً متعارفاً لانتقال العام إلى الخاص، ليس إلا صفة غالبة، وكذلك (الماشية) على أنها من مشت المرأة إذا كثر أولادها. ففي الأساس: (وناقة ماشية: ولاّدة، ومنه الماشية والمواشي على التفاؤل).
* * *
هذا ولابد أن نأتي بأمثلة نكشف بها عن وجه اشتقاق الكلم بعضه من بعض، وسبل تجدد معانيها وتدرّج دلالاتها وتحولها بالنقل من حال إلى حال. وقد يسلُس الأمر ويستيسر فيبدو داني القطوف قريب النجعة، وقد يصعب وينبو فيبدو شديد المطلب وعث المبتغى فيلجئك أن تتلطف له وتتأتى، وتسلك إليه كل سبيل.
قالوا (لا أبالي) ومعناه لا أهتم، فما هو أصل اشتقاقه؟
قال جماعة المبالاة من البلاء بالفتح. والبلاء في الأصل الاختبار. قال المرزوقي في شرح الحماسة(71): (فلان لا يبالي العواقب، يقال ما باليته بالة وبالية ومبالاة وبلاء وما باليت به، وكأنه أخذ من البلاء). ونحو من ذلك في اللسان والتاج. ففي الأول والبلاء الاختبار، وفي الثاني أصل الابتلاء الاختبار.
وليس بعيداً عن هذا قولهم (المبالاة) من (البِلاء) وهو الهم كما حكاه صاحب المصباح عن أبي زيد، وأوردوا البلاء مصدراً لبالَى كما جاء في اللسان والتاج.
وعلل المرزوقي كيف انتهى (بالى) من معنى البلاء وهو الاختبار إلى المفاخرة فكان الامتناع من مفاخرة القِرن استهانة به واستخفافاً، فقال (وقوله لا يبالي العواقب.. كأنه أخذ من البلاء واستعمل في المفاخرة وتعداد الخصال الحسنة عند المنافرة، ثم كثر استعماله حتى صار يقال في الاستهانة بالشيء).
واستشهد بقول الشاعر (مالي أراك قائماً تبالي) أي تفاخر. وقال في موضع آخر: (وقوله تبالي تفاعل من البلاء فإذا قال لا أباليه كأنه أراد لا أحتفل به فأُعادّه بلائي وبلاءه وأفاخره، هذا أصله). أي أن تبادل الاختبار يقود إلى المفاخرة والمنافرة، فإذا أبيت أن تفاخر خصماً أو تنافره أو تكاثره فقد استخففت به.
وأحسب دون ما ذكرناه قول آخرين أن المبالاة من البال وهو الروع والخاطر، انتقل فيه حرف العلة بالقلب فكان وسطاً فأصبح طرفاً، كما قال ابن فارس في مجمله والمزمخشري في أساسه، وقول جماعة أن أصله المبادرة إلى الاستقاء فمعنى لا أبالي لا أبادر إهمالاً له، كما ارتآه ابن فارس في مجمله، وقد انتهى إلى رده إلى (البال) في مقاييسه، وذكره الفيومي في مصباحه.
ولعله قولهم (لا أباليه) متعدياً، إنما يدل على أصله في التعدية لأنه مفاعلة من البلاء، وهو الاختبار، وقولهم (لا أبالي به) محمول على ما انتهى إليه من معنى، وهو لا أحتفل به ولا أعتد.
* * *
وتقول في معنى ما أباليه وما أبالي به، ما أكترث له. وقد جاء في اللغة كرَثه وأكرثه وكرّثه فاكترث. فما معناه الأول؟ أقول دلّ على ذلك الزمخشري فقال في الأساس: (كرّثه الأمر إذا حركه، وأراك لا تكترث لذلك ولا تنوص: لا تتحرك له ولا تعبأ به، وكرّثته الكوارث أقلقته). فالكرث والإكراث والتكريث هو التحريك في الأصل. وكذلك الإقلاق والإزعاج فحقيقتهما التحريك. فإذا كرثك الشيء فقد جعلك تضطرب حقيقة أو مجازاً، ومن ثم قيل كرثه: ساءه، كما حكاه اللسان.
وتأسيساً على ذلك كان اكتراث في الأصل كتحرك واضطرب، وكاستاء واغتم واهتم في المجاز. وعندي أن قولك (ما اكترث له) متعدياً باللام بني على أصل معناه، أي لا أتحرك له ولا أقلق من أجله. ولكن هل يقال (ما اكترث به) متعدياً بالباء؟ أقول قد جاء ذلك نصاً، وأرى أنه محمول على قولك لا أغتم به ولا أهتم ولا أُعنى، وهو ما انتهى إليه معناه.
على أن من المعاجم ما خطّأ قول القائل (ما اكترث به) كالتاج، فقد جعل صوابه (ما أكترث له) ونسب الخطأ في الأصل إلى الصحاح. وأخذ بهذا الأستاذ محمد العدناني في معجم الأخطاء الشائعة. أقول لم يخطئ الجوهري حين قال (ما اكترث به)، فقد قال الراغب في مفرداته وقد عايش صاحب الصحاح. قال الراغب الأصبهاني (البال الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال ما باليت بكذا بالة، أي ما اكترثت به). وقد قاله صاحب النهاية في موضعين وحكاه عنه ابن منظور في غير مجال.
* * *
وقيل في نحو ما أكترث له (ما آبه له). ففي المعاجم (أبهِ) بالكسر كفرح، و (أبَه) بالفتح كمنع، وقد عدوا الأول باللام والباء فقالوا ما أبهت له وما أبهت به، وعدوا الثاني باللام دون الباء فقالوا ما أبهت له، كما حكاه ابن القوطية والجوهري وصاحب النهاية واللسان. فما أصل معناه؟
يعتد ابن القوطية (أبه) مما جاء على فعَل وفَعِل بمعنى واحد. ويجعل معناه (تنبّه). فإذا استقر هذا فأبِه له بالكسر والفتح تنبه له. وكذلك ما جاء في الصحاح. ولما كان ما يتنبه له في الغالب هو الجليل، فالذي لا ينتبه له ولا يؤبه هو التافه الحقير. ومن ثم قيل فلان لا يؤبه له أي لا يلتفت إليه لحقارته. وعلى ذلك ما جاء في النهاية. وقد عُدّي الفعل بالباء لما انتهى إليه معناه، في السلب، من الاستهانة.
ولكن لِمَ خصت التعدية بالباء هذه بأبه المكسور العين في الماضي دون المفتوح؟ أقول قد يكون ذلك لأن الغالب في اللازم أن يكون كـ (أبِه يأبَه) مثل نَبِه ينبَه الذي هو معناه، من باب فرح يفرح، فهو الأصل. وقد اتَسعوا بتعديته بالباء كما اقتضاه الاستعمال لما آل إليه معناه من الاستهانة. أما (آبَه يأبَه) من باب منع يمنع فلم يتجاوزوا به تعديته الأولى باللام، فليس هو الأصل، لأنه لا يكثر في اللزوم. ولا يُقطع في هذا بيقين على كل حال. على أني رأيت الشدياق في (سر الليال) يسوي بين البابين في التعدية فيقول (وأبه له وبه كمنع وفرح أبْها وتحرك، فطن أو نسيه ثم فطن له) فهل وقف فيه على نص؟
* * *
ويستعمل (التنزه) لترويح النفس بالخروج إلى المكان النزه. أما أصل معناه فكما قال صاحب النهاية (نزه نزاهة وتنزه تنزهاً إذا بَعُد). وقد منعه ابن السكيت على ما حكاه المصباح وجعله فيما تضعه العامة في غير موضعه. وصححه ابن قتيبة فقال: (ذهب بعض أهل العلم في قول الناس خرجوا يتنزهون إلى البساتين أنه غلط، وهو عندي ليس بغلط. لأن البساتين في كل بلد إنما تكون خارج البلد. فإذا أراد أحد أن يأتيها فقد أراد البعد عن المنازل والبيوت، ثم كثر هذا حتى استعملت النزهة في الخضر والجنان). وأكد الزمخشري هذا فقال في الأساس (خرجوا يتنزهون يطلبون الأماكن النزهة، وهي النزهة والنزه مثل غرفة وغرف). كما أيده علي بن حمزة البصري اللغوي في التنبيهات (298) رداً على ابن السكيت فقال: (فلما كانت الروضة إذا بعدت عن الناس كان أحسن.. وجب على المتنزه أن يقصدها ويعتمدها بنزهة. وهو لا يصل إليها حتى يبعد كل البعد عن الناس والمياه فقالوا لمن قصد ذلك تنزه فوافق قولهم الحق ووضعوه في موضعه ثم نقلوه إلى من أراد مثل ذلك فيما هو على المياه وبقربها..).
* * *
ويقال (رُشّح فلان للرئاسة) إذا أُهّل لها. قال الجوهري في الصحاح (والترشيح أن ترشّح الأم ولدها باللبن القليل تجعله في فيه شيئاً بعد شيء إلى أن يقوى على المص. وتقول فلان يرشّح للوزارة أي يربى ويؤهل لها). وقال المرزوقي في شرح الحماسة (1/73): (والترشيح أصله التنبيت والتربية.
ومنه قيل رشحت المرأة ولدها إذا درّجته في اللبن. ثم قيل رشح فلان لكذا توسعاً). ولا يخفى أن تنبيت الشجر غرسه، ومنه تنبيت الصبي تربيته. ونحو من ذلك في الأساس للمزمخشري.
* * *
وقال صاحب المصباح في (تعالى): (وتعالى تعالياً من الارتفاع أيضاً. وتعالَ فعل أمر من ذلك. وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل فيقول: تعالَ، ثم كثر في كلامهم حتى استعمل بمعنى هلمَّ مطلقاً، سواء كان موضع المدعو أعلى أو أسفل أو مساوياً، فهو في الأصل لمعنى خاص ثم استعمل في معنى عام). وفي كتاب الفروق لإسماعيل حقي نحو من ذلك. وكذلك في شرح الحماسة للمرزوقي(56).
* * *
وهكذا (عثر) فأصل معنى العثور أن تزلّ القدم بشيء كحفرة فيسقط صاحبها، ومثله (تعثر). ومن ثم كان (العاثور) هو الحفرة، ففي اللسان (.. ومن هذا يقال فلان وقع في عاثور شرٍّ إذا وقع في ورطة لم يحتسبها ولا شعر بها، وأصله الرجل يمشي في ظلمة الليل فيتعثر بعاثور المسيل أو في خدخد سيل المطر..). وعلى هذا فأنت تقول عثر فلان بعاثور أي بحفرة، على الأصل، كما تقول عثر بعاثور شر أي مكيدة أو ورطة على المجاز.
وقد تدرج معنى العثور من الكبو والسقوط إلى الخطأ في العمل والنطق، تقول عثر فلان أو عثر لسانه إذا تعثر. قال الزمخشري (ومن المجاز عثر في كلامه وتعثر).
وقد آل به التوسع فقيل عثر الحظ إذا خاب صاحبه، وعثر جده إذا تعس، وأعثره الله أتعسه، وفي الأساس (وعثر الزمان به وجدّ عثور وأعثر به عند السلطان إذا قدح فيه وطلب توريطه وأن يقع في عاثور).
بل قيل (عثر عليه) إذا اطلع. قال صاحب المقاييس (وقال بعض أهل العلم إنما قيل عثر من الاطلاع وذلك لأن كل عاثر لابد أن ينظر إلى موضع عثرته).
وعندي أن الفعل قد عُدّي بعلى بطريق التضمين. فكأن قولك عثرت عليه، على تقدير عثرت به فاطلعت عليه. ثم شاع أمره. وفي العربية مالا يحصى من الأفعال تجاوزوا بها الأصل إلى المجاز فعدّوها بحرف غير حرفها، ثم شاع استعمالها بهذا الحرف وكأنه الأصل. وقد عقدت لذلك فصلاً في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق (المجلد 55، الجزء الأول، عام 1980). فأنت تقول مثلاً (أنس به). قال ابن القوطية (وأهلت بالشيء وأنست به) ونحو من ذلك في الصحاح وغيره من المظان. لكنهم عدوا الفعل بـ (إلى) فقالوا (أنست إليه) كما قالوا (استأنست إليه)، ذكره الزمخشري في أساسه. وكان من حقه أن يفرد فيسلكه في المجاز كما فعل في (سكن إليه واطمأن إليه وركن إليه وانبسط إليه) لكنه لم يفعل، إذ قال: (وأنست به واستأنست به وأنست غليه واستأنست إليه). ولعل عذره هو اشتهار تعديته بـ (إلى). وقل مثل ذلك في (استأنس له وتأنس) فلم يلحقه بالمجاز واكتفى بأن قال (واستأنس له وتأنس: تسمّع) وقد يكون تسمَّح به أيضاً وكثيراً ما قرن المجاز بالحقيقة متى اشتهر وشاع. وعندي أن (أنس إليه) على تضمين الفعل معنى (مال) أو نحوه.
* * *
وانظر إلى تدرج معنى (تفقد)، فقد جاء في معجم الأخطاء الشائعة للأستاذ محمد العدناني أن قول القائل (تفقد مزرعته) خطأ..، صوابه (زارها ودرس أحوالها) لأن تفقد معناه (طلب الشيء عند الغيبة). ثم استدرك فأدرك ما أتى به المعجم الوسيط (تفقد أحوال القوم ودقق النظر فيها ليعرفها حق المعرفة)، وقال (وأنا أؤيده على أن يفوز بموافقة المجمع)! أقول إذا كان أصل (التفقد) تطلب الشيء عند الفقد، فقد تجاوز الفعل هذا المعنى إلى تتبع الشيء وتعرّف أحواله، ثم تعدى هذا إلى متابعة النظر في كل ما يستقيم به حال الشيء أو الشخص الذي تتفقده. فقد جاء في مفردات الراغب (التفقد التعهد، ولكن حقيقة التفقد تعرّف فقدان الشيء)، وهذا يعني أن أصل التفقد تعرّف الفقدان لكنه آل بالمجاز إلى التعهد أو إلى ما انتهى إليه التعهد. ففي المصباح (وتعهدت الشيء ترددت إليه وأصلحته، وحقيقته تجديد العهد به، وتعهدته حفظته).
وقد جاء في نهج البلاغة (ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما -3/102) و (تفقد أمر الخراج بما يصلح أهله –3/106)، وقول ابن قتيبة في أدب الكاتب (فإن رأيت الكتاب قد تركوا تفقد هذا من أنفسهم..)، وقول أبي حيان في البحر (10/64): في قوله تفقد الطير –أي قوله تعالى: وتفقَّد الطير –النمل/ 20- دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم).
وهكذا صح (التفقد) في التعبير عن الرعاية والتربية والعناية والبر. قال المرزوقي (لم أزل أجري في تربيته وتفقده) إلى أن استكمل شبابه /757) وقال (لحسن توفره وجميل تفقده لأصحابه /923)، وقال (واستصلاح الرعية وتفقد مصالحهم /1091).
بل نحوا بالتفقد فعنوا به الإنعام والإفضال وكأنهم ضمنوه هذا المعنى. قال المرزوقي (بل قد وصّى بها وبأمثالها فيُتفقدون بأوفر الأنصباء عند قسمة الجذور/1050). وقال أبو حيان التوحيدي في (أخلاق الوزيرين/ 336): (فإن كان قد كتب بخطه: يُتفقد فلان بكذا أو يسأل عن فلاه لينظر في مصلحته).
فأين هذا كله من قول العدناني (التفقد طلب الشيء عند الغيبة) ولزومه هذا المعنى، وتعلقه بظاهر النص المدرج في المعاجم على قصد وإجمال، بل سكونه إليه لا يبرحه ولا يتحول عنه. وقد استبان بهذا أن قول الكتاب (تفقد مزرعته) بمعنى تعهدها ورعاها وتوفر عليها، صحيح مستقيم، غني عن أن يجيزه مجمع لغوي أو يقر صحته. وقد قالوا قديماً (فلان يتعهد ضيعته) المغني 2/113.
فيتضح بما قدمنا وفصّلنا القول فيه أن لا وجه لجمود المعنى في اللفظ كما يبدو ذلك حيناً في كثير من المعاجم العربية، وإن اعتماد كثير من المحدثين على ظاهر النص والتعويل عليه في التخطئة والتصويب مخالف لأصول ارتقاء اللغة وسنن تحول معانيها وطرائق تعبيرها بتحول العصور والأجيال. ولو كانت تؤلف في العربية معاجم حديثة على مثال ما يؤلف في اللغات الحية الأخرى، دقة وأحكاماً واستقصاء لأنست بالتجدد والتدرج والتوالد في معاني الكلم، ولمست بمعارضة النصوص المحكية بعضها ببعض ترجمة لحياة كل كلمة تظهرك على قصة حالها وتقفك على مسالك تحولها ودروب تنقلها والتدرج بها حالاً بعد حال. وأنت لو لم تطف بمراحل التقلب جفا عليك وجه الاعتداد به البتة. يقول العالم النفسي السوفييتي ل.س.فيجوتسكي المتوفى عام 1934، أنه لا سبيل إلى احتساب معنى الكلمة أمراً ثابتاً، بل لابد من تصوره في نمو مطرد وتحول مستمر دائب(4). والبحث في تاريخ معاني الكلم وأصول اشتقاقها موضوع شائق له في اللغات الحية الأخرى شأن أي شأن. وأحوج ما يكون إليه المشتغلون بتاريخ الأدب وفقه اللغات. وليست معالجة هذه المسألة في العربية وتدارك ما فات من أمرها بعدما كان من الإغفال، على شيء من اليسر والسهولة. ولا ننسَ ما انتحاه المستشرق الأستاذ فيشر وقد أمضى أكثر عمره (بين سنة 1907 و 1950م) في إعداد معجم تاريخي للغة الآداب العربية حتى نهاية القرن الثالث الهجري، أي حتى منتهى ما وصلت إليه اللغة الفصحى من الكمال كما يقول، فلم يخلّف بعد جهد جاهد ونصب ناصب وطول عناء، غير جذاذات لهذا الذي بذل الطوق في إعداده. ولابد أن تضطلع المجامع اللغوية باستتمامه واستفراغ الوسع في إصداره فلا تدخر دون ذلك سعياً. ولكن هل يمم أئمتنا قديماً مثل هذا السمت من البحث وحاولوا ارتياده والجري على منهاجه؟ أقول لاشك أن كتاب (الزينة) قد استن بهذه السنة ونهج هذا السبيل فإن به لوناً طريفاً من ألوان البحث اللغوي التاريخي. فقد وضع الشيخ أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي المتوفى 322هـ كتاباً جامعاً في أوائل القرن الرابع الهجري كان أول مرجع يستفتى في الأسماء العربية التي نطق بها القرآن الكريم فكانت من مصطلحات الإسلام، كما أشار إليه الدكتور حسين الهمداني في مقدمة الكتاب. وقد حاول مؤلف الكتاب أن يجمع بين ألفاظ عربية شتى تغيرت مدلولاتها ومعانيها في العصر الإسلامي عما كانت عليه في العصر الجاهلي، ففات أقرانه في وضع اللبنة الأولى في علم معاني الأسماء العربية والمصطلحات الإسلامية وكان رائداً متأنقاً في هذا المضمار بل إماماً بارعاً في هذا الركن: Arabic Islamic Sémantics.
فانظر إلى ما ذكره الرازي مثلاً في (الإثم 225)، فقد أتى بأصل معناه فقال (قال أبو سعيد سمي الإثم إثماً لأن الآثم يُبطئ عن طاعة ربه، ويقال أثِمَ إذا أبطأ والآثم المبطئ. ويقال أثمت الناقة إذا أبطأت). ثم تحول إلى ما تدرج إليه معناه فقال: (فالإثم ضد الأجر يقال فلان مأثوم وفلان مأجور، لأن المأجور يسعى في الطاعة.. وذلك الثواب هو أجر له بعمله. والآثم لم يعمل وأبطأ عن الطاعة فلا أجر له فهو آثم أي مبطئ عن الطاعة). فحاول الربط بين الأصل والمجاز. ثم تابع البحث عن تدرج آخر فذكر أن الإثم ضد البر، وأتى بالحديث (البر ما سكنت إليه القلوب واطمأنت إليه النفوس، والإثم ما حك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه) وهكذا..
وقد ذهب الأستاذ عبد العزيز الميمني إلى أن المفضّل بن سَلَمة المتوفى 291هـ قد ضرب على هذا القالب في كتابه (الفاخر)، وكذلك فعل أبو بكر بن الأنباري المتوفى (328هـ) في كتابه (الزاهر). أقول أما كتاب الفاخر فإن مضامينه تدور كما ذكر مؤلفه في مقدمة الكتاب حول (معاني ما يجري على ألسن العامة في أمثالهم ومحاوراتهم من كلام العرب وهم لا يدرون معنى ما يتكلمون به من ذلك). وأردف المؤلف يقول (فبينّاه من وجوه اختلاف العلماء في تفسيره ليكون مَنْ نظر في هذا الكلام عالماً بما يجري من لفظه ويدور في كلامه). وقد عمد صاحب الفاخر في تحقيق ذلك إلى حكاية ما روي من أحداث دفعت إلى النطق بالأمثال مما كانت تطوع به ألسنة الناس في محاوراتهم ومخاطباتهم، وذكر أول من نطق بها، وبحث في اشتقاق ما جاء بها من ألفاظ وردها إلى أصلها وفصّل القول في معانيها. وقد أفاد أبو بكر محمد بن القاسم بن الأنباري في كتابه (الزاهر) من كتاب الفاخر هذا وبسط ما جاء فيه وكثّره بالشواهد كما قال مختصر الكتاب أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي. قال الزجاجي (وكان المفضل بن سلمة صاحب الفراء قد أنشأ كتاباً في هذا المعنى سماه... فعمد أبو بكر محمد بن القاسم لذلك الكتاب فنقله نقلاً... وبسطه وكثّره بالشواهد). ولا يزال كتاب (الزاهر) مخطوطاً لم يطبع.
هذا وليس كتاب الفاخر والزاهر ولو أفادا في إصابة الغرض الذي ابتغيناه ككتاب الزينة في تحقيق النهج اللغوي التاريخي والجري على أسلوبه.
يقول الدكتور داود حلمي السيد في كتابه (المعجم الإنكليزي بين الماضي والحاضر): (فليس بخاف أن معجميي العربية المحدثين تشدهم تجربة ضاربة في أعماق التاريخ وتقيد حركتهم تقاليد معجمية راسخة تجعلهم دائماً يتلفتون إلى الوراء حين يقررون أي المناهج يتبعون كلما شرعوا في وضع معجم حديث للغة العربية، أهو المنهج التقليدي برمته، أم المنهج الغربي في وضع معجم حديث للغة العربية، أهو المنهج التقليدي برمته، أم المنهج الغربي الحديث برمته. أم يأخذون من هذا وذاك ما يتفق مع طبيعة اللغة العربية). وقال: (ولم أجد أمامي إلا المعاجم العربية القديمة التي مضى على أحدثها أكثر من قرن ونصف من الزمان، أو بعض المحاولات المعجمية الحديثة التي لا ترقى إلى المستوى الذي يجب أن تكون عليه معاجم اللغة العربية في العالم المعاصر، والتي سنعرض لها..). ثم عَرّف المعجم الحديث فقال: (فالمعجم بالدرجة الأولى كتاب كلمات. فهو يحتوي بين غلافيه على مفردات اللغة مصحوبة بمعلومات عن اتيومولوجيتها- أي أصول اشتقاقها الأولى- ومعانيها ومدلولاتها واستعمالاتها). أقول لا شك في أن الطريقة النشوئية في القرن التاسع عشر قد أدت إلى ازدهار المباحث اللغوية التاريخية، وإلى وضع معاجم تكشف عن أصول الكلم وتدرج معانيها، وتأكيد اعتقاد أن –الظاهرة اللغوية- لا تتسم بسمة الوضوح أو الجلاء الذي يراد لها ما لم تدرج في سياقها التاريخي(6). وقد ألّف (سكيت ولتر وليم) العالم الإنكليزي المتوفى عام 1912 معجمه الشهير الذي عول فيه على اللون التاريخي من التسجيل اللغوي، فذكر أصول الكلم وألقى الضوء على هذه الأصول بالرجوع إلى جملة من النصوص التاريخية التي عرضت بها هذه الكلم ليظهر القارئ على أصولها الصحيحة ودلالاتها الأولى، وتدرّج هذه الدلالات من عصر إلى عصر، كما أشار إليه الدكتور السيد الخلوي، وقد أومأنا إليه في موضع آخر.
ولكن إذا كان قد أدى اشتغال علماء اللغة الفرنسيين مثلاً إلى تأليف معاجم في تاريخ الكلم وأصولها وتسنى ذلك بالعودة إلى الأصول التي تحدرت منها لغتهم يونانية كانت أو لاتينية أو غير هذه وتلك، فليس كذلك حال العربية التي لا يصح ردها إلى ما أسموه باللغة السامية الأولى التي تصوروا أنها أم اللغات السامية، كما كانت اللاتينية مثلاً أُمّاً للفرنسية والإيطالية والإسبانية، إذ لم يقف البحث العلمي التاريخي على لغة من هذا القبيل، وإنما يعوّل على الأصول العربية وحدها. ولكن أليس يصح في العربية الاستعانة في تقرير أصول الكلم وتاريخها حيناً، والكشف عن ظلال معانيها بالعودة إلى بعض اللغات السامية؟
يقول الدكتور داود الحلبي في كتابه (الآثار الآرامية في لغة الموصل العامية) المطبوع عام 1935: (إن تمييز الكلمات الآرامية من الكلمات العربية صعب جداً. وما سبب هذه الصعوبة إلا كون اللغتين شقيقتين، أي فرعين من اللغة السامية الأم. حتى إن نحو أربعة أخماس الكلمات الآرامية تشترك والعربية إما حرفاً أو باختلاف يسير في التلفظ أو تبديل بعض الحروف..). وقال: (على أني وجدت بعض كلمات مشتركة معانيها، واضحة كل الوضوح في المعاجم الآرامية، ولكنها في المعاجم العربية مضطربة لم يبت لغويو العرب فيها وذهب كل منهم فيها مذهباً. حتى أن بعضهم أتى في صدد إيضاح أصلها بتأويلات غريبة..). ثم قال (ولو كان للغويين العرب القدماء وقوف على الآرامية لما وقعوا في حيص بيص عند بيان معاني أمثال هذه الكلمات. إذ لا يشك في أن معرفة الآرامية وغيرها من اللغات السامية يكون وسيطاً لحل مشاكل لغوية كثيرة في العربية. كما أن معرفة اللغة العربية تحل مشاكل أخواتها اللغات السامية).
أقول ذلك ما بحثه الدكتور محمد حسني قنطر في مقاله حول العربية واللغات السامية (من دراسات الملتقى الرابع لابن منظور في قفصة، في آب 1976). قال الدكتور قنطر: (إنه من واجب الباحث عن كنه الكلمات العربية وعن تاريخها شكلاً ومضموناً، أي عن التطور الذي اعتراها من حيث هي ظرف ومظروف أن يتجه إلى أخوات اللغة العربية ويستنطقها بالدرس والمقابلة والمقارنة عله يدرك الغاية ويجدحل المشكلة ويتمكن من الإجابة عن الأسئلة التي قد تثيرها الكلمة لديه). وقال: (فإذا عُدت للعبرية مثلاً لفهم كلمة عربية وتعرّف حالها تاريخاً واشتقاقاً، فذلك لا يعني أن اللفظة العربية تولدت من لفظة عبرية، بل حدثتك بالعبرية فعرّفتك بالعربية والعكس بالعكس).
وقد أتى الدكتور قنطر بأمثلة فأخذ على معجم اللسان أنه لم يوضح مثلاً معنى (لأك) الذي اشتق منه لفظ (الملَك والملائكة) فقال ولعل الباحث لا يوفق إلى المعنى للمادة، وهو معنى الرسالة. فلأك يعني أرسل، والملَك بالفتح المرسل). وأردف: (فالعودة إلى اللغات السامية القديمة التي عرفت هذه المادة تيسِّر إدراك الحقيقة اللغوية).
أقول إن معجم اللسان قد أشار إلى معنى المادة، ولو أن التعويل على معجم عربي واحد في القطع بحرف ومعناه وأصل اشتقاقه ليس بالوجه. فقد جاء في اللسان (فالملك من الملائكة واحد وجمع. قال الكسائي أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك وهي الرسالة) وفي اللسان أيضاً (قال ابن بري ملأك مقلوب من مألك، ومالك وزنه مفعل في الأصل من الألوك. قال وحقه أن يذكر في فصل ألك، لا فصل ملك). فابن بري وسواه قد جعلوا الأصل (ألك) ثم قلب فأصبح (لأك)، فما الذي قالته المعاجم في (ألك).. قال الجوهري (الألوك الرسالة.. وكذلك المألك والمألكة بضم الميم فيهما). وقال ابن القوطية (وألك بين القوم ألْكاً وألوكاً ترسّل والألوك الرسالة منه، والملائكة أيضاً). وقال ابن دريد في الاشتقاق (ومنه قولهم ألكني إلى فلان أي كن رسولي إليه). بل في اللسان ألك بمعنى ترسل. أفليس في هذا ما يجزي لإيضاح معنى الفعل واشتقاقه؟ وقد تصرف العرب في (ألك) فقالوا (استألك). فانظر ما جاء في الأساس (ألِكْني إلى فلان واحمل إليه ألوكي ومألُكتي وهي الرسالة. قال:
ألِكني إليها عمرك الله يا فتى
: بآية ما جاءت إلينا تهادياً
. ومن يستألك لي إليه أي من يحمل رسالتي. وجاء فلان فاستألك ألوكته). أفليس هذا واضحاً جلياً. ومن الطريف أن يكون قائل هذا البيت سحيماً وهو عبد بني الحسحاس، وهو حبشي اشتراه أبو سعيد فشبب بابنته عميرة. وقد نسب لفظ (ألك) فيما نسب إلى الحبشية.
هذا ولا يخفى أن في المظان اللغوية العربية أن (الملائكة) من (ألك بين القول)، وأن أصل المادة عبري أو سرياني أو حبشي. وليس يعني هذا بالطبع أن ثمة تبعية لغوية بين سامية وأخرى. بل ليس في لغات الأسرة أمهات وأخرى بنات كما يقول الأستاذ (فندريس) في كتابه (اللغة)(7). ولا يمنع هذا أن يكون بين الألفاظ السامية المشتركة ما هو أعلق بلغة، منه بلغة أخرى. ولا يُقطع بهذا حتى يوقف على اشتقاق الكلمة. فقد تكون في لغة أظهر وأبرز منها في لغة أخرى أي أكثر تصرفاً. أو تكون واضحة الأصل في إحداها فريدة غريبة يتيمة في سواها. أو تكون الكلمة في المعنى الشائع للزنة التي جاءت بها في لغة ولا تكون كذلك في غيرها وهكذا..
وقد عُني الأب أنستاس ماري الكرملي برد بعض الألفاظ العربية إلى السامية والاستعانة بالأصول السامية في استبانة معانيها وفك مُشكلها وإظهار مكنوناتها على نحو ما فعل في مجلة الثقافة القاهرية، وسواها.
هذا ما وددت الكشف عنه والتمثيل له في سبل تدرج المعاني في الكلم العربية وما تشعب عن ذلك من وجوه الرأي. وأرجو أن أكون قد وفقت إلى إيضاح المنهاج وجلاء الغامض والإفصاح عن المضمون فيما حاولت تحريره من المسائل في هذا القصد.
دمشق 10/2/1982
صلاح الدين الزعبلاوي
* * *
الحواشي:
(1)الدكتور حسين الهمداني في (مقدمة كتاب الزينة للشيخ أبي حاتم الرازي) والدكتور بدر الدين القاسم في ترجمة (تاريخ علم اللغة لجورج مونين).
(2)سكيت واتجاهاته في اللسانيات للدكتور شكري السيد الخلوي في (مجلة اللسانيات لمعهد العلوم اللسانية والصوتية بجامعة الجزائر)، العدد الرابع 73/1974.
(3)المصدر السابق.
(4)في علم اللغة الحديث تقسم البنية اللغوية إلى وحدات لغوية دالة، وأخرى غير دالة. ويقصد بغير الدالة حروف المباني أي حروف الهجاء، وهي أصغر صورة معتمدة، ويدعونها بالفونام. ويقصد بالدالة أصغر وحدة لغوية ذات معنى كالأسماء والأفعال وحروف المعاني ويدعونها بالمورفام، فالفونام أصغر وحدة للأصوات والمورفام أصغر وحدة للمعاني. وقد ميز العالم البولوني بودوان كورتناي المتوفى عام 1929، بين مفهوم الصوت اللغوي وبين الفونام الذي هو وحدة لغوية أساسية. ذلك أن الفونام لا يتضمن أصواتاً لغوية وإنما يتألف من صور صوتية هي وحدات نفسية لا مادية. ومن ثم فرّق كورتناي بين العلم الصوتي الفيزيائي، وهو علم الصوت نفسه، وعلم الصوت النفسي الذي سيغدو بارتقائه وتقدمه علم الأصوات الشفهية. ولكن ما حد الكلمة عند النحاة وحد المورفام في علم اللغة الحديث؟.
قال الإمام جلال الدين السيوطي في الهمع: (وقد اختلفت عباراتهم في حد الكلمة اصطلاحاً. وأحسن حدودها: القول المفرد المستقل أو المنوي معه- كالضمير المستكن وجوباً. فخرج بتصدير الحد بالقول غير ذلك من الدوال كالإشارة والخط.. وبالمفرد، وهو ما يدل جزؤه على جزء معناه، المركب كغلام زيد فهما كلمتان. وبالمستقل أبعاض الكلمات الدالة على معنى كحروف المضارعة وياء النسب وتاء التأنيث وألف ضارب، فليست كلمات لعدم استقلالها).
فتبين بهذا أن ما يدخل في حد المورفام من حروف المضارعة وياء النسب وتاء التأنيث وغيرها مما سمي أبعاض الكلمة لا يدخل في حد الكلمة، على ما اختاره السيوطي، لأنه ليس مستقلاً. على أنه استدرك فقال (ومن أسقط هذا القيد، قيد استقلال اللفظ، رأى ما جنح إليه الرضي، من أنها مع ما هي فيه كلمتان..). وهكذا أشبه حد المورفام في علم اللغة الحديث حد الكلمة عند الرضي، وبدأ هذا العلم مؤيداً لما جاء به بعض النحاة في إبراز البنية اللغوية. قال الرضي في شرح الكافية: (إن قيل إن في قولك مسلمان ومسلمون وبصري وجميع الأفعال المضارعة جزء لفظ كل واحد منها يدل على جزء معناه، إذ الواو تدل على الجمعية والألف على التثنية، والياء على النسبة، وحروف المضارعة على معنى في المضارع، وعلى حال الفاعل أيضاً، وكذا تاء التأنيث في قائمة، والتنوين ولام التعريف وألف التأنيث، فيجب أن يكون لفظ كل واحد منها مركباً، وكذا المعنى، فلا يكون كلمة بل كلمتين، فالجواب أن جميع ما ذكر كلمتان صارتا من شدة الامتزاج ككلمة واحدة، فأعرب المركب إعراب الكلمة..).
وأنت ترى أن الحكم في ذلك اعتباري. ولكن أليس فيما ذهب إليه الرضي من إبراز البنية اللغوية للفظ جلاء لشأن هذه الدوال في تأليف هذه البنية وتحديد معناها؟ والرضي مع ذلك لم يخرج في تصوره لحد الكلمة ورسم نطاقها عن حدود الأوائل في تعريف الكلمة والاقتباس بها. فإذا كانت هذه الدوال قد دلت على ما دلت عليه من المعاني، فكيف تعتد من حروف المبالي أي حروف الهجاء، كما فعل الآخرون، وحروف الهجاء لا تعني غير الأصوات لا تختلف إلا باختلاف مقاطعها؟ ألم يقل سيبويه في فاتحة الكتاب (فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل)، والدوال المذكورة حروف جاءت لمعان، وليس هي بأسماء ولا أفعال، فهي على هذا الحد، كلم، كما ذهب إليه الرضي وغيره.
(5)التفكير واللغة لفيجوتسكي ترجمة الدكتور طلعة منصور المعرفة 178 لعام 976.
(6)البنوية والعقلانية لأنطون شاهين –المعرفة 136 لعام 1971.
(7)ترجمة الأستاذ عبد الحميد الدواخلي والأستاذ محمد القصاص.
----------------
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد الثامن- السنة الثانية- تموز "يوليو" 1982.
** وللمزيد من المقالات ينظر: * * المنتقى من مقالات العربية * *