تدبر في التدبر

إنضم
15/04/2003
المشاركات
1,144
مستوى التفاعل
4
النقاط
38
الموقع الالكتروني
www.tafsir.net
كنت استفدت واستمتعت بحضور اللقاء العلمي الأول الذي أقامه مركز تدبر حول: مفهوم التدبر, والذي سبق عرضه في هذا الموضوع, غير أن الدعوة المتأخرة للحضور, وضيق مجال العرض والمناقشة في اللقاء أخرا هذه الوقفة, والتي أرجو بعرضها تتميم ما حرره الإخوة حول هذا المفهوم, وتأليف عدد من الآراء حوله والتي لا تخالف بينها على الحقيقة.

- مفهوم التدبر:
هو: التأمل في معاني الآيات التفسيرية والاستنباطية بقصد معرفة الحق فيها, والانتفاع به علماً وعملاً.
وفهم هذا المعنى يتوقف على بيان جوانب منه: فالتفسير هو المعنى المباشر للفظ, والاستنباط هو المعاني التالية والتابعة للمعنى المباشر والمتعلقة به بنوع علاقة, وهذه الاستنباطات بطبيعتها متفاوتة في القرب والبعد والوضوح والخفاء.

فنظر المتدبر في المعنى المباشر للآية أو المعاني التابعة, بقصد التأثر بها وإصابة الحق في فهم المراد منها, ومن ثم العمل بهذا الحق واعتقاده = هو معنى تدبر القرآن المأمور به في القرآن, واستعراض الآيات القرآنية الآمرة بالتدبر يوصل إلى هذا المعنى, وهي على الترتيب:
- { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا }[النساء 82], ويلاحظ هنا غاية التدبر, وهي الوصول إلى ما تضمنه القرآن من الحق الذي لا اختلاف فيه. كما أن في الآية إشارةً ظاهرةً إلى سبيل إزالة الاختلاف الموهوم في القرآن, وهو: تدبر القرآن. فإذا حصل التدبر لم يجد الناظر في القرآن اختلافٌ ألبتَّة.

- { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ }[المؤمنون 68], والمراد بالقول: القرآن الكريم؛ ففي السياق قبلها: {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون, مستكبرين به سامرا تهجرون}[66- 67], فبينت الآية سبب إعراضهم عن الانتفاع بالقرآن والإيمان والاهتداء به؛ وهو أنه ليس على ما يهوون مما يوافق ما عليه آبائهم الأولين, فأعرضوا عنه. أو يكون المعنى: أن ما جاءهم هو ما جاء آباءهم قبلهم من الأمم السابقين, ففيم تعرضون وقد جاءكم ما جاءهم ؟ وما كان محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل .

- { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }[ص 29], يلاحظ في الآية أمران:
الأول: أن الغاية العظمى من إنزال القرآن: تدبر آياته من جميع البشر, ثم الاهتداء بها والتذكر بما فيها من الحق من أصحاب العقول الراجحة الذين ينتفعون بما يعقلون. فالتدبر مأمورٌ به كلّ عاقل, ثم يبلغ غاية التدبر منهم من نفعه عقله واهتدى بعلمه.
وهذه الآية أجلى دليل على أن الغاية من التدبر العلم والعمل؛ وذلك أن هذان الأمران هما غاية دعوة الأنبياء كما دلت عليه كثير من الآيات القرآنية(*), ويقابل ذلك تحديد غاية إنزال القرآن هنا بالتدبر والتذكر, فبأخذ النتيجتين من تلكما المقدمتين يتقرر: أن المراد من التدبر الذي أنزل لأجله القرآن = العلم والإيمان, والتأثر والعمل.
الثاني: وصف القرآن بـ (المبارك) في سياق الأمر بالتدبر فيه, وبهذه الصيغة الدالة على الثبات واللزوم = فيه دلالة - غاية في الظهور - على أن وجوه تدبره والانتفاع به لا نهاية لها, إذ لا حد لبركة القرآن في الانتفاع به وكثرة معانيه ومجالات التأثر به؛ فإنها بعدد كل عاقل يقرأه أو يسمعه.

- { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }[محمد 24], ماذا بقي ليقال عن هذه الآية؟! وقد أبرزت أعظم سبب يمنع من غاية التدبر ومنتهى المراد منه (التأثر والعمل), وهو: انغلاق القلوب عن سماع الحق ورؤيته, والتأثر به وأخذه.

ومن خلال هذا المفهوم السابق بيانه, يتحدد موضوع التدبر, وهو: المعاني التفسيرية والاستنباطية للآيات القرآنية.

كما تتحدد فائدته وغايته, وهي: التأثر والعمل, وهما متلازمان في الواقع, وفي آيات التدبر السابقة إشارة ظاهرة متكررة إلى هذه الغاية, كما أنه يطابق المعنى الذي ينتهي إليه البحث اللغوي, وهو: النظر في عواقب الأمور وما تنتهي إليه. وهذا موضع التأثر والعمل في باب التدبر, ولئن صح معنى التدبر في غير القرآن بلا قيد التأثر والعمل, فلا يصح في القرآن إلا بهما.

وتتحرر بذلك أيضاً جملة من المسائل المتعلقة بهذا المفهوم, ومن أبرزها: هل يشترط العلم بمعنى الآية لصحة تدبرها ؟ والجواب يتوقف على تحديد المعنى المراد تدبره, فإن كان المعنى موضع التدبر هو تفسيرها ومعناها المباشر؛ صح اشتراط العلم بتفسير الآية ليصح التدبر المبني عليها, وإن كان المعنى موضع التدبر أحد المعاني المستنبطة - والتي لها نوع علاقة بالمعنى المباشر- فيكفى من هذا الشرط العلم بهذا المعنى المستنبط, والاطمئنان إلى صحة علاقته بالآية, وارتباطه بها.
وفيما نرى من تأثر كثير من العرب والعجم بسماع القرآن وتلاوته مع عدم إدراكهم لتفاصيل معناه, ومرتبة هذا المعنى تفسيرا أو استنباطا = دليل على صحة التوسع في هذا الباب, وعدم تضييقه, وأن كل تأمل أورث علما صحيحا (ولو مجملا), وعملا صالحا هو تدبر مأمور به, ومأجور عليه.
ويكفي علمَ التفسير شرفاً أنه خيرُ معين للوصول إلى هذه الغاية الشريفة من إنزال القرآن: {ليدَّبَّرُوا آياته}.

ومن المسائل المتعلقة أيضاً: هل تشترط سلامة القلب لصحة التدبر؟ والجواب يتبين من تحديد غاية هذا الباب وهي: التأثر والعمل, فهما تابعان للتدبر ونتيجتان له, فلا يصح تقدمهما عليه ولا يكون, وفي قوله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}[محمد 24], دلالة على هذا؛ فالخطاب في الآية يشمل غير المؤمنين قطعاً, وأظهر منه قوله تعالى {أفلم يدبَّروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين}[المؤمنون 68], {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}[النساء 82], ومن ثَمَّ فلا يصح اشتراط ذلك لصحة التدبر؛ ولكن لكمال الانتفاع به, وفي القرآن دلائل عديدة على أن لسلامة القلب أثر في تمام الانتفاع بالقرآن وفهم المراد: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين, لينذر من كان حياً}[يس 69 - 70].

وأخيراً: هل في التدبر تدبر صحيح, وتدبر فاسد؟ والجواب أن التدبر لا يُوصِل لغير الحق, ولا يتوصل به إلى باطل؛ ومن ثم حُدِّدَ معنى التدبر سابقاً بذكر: قصد معرفة الحق والعمل به. فهو حالة خاصة يتجرد فيها قارئ القرآن وسامعه من حظوظ النفس والهوى والأحكام المسبقة, فكأنه نازلٌ عليه ومخاطب به على الخصوص, فلا تملك النفس في حالة كهذه غيرَ الانقياد والاستسلام حين يهيمن القرآن عليها, ويستولي على عقل ولب سامعه, وبالتأمل في ما أصاب الوليد بن المغيرة عند سماعه لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة فصلت, وكذا حال جبير بن مطعم حين سمع تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة الطور, يتبين ذلك الحال بجلاء, ثم إن حصل انقياد بعد ذلك تَمَّ به أثر التدبر وغايته, وهو بهذا أقرب ما يكون إلى معنى الإنصات المأمور به في قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}[الأعراف 204].

-------------
(*) ومنها قوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}[النساء 64], وقوله {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}[الأنبياء 25]. وقد قرر الإمام الشاطبي أن: (كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لا يدل على استحسانه دليل شرعي. وأعني بالعمل: عمل القلب, وعمل الجوارح). ينظر: الموافقات 1/43- 66.
 
هذه المسائل أضعها أيضاً لتدبر إخواني فيها , ولازال في الموضوع مُتَّسع من الجوانب التي يحسن بيانها , أسأل الله أن ينفع بها .
 
بارك الله فيك يا أبا بيان علي هذا البيان
 
يستنتج من سياق الآيات التي ورد فيها لفظ التدبر في ا لقرآن ومناسبتها لما قبلها ، وكلام العلماء في معنى التدبر ، ومعنى القرآن فيها ما يأتي :
1ـ أن الله تعالى ذكر تدبر القرآن بعد ذكره لحال المعرضين عنه ، وجعله علاجاً لهم يعيدهم إليه ، ويملأ قلوبهم إيماناً ويقيناً ، والتدبر الذي هذا أثره أوسع من معرفة المعنى فقط ؛ فهو يتعدى معرفة المعنى إلى معرفة الحق والصدق في ذلك المعنى بموازنته بما يخبر عنه وصدقه فيه، وفي تناسقه فيما بينه وفي ألفاظه ، وفي كل ما يؤخذ منه ويدل على مصدرية هذا القرآن وكمال المتحدث به وما يستحقه من الكمال .
2ـ في تفسير العلماء وكلامهم في لفظ التدبر في الآية ، وتفسيرهم للقرآن في الآية بالمواعظ والحجج ما يدل على أنه يدخل في معنى التدبر بكماله الاتعاظ ومعرفة الدلائل وفهمهما .
وتحتوي هذه الأقوال على ثلاثة أنواع من النظر يشملها معنى التدبر :
أحدها : التفكر وهو النظر في الأمر مطلقاً .
والثاني : النظر في العواقب.
والثالث : النظر فيما يخفى من الأمور .
وهي من المعاني التي سبق ذكرها عند تفسير الآية السابقة .
المبحث الثاني : مفهوم تدبر القرآن ومنهجه في ضوء الدراسة التحليلية لآياته .
المطلب الأول : مفهوم تدبر القرآن في ضوء الدراسة التحليلية لآياته.
أولاً : أنواع الأعمال التي يتضمنها مفهوم التدبر
من خلال الآيات السابقة وتفسير العلماء لها يلاحظ أن التدبر ، وإن كان أصله النظر في دبر الأمر إلا أنه عملية مركبة تحوي الكثير من الأعمال إما من خلال معناه الأصلي وإما من خلال ما يتضمنه ذلك المعنى أو يستلزمه أو يقتضيه من أعمال أخرى : ومن تلك الأعمال :
1ـ النظر والتفكر والتأمل بمختلف درجاته وأنواعه .
2ـ التركيز . فإن النظر الذي يبحث عن النتائج والمآلات ويلاحظ العواقب . لابد أن يتضمن التركيز.
3ـ تكرار النظر وإمعانه والاستمرار فيه . يفهم ذلك من أن التدبر يتضمن نظراً في عواقب الأمور التي قد تكون خفايا لم تظهر بعد وتحتاج إلى تنبؤ بناء على دراسة سوابقها ومباديها وأجزائها . والأمور التي تلك طبيعتها تكون أحياناً سوانح وأفكاراً تومض وتذهب فتحتاج إلى العود إليها وتكرار النظر فيها واختبارها وتمحيصها لمعرفة صحتها وخطئها . وكل ذلك يستلزم التكرار وطول المدة .
4ـ الموازنة ولها مجالات :
أ.الموازنة بين المعاني في الكلمة أو الجملة الواحدة .
وذلك لأن من مفهوم تدبر القرآن النظر في معنى اللفظ وما يؤول إليه من معان وذلك يستلزم الموازنة بين المعاني المتعددة في النص ، سواء كانت لغوية ، أو مأخوذة بقرائن السياق والحال . ومن ثم حمل اللفظ على جميع المعاني اللائقة به ، مع الترتيب بينها حسب نوعية دلالة النص . فما يدل عليه اللفظ بالمطابقة ـ إن كان مراداً ، يتقدم في الأولوية على ما يؤخذ من قرائن السياق ، وقرائن الحال، وما يؤخذ من قرائن السياق والحال ، مقدم على ما يشير إليه اللفظ من باب الإشارة . وهكذا . ..
ب .الموازنة بين المعاني في القرآن .
وذلك لأن من مفهوم التدبر نفي الاختلاف بين معاني القرآن وإثبات التناسب والتناسق فيما بينها ، وهو التشابه الكلي . قال تعالى : ﴿الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله..﴾ الزمر[23]
وذلك لا يتأتى إلا بالموزانة بين المعنى المستفاد ومعاني القرآن عموماً ومعاني الموضوع التي تتحدث فيه الآية خصوصاً لاكتشاف التناسق والتناسب ، في الموضوع أو في الأسلوب.
ج.الموازنة بين المعاني ومآلاتها في الواقع .
وذلك لأن من مفهوم التدبر اكتشاف مطابقة الخبر القرآني لواقعه ، وذلك يستدعي الموازنة بين المعاني القرآنية وما تتحدث عنه في الواقع لاكتشاف تلك المطابقة وعدم الاختلاف .
5ـ الاستنتاج :
فبما أن من مفهوم التدبر في القرآن إدراك التناسق وعدم الاختلاف ، فإن استنتاج النتائج المترتبة على الموازنة بين المعاني وما تخبر عنه وكشفها يعد من الأعمال التي تدخل في التدبر .
ثانياً : أنواع النظر التي يتضمنها مفهوم التدبر عموماً :
1ـ النظر في أدبار الأمور وعواقبها .
2ـ النظر في بداية الأمر وأجزائه وسوابقه .
3ـ النظر المستغرق للحدث أو الأمر في رحلته من أوله إلى منتهاه .
4ـ النظر في خفيات الأمور.
5ـ مطلق النظر والتفكر .
6ـ إمعان النظر والاستمرار فيه وتكراره .
ثالثاً : أنواع النظر في القرآن التي يتضمنها مفهوم التدبر في ضوء الدراسة التحليلية لآياته
القرآن الكريم : معان في قوالب ، أو شكل ومضمون ، أو معان مصاغة في ألفاظ وتراكيب بأساليب معينة :
والتدبر فيه يدخل فيه أنواع النظر الآتية :
الأول:النظر في دلالة النص على معناه، أو النظر لمعرفة معنى النص مفرداً أو مركبا.
والهدف من ذلك النظر معرفة المعاني الآتية :
1ـ المعنى اللغوي للفظ.
2ـ المعنى السياقي للنص ، وقد يختلف عن المعنى اللغوي ، وقد لا يختلف.
3ـ المعنى الأسلوبي للنص الذي يؤديه نوع ا لأسلوب من تقديم أو تأخير ، أو حذف أو ذكر ، أو تعريف وتنكير ، ونحوه .
وهذا النظر يدخل تحت التدبر من جهة أن التدبر يطلق على مطلق النظر في الأمر.
الثاني : النظر في علاقة هذه المعاني بباقي معاني القرآن . والمقصود به : النظر في المعنى بالموازنة مع غيره من معاني القرآن لمعرفة التماثل والتناسب والتناسق بينها.
الثالث : النظر في المعنى بالموازنة مع ما يخبر عنه من سنن الله تعالى لمعرفة التطابق بينه وبينها . ويمكن تسميته : النظر في المعنى بالموازنة مع الواقع ومدى مطابقته له .
وهذان النوعان يدخلان في معنى التدبر من جهة أن التدبر نظر في الأدبار والعواقب.
وتوضيح ذلك أن عاقبة معنى الآية وما يؤول إليه ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : بالنسبة إلى المعاني الأخرى في المواضع الأخرى من حيث التناسب ونحوه .
القسم الثاني : بالنسبة إلى ما يخبر عنه إن كان خبراً من حيث المطابقة وعدمها .
الرابع : النظر في قوالب المعاني «الألفاظ والتراكيب والأساليب» من جهة فصاحتها وبلاغتها في أنفسها.
الخامس : النظر لها بالنسبة لأمثالها من ألفاظ القرآن وتراكيبه وأساليبه من حيث التناسب وعدمه .
المطلب الثاني : منهج التدبر في ضوء الدراسة التحليلية لآياته :
أولاً : معالم من منهج التدبر في ضوء مفهومه في القرآن.
1 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : الدراسة العميقة لظروف نزول الآية البيئية واستنباط المقاصد والأهداف التي نزلت لتحقيقيها .
2 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : دراسة مناسبة الآية لما قبلها وما بعدها واستنتاج الوظيفة التي تقوم بها في سياقها .
3 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : الدراسة العميقة للمفردة القرآنية في الآية ومعرفة الأصل اللغوي لها والمعاني التي وردت لها في لغة العرب وملاحظة تطورها ، ومن ثم الموازنة بين تلك المعاني وألفاظ السلف في تفسيرها ، ومعرفة علاقة كل ذلك بالمقصد والهدف الذي جاءت من أجله في سياقها.
4 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : دراسة تركيب الجملة أو الآية وموازنته مع معناها المقصود المتبادر ، وتوجيه ما يحتاج إلى توجيه ، من تراكيب قد تفهم على غير معناها المقصود .
5 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : العناية بأساليب القرآن التي سيقت تلك المعاني من خلالها ، ودراستها بعناية ، ومعرفة ما تدل عليه من المعاني ، وفرز تلك المعاني والأغراض التي جاءت لها هذه الأساليب ، ومن ثم موازنتها بما يتم التوصل إليه من معاني اللفظ أو التركيب ، ورصد المعاني الجديدة في تلك الأساليب ، وعدم إغفالها في فوائد الآيات .
6 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : العناية بأساليب القرآن وبيان ما تدل عليه من إعجاز بياني ، وما يدل عليه ذلك من أن القرآن من عند الله .
7 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : دراسة القرائن السياقية التي صحبت المفردة أو الجملة محل التفسير ، ومعرفة المعاني التي تدل عليه تلك القرائن ، والموازنة بين تلك المعاني والمعاني التي تدل عليها اللفظة أو الجملة أو الآية المقصودة بالتفسير ، والتنبيه على تعدد المعاني عند وجودة ، والإشارة إلى الموقف من تلك المعاني جميعاً.
8 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : فهم المعنى العام المقصود بالجملة أو الآية بدقة .
9 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : البحث والتنقيب في القرآن عن كل ما يناظر الجملة أو الآية المقصودة بالتفسير ومعرفة معناها بالتدبر الصحيح له ، ومن ثم الموازنة بينه وبين معنى الآية الأخرى ، وبيان العلاقات التي تحكمها بالتطابق أو التكامل أو التعدد .
10 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : الموازنة بين معاني القرآن وحقائقها الواقعية التي تتحدث عنها ، وبيان صدق القرآن فيما يخبر به من خبر ، ودلالة ذلك على أنه مصدريته ووجوب الإيمان به .
11 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : بيان الآثار الإيجابية لمعاني القرآن العقدية والتشريعية والأخلاقية ، في حياة الإنسان ، ومعالجتها لما يعترضه من مشاكل ، وبيان دلالة ذلك على مصدرية القرآن ووجوب الخضوع لأحكامه .
12 ـ من منهج التدبر الذي يشير إليه مفهومه في القرآن : جمع آيات الموضوع الواحد ودراستها دراسة دقيقة بمنهج التدبر واستنباط المعاني والعبر واللطائف التي قد لا تعرف إلا من جمع آيات الموضوع الواحد والموازنة بينها ، وبيان الأحكام التي يدل عليها جمع تلك النظائر في موضوعات الآيات التي قد لا تكون مذكور بالنص ، وبيان التناسق بين معانيه ، وبيان دلالة على ذلك مصدرية القرآن .
ثانياً : حكم التدبر من خلال مفهومه في القرآن الكريم
التدبر مادام يقصد به مجرد النظر سواء كان في عموم الأمر أو دبره يعتبر وسيلة لغاية أعظم ، وإن كان هو غاية لنزول القرآن .
فقد سبق في الآية الأولى من آيات التدبر أنهم أمروا بالتدبر لإزالة شكهم في مصدر القرآن واعتقادهم أنه  متخرص ـ حاشاه عن ذلك .
وجاء في الآية الثانية أنه  ذكر التدبر بعد ذكر صفاتهم وكفرهم بالله تعالى ليبين أن عدم تدبر القرآن هو سبب كفرهم بالله  . ليرشدهم من جهة أخرى إلى أنهم مدعوون للتدبر للتخلص من تلك الصفات المشينة وذلك الكفر .
وكذا الآية الرابعة فقد جاء استنكار عدم تدبر المنافقين للقرآن بعد ذكر صفاتهم المشينة داعياً لهم إلى ما ينقلهم من نفاقهم إلى الإيمان وعدم الشك وهو تدبر القرآن .
ولما كانت الآية الثالثة فيها ما قد يفهم أن التدبر الذي يعني التفكر والنظر في الأمر وعواقبه في قوله  ليدبروا آياته غاية قصوى أتبعها بقوله :  وليذكر أولوا لألباب  . ليعلم أن التدبر وإن كان غاية لنزول الكتاب إلا أنه وسيلة لغاية أعظم وهي الإيمان .
كل ذلك يدل على أن التدبر وسيلة وأن الهدف منه ما جاء ظاهراً في أكثر آيات التدبر السابقة وهو الإيمان والاتباع وتصديق الرسول  واليقين بأن القرآن من عند الله .
ومن هنا فإن الواجب من التدبر ما يحصل به هدفه من الإيمان بالله  والتصديق بكتابه واتباع رسوله  .
فإذا تحقق ذلك الهدف بالنظر في مدلول ألفاظ القرآن على معانيه فقط تعيّن ذلك ، لتحقيق اليقين ، وما سواه يصبح زائداً على القدر الواجب.
وإذا لم يتحقق ذلك الهدف إلا بالأنواع الأخرى من النظر التي تدخل تحت معنى التدبر ، تعيّن منها ما يحصل به اليقين .
ثالثاً : منهج التفسير على ضوء مفهوم التدبر في القرآن
المقصود بمنهج التفسير : الطريقة التي يجب أن تُسلك في تناول تفسير القرآن من حيث الأسلوب ، ومن حيث القضايا التي يتناولها كل أسلوب .
من المعلوم أن التفسير ينقسم من حيث الأسلوب إجمالاً إلى التفسير التحليلي والتفسير الموضوعي .
ولكن لا زال الحديث والجدل بين الباحثين في المنهج الذي يجب أن يتناوله كل نوع من النوعين :
فلا زال الجدل دائراً في طريقة التفسير الموضوعي الشائعة هل هي موافقة للمنهج الحق في التعامل مع كتاب الله .
ففي الوقت الذي يرى فيه بعض الباحثين أن هذه الطريقة هي مفتاح الاستفادة من القرآن في العصر الحاضر ، وأنها تساعد على استخراج كنوز القرآن ، وتأصيل العلوم من خلاله .
يرى آخرون أنها تتضمن كثيراً من الاستطراد وتحشر في تفسير القرآن ما ليس منه الحديث عن موضوعات عقدية أو فقهية أو أخلاقية .
وقريب من الجدل الدائر في منهج التفسير الموضوعي يدور الجدل في منهج التفسير التحليلي من حيث القضايا التي يجب أن يتناولها وما الضابط في ذلك .
فحين يرى بعض الباحثين أنه ينبغي أن يتناول التفسير التحليل كل ما له علاقة بالآية من قريب أو بعيد ، ومن ذلك الفوائد البلاغية ، والموضوعية عقيدة وعبادة وأخلاقاً ، وما تشير إليه الآية من العلوم المعاصرة ، وهذا هو منهج المؤلفين في التفسير غالباً .
يرى آخرون أن التفسير يجب أن يتناول اللفظ القرآني وكل ماله علاقة به ، ويركز بحثه على تلك اللفظ في معناها اللغوي ، والأثري ، وينبغي أن يجتنب تناول العلوم الأخرى التي هي من علوم القرآن أو ا لنحو أو البلاغة أو العقيدة أو العبادة ، أو العلوم التجريبية ، وإن أشارت إليها الآيات ؛ لأن ذلك يخرج عن مفهوم التفسير الذي يراد به الكشف والبيان فقط .
ودراسة مسألة التدبر في ضوء ا لقرآن تبيّن أن العباد كلفوا بتدبر القرآن ، فالآيات التي تحدثت عن علاقتهم بالقرآن لم تأت بلفظ التفسير ، وإنما جاءت بلفظ التدبر ، وعليه فإن التدبر وما يدخل تحته هو المعيار .
ومن هنا جاءت دراسة مفهوم تدبر القرآن من خلال آياته .
والذي يحدد منهج التفسير من حيث الأسلوب ، ومن حيث السعة والضيق من خلال دراسة مفهوم التدبر في القرآن أمران :
أحدهما : الهدف من التدبر الذي أشارت إليه آياته وسبق قريباً .
الثاني : مفهوم التدبر في موارده ، والذي يجمع بين معناه اللغوي ، ومعانيه التي تؤخذ من السياق .
وعليه يمكن القول : إنه إذا كان المقصود بالتفسير مخاطبة المؤمنين بالله تعالى الموقنين به ، تعين منه ما يفهمون به المعنى العام للقرآن الكريم ؛ ليطبقوه ويعملوا به . وما زاد على ذلك ليس بواجب .
وإذا كان المقصود بالتفسير مخاطبة غير المؤمنين الذي ينكرون مصدرية القرآن ، ويطعنون في نبوة محمد  تعيّنَ من التفسير ما يتضمن النظر في الأنواع الأخرى التي تدل على تناسق القرآن وإعجازه وأنه من عند الله تعالى حتماً ، ليكون ذلك ركيزة للتصديق به والإيمان بالرسالة . والله أعلم .
وبين ذلك مراتب كثيرة يحددها واقع الحال.
وبهذا هذا المعيار ـ أيضاً ـ يحكم على التفاسير الموجودة . ويحكم على ما تحتويه من معلومات .
فإذا توفرت في المعلومات التي يتضمنها التفسير شرطان :
إحداهما : دخولها تحت نوع من أنواع النظر التي يشملها التدبر.
ثانيهما : كونها تصب في هدف التدبر . وهو تحقيق الإيمان .
فإنها حينئذ تكون مما طلب من المؤمنين في تعاملهم مع كتاب ربهم وجوباً أو استحباباً حسب درجة الطلب.
وإذا اختل شرط من هذين الشرطين فلم يتوفر في المعلومة ، لم تدخل تحت مفهوم التدبر .
فينظر فإما أن تكون وسيلة للوصول إليه كالبحث في التراكيب وتوجيهها والكلمات وأسرار التعبير بها ونحو ذلك .
أو تكون من الزيادات في كتب التفسير . والله أعلم.
 
جزاك الله خيراً أبا عائش على الإفادة
ولكن هل ما ذكرته بحثاً أو جزءاً من رسالة ؟
 
جزاكم الله خيراً أيها الكرام

وبعد زمن وتأمل , وبينما كنت أقلب جوانب الموضوع مرَّةً أخرى , تبادر لي سؤال ذو أثرٍ ظاهرٍ في الموضوع , وهو :
هل يمكن حصول أثر التدبر وغايته من غير تفسير أو استنباط ؟

والجواب على هذا السؤال سيغير أركاناً مهمة في البحث السابق , فسيتحرر على أثره تعريف التدبر , وموضوعه , وشروطه , ولست أحفل بمقدار ما سيتغير من الموضوع , إن كانت عاقبته الظفر بالحق , ونجاح الاجتهاد .

وخلاصة الجواب فيما أرى :
أن الله تعالى أمر جميع خلقه بتدير القرآن كما أسلفنا في عرض آيات التدبر السابقة , والأمر بالتدبر وقع على جميع آيات القرآن الكريم كما هو ظاهر كذلك , ولم يوجب الله تعالى معرفة معاني جميع القرآن الكريم (تفسيراً أو استنباطاً) على أحدٍ من الخلق فضلاً عن جميعهم .
ومن ثَمَّ يقال :
لا يشترط لتدبر الآية العلم بمعانيها التفسيرية أو الاستنباطية .

كما نرجع على مفهوم التدبر السابق بيانه بالتحرير , فيكون معناه :
التأمل في الآيات القرآنية بقصد معرفة الحق فيها , والانتفاع به علماً وعملاً .
وهذا التعميم والتوسع في التعريف يطابق التعميم الوارد في الآيات من جهتي : من يَتَدبر ؟ وماذا يُتَدبر ؟ (المخَاطَبُ بالتدبر , وموضوعه) , ويطابق الواقع المشاهد من أحول المتدبرين .

ثم يتحرر كذلك موضوع التدبر , فيكون : الآيات القرآنية . هكذا بلا تقييد .

وبمثل هذا البيان تنعم الأمة بل العالم بأسره بأبواب من التيسير في دعوتها إلى تدبر كتاب ربها , والتأثر والعمل به .

وليس هذا بنهاية الحديث في هذا الباب الجليل , وإنما أرفعه أخرى لمقام إخواني النبهاء ؛ لينال حظه منهم تفسيراً أو استنباطاً أو تدبراً .
والله الموفق للصواب , وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
 
أضيف إلى ما ذكره الإخوة الأفاضل ما تفضل به الدكتور حسام النعيمي في برنامج لمسات بيانية حول الآيات التي ذكر فيها التدبر في القرآن عسى الله تعالى أن ينفع بها

آداب تناول الآيات في القرآن الكريم
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) محمد)

يعيش الانسان مع القرآن ليتلذذ بما فيه من الآيات. وفي هذه الحلقة سوف نقف إن شاء الله عند قوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب أقفالها) وتدبر القرآن وقراءته لها مراتب للتدبر فيمكن أن يقرأ الانسان القرآن في يومين أو شهر أو يكون له ختمتين في شهر وكان من السلف الصالح من له ختمتان واحدة يقرأها بتأمل يسير وختمة تستغرق أعواماً يتأمل كل حرف وكل كلمة في كتاب الله وبين هاتين المرتبتين درجات أدناها أن يحضر الانسان ذهنه وهو يقرأ آيات الله تعالى. إذن أولى مراتب التدبر هو حضور الذهن عند قراءة القرآن وليس هناك أدنى منها مرتبة وهؤلاء الذين قال فيهم r يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم لأنه مجرد قراءة باللسان. بعد هذه المرتبة تأتي مرتبة التفكير بالمعنى وهي أعلى من السابقة ثم تليها مرتبة التأمل في المعاني بحيث يتوقف عند آيات النعيم فيدعو الله تعالى أن يجعله من المنعمين ويتوقف عند آيات العذاب فيدعو الله أن يجنبه العذاب وهكذا كان r يقرأ القرآن في الصلاة . وهناك مرتبة أعلى من هذه وهي مبنية على سابقتها وهي أن ينظر القارئ في الاستعمالات القرآنية ويعيش في الجو الذي عاش فيه العربي الأول عندما كان يسمع القرآن فيهتزّ وفي رواية أن الأصمعي كان عنجه دنانير من ذهب وكان يريد الخروج للحج فأراد أن يخبئ الدنانير عند أحد من اصحابه حتى يعود فتأخر في ذلك وقبل خروجه للحج ذهب لصاحبه فوجد أنه خارج للحج ايضاً فاحتار أين يخبء دنانيره ثم قرر أن يأخذه معه في سفره وفي الطرق خرج على القافلة لصوص وجاء الأصمعي شيخ اللصوص فأكره بإخراج ما معه من مال فأخرج الأصمعي دنانيره وقال سبحان الله هذا رزقه وتلا قوله تعالى (وفي السماء رزقكم وما توعدون) فقال اللص رزقنا في السماء ونحن نطلبه في خِسّة على الأرض أعيدوا ماله فأعادوا المال الى الأصمعي. وفي الطواف التفت الأصمعي فوجد شيخ اللصوص بجانبه فطلب منه اللص أن يعيد عليه الآية فقرأ الأصمعي (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) الذاريات) فانتفض السارق وقال ما الذي أغضب الجليل فجعله يُقسم؟ من هذه القصة يتبين لنا أن العرب كانوا يفهمون ويتلذذون بالعبارة وكانوا إذا أراد أحدهم أن لا يؤمن يضع أصابعه في أذنيه حتى لا يسمع لأنه يعلم أن هذا الكلام ليس كلام بشر ونحن علينا أن نتلمس مواطن الجمال والبيان وإذا أشكل علينا شيء نسأل ولا نتردد فالقرآن حاكم على اللغة وليست اللغة هي الحاكمة على القرآن.
استعمال كلمة تدبر في القرآن الكريم:
وردت هذه الكلمة في أربع مواضع في القرآن الكريم في أربع آيات هي :
((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) محمد))
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) النساء)
(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) المؤمنون)
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) ص)
ويسأل القارئ عن هذا الاختلاف فلماذا استعمل فعل يتدبرون مرتين واستعمل يدّبروا مرتين؟ (يدّبروا) اصلها يتدبروا لكن التاء سُكّنت فالتقت مع الدال فأُدغمت فيها فصارت يدّبروا. عادة ينظر في السياق ولا يجب أن تؤخذ الكلمة بدون سياقها لأن كلام الله تعالى مترابط فهو نزل الى السماء الدنيا جملة واحدة ثم نزل منجماً.
نبدأ باستعراض كل آية في سياقها ونبدأ بالآية في سورة محمد ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) محمد)):
إذا تلونا ما قبلها من قوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)) الكلام في الآية عن المنافقين الذين ينظرون نظر المغشي عليه من الموت لمجرد أن قيل لهم أن هناك جهاد ومن شفافية القرآن ولمسه لقلوب الناس أنه يصف المنافقين بأوصاف غير حميدة لا يحبونها فلا يواجههم وإنما يتكلم بصورة الغائب (هم) ثم ينتقل مباشرة لهم فيقوله تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)) هذه لمسة حنان لعدم قطع الأرحام والعربي حريص عليها ثم قال تعالى (اولئك) لم يقل أنتم المنافقون لأن الكلام ليس فيه إهانة لهم (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)) ثم قال تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)) الكلام عنهم ولكنه تعالى استعمل ضمير الغائب حتى لا يُثيرهم وهذا نوع من أنواع التربية فلا يجوز للمسلم أن يقول هذا كافر وهذا كافر لأن المسلم كالطبيب يجب عليه أن يعالج. جعلها تعالى غائباً لكنهم منافقون فجاء الفعل كاملاً (يتدبرون) لأنهم أي المنافقون بحاجة ليعيدوا النظر مرة بعد مرة في القرآن وهم نافقوا بعد أن سمعوا القرآن مرة بعد مرة ولهذا هم بحاجة للتكرار وللنظر في الآية دُبًر الآية ومعنى يتدبرون أن ينظرون في كل آية وما بعدها ثم ذكر تعالى في الآية كلمة القرآن ولمّا ذكر القرآن كاملاً لم يقل آية أو آيات ولما كان الكلام عن القرآن كاملاً جاء بالفعل كاملاً (يتدبرون). واستعمل التنكير (أم على قلوب أقفالها) كما كان r يقول (ما بال أقوام) حتى لا يسمي شخصاً بعينه. قال تعالى قلوب وهي نكرة وأقفالها نكرة. ثم قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)) هؤلاء منافقون سمعوا القرآن ولهذا يريدهم القرآن أن يعيدوا النظر في القرآن آية دبر آية.
الآية الثانية في سورة النساء (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) النساء):
إذا تتبعنا الآيات في السورة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)) تكلمت الآيات عن المنافقين يقولون نطيعك طاعة ثم خاطب تعالى رسوله أن هؤلاء منافقون فأعرض عنهم وتوكل على الله ثم جاءت الآية (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)) وكأن فيه عتاب لهم (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) فالله تعالى في هذه الآيات يكلّم رسوله r عن المنافقين فهي دعوة غير مباشرة لهم أولئك الذين سمعوا كلام الله ثم أعرضوا عنه وجاءوا الرسول r فقالوا له نطيعك ثم بيّتوا أمراً آخر فهؤلاء مدعوون ليتدبروا القرآن فجاء الفعل كاملاً (يتدبرون).
الآية الثالثة في سورة المؤمنون (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) المؤمنون):
إذا استعرضنا الآيات من قوله تعالى (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)) الآيات تتكلم عن الكفار الذين لم يعلنوا اسلامهم وكانوا ينكصون وكانت تتلى عليهم آيات (لم يقل القرآن) ثم يخاطبهم تعالى في قوله (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)) لم يذكر كلمة القرآن في الآية وإنما قال (القول) وقد يكون القول كلمة أو آية أو بعض آية أو سورة أو القرآن كله ولمّا استعمل كلمة آيات والقول اجتزأ الفعل أيضاً (يدّبروا) وهذا الفعل حذفت منه النون لوجود الجازم (لم) ثم ألغى الحركة في الفعل الأصلي (يتدبر) سُكنت التاء والتقت بالدال فاُدغمت فيه وهذا فيه نوع من الشدّى لأن الدال مشددة والباء مشددة (يدّبّروا) فهناك تشديد في المطالبة ولو تأملوا أقل تأمل فجاء اللفظ مناسباً للطلب (المطلوب هو أن يتأملوا أقل تأمل).
الآية الرابعة في سورة ص (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) ص) :
إذا نظرنا في الآيات في السورة من قوله تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)) الكلام عن الكافرين وليس المنافقين وقد ذكرت الآيات الفريقان: الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين والمتقين والفُجّار. ثم قال تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)) ذكر الآيات وذكر كتاب ولم يذكر لفظ القرآن. والواو في (ليدبروا) تعود على الكافرين والمؤمنين لأنه ذكرهم جميعاً في الآيات: الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين والمتقين والفُجّار فالكل مطلوب منه أقلّ تدبّر. وقال تعالى (وليتذكر أولو الألباب) لم يقل ليذّكر لأن أولي الألباب هم الذين يتذكرون فجعلها خاصة بأولي الأباب ففصل (ليتذكر).
وفي الآيات دعوة لكل من ينظر في كتاب الله للتدبر. التأمل قد يكون في آية واحدة والتعقّل في آية واحدة أما التدبر فمعناه مواصلة التدبر في الآيات واحدة دُبُر الأخرى بدون توقف. وكل كلمة في القرآن الكريl مُرادة في مكانها. والتفكر في شيء هو النظر في ملكوت الله تعالى والتدبر هو تفكّر وتأمل في شيء متصل آية دُبُر آية.
 
عودة
أعلى