تدبر.. فأين هذا التدبر أستاذ محمد عطية؟
أليس هذا هو ما يجري اليوم ، وفي بلاد المسلمين ؟
لا، ليس هذا ما يحدث الآن، بل هو جزء من الشكل المظهري، فالذي يهدم الآن صومعة هناك، لا يهدمها في المنطقة التي يسيطر عليها، وعندما يحكم سيطرته على المنطقة التي هدم فيها الصومعة، فسوف يعيد بناء تلك الصومعة. أما التدافع في الآية الكريمة فتدافع عام من السنن الإلهية السارية في الإجتماع البشري، وتدافع خاص بين فريقين متباينين: جالوت وطالوت، معسكر الموحدين ومعسكر المشركين، وهكذا. وأما من حيث كيفية الدفع المادي، فأضعف الإيمان وقتذاك هو حفر الخندق أو بناء الحائط / الحاجز كي لا يصل العدو إلى الصومعة ويهدمها، وهذه كيفية متجاوزة حاليا. والحل؟ تسن القوانين التي تحرم وتجرم إستهداف المعابد الدينية، وهذا حل نظري، وظهر أنه في كثير من الحالات لا يُحترم عندما ننظر مثلا كم من مدارس ومستشفيات ومجمعات مدنية أستهدفت منذ تسطير تلك القوانين والتي عولمت أي صارت عالمية سارية المفعول على مستوى العهود والمواثيق الدولية. فما الحل ؟ هناك حل علمي تقني لكن ثمنه باهض، وهو حماية المعابد بالمضادات والدروع، ولكن الأسلحة تتطور فإن لم تتطور الوقاية معها فلا معنى لهذه الأنظمة. فما الحل؟ الإستعصاء العسكري وهو ما يجعل الأطراف المتصارعة تجنح دائما وعن ضرورة (ليس إختيارا) إلى ضبط النفس وعدم التفكير في الحل العسكري. لكن الإستعصاء العسكري يؤدي - مع وقت طال أم قصر - غالبا إلى "تدافع بارد" مثل خوض الحرب بالولاية أي نقل المعركة إلى زمان أو مكان أو مجال (الإقتصاد، السياسة الإقتصادية والإقتصاد السياسي مثلا) آخر، وهذا "التدافع البارد" يؤدي إلى فتنة، ثم الفساد في الأرض، والفساد موجود ومنذ قرون، لكن فساد أكثر والخاسر الوحيد هو "الشعب الأعزل"، فما الحل؟
إن الأطراف المتصارعة كلها تستفيد "شيئا ما" والمستفيد الأكبر هو صاحب النظر البعيد، يعمل الآن، ويريد أن يجني ثمار عمله في مستقبل بعيد جدا، لأنه صاحب مشروع كبير ولا يعمل له بناء على قناعة ومشاركة في التدافع فقط، بل يجهز له كل أساليب التمكين الفكري والسياسي والدبلوماسي والإقتصادي والتجاري والعسكري والنفسي والثقافي والإجتماعي والعلمي والتقني والفني .. وهذا معروف، لكن هنا لا نشخصن، لأن هذا سيعني عدم الإلتزام ببنود سياسات الملتقى.
آيات القتال في القرآن أكثر من آيات الأمر بإقامة الصلاة
لا يهم صحة هذه المقارنة الكمية، لكن هو "النظر القرآني" رباعي الأبعاد: تدبر القرآن، النظر في الآفاق، السياحة في التاريخ، والعودة إلى الذات أو النظر في النفس.
وعندما نقول تدبر القرآن، فمعناه عدم تجريد تلك الآيات في القتال والجهاد والتدافع والصبر .. لأن تلك الآيات القرآنية في حقيقتها هي آيات واقعية، وتتجلى هذه المعقولية الواقعية أكثر عندما تعود تقرأ على الخلفية: السياق، التاريخ، السيرة.. ليظهر لك الإطار الذي تتحرك فيه تلك الآيات في حركة تضبطها الأقطار التي تربط بين قوائم الإطار مثل العموم والخصوص أو الناسخ والمنسوخ، والتدرج وغير ذلك. وهو الإطار الذي إستقى منه الأصوليون مفاهيم عقلائية واقعية مثل تحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه، وقواعد أخرى منها درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وغيرها، فهي لم تسقط عليهم من السماء، ولا جلبوها من القانون الروماني أو حمو رابي. أما التجريد فهو نقل تلك الآيات من الواقعية إلى المثالية.
ثم النظر في الآفاق (فقه الواقع) فيما يتعلق بالفساد والتدافع والحرب والسلم، معناه أن تنظر في الواقع عامة، وفي واقع تلك الأشياء بشكل خاص، للوصف والفهم والاستيعاب، وللبحث عن العوامل والقوانين التي تسيرها، وهذا ما ستحتاج فيه إلى تدارس وتعاون لأنه يشمل الكثير من التخصصات. ثم بعد ذلك يأتي التصرف وفق الفقه، وستحتاج إلى أدوات ووسائل، فالمطلوب فقه التسخير وهكذا إلى أن تصل إلى التنفيذ وفيه ستكون بحاجة إلى دهاء، وحنكة وفنون خداع متنوعة.
أما السياحة في التاريخ فلأخذ العبرة، والكشف عن السنة في حركة التاريخ وصيرورته بحثا عن الذي يتكرر تحت نفس الشروط أو في ظروف مختلفة الظهور متحدة الإشكال، وتطرح الأسئلة التي تربط الواقع بهذا التاريخ، لتتعلم الدرس، فلتسأل مثلا لماذا لم تنجح ثورات كثيرة (إبن الزبير، الحسين بن علي، زيد بن علي، محمد النفس الزكية.. عليهم السلام) وتسأل عن إخفاق المشاريع الإصلاحية الكبرى (عمر إبن عبد العزيز مثلا) والتي ماتت بموت أصحابها، بالتركيز طبعا على صراعات بالقتال وبالهيمنة القانونية. وما الذي جعل المأمون يهدم على أخيه الأمين بغداد بما فيها وما عليها، ويخرج منتصرا رغم أنه كان أقل عدة وعتادا؟ هي أسئلة تطرح، بدل الإكتفاء القتال ذكر أكثر من الصلاة، لأن العلم ذكر أكثر من القتال والصلاة معا. قرون قتال، فهل عادت الأمة يوما ما إلى تلك الحالة الراشدة الراشدية (أبو بكر، عمر الأول، عثمان، علي، الحسن، عمر الثاني) أثناء وبعد كل تلك القتالات؟ لا، وبكل بساطة.
ثم العودة إلى الذات من خلال إجراء حوارات ومحادثات عديدة مع النفس، فهل تحكم على أو لحادث لحاجة في النفس، وأية نفس؟ أم هناك مؤثرات داخلية (هوية، ميول شخصية، إنتماء طائفي، حزبي، فكراني..) أو خارجية (مثل تلك الصواريخ والرصاصات والقنابل الإعلامية التي تنهال عليك من كل حدب وصوب)؟ ونحن نرى أن للذات دور كبير في الرؤية، إلى درجة ترى تلك التناقضات الصارخة بين التحليلات المعلنة، أي تلك التناقضات بين أهل التخصص في تفسير ما يحدث. أعني التفسير لا الوصف، لأن الذي يحدث نكاد نتفق حوله رصاصات تطلق وبيوت تهدم وانفجارت وضحايا ومئات الألوف تبحث عن لجوء في أوربا، وأن هناك أمل في إستبدال أقلية مستبدة بأكثرية مستبدة كما تم إستبدال بعثية صدام حسين بالحكم الطائفي في العراق، مع إختلافات في الوصف كميا وكيفيا من حيث أن أغلب القنوات الإعلامية خادمة لأجندات خاصة فالذي تعرضه البي بي سي ليس هو الذي تعرضه روسيا اليوم.. لكن في تفسير ما يحدث: لم وكيف؟ عامل الذاتية، ثم عامل التعقيد. وعندما أقول التخصص فأقصد أهل الميدان في الدراسات السياسية والجيوسياسية، والإقتصادية، والإستراتيجية .. وليس أهل منابر الإعلام وتجييش العواطف والإستنفار والإستخفاف بالعقول.