تدبر شامل لسورة "الكافرون"

إنضم
20/04/2003
المشاركات
567
مستوى التفاعل
24
النقاط
18
سمتان في هذه السورة ، باديتان للعيان ،ترفعان التركيب اللغوي فيها إلى تخوم الإعجاز.
السمة الأولى:
اقتصاد معجمي غريب...!
السمة الثانية:
السورة قصيرة جدا... ومع ذلك تجد فيها من التكراروتوسع التعبيروتنوع الأساليب ما يجعل هذا السؤال منتصبا:
كيف يجتمع في السورة ضيق المساحة وفسحة القول!

هذا بيان للسمة الأولى:
ليس في السورة إلا أربع مواد معجمية:
مادة (ع،ب،د)
مادة (د،ي،ن)
مادة (ك،ف،ر)
مادة (ق،و،ل)
أما باقي الكلمات فهي من صنف "المبنيات " - حروفا وأسماء – جامدات، لا يمكن أن تصاغ من مواد معجمية أو ترد إليها...
مادة (ع،ب،د) ترددت ثمان مرات وسط السورة..فيما جاءت مادة (ق،و،ل)ومادة (ك،ف،ر) مفردتين في المطلع، ومادة (د،ي،ن) مثناة في المقطع.
وإذا لاحظنا أن مادتين منها قد جاءتا في حيز الاستهلال ،أي قبل الدخول في المقصود، فإننا نخلص إلى أن مضمون السورة كله (أعني مقول القول) قد بني بلبنتين اثنتين لا غير (ع،ب،د) و (د،ي،ن).
هذا الاختزال المعجمي العجيب في السورة ستتضح قوته أكثر لوقارناها بسورة "الكوثر" – جارتها في المصحف المطهر، والأقصر في القرآن مطلقا- :
عدد آياتها ثلاث، أي نصف عدد آيات سورة الكافرون، وعدد كلماتها أقل بكثير من النصف - فلا خلاف بين العادين أن كلماتها 26 كلمة كما لا خلاف بينهم أن عدد كلمات الكوثر 10 كلمات - إلا أن موادها المعجمية سبعة!!
 
(وبمناسبة ذكر التجاور بين السورتين الكريمتين فقد يقال إن التجاور في الموضع إشارة إلى التجاور في الموضوع أيضا:
فههنا أمر واحد "اعبد ربك ولا تعبد سواه"
تكفلت "الكوثر" بإظهار الشق الأول من الأمرالموجب : صل لربك، وانحر.
وتكفلت "الكافرون" ببيان الشق الثاني السالب : لا أعبد ما تعبدون...)
 
السمة الثانية لها مظاهر :

أولا: الجمع بين التفصيل والإجمال:

جاء التفصيل في صميم السورة
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
ثم جاء الإجمال في الخاتمة في صورة فذلكة.
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
 
ثانيا الجمع بين النفي والإثبات:

ليس الجمع بين النفي والإثبات من وسائل التوكيد والتنويع ، وإنما ذكرتهما لأنهما في السورة يتواردان على محل واحد...فينشأ التوكيد من جراء ذلك، على اعتبار أن المعنى الواحد جاء مرتين: مرة منطوقا في صورة الإثبات ومرة مفهوما في صورة النفي...
ورد النفي أولا:
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
وجاء الإثبات في آخر السورة :
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
التساوق ملحوظ ، فقد اقترن التفصيل بالنفي واقترن الإجمال بالإثبات.
 
ثالثا :التنوع والتجانس.

لعل أول ما ينتبه إليه المستمع للسورة – سواء أكان هذا المستمع عربيا أم أعجميا، طفلا أم راشدا - هو ذلك التكرار الصوتي غيرالمعتاد ففي جمل أربع تكررت المادة المعجمية (ع.ب.د) ثمان مرات...لكن تحت تأثيرهذا الغطاء الصوتي المتجانس قد لا ينتبه إلى التنوع العجيب الحاصل في السبك والنظم...
تكررت مادة (ع.ب.د) مرتين في كل آية ،لأن كل آية هي جملة مركبة من إسنادين: إسناد أساس (أو أصلي) وإسناد فرعي (أو تابع) و (عبد) أو مشتقاتها هي دائما طرف في الإسنادين:
أَعْبُدُ/ تَعْبُدُونَ
عَابِدُونَ/ أَعْبُدُ
عَابِدٌ/ عَبَدْتُمْ
عَابِدُونَ/ أَعْبُدُ
ثم يأتي التنوع في الجملة الواحدة :
فعلان : أَعْبُدُ/ تَعْبُدُونَ
وصف وفعل : عَابِدٌ/ عَبَدْتُمْ مع تقديم المفرد على الجمع
وصف وفعل : عَابِدُونَ/ أَعْبُدُ مع تقديم الجمع على المفرد
ويستمر التنوع بين الجمل أيضا:
فلو قارنا جملة "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون" بتاليتها "وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ " وجدنا التنوع في نوع الجملة : جملة فعلية / جملة اسمية
وإذا قارنا الأولى بالثالثة وجدنا الاختلاف من جهة نوع الأفعال :المضارع / الماضي

سمة التنوع هذه مؤشريدفعنا إلى اعتبار الجملتين الثانية والرابعة (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) ليست من التكرار المحض، ونرجح مذهب المفسرين الذين قالوا إن صيغة اسم الفاعل (عابدون) تحتمل الدلالة على الحال وعلى الاستقبال فدلت على الحال في موضع وعلى الاستقبال في موضع ،فلا تكرار...وهذا أوفق بالقاعدة المشهورة الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التوكيد.
 
رابعا : تأكيد الانفصال وتعزيزها بالمفاصلة

(نعني بالمفاصلة القطيعة من الطرفين) وهو أسلوب مطرد خلال السورة كلها:

لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( اعلان الانفصال) ..... وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (تأكيد الانفصال بالمفاصلة)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ( انفصال) .......وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (مفاصلة)
لَكُمْ دِينُكُمْ( انفصال).. .....وَلِيَ دِينِ ( مفاصلة)
وقد نلحظ تغييرا في الترتيب، إذ بدأ بالمتكلم وثنى بالمخاطب، إلا عند مقطع السورة حيث عكس، فبدأ بما هو من شأن المخاطب "لكمْ دِينُكُمْ" ،وأخر ما هو من شأن المتكلم "ولي دين" ...
ولعل النكتة البلاغية في ذلك أن ابتداء المتكلم بنفسه هو الأصل، والحكم على النفس مقدم على غيرها...وجاء العدول عن هذه القاعدة لسر بلاغي له صلة بتناسب المطالع والمقاطع في التنزيل:
فأول ما يقرع السمع نفي الدين الباطل "لا أعبد ما تعبدون" وآخرما يعلق بالأذن إثبات الدين الحق"ولي دين"...ولك أن تقول جاءت التحلية الختامية صدى للتخلية الابتدائية...فتدبر..!
 
خامسا : تأكيد الانفصال طولا وعرضا.
لم تكتف السورة الكريمة بإظهار المفاصلة الأفقية بين الطرفين، بل عمدت إلى الإشارة إلى الامتداد العمودي لها:فإن للمفاصلة تحقيقا في الواقع كما أن لها تحقيقا ثانيا (طوليا) في القول. ولتوضيح ذلك يقال...إن هاهنا ثلاث مراتب :
- المفاصلة فعلا واقعا.
- المفاصلة قولا مخبراعن ذلك الفعل الواقع.
- المفاصلة قولا مخبراعن ذلك الفعل الواقع خطابا للكافرين حاضرين.
فقد تحدث المفاصلة ولا يخبرعنها بقول فهذه مرتبة،أو يخبر عنها بقول تقريري عام من قبيل "لا أعبد ما يعبدون" فهذه مرتبة،أويلقى القول في وجوه الكافرين بدون مجاملة في المقام ،أو مواربة في العبارة..بعد أن يكونوا قد نودوا واستحضروا فهذه أعلى المراتب ، وهي مختار التنزيل:
"قل يا أيها الكافرون.."
هذا خطاب العزة ..!
 
سادسا : المفاصلة في العبادة والمعبود معا

وهذه أجل وأعجب.....
أما أجل فلأنها مقصود السورة...وأما أعجب فلأن كلمة واحدة من حرفين دلت على الأمرين معا وفي وقت واحد...
الكلمة ذات الحرفين هي "ما" التي ترددت في السورة أربع مرات:
مَا تَعْبُدُونَ
مَا أَعْبُدُ
مَا عَبَدْتُمْ
مَا أَعْبُدُ
فإنك إن قدرتها (حرفا) فستكون مصدرية ، ينسبك منها ومن مدخولها مصدر مؤول يعرب مفعولا مطلقا بتقدير:" لا أعبد عبادتكم" ،"ولا أنتم عابدون عبادتي"،"ولا أنا عابد عبادتكم"....
ولما كان المصدر يدل على الحدث فحسب كانت المفاصلة هنا متمحضة في العبادة بقطع النظر عن المعبود....

وإن قدرت "ما" (اسما) فستكون موصولية معادلة ل"الذي" فتعرب مفعولا به (لا مفعولا مطلقا) بتقدير" لا أعبد الذي (أوالذين) تعبدون"، "ولا أنتم عابدون الذي أعبد..." فالمفاصلة في المعبود لا غير....
والأخذ بالتقديرين معا متعين لصحة كليهما:
فالله – عزشأنه- كان معبودا في جاهليتهم قطعا،وإنما أفسدوا عبادتهم بتوجيههم أقساطا منها لغير الله...فالقرآن لم يدعهم إلى "عبادة الله" بل إلى "عبادة الله وحده" - والقيد هنا من الأهمية بمكان...-
بل هم قد عبدوا الله وحده لكن في زمن الشدة فقط ، وفي حال الاضطرار فحسب، كما حكى القرآن عنهم في أكثر من موضع...
هذا،وقد أحدثوا في عبادتهم الله صنوفا من البدع كما في طوافهم وحجهم....
كل ذلك قضى بالانفصال عن عبادتهم حتى على فرض أنها لله...فالعبادة المرضية عند الله هي وحدها الخالصة ،الدائمة ،المبرأة من الرياء، الخالية من البدعة...
أما المفاصلة في المعبود –على تقدير اسمية "ما"- فهي شديدة الوضوح فلا (لات) ولا (عزى) ولا (مناة) ولا غيرها من تلك الأسماء ...
التقديران صحيحان معا...وإن كان لا بد من الترجيح فليرجح الأول لاعتبارخارجي مأخوذ من إرشاد النبي إلى قراءة السورتين الشقيقتين "الكافرون" و"الاخلاص" في الصلاة النافلة: ليتم الإعلان عن المفاصلة في "العبادة" عند الركعة الأولى ،وعن المفاصلة في "المعبود" عند الثانية، والله أعلم.
 
(قل) ياأيها الكافرون...

لنا استطراد حول هذه الآية نافع جدا، لأنه يكشف عن خاصية في القرآن لا توجد - قطعا - في أي كلام بشري .
"قل ياأيها الكافرون" هذه العبارة واضحة مقروءة (أي يتقبلها القارئ ) ، لكن لو وردت في غير القرآن لأصبحت لغوا غير مقروء!!
لماذا؟
لأن العبارة وحدت مستويين في الكلام لا يمكن أن يتحدا أبدا...
"قل" من مستوى التلفظ (énonciation)
"ياأيها الكافرون" من مستوى الملفوظ (énoncé)
تعمدت استعمال المصطلحين الأعجميين لأن الاصطلاح العربي غير منضبط وغير متحد فيقال (التلفظ /الملفوظية) أو (فعل الكلام/الكلام) (التنصيص/النص) (النطق/المنطوق) وقد يستحضر اصطلاح المعربين (القول/مقول القول) لكنه أخص قد لا يفي بالمراد ...
على كل فهم يعنون بمستوى التلفظ المتكلم والمخاطب وأحوالهما وما يتلبس بهما من ظروف ،وهذا المستوى تؤثثه علامات لغوية من قبيل الضمائر وأسماء الإشارة والظروف الزمانية والمكانية ...والضابط لها أن معناها لا يمكن أن يتحدد بدون رجوع إلى مكونات التلفظ وملابساته فالضمير "أنا" مثلا إذا استعمل في الملفوظ فيمكن تحديد معناه - وهو محايث للنص دائما - بمرجع سابق، ولكن "أنا" في التلفظ ليس له مرجع إلا الواقع، فمن لم يشهد واقع التلفظ استحال عليه معرفة مرجع الضمير، وكذلك ظرف "الآن" فهل يدل على الصبح أم الظهيرة أم قبل أذان المغرب بربع ساعة ، ليس هناك قاموس أو معجم أو محلل للنصوص يستطيع أن يفصل في الأمر إلا أن يكون شاهدا لملابسات التلفظ ، فإذا سمع القائل يأمر خادمه: "أحضر الكتاب الآن" فما عليه إلا أن يلقي نظرة على ساعة الجدار ليعرف زمنية "الآن"...
ليس قصدنا هنا التفصيل في بنيات التلفظ والملفوظ ،ولكن نريد فقط التمييز بينهما واعتبارهما مستقلين، وأن توحيدهما لا ينتج عنه إلا الهذيان...ونكتفي بمثال واحد لتفهيم بادي الرأي:

يقول الأب لابنه الصغير:
قل لأخيك أحمد: تعال بسرعة...
لا يمكن للطفل أن يبلغ الرسالة لأخيه على هذا النحو :" قل لأخيك أحمد: تعال بسرعة..." لا يبلغ الرسالة حرفيا أي كل ما تلفظ به أبوه . إنه على حداثة سنه يحلل النص ويميزبين مستوياته:
فهو يعلم بالجبلة، والسليقة، والعقل الفطري، أن عبارة "قل لأخيك أحمد" من مستوى التلفظ وأن عبارة" تعال بسرعة..." من مستوى الملفوظ..وله من البديهة ما يعلم به أنه مأمور بتبليغ الملفوظ لا التلفظ...فله طريقتان إما أن يكتفي بالملفوظ فيقول لأخيه:" تعال بسرعة..." أو يحول المستويين إلى مستوى واحد فيقول مثلا "إن أبي يدعوك أن تذهب إليه بسرعة".
أما الاختيار الثالث فلا يقترفه ذو عقل!
إذا تقرر هذا تجلت لنا خصوصية القرآن ..فقد تلقي الرسول من ربه: "قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون.." فكان القياس-بل الضرورة- يقتضي أن يكون التبليغ هكذا:" ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون" فيجب إسقاط " قل " ....لكن الرسول لم يفعل ذلك، أوهو مأمور ألا يفعل ذلك ، لمقصد عظيم هو إقامة الدليل الحسي القاطع على أنه لا دخل له في ما يوحى إليه وأنه بلغ ما أنزل إليه كما أنزل وأنه ممنوع من الاجتهاد في "مادة" القرآن ...فإن لم يغير ما يجب تغييره عند الناس جميعا فكيف يغير ما دون ذلك!
فثبتت "قل" الموجهة الى الرسول الأمين في الافتتاح (كما في سورالجن و الكافرون والإخلاص والمعوذتين ) وفي غير الافتتاح، وثبت بذلك أن القرآن الذي بلغ هو عينه القرآن الذي أنزل.
 
قل ( ياأيها الكافرون )
هذا النداء ثاني الندائين للقوم في التنزيل :
الأول خطاب مباشر بالاسم الموصول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التحريم : 7]
والثاني خطاب غير مباشر- بتوسط ( قل) – بالاسم الصريح وهو مفتتح السورة التي نحن بصددها...
وليس ثمة نداء ثالث .
كان من المتوقع أن يكون النداء بالاسم الموصول :(قل ياأيها الذين كفروا...) كما في آية التحريم لكن عدل عن الموصول إلى الصريح...فإن قلت كيف يصح الكلام عن العدول وليس في القرآن كله إلا الموضعان، والعدول لا يقال إلا عن قاعدة أو عادة؟ فإنا نقول القاعدة منتزعة من الخطاب الموازي فليس في القرآن كله نداء للمؤمنين إلا بالموصول" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " ولم يرد فيه مطلقا (ياأيها المؤمنون..)
فلم العدول إذن من الفعلية إلى الاسمية؟
ظهر لي – والله أعلم- أنه لو قيل (قل ياأيها الذين كفروا...) لأتت شائبة من الباطل إلى السورة : ذلك لأن الفعل عرض طارئ على الذات...فيكون للذات وجود ومقومات قبل طروء الفعل كما يتصور أيضا زوال الفعل مع بقاء معروضه...ونحن نعلم – من جهة أخرى - أنه لا توجد مرتبة وسيطة بين الكفر والإيمان كما في المذهب الحق:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن : 2]
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان : 3]
ووجود دارين للجزاء لا ثالث لهما (جنة ونارفقط..) دليل على وجود وصفين للمجازى كافر ومؤمن فقط...ودخول الكافر الجنة محال:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة : 72]
إذا تقرر هذا علمنا أن طروء فعل الكفر على المرء لا بد أن يكون مسبوقا بحالة إيمان مصداقا لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء".
وهذه الفطرة هي الإسلام...
فلو قال :(قل ياأيها الذين كفروا...) لما استقام معها قوله بعد ذلك : "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ" [الكافرون : 4] لأن الماضي في فعل "عبدتم" قد يمتد إلى ما قبل طروء الكفر ،وقد علمنا من الآيات ومن الحديث أصالة الإيمان وعدم خلو الإنسان من أحد الوصفين...فتكون في البراءة مطلقا شائبة باطل...فكان احتراس القرآن - الذي لا يأتيه الباطل من أي جهة كانت..- باستعمال صيغة الاسم (الكافرون) الخالية من الدلالة على الزمنية!
وسنزيد هذا المعنى بيانا إن شاء الله.
 
قل ياأيها (الكافرون)

بناء على ما سلف تكون (الكافرون) قد تجاوزت الوصفية وتمحضت للاسمية، وما ذهب إليه ابن مالك من اعتبارأسماء الفاعلين وأسماء المفعولين والصفات المشبهة صفات محضة لم يرتضه جمهور النحاة : فصلة الموصول (الالف واللام )عندهم مدخولها فعل دائما ،فإن كان اسم فاعل مثلا فهو في الحقيقة فعل في صورة اسم ف(الكافرون) في قوة "ال كفروا "المبني للفاعل كما أن المغضوب عليهم في قوة "ال غُضب عليهم" المبني للمفعول..
ولما كان (الكافرون) اسما خالصا دالا على الثبوت فقد تعين أن تكون الالف واللام حرف تعريف لا اسما موصولا...ونرجح أن تكون جنسية للاستغراق لا عهدية... فالمفاصلة مع كل كافري الأرض إلى يوم القيامة ، لا مع كافرين بأعينهم ، كما زعم من جعل دلالة الكافرين رهينة بما ذكروه من سبب النزول...وخصصوها بمن سيموت كافرا منهم ...احترازا من الباطل الذي قد ينم عنه قوله تعالى" ولا أنتم عابدون ما أعبد" على اعتبار أن أفرادا ممن خوطبوا قد أسلموا ووافقوا الرسول في العبادة والمعبود...!!
فيكون في (الكافرون) - حسب زعمهم - تخصيص بعد تخصيص : هم ، أولا ، كفار قريش وهم ، ثانيا، من علم الله أنهم لن يؤمنوا منهم ، كل ذلك على سبيل الاحتراز..وسنرى أنه لا داعي للاحتراز ...
 
قل ياأيها (الكافرون)

أشرنا من قبل إلى أن القرآن لم يناد المؤمنين إلا بصيغة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " ولم يرد فيه مطلقا (ياأيها المؤمنون..) وسنحاول تبيان الفرق بين المستعمل وغير المستعمل ،ليكون لنا ذلك دليلا على بيان سر النداء في سورة الكافرون.

في الأثر أنَّ رجلًا أتى عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ فقالَ : اعهَد إليَّ . فقالَ : إذا سمِعتَ اللَّهَ يقولُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعِها سمعَكَ ، فإنَّهُ خيرٌ يأمرُ بِهِ أو شرٌّ ينهَى عنهُ.
معنى هذا أن النداء " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " تعقبه دعوة إلى استكمال الإيمان بتنفيذ محتوى الخطاب فعلا أو كفا عن فعل...فتكون صيغة النداء الفعلية تشير إلى العقد القانوني بين المؤمن وربه والذي بموجبه يتأهب المرء دائما لتنفيذ كل الأوامر والنواهي...فكأن تقدير الخطاب ( يامن أخذتم على أنفسكم العهد افعلوا هذا وكفوا عن فعل ذاك...فإن لم تفعلوا فقد يكون ذلك خرقا للعقد نفسه..)
بل إن صيغة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..) قد تكون أحيانا مجرد عنوان لمستقبل الرسالة، ويكون الإيمان هو ما تضمنته تلك الرسالة نفسها:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء : 136]

ومن البين أنه لا يمكن أن يقال ( يَا أَيُّهَا المؤمنون آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ.... ..) لما فيه من لغو وتحصيل حاصل ،أو على اعتبار كلمة " المؤمنون" واردة تحت علامة التنصيص على تقديرالذين سموا أنفسهم مؤمنين وهذا غير مراد قطعا.
اسمية " الكافرون" دالة على ماهية ثابتة ليس الزمن من مكوناتها ،والحكم عليهم باعتبار هذه الماهية ثابت بثبوت تلك الماهية ، فإن آمنوا بعد فقد انعدمت الماهية السابقة وتحققت ماهية أخرى أي ذوات أخرى، وإن الذين احترزوا قد توهموا أمرا غير معقول: توهموا أن الماهية مثل لباس يلبس ويخلع ليعوض بآخر، والحال أن الماهية هي الذات نفسها فكأنهم تصوروا الذات تتجرد من نفسها وتبقى قائمة مع ذلك!!! فبنوا على ذلك أن بعض الكافرين سيكونون مؤمنين غدا فلا يشملهم الخطاب اليوم ... (جعلوا الكفر مجرد فعل أو وصف بينما هو اسم ...).فعلى اعتبارهم لو قيل – مثلا- " ترفقوا بالصبيان" لما وجد من يُترفق به، فما من صبي إلا سيكبر ويكون شابا وكهلا ومن ثم لن يكون داخلا في مسمى الصبيان عندئذ...وهذا بادي البطلان كما ترى!
والصواب أن السورة الكريمة دعوة إلى الانفصال عن كل كافر فمن ثبت له الاسم ثبت له الحكم، بقطع النظرعن الماضي أوالحاضرأوالمستقبل : لا نعبد ما يعبدون اليوم باعتبارهم كافرين ، ولا نعبد ما عبدوا باعتبارهم كافرين ، ولا نعبد ما سيعبدون باعتبارهم كافرين...
وقد ذهب العلامة ابن تيمية إلى هذا المعنى ( بل وصف من حمل الكافرين على معينين بأنه قول من لا يعتمد عليه... ) وله في ذلك استدلال غير مباشر سنقف عليه بعد حين..
 
يرى ابن تيمية أن من جعل الخطاب لمعينين فقد نقصوا معنى السورة قال:
( وهذا غلط، فإن قوله : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، خطاب لكل كافر، وكان يقرأ بها في المدينة بعد موت أولئك المعينين، ويأمر بها ويقول : هي براءة من الشرك . فلو كانت خطابًا لأولئك المعينين، أو لمن علم منهم أنه يموت كافرًا، لم يخاطب بها من لم يعلم ذلك منه ...
وأيضًا، فأولئك المعينون ـ إن صح أنه إنما خاطبهم ـ فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر ...
والقول بأنه إنما خاطب بها معينين، قول لم يقله من يعتمد عليه . ولكن قد قال مقاتل ابن سليمان : إنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين . ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد . ونقل مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث، كنقل الكلبي ...
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا من المسلمين أن يقرأها، وأخبره أنها براءة من الشرك . فلو كان الخطاب لمن يموت على الشرك، كانت براءة من دين أولئك فقط، لم تكن براءة من الشرك الذي يسلم صاحبه فيما بعد . ومعلوم أن المقصود منها أن تكون براءة من كل شرك ـ اعتقادي وعملي)

نوضح من هذا المنقول عن شيخ الإسلام أمرين:
الأول : قوله ( وكان يقرأ بها في المدينة بعد موت أولئك المعينين)
النبي عليه السلام كان يقرأ كل القران وإنما جاء التنصيص على سورة الكافرون بخصوصها بالنظر إلى محتواها علما وعملا لا تبركا...فهو ينفذ الأمر الذي أنزلت به ،وعلى رأي من يقول بالخصوص والتعيين لا يكون الرسول في المرحلة المتأخرة من الدعوة يخاطب حيا ، فعندما يقول "ياأيها الكافرون " فالخطاب يتجه إلى من في القبور فقط ،لأن أولئك المعينين قد انقرضوا فعلا بعد الفتح ، فمنهم من آمن فلم يشملهم الخطاب ومنهم من قتل أو مات، فلا يعقل أن يداوم النبي على نداء من لا يسمع و الأرض من حوله تعج بالشرك والمشركين!
فتعين العموم.
الثاني: قوله ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا من المسلمين أن يقرأها، وأخبره أنها براءة من الشرك)
السورة براءة من الشرك عملا بما فيها من تأكيد المفاصلة بين الفريقين وليست " رقية" تنجي من الشرك بمجرد النطق بها أو كتابتها ...
ومعلوم أنها براءة من الشرك لكل فرد من أفراد الأمة إلى يوم القيامة وليست خاصة بالصحابي المأمور بقراءتها...
والشرك المقصود هو مطلق الشرك لا شرك أولئك المعينين الذين انقرضوا وانتهى أمرهم...
فتعين العموم من هذه الجهة أيضا.
 
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
يا ايها الكافرون
انا اصلا من قبل ومن بعد لا اعبد ما تعبدون
وانتم من قبل ومن بعد لا تعبدون ما اعبد
وعرضكم مردود اي لا و لن اعبد ماعبدتم ولن تعبدون ما اعبد بعرضكم ولن يغفر لكم ولا ليهديكم
والله اعلم
 
قل ياأيها (الكافرون)
ذهب بعض المفسرين إلى أن في الخطاب بعض غلظة، متوهمين أن المخاطبين يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر ...ولهم في التأويل مسلكان:
- من يرى في المقام علما من أعلام النبوة ، فالرسول وهو في زمن الاستضعاف يخاطب الكفار بما لا يرضون من الوصف، يستفزهم وهو في متناول أيديهم...فلا يفعل ذلك إلا وهو مطمئن إلى أنه يأوي إلى ركن شديد ، وأن ربه يعصمه من الناس.
- من يسلك مسلك الاعتذار وقد عبر الفخر الرازي عن ذلك بقوله:

" ثُمَّ كَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَدْعُوَ إِلَى اللَّهِ بِالْوَجْهِ الْأَحْسَنِ:
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْلِ: 125]
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ خَاطَبَهُمْ بيا أيها الْكَافِرُونَ فَكَانُوا يَقُولُونَ: كَيْفَ يَلِيقُ هَذَا التَّغْلِيظُ بِذَلِكَ الرِّفْقِ فَأَجَابَ بِأَنِّي مَأْمُورٌ بِهَذَا الْكَلَامِ لَا أَنِّي ذَكَرْتُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِي" .
وكرر الخازن المعنى ذاته في قوله:

" وقيل إن النّفوس تأبى سماع الكلام الغليظ الشّنيع من النّظير، ولا أشنع ولا أغلظ من المخاطبة بالكفر فكأنه صلّى الله عليه وسلّم قال ليس هذا من عندي إنما هو من عند الله عزّ وجلّ وقد أنزل الله عليّ قل يا أيها الكافرون...."
ما قاله المفسرون ليس ببعيد ، ولكن احتمال مغالطة اسقاط مجال تداولي على مجال تداولي آخر وارد...فوصف " الكافرين" في مجال تداولي إيماني من عظائم الأمور بلا شك، لكن هذا الوصف في مجال تداولي وثني قد لا يكون كذلك، بل قد يكون من المديح والثناء...ونستأنس بما ورد في التنزيل من شهادة الكافرين على أنفسهم بالكفربما لا ينفصل عن إيحاء بالفخر والاعتزاز:

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم : 9]
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ [القصص : 48]
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ : 34]
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [فصلت : 14]
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف : 24]
وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف : 30]

وإن الكافرين لعلى شاكلة واحدة وإن تعاقبت عليهم العصور!
وفي المقابل لا يكون وصف " المؤمنين" من المديح إذا أطلق في مجال تداولي إلحادي لا ديني...ففي أدبيات الملاحدة المعاصرين إذا قالوا " يعتقد المؤمنون" أو " يقول المؤمنون" فهم يقصدون السذج وأصحاب الخرافة والبعيدين عن العقل النقدي في زعمهم.
 
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون : 2]
ثلاث تقابلات:
تقابل التكلم والخطاب ،
تقابل النفي والإثبات ،
وتقابل الإفراد والجمع...
ولهذا الأخير دلالة وأي دلالة!
هي إشارة إلى قاعدة جليلة في التمييزبين الحق والباطل...فلا يعرفان إلا بالسبرالذاتي والفحص الداخلي ، ولا شأن لعدد الأتباع في الحكم والتقييم..فهاهنا فرد واحد لكنه على حق وفي مقابله جمع – بل العالم كله - وهم على باطل ، فاعتبروا يا أولي الأبصار! "
ولا بد من التنبيه هنا على خطإ في الاستدلال عند بعض الجماعات إذ يقولون : " نحن أقلية إذا نحن على حق". وهذا القول يضاهي في الباطل القول المخالف " نحن أكثرية إذا نحن على حق".فقد قلنا إن الحق يعرف من داخله فقط ولا يستدل عليه بكثرة أو قلة....وليس الصواب أن يقال " نحن أقلية إذا نحن على حق" بل الصواب أن يعكس ترتيب المقدمة والنتيجة فيقال " نحن على حق إذا نحن أقلية" استنادا إلى السنة الكونية التي قررت كثرة الباطل في هذه الحياة الدنيا:
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام : 116]
 
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.
عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله -صلي الله عليه وسلم - أكَثر من خمس وعشرين مرةً، أو أكثر من عشرين مرِة، قال عبد الرزاق: وأَنا أَشُك، يقرأ في ركعتي الفجر قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ .

كأن النبي عليه الصلاة والسلام يتحرى أن تكون قراءة السورتين في المنتهى والمبتدأ: في آخر الليل وأول النهار، فهذا احتفاء خاص بالسورتين، تأكيدا لما ورد عن فضل السورتين من أن( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) تعدل ربعه....
لكن ما يعنينا في المقام هو سر الاقتران :
نرى والله أعلم أن الجمع بين السورتين – مع حفظ الترتيب- إشارة إلى كلمة التوحيد نفسها بمعناها ومبناها...فسورة الكافرون المبنية على النفي بيان للشق النافي في الكلمة الطيبة (لا اله...) وسورة الإخلاص المبنية على الإثبات بيان للشق المثبت في الكلمة الطيبة (..... إلاالله) ومن ثم تقدم السورتان شعارعقيدة التوحيد ومنهجها: مسح الطاولة من كل المعبودات الباطلة والمفاصلة مع كل العابدين لها ، وهذا ما تكفلت ببيانه سورة الكافرون ، حتى إذا تمت التخلية مطلقا جاءت سورة الاخلاص لتعلن عن هوية المعبود الحق الأحد الصمد.
 
قال الفخر الرازي:
وَرُوِيَ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبْعَ الْقُرْآنِ،
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورَاتِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُلُوبِ وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ وَهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ فَتَكُونُ رُبْعًا لِلْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
و تعقبه الألوسي :
بأن العبادة أعم من القلبية والقالبية والأمر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقالبية، وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد أخرى كأحوال المبدأ والمعاد...

قلت :
وأورد المتعقب بعد ذلك وجوها هي ظاهرة التكلف والبطلان ، لأن مدارها على تكميم مقاصد القرآن لا تكميم أجر قراءة القرآن...

ولا شك أن مراد النبي هو الرفع من شأن السورة والحث على تلاوتها، وهذا المقصد النبوي لا يظهرمن خلال توجيه الرازي ، فكل آية اشتملت على تحريم فعل قلبي ستكون ربعا للقران ، أما إذا اشتملت مع ذلك على مقصد أخر فستكون نصفه أو أكثر، فلا يكون للسورة فضل على غيرها!
 
عودة
أعلى