د عبدالله الهتاري
New member
- إنضم
- 17/03/2006
- المشاركات
- 159
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
ملخص البحث:-
لقد جاء هذا البحث ليقف على صور التحولات التي تقع في صيغ الأفعال في السياق القرآني، وذلك بالتحول من الفعل الماضي إلى المضارع أو العكس، وكذلك التحول من الماضي إلى الأمر ومن الأمر إلى الماضي، وهكذا في السياق نفسه.
وهذه التحولات للأفعال في السياق القرآني الواحد لها أبعاد بلاغية، ومقاصد بيانية يعمد إليها النظم القرآني، وتكشف عن وجه من وجوه الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
و قد تتبع الباحث أشكال هذه التحولات في الأفعال كاشفا عن دلالات هذه التحولات ومحللا لهذه المواضع في الآيات القرآنية.
ولا يقف الباحث عند حدود التعليل النحوي فقط بل يتجاوزه إلى التعليل البلاغي والتحليل البياني، محاولا من خلال ذلك ربط التركيب بالمعنى والوقوف على دلالات أزمنة الأفعال من خلال السياق القرآني، وعدم الاقتصار على الدلالة الصرفية للأفعال خارج السياق.
وقد تكون البحث من مقدمة ومبحثين عرضت في المقدمة لأهمية الموضوع ودواعي دراسته، وفي المبحث الأول عرضت لصيغ الأفعال عند النحاة وفي المبحث الثاني تناولت صور التحولات في الأفعال كاشفا عن أثرها البلاغي في البيان القرآني.
مقدمة البحث:-
الحمد لله الذي علم الإنسان، وانزل كتابه للهداية والبيان، وأصلي وأسلم على خير رسله وأنبيائه، محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الأخيار، ومن سار على درب خطاهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين .
وبعد :-
فالقرآن الكريم كتاب الله الذي لاتنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء وكلما أمعن المتأملون النظر فيه والفكر وجدوا أنفسهم أمام بحر من المعاني لا ساحل له،
فمعانيه متجددة حية، تتجدد بتجدد الزمان والمكان، ومع كونه معجزة بيانية خالدة هو- مع ذلك- معجزة تشريعية ربانية، لذلك انصرفت إليه جهود علماء اللغة والبيان لمعرفة أساليبه وبلاغة بيانه، فهو كتاب العربية الأول والبيان الخالد.
والمقصود بتحولات الأفعال في السياق القرآني هو التحول الحاصل من إعادة ذكر الفعل على نسق مخالف لما سبق ذكره في السياق نفسه، وهذه الظاهرة من أبرز الظواهر الأسلوبية في التعبير القرآني.
إذ نجد التعبير القرآني كثيرا ما يغاير في استعمال الأفعال كأن يرد السياق ابتداء بالفعل الماضي ثم يتحول عنه إلى المضارع أو الأمر في السياق نفسه، وكذلك العكس بأن يرد الفعل في السياق مضارعا ثم يتحول عنه إلى الماضي وهكذا.
من ذلك مثلا قوله تعالى"وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [الأعراف، 170]؛ إذ نجد التعبير القرآني قد عدل عن الفعل المضارع (يمسكون) إلى الماضي (أقاموا)، وقد كان المتوقع لدى المتلقي اطراد السياق على سبيل المطابقة في الأفعال فيكون (يمسكون … ويقيمون)
أهمية الموضوع ودواعي دراسته:
هذه التحولات في السياق القرآني، تفاجئ المتلقي وتثير دهشته؛ لخروجها عن المتوقع لديه من اطراد السياق على نمط واحد من المطابقة والمشاكلة، مما يدعو ذلك المتلقي البحث عن مثيراتها السياقية، وأبعادها الدلالية.
لذلك حاول هذا البحث الوقوف على صور هذه التحولات وأثرها البلاغي في التعبير القرآني، فهذه ظاهرة نحوية بلاغية، تبرز وجهاً من وجوه الإعجاز البياني في القرآن، وتدلل على ما وهب المولى عزوجل هذه اللغة، لغة التنزيل من إمكانات عديدة، وقدرات فائقة في التصرف في التعبير، والتعدد في الدلالات.
وهذا الموضوع لم يحظ بدراسة قديما و حديثا تتناول أشكاله ودلالاته في القرآن الكريم حسب علمي المتواضع، غير ما نجده من إشارات عابرة عند البلاغيين والمفسرين مبثوثة هنا وهناك، ويمكن أن ندخله ضمن ما أسماه علماء البلاغة قديما بالالتفات، غير أن الالتفات مصطلح قصد منه البلاغيون التحولات الحاصلة في الضمائر من غيبة إلى مخاطب والعكس، وقد وسع ابن الأثير مصطلح الالتفات ليشمل أيضا الالتفات في الأفعال كما أشار إلى ذلك في كتابه الشهير "المثل السائر"
غير أني آثرت مصطلح " التحولات"لما فيه من الجدة والطرافة لا سيما أن مصطلح الالتفات عند ابن الأثير لم يكن محل اتفاق عند علماء البلاغة، كما هو معلوم من مصنفاتهم، فكان مصطلح التحولات أوسع وأشمل لكل أنواع التحولات الحادثة في السياق القرآني
والتحولات في السياق القرآني ظاهرة بارزة تشمل كل مظاهر التحولات في الأفعال والحروف والتراكيب والصور والمشاهد.
وما يعنينا في هذا البحث هو التحولات في الأفعال على وجه الخصوص.
فهو موضوع طريف لم يستوعب بالدراسة والبحث وتصنيف الصور والتحليل لكل هذه الصور واستنباط الأبعاد البلاغية المقصودة لهذه التحولات في أزمنة الفعل.
وقد جاءت خطة البحث على النحو الآتي :
مقدمة: عرضت فيها لأهمية البحث ودواعي دراسته.
المبحث الأول: صيغ الأفعال عند النحاة.
المبحث الثاني: صور التحولات في الأفعال.
ثم ختمت البحث بخاتمة ذكرت فيها أهم ماتوصلت إليه من نتائج وتوصيات.
والله أسأل عز وجل أن يكتب لي أجر هذا العمل، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون.
المبحث الأول:صيغ الأفعال عند النحاة:-
قسم النحاة الفعل ثلاثة أقسام هي: "ماضٍ وهو ما دل على الزمن الماضي، ومضارع وهو ما دل على زمن الحاضر أو المستقبل، وجعلوا القسم الثالث وهو الأمر يدخل ضمن الدلالة على زمن المستقبل"( ).
وفي تقسيمهم هذا انطلقوا من أن الأزمان ثلاثة: ماضٍ وحاضر ومستقبل، يقول سيبويه (ت 180هـ): "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع"( ).
"فالنحاة قسموا الفعل على أساس تقسيم الزمن الفلسفي، وهو الماضي والحاضر والمستقبل، وخصوا كل زمن بصيغة معينة، هو معناها في حالة الإفراد والتساوق على السواء"( ).
وقد انتقد بعض الباحثين المعاصرين النحاة لتركيزهم على الزمن في صيغة الفعل، وإهمال السياق الذي وردت فيه، فيرى فاضل الساقي( ): "أنه كان على النحاة أن يدركوا أن الأفعال مجرد صيغ وألفاظ تدل على زمن ما، هو جزء من معنى الصيغة لا على زمن معين، وأن السياق أو الظروف القولية بقرائنها اللفظية والحالية هي وحدها التي تعين الدلالة الزمنية وترشحها لزمن بعينه".
وعليه فقد قسم هؤلاء الباحثون( ) الزمن على نوعين هما:
أولاً: الزمن الصرفي وهو الزمن الذي تدل عليه الصيغة المفردة خارج السياق.
ثانياً: الزمن النحوي، أو يسمى "الزمن السياقي التركيبي" "وهو الذي تُحَدِّده القرينة اللفظية أو الحالية، أي: هو معنى الفعل في السياق"( ).
وللمقارنة بين الزمن النحوي والزمن الصرفي يمكن القول: إن "مجال النظر في الزمن النحوي هو السياق، وليس الصيغة المفردة، وبناء الجملة العربية أخصب مجال لهذا النظر بينما لا يكون مجال النظر في الزمن الصرفي إلا الصيغة منفردة خارج السياق"( ).
ويرى مالك المطلبي: "أن الصيغ في اللغة العربية تخلو من الدلالة على زمن في المستوى الصرفي"( ). وأن "وقوع الصيغ المتغايرة في مستوى تركيبي واحد يعني تفريغ صيغة ما، دون غيرها من الزمن حيث تشير إلى وجه من وجوه دلالتها الحدثية، ومن هنا يكون من الخطأ إسناد الزمن إلى مثل هذه الصيغ بوصفها "شكلاً زمنياً"؛ لأن الزمن يكتسب من قرائن السياق اللفظية والمعنوية"( ).
ويرى الباحث أن دلالة السياق على الزمن النحوي لا تنفصل عن دلالة المفردة للصيغة الصرفية، فهما متعالقتان، وأن الصيغة الصرفية لا تخلو من دلالة زمنية، غير أن السياق يضفي دلالة إضافية للدلالة الصرفية المفردة يحددها السياق نفسه، فيُجمع بين الدلالتين، ولا تلغي إحدى الدلالتين الأخرى، أو تفرغها من محتواها.
فمن ذلك مثلاً: الفعل "أتى" في قولـه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل، 1]. يدل بصيغته الصرفية على المضي المطلق، في زمن مضى وانقضى، إلا أن وروده في السياق "يفرض عليه دلالة سياقية يقتضيها السياق ويدل عليها، وهي دلالة الاستقبال؛ لأن القرينة اللفظية "فلا تستعجلوه" في السياق النحوي التركيبي تشير إشارة واضحة جلية إلى أنه لما يقع بعد. ومع كونه فعلاً ماضياً في الصيغة الصرفية، فإننا لا نفرغ هذه الصيغة الصرفية من دلالتها الزمنية ولا نخضعها للدلالة السياقية فقط، كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، إذ لو كان ذلك هو المراد لجاءت الصيغة صريحة بقولـه: "سيأتي أمر الله". ومع ذلك لا نقف عند حدود الدلالة الصرفية اللفظية لنقول: بأنه فعل ماضٍ قد وقع وحصل؛ فالقرينة السياقية تمنع ذلك وهي قولـه: "فلا تستعجلوه"، وإنما نجمع بين الدلالتين الصرفية والنحوية، الإفرادية والتركيبية، لنقول: إن المراد "هو توظيف الصيغة في معنى الاستقبال متضمنة معنى المضي وموظفة له في الوقت نفسه، فكأن مقصود الآية أن تقول: سيأتي أمر الله لا محالة مجيئاً مقطوعاً به، بل هو في حكم ما وقع وأتى بالفعل"( ).
ونلحظ أن مجيء الأفعال في السياق القرآني كثيراً ما يخرج عن النمط المألوف للغة من حيث التصرف في أزمنة الفعل، وذلك كالتعبير عن الحدث الماضي بالمضارع والتعبير عن الحدث المستقبل بالزمن الماضي، وكثيراً ما نجد السياق القرآني لا يجري على نمط واحد في المطابقة الزمنية بين الأفعال، إذ يحصل تصرف في التحول الداخلي للسياق نفسه بالمخالفة في أزمنة الأفعال، كأن يرد في السياق ذكر الفعل المضارع ثم ينكسر النسق السياقي بمجيء الفعل الماضي في السياق نفسه أو العكس، مما يثير التساؤل عن معرفة سبب ذلك التحول ودلالته التعبيرية في السياق القرآني.
وهذا التحول "يكشف عن تصادم الأزمنة على مستوى البنية السطحية مما يدفع المتلقي إلى الانتباه والتفاعل مع النص، ومحاولة إعادة التوافق بين صيغ الأفعال وأزمنتها في البنية العميقة"( ).
فالبنية العميقة تستوجب المطابقة في أزمنة الفعل في السياق اللغوي، والتحول عنها إلى البنية السطحية التي برزت على سطح النص تستدعي تحولاً في المعنى يرافق هذا التحول في المبنى.
وقد توقف علماؤنا عند هذا النوع من التحول وعدّوه ضرباً من البلاغة، يقول ابن الأثير (ت 636هـ): "واعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيان أن التحول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية، اقتضت ذلك، وهو لا يتوخّاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطّلع على أسرارها، وفتّش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كل كلام، فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهماً وأغمضها طريقاً"( ).
ونحن في تناولنا لهذا التحول في صيغ الأفعال، لا نتناولها من الناحية الصرفية، وإنما نتناولها من حيث دلالة الزمن النحوي الذي وردت فيه في السياق.
إذ تناول هذه الصيغ مفردة خارج السياق اللغوي يعد تناولاً صرفياً، وتناولها في السياق الواردة فيه من حيث الدلالة الزمنية يعد تناولاً نحوياً سياقياً، كما سبقت الإشارة إليه.
المبحث الثاني: صور التحولات في الأفعال:-
تتمثل التحولات في الأفعال في ست صور هي على النحو الآتي:
الصورة الأولى: التحول عن الفعل الماضي إلى المضارع:
مجيء المضارع بعد الماضي في هذا الضرب من التحول يكون على نوعين( ): نوع يستعمل فيه المضارع للدلالة على حدث قد مضى وانقضى، ونوع آخر يستعمل فيه المضارع للدلالة على حدث يقع في الحال والاستقبال.
أما النوع الأول: فمجيء المضارع فيه للدلالة على حدث قد مضى، وقد قرر علماء البلاغة أن المضارع في الحالة هذه يقصد به استحضار الصورة للحدث الماضي، وكأنه أمر مشاهد بارز للعيان، يقول ابن الأثير( ): "واعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذلك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي". وهذا ما أطلق عليه الزمخشري (ت 538هـ) مصطلح "حكاية الحال". يقول الزمخشري عند قولـه تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ ميِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر، 9]. فإن قلت لم جاء "فَتُثِيرُ" على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية"( ).
فالسياق هو الذي أضفى على الفعل المضارع في هذه الحالة دلالة زمنية معينة، وذلك من عطف الفعل المضارع على الفعل الماضي، إذ يقتضي السياق بموجب المطابقة الزمنية أن تجري الأفعال الواردة فيه على نسق واحد، يقول السيوطي (ت 911هـ)( ): "وما عطف على حال أو مستقبل أو ماضٍ أو عطف عليه ذلك فهو مثله؛ لاشتراط اتحاد الزمان في الفعلين المتعاطفين".
فمجيء الفعل المضارع في الحالة هذه خارجاً عن النسق العام للسياق يؤدي إلى توليد بارزتين في السياق، دلالة نحوية متمثلة في الفعل المضارع الدال على الزمن الحاضر أو الاستقبال، ودلالة سياقية متمثلة في الإشارة إلى الزمن الماضي، وذلك بالعطف على الماضي أو مجيئه بعده، فالدلالة السياقية تقتضي مضيه والدلالة النحوية للصيغة تقتضي استحضاره، فيجمع بين الدلالتين ليقال: إنه الماضي الحاضر، أو بعبارة (فندريس) هو "المضارع التاريخي"، وذلك "استعمال شائع في الحكاية حيث يسمى بالحاضر التاريخي، وفيه يجد المثقفون سحراًَ خاصاً، يقولون بأن الحاضر أكثر تعبيراً أو أبلغ حتى ليجعل المنظر يحيا من جديد أمام عيني القاريء، ويرجع بفكرنا إلى اللحظة التي دار فيها الحديث"( ).
ومن أمثلة هذا المضارع التاريخي ما جاء في حديث عبد الله بن عتيك حين دخل على أبي رافع اليهودي حصنه، قال: فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أنى هو من البيت، فقلت: أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف وأنا دهش"( ).
ففي هذا النص نجد أن الفعل المضارع (أضرب) يدل في معناه على حدث مضى وانقضى، بدلالة السياق على ذلك، إذ كل أحداثه ماضية (فانتهيت .. فقلت .. فأهويت ..)، وكان حق الفعل (أضرب) أن يرد ماضياً فيكون (فأهويت نحو الصوت فضربته وأنا دهش) لكنه تحول عن الماضي إلى المضارع؛ لاستحضار الحدث وكأنه مشاهد للعيان؛ لأن الموقف موقف تعجب ودهشة.
ومنه أيضاً قول تأبط شراً( ):
ألا مَنْ مُبْلغٌ فِتَيانَ فَهْمِ
بِأَنِّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ تَهْويَ
فأضربُها بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ
بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحى بِطَانِ
بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانَ
صَرِيْعَاً لليديْن وَلِلْجِرَانِ
فالمستوى السطحي( ): لقيتُ أضربها
ماضٍ مضارع
والمستوى العميق: لقيتُ فضربتها
ماضٍ ماضٍ
فالسياق الزمني للأبيات يسير على جهة الإخبار بالماضي (لاقيت، لقيت)، والشاعر في هذا الموقف يريد أن يخبر على سبيل السرد والحكاية عن واقعة مدهشة حصلت له، فأتى بـ (ألا) الاستفتاحية ليشد انتباه السامعين لسماع السرد والحكاية، ثم يذكر المكان "رحى بطان" ويثير الرعب والخوف بذكر اسم "الغول"، وأنه لقاه بمكان خلاء لا ملجأ فيه ولا احتماء، ثم بعد السرد الحكائي بصيغة المضي تحول إلى الفعل المضارع. لحظة المواجهة الحاسمة مع الغول، فقال: "فأضربها" وذلك أنه "قصد أن يصور لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها مشاهدة، للتعجب من جراءته على ذلك الهول، ولو قال: "فضربتها" عطفاً على الأول؛ لزالت هذه الفائدة المذكورة"( ).
ويقول ابن الأثير( ): "فإن قيل: إن الفعل الماضي أيضاً يتخيل منه السامع ما يتخيله من المستقبل، قلت في الجواب: إن التخيل يقع في الفعلين معاً، لكنه في أحدهما وهو المستقبل أوكد وأشد تخيّلاً؛ لأنه يستحضر صورة الفعل، حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منه، ألا ترى لما قال تأبط شراً "فأضربها" تخيّل للسامع أنه مباشر للفعل، وأنه قائم بإزاء الغول، وقد رفع سيفه لضربها، وهذا لا يوجد في الفعل الماضي؛ لأنه لا يتخيل السامع منه إلا فعلاً قد مضى من غير إحضار للصورة في حالة سماع الكلام الدال عليه، وهذا لا خلاف فيه".
وعد السكاكي ( 626هـ) هذا النوع من التحول أصلاً بلاغياً ثابتاً إذا اقتضى السياق اللجوء إليه، فقال( ): "وإنه -أي الانتقال من التعبير بالماضي إلى المضارع- طريق للبلغاء لا يتحولون عنه، إذا اقتضى المقام سلوكه".
ويرد هذا النوع من التحول بكثرة في الكتاب العزيز، ويعد من روائع البيان فيه، إذ عمد القرآن الكريم إلى صورة مغرقة في القدم فاستدعاها من الماضي السحيق إلى الزمن الحاضر؛ لتصبح كأنها مشاهدة ماثلة للعيان، من ذلك قولـه تعالى مخاطباً اليهود: أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة، 87].
ففي هذا السياق حصل تحول عن الفعل الماضي "كذبتم" إلى الفعل المضارع "تقتلون" وكان مقتضى السياق بموجب المطابقة الزمنية بين الأفعال أن يكون على النحو "ففريقاً كذبتم وفريقاً قتلتم".
لا سيما أنه يتحدث عن أمر حدث في الزمن الماضي، من تكذيب اليهود للأنبياء وقتلهم إياهم، لكن السياق تحول عن الماضي إلى المضارع؛ لأن قتل الأنبياء أمر فظيع، فأراد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب( ).
وسياق هذه الآية يشابهه سياق آخر وهو قولـه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة، 91].
إذ جاء الفعل المضارع "تقتلون" الدال على الحال مقترناً بظرف الزمان "قبلُ" الدال على الماضي، مما يجعل دلالة الفعل المضارع دالة على الزمن الماضي، فالفعل لا يدل على زمن الحدوث، وإنما يدل على زمن الإخبار، فللفعل الماضي زمانان؛ زمن حدوث ووقوع، وزمن إخبار عنه، وهو ما أشار إليه الزجاجي (ت 337هـ) بقولـه( ): "والفعل الماضي ما تقضى وأتى عليه زمانان، لا أقل من ذلك، زمان وجد فيه، وزمان خبر فيه عنه".
ونجد أن السياق القرآني قد نسب جريمة القتل إلى الأحفاد عندما خاطبهم فقال: "فلم تقتلون أنبياء الله من قبلُ"، في حين أن القتل قد حصل في الزمن الماضي من الأجداد، وذلك من بلاغة السياق القرآني، إذ أفاد الفعل "تقتلون" الاستمرارية للحدث، كما أفاد الحضور للمشهد في الأذهان، إشارة إلى أن نزعة القتل والإجرام تسري في دماء الأحفاد كما سرت في دماء الأجداد.
وفي ذلك تنبيه في الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض، وأنهم سواسية في الجرم، فعلى أيهم وضعت يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم؛ لأنهم لا ينفكون عن الاستنان بسنة أسلافهم، أو الرضى عن أفاعيلهم، أو الانطواء على مثل مقاصدهم"( ).
وأضفى ظرف الزمن الماضي "قبلُ" على السياق دلالتين، دلالة تفيد إرجاع السياق اللغوي للفعل إلى الزمن الحقيقي للحدوث وهو الماضي، ودلالة أخرى توحي بأن قتل الأنبياء قد كان في الزمن الماضي في حق من سلف منهم، أما هذا النبي فلا يمكنون منه، فالله يعصمه من الناس، يقول دراز( ): "ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح باباً من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم وباباً من الأطماع لأعدائه في نجح تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله، فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقولـه "من قبلُ" فقطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبت بها قلب حبيبه، إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس".
"فإذا أخذنا بدلالة الماضي للظرف "قبلُ" كانت دلالة الفعل "تقتلون"تفيد استحضار الصورة لحدث مضى في الزمان، وإذا أخذنا بما توحيه دلالة "قبلُ" من استحالة حصول الفعل وتحققه بالنسبة لهذا النبي، كانت دلالة الفعل "تقتلون" تفيد تجدد محاولة الفعل منهم والاستمرار، والجمع بينهما نوع من الانفتاح الدلالي للنص القرآني.
ولكننا نجد سياقاً آخر في القرآن الكريم يرد فيه الإخبار بصيغة ضمير الغائب في الحديث عن بني إسرائيل، كما هو الحال في قولـه تعالى: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ [المائدة، 70].
وهذا السياق تنسجم فيه الدلالة الزمنية للسياق الداخلي من خلال الإخبار عمن سبق من بني إسرائيل بصيغة ضمير الغائب "إليهم، جاءهم، أنفسهم" مع السياق الخارجي للزمن الماضي، وبناءً على ذلك فتنصرف دلالة الفعل المضارع "يقتلون"، في الحالة هذه إلى استحضار الصورة لا غير، وليس فيه دلالة استمرار الحدث وتجدده، يقول الزمخشري (ت 538هـ)( ): "جيء "يقتلون" على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحالة الشنيعة للتعجيب منها".
ومما سبق ذكره يمكننا الجمع بين دلالات هذه السياقات المختلفة، لنقول: إن دلالة الفعل "يقتلون" تفيد استحضار صورة قتل الأجداد للأنبياء تبشيعاً لقبح فعلتهم، وذلك من سياق الإخبار عنهم بضمير الغائب، وفيه دلالة على استمرار الحدث وتجدد حصوله من الأبناء والأحفاد وذلك من سياق الخطاب، وفيه تيئيس من تحقق ذلك وحصوله في حق هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يعد من بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم، فقد تم توظيف القيمة الزمنية في صياغة الفعل للحصول على مساحة تتعدد فيها الدلالات للنص وتتسع.
وكما أن وظيفة استحضار الصورة في سياق الآيات السابقة كان لغرض تصوير فظاعة الحدث وقبحه، فكذلك نجد استحضار الصورة في سياق آخر يرد للفت الأنظار إلى موضع القدرة والاعتبار، من ذلك قولـه تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر، 9]. فإنه إنما قال: "فتثير، مستقبلاً، وما قبله وما بعده ماضٍ؛ لذلك المعنى الذي أشرنا إليه وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة"( ).
ويتحول الماضي المنفي إلى المضارع المنفي فيفيد الفعل المضارع في هذه الحالة تأكيد النفي، وليس استحضار الصورة كما هو الحال مع المضارع المثبت، وهو ما ذهب إليه ابن جني (ت 392هـ) إذ قال( ): "ومنه قولـهم: لم يقم زيد، جاءوا فيه بلفظ المضارع وإن كان معناه المضي؛ وذلك أن المضارع أسبق رتبة في النفس من الماضي، ألا ترى أن أول أحوال الحوادث أن تكون معدومة، ثم توجد فيما بعد، فالمضارع معدوم باعتبار أنه لم يقع بعد، أما الماضي فقد وقع وانتهى، فإذا نفي المضارع الذي هو الأصل فما ظنك بالماضي الذي هو الفرع". "وفي هذا النفي نوع من التوكيد، فالتعبير بالمضارع المنفي بدلاً من الماضي لا يفيد عند ابن جني استحضار الصورة، كما يفيد التعبير بالمضارع بصفة عامة، ولكنه يأتي لإرادة التوكيد"( ).
وبناء على ما تقدم يكمننا فهم سر التحول في سياق قولـه تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون، 76]. فالمتوقع من سياق هذه الآية أن تكون على النحو التالي: "فما استكانوا لربهم وما تضرعوا" لكن السياق القرآني تحول عن الماضي المنفي إلى المضارع المنفي، والسبب في ذلك -والله أعلم- أن حالة التضرع هي مرتبة أعلى في الخضوع من الاستكانة نفسها، إذ التضرع ضرب من الإمعان في الابتهال واللجوء إلى الله تعالى، فنفي ما هو أدنى يستلزم من باب أولى التأكيد في نفي ما هو أعلى رتبة، فإذا انتفت الاستكانة منهم، فمن باب أولى ينتفي حصول أدنى تضرع منهم، لذا تحول السياق في النفي عن الماضي إلى المضارع؛ فنفي المضارع أشد تأكيداً من نفي الماضي، -كما سبق ذكره عند ابن جني- فوافق المقال مقتضى الحال.
ولعل ذلك ما قصده ابن عاشور بقولـه( ): "والتعبير بالمضارع في "يتضرعون" لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم". إذ يفهم من قوله: "تجدد الانتفاء" تكرار النفي واستمراره وذلك ضرب من التأكيد، وكأني بالسياق يقول: "ما تضرعوا، وما تضرعوا، وما تضرعوا، …"، فقال: "وما يتضرعون"، وهو ما يفهم أيضاً من قول الألوسي( ): "وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام، إلا أن المراد دوام النفي، لا نفي الدوام".
ولو جرى السياق على النمط المتوقع فجاء "فما استكانوا لربهم وما تضرعوا" لكان المقصود -والله أعلم- وما تضرعوا التضرع المطلوب لرفع البلاء وكشف العذاب، وإنما جاء "وما يتضرعون" لنفي حصول أدنى شيء من التضرع أصلاً".
ولا منافاة فيما قررناه هنا وبين قولـه تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ [المؤمنون، 64-65]. فهناك فرق بين الجؤار والتضرع.
يقول الشهاب الخفاجي (ت 1069هـ)( ): "فالتضرع يستعمل فيما إذا كان عن صميم القلب لا باللسان فقط، ولذا عبر عن استغاثتهم أولاً بالجؤار الذي هو من صوت الحيوان، فلا منافاة بينهما كما توهم".
وللتحول إلى المضارع دلالات تخرج عن دلالة استحضار الصورة إلى معانٍ أخرى يشي بها السياق القرآني الكريم، من ذلك دلالة التلطف في الخطاب، وكثرة وقوع الفعل وتكراره، أو تجدده واستمراره، فمن دلالة التلطف في الخطاب قولـه تعالى: قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ، 25].
لقد كان من المتوقع لدى المتلقي أن يجري السياق على نمط واحد فيكون" قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما أجرمتم"، ولكن السياق القرآني تحول عن الظاهر والمتوقع تحولين، تحولاً معجمياً عن لفظة "أجرم" إلى لفظة "عمل"، وتحولاً نحوياً عن الماضي "أجرمنا" إلى المضارع "تعملون".
وعلل ذلك الألوسي فقال( ): "وهذا أبلغ في الإنصاف، حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو منها مؤمن بما يعبر به عن العظائم وأسند إلى النفس، وعن العظائم من الكفر ونحوه بما يعبر عن الهفوات، وأسند للمخاطبين، وزيادة على ذلك أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقق، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك".
"وهذا أسلوب غاية في الكسب للخصم إلى جانب المتحدث، وطريق بارع في التغاضي عن هفوات الخصم، ووسيلة لتحريك دوافع التفكير في المقول، مما يشير إلى وعي الداعية إلى الله في الأسلوب الذي يدعو به الناس"( ).
ومن السياقات القرآنية التي يرد فيها هذا التحول للدلالة على كثرة وقوع الفعل وتكراره قولـه تعالى: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الزخرف، 6-7].
ففي هذه الآية نجد التحول عن الفعل الماضي "أرسلنا" إلى الفعل المضارع "يأتيهم"، وكان المتوقع بموجب المطابقة بين الأفعال أن يرد السياق على النحو التالي: "وكم أرسلنا … وما أتاهم … إلا استهزؤا به"؛ لأنه يخبر عن حدث مضى، وذلك بقرينة لفظية، وهي قولـه "في الأوّلين"، ولكن التحول إلى الفعل المضارع "يأتيهم" في هذا السياق دل على الكثرة والتكرار، فكثرة مجيء الرسل قوبل بكثرة الاستهزاء، والفعل الدال على ذلك "يستهزؤن" مسبوقاً بـ (كان) "وسبق الفعل المضارع بـ (كان) قد يفيد الدلالة على اعتياد الأمر في الماضي، ووقوعه بصورة متكررة"( ). قال الرازي( ): "والمعنى أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء".
والفرق بين هذا النوع من التحول الدال على الكثرة والتكرار والنوع الآخر الذي يليه الدال على الاستمرار، أن التكرار يتخلله فترات انقطاع، وإن كانت متقاربة في الزمان، في حين أن الاستمرار يقتضي الاتصال.
ومن أمثلة مجيء هذا التحول للدلالة على الاستمرار، قولـه تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج، 8].
لقد تحول السياق القرآني عن الفعل الماضي "نقموا" إلى المضارع "يؤمنوا" وكان يتوقع أن يرد السياق على النحو التالي: "وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد؛ لأنه يخبر عن حدث مضى وانقضى، وهو ما حصل للفئة المؤمنة على أيدي أعدائهم، واللافت للنظر، هو مجيء الفعل المضارع "إلا أن يؤمنوا" وليس "إلا أن آمنوا"، كما هو الحال في قولـه تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة، 59].
فما السر في مجيء الفعل "نقموا" ماضياً في سياق سورة البروج، والتحول عنه إلى المضارع "يؤمنوا" في السياق نفسه، في حين ورد العكس في سورة المائدة إذ جاء الفعل "تنقمون" مضارعاً وتحول عنه إلى الماضي "آمنا"؟!
والذي يظهر -والله أعلم- أن السياق هو الذي يفرض التعبير المقصود للمعنى المسوق له، فيكون كل سياق قد اختص بتركيب قصد إليه لمعنى، وهو من البلاغة بمكان؛ لأنه يقتضي موافقة الكلام لمقتضى الحال.
إن مجيء الفعل "نقموا" ماضياً في سياق الآية السابقة من سورة البروج يشير إلى أن هذه النقمة مضت وانتهت بهلاك الذين فُتِنُوا من المؤمنين، فليس فيها تجدد واستمرار، ودل التحول إلى صيغة المضارع "إلا أن يؤمنوا" على أن أعداءهم نقموا منهم استمرارهم على الإيمان وثباتهم عليه( ). في حين دل سياق الآية من سورة المائدة على أن نقمة أهل الكتاب متجددة مستمرة ضد المسلمين لا تنقطع عنهم بحال، بدلالة الفعل المضارع "تنقمون"، ودل التحول إلى الفعل الماضي "آمنا" أن إيمان المسلمين حاصل متحقق، فهو في حكم الماضي في تحققه وحصوله، فلا مطمع لأعدائهم في ارتدادهم عنه. ويبرز الانفتاح الدلالي للنص القرآني في هذا السياق، ليضيف دلالة أخرى للفعل الماضي مفادها أن إيمان المسلمين ليس حادثاً، وإنما هو امتداد لقافلة الإيمان التي مضت في تاريخ البشرية.
وما سبق ذكره من الآيات القرآنية هي نماذج للنوع الأول الذي يستعمل فيه المضارع للدلالة على حدث مضى وانقضى.
وأما النوع الثاني: فيرد فيه المضارع للدلالة على حدث يقع في الحال والاستقبال.
ويقرر البلاغيون أن مجيء المضارع للدلالة على الحال والاستقبال يفيد التجدد والحدوث، وأن هذا الحدث مستمر الوجود ولم يمض، يقول ابن الأثير( ): "وعطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين: أحدهما بلاغي، وهو إخبار عن ماضٍ بمستقبل، والآخر غير بلاغي: وليس إخباراً بمستقبل عن ماضٍ، وإنما هو مستقبل دلّ على معنى مستقبل غير ماضٍ، ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمضِ".
ويُفهم من كلام ابن الأثير أن هذا النوع من التحول ليس ضرباً من ضروب البلاغة، وما ذهب إليه ليس صحيحاً، إذ البلاغة هي موافقة المقال لمقتضى الحال، وقد جاء هذا التحول ليوافق مقتضى الحال الذي سيق من أجله كما سنوضحه لاحقاً في هذا البحث، وقد استعمل في النصوص الأدبية الراقية لا سيما القرآن الكريم، ولا يكون ذلك إلا لمنحى بلاغي، إذ لا يقع ما ليس بليغاً في كلام الله عزوجل، وقد اعترض محمد أبو موسى على ابن الأثير لإخراجه هذا النوع من التحول من البلاغة فقال( ): "ولست أدري لماذا كان هذا القسم غير بلاغي؟ أليست البلاغة نظراً فيما تنطوي عليه خصائص الألفاظ وأحوالها لإبراز معانيها وبيان لطائفها ومطابقتها لبيان الكلام؟ وأليس هذا داخلاً في أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال؟"
بل إن ابن الأثير نفسه عند تحليله لنماذج قرآنية من هذا النمط، أشار إلى وجه البلاغة والبيان فيها، مما يوحي بالتضارب لديه( ).
ويشير هذا النوع من التحول في السياق القرآني إلى دلالات عديدة منها:
- الدلالة على التجدد والاستمرار للحدث.
- الدلالة على إطالة مشهد الحدث.
- التركيز على نتيجة الحدث.
فمن السياقات التي يدل هذا التحول فيها على التجدد والاستمرار قولـه تعالى:
الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد، 28].
تحول إلى المضارع (تطمئن) لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره؛ وأنه لا يتخلله شك ولا تردد"( )، ولو جرى السياق على نمط واحد فكان "واطمأنت قلوبهم" لما أفاد معنى التجدد والاستمرار الذي نجده في زمن المضارع الذي أضفى دلالة الزمن المفتوح في الماضي والحاضر والاستقبال، فقلوبهم قد اطمأنت بذكر الله منذ الزمن الماضي وما تزال تطمئن في الحال والاستقبال، في حين ورد ذكر الإيمان بصيغة المضي "آمنوا" لإفادة معنى الحصول والتحقق، فهو ثابت متحقق كتحقق الماضي.
ومنه قولـه تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد، 22]. فقد تحول عن الماضي الصلة "صبروا" وما عطف عليه إلى المضارع "يدرؤون"، وذلك "لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء مما يحرص عليه، لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوصف لهم دواء ذلك بأن يدفعوا السيئات بالحسنات"( ).
ومن السياقات التي يرد فيها هذا التحول للدلالة على إطالة مشهد الحدث لما في ذلك من التخويف والتهديد قولـه تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج، 31].
إذ حصل في هذا السياق تحول عن الفعل الماضي خرّ إلى المضارع "فتخطفه" أو "تهوي"، ولم يأتِ السياق على نمط واحد فيكون "خرّ من السماء فخطفته الطير أو هوت به الريح"، وذلك أن الفعل الماضي يشير في هذا السياق إلى تحقق حصول الخرور من المشرك لا محالة حاله حال الماضي في تحققه، فقال: "خرّ من السماء"، وفيه دلالة على سرعة حصول الخرور والسقوط دون تماسك أو انتظام، كما يوحي به جرس اللفظة "خرّ" وقصرها وخفتها، وتكرار صوت الراء فيها إشارة إلى تكرار السقوط والهوي والتقلب في الهواء، وما أضفاه التفخيم في الخاء والراء من تفخيم لمشهد الهوي نفسه "فالملحوظ هو سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ بـ "الفاء" وفي المنظر بسرعة الاختفاء"( ).
"ثم تحول إلى المضارع "فتخطفه" و"تهوي" لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح به"( ).
فكان التحول إلى المضارع لاستحضار المشهد وإطالته، وأمعن في إطالة مشهد الهوي أيضاً مجيء الحرف "في" الذي أفاد هنا الإمعان في تصوير التسفل والسقوط، وكأن المكان السحيق قد أصبح ظرفاً ووعاءً له لا ينتهي فيه إلى قرار. ولو قال: "إلى مكان سحيق" لأفاد انتهاء الهوي به إلى منطقة معينة، وذلك يوحي بالتهديد الشديد والإيعاد لمن كان هذا حاله.
ولو جرى السياق على النمط نفسه من المضي لمضى السياق كله على عجالة دون أن يتمكن المتلقي من إمعان النظر والفكر في مشهد الخطف والهوي.
ومثله قولـه تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً [الحديد، 20].
لقد تحول السياق عن الماضي "أعجب" إلى المضارع "يهيج" و"يكون"، ولو جرى السياق على نمط واحد لجاء: "كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم هاج ثم كان حطاماً"، لكن التحول عن الماضي إلى المضارع في هذا الموضع جاء لمنحى دلالي مقصود، فالسياق القرآني تجاوز لحظة الإعجاب بهذا الزرع، بالإخبار عنها بالزمن الماضي، وكأنها لحظة مضت دون تريث أو إمهال، تلاها على الفور مشهد الفناء والزوال، مخبراً عنه بالزمن الحاضر، حتى يظل مشهد الاندثار كأنه حاضر ماثل للعيان، ولا ينافي ذلك مجيء حرف العطف "ثم"، فهو هنا يفيد التراخي الرتبي لا الزمني( ).
إذ يوحي المشهد بالتدرج من لحظة السرور والفرح بهذا النبات، إلى مرحلة شديدة على النفس متمثلة في هيجان الزرع وذبوله، تليها مرحلة أشد من سابقتها وهي مرحلة الاصفرار والاحتضار( ).
ويرد هذا التحول للتركيز على نتيجة الحدث نفسها، من ذلك قولـه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
[الحج،63]. وقولـه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[الحج، 65]، ففي الآيتين السابقتين نجد أنه قد تحول عن الماضي "أنزل" و"سخّر" إلى المضارع "يمسك" "فتصبح" واختيرت صيغة الماضي في "سخّر لكم ما في الأرض" و"أنزل من السماء"، وذلك لأن "الرؤية الباعثة على التأمل والاعتبار لا تتعلق بتلك الأحداث بذاتها بل بنتائجها أو آثارها المترتبة عليها"( ).
فمحل التأمل في الآية الأولى ليس فعل التسخير نفسه وإنما مظاهر هذا الفعل وآثاره، ومن أهمها إمساك السماء بغير عمد.
بينما جاء التحول إلى المضارع (فتصبح) في الآية الثانية "لِتُثَبِّتَ المشهد عند نقطة مهمة، ينبغي للمتلقي أن يقف عندها ويستحضرها دائماً أمام عينيه"( ). وفيه دلالة على "بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجوده، واخضرار الأرض باق لم يمض"( ).
ومنظر الخضرة في الأرض يشيع البهجة في النفس ويطمئن النفوس على أرزاقها، لذا جاء التعقيب بقولـه تعالى: إن الله لطيف خبير، فهو لطيف بعباده، خبير بما يصلح أحوالهم.
الصورة الثانية: التحول عن الفعل المضارع إلى الماضي:
ويرد هذا النوع من التحول في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وفي حين نجد بعض النحاة يجيز عطف الماضي على المضارع أو العكس، نجد آخرين منهم يذهبون إلى تأويل الفعل الماضي في هذه الحالة بالمضارع لينسجم السياق لديهم، فممَّن أجاز العطف مطلقاً الرضي في شرح الكافية بقولـه( ): "ويعطف الماضي على المضارع وبالعكس، خلافاً لبعضهم، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [الأعراف، 170]، ونحو: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ [الحج، 25]".
وممن ذهب إلى التأويل السيوطي (ت 911هـ)( )، إذ يشترط لصحة عطف الماضي على المضارع أو العكس، اتحادهما في التأويل، بأن يكون الماضي مستقبل المعنى ليصح عطفه على المضارع، أو المضارع ماضي المعنى ليصح عطفه على الماضي، فيذهب إلى تأويل الماضي بالمضارع والعكس، وينقل عن السهيلي عدم جواز التعاطف "بين فعل واسم لا يشبهه، ولا فعلين اختلفا في الزمان"( ).
وذهب إلى التأويل أيضاً أبو حيان (ت 754هـ) والشهاب الخفاجي (ت1069هـ) والفراء (ت 207هـ) وأبو البقاء العكبري (ت 616هـ)، فمن ذلك مثلاً قوله تعالىrوَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف، 47-48]، أي؛ ونحشرهم ويعرضون"( ).
ونحو قولـه تعالى: إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء، 4]، أي: فتظل"( ).
ويذهب بعض الباحثين المعاصرين -كما سبقت الإشارة إليه- إلى "أن وقوع الصيغ المتغايرة في مستوى تركيبي واحد، يعني تفريغ صيغة ما، دون غيرها من الزمن، …، ففي قولـه تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود، 98]، فالفعل "يقدم" مفرغ من دلالته على الزمن وكذا الفعل "أورد"، وإنما قصد بالأول استحضار صورة الحدث لا غير، وبالآخر تحقق حصول الحدث"( ).
ويرى الباحث أنه لا داعي لتأويل الماضي بالمضارع أو العكس، فلو أراد المولى عزوجل أن يرد التعبير بالمضارع أو الماضي لجاء السياق السابق على نحو: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فتظل أعناقهم لها خاضعين"، ولجاء قولـه مصوراً حال فرعون يوم القيامة على نحو" سيقدم قومه يوم القيامة فسيوردهم النار وبئس الورد المورود"، وإنما ورد التعبير القرآني على هذا النحو لدلالة مقصودة فلا داعي للتأويل، فالعطف بين الأفعال المختلفة في الأزمنة وإن لم يظهر بين هذه المتعاطفات تناسب لفظي بموجب الصنعة النحوية فإن بينها تناسب معنوي يقتضيه السياق، وهو مبدأ نهجه البلاغيون في بحثهم للوصل والفصل( ).
وقد عني البلاغيون والمفسرون بالإبانة عن دلالات هذا التحول، فيذكر العلوي صاحب الطراز( ): "أن إيثار الماضي والتحول إليه يدل على مبالغة في الثوابت والاستقرار".
ولا يسلم له بهذا العموم، وإنما السياق هو الذي يحدد الدلالة المناسبة، فقد يدل التحول إلى الماضي على الاستقرار كما قال، وقد يدل على غير ذلك من تحقق الفعل أو التقليل والانقطاع، وغير ذلك مما يدل عليه السياق ويقتضيه، فمن هذه الدلالات التي يقتضيها السياق:
- الدلالة على سرعة تحقق حصول الفعل وحدوثه.
- الدلالة على أن الفعل سابق للمضارع في التحقق والحصول.
- الدلالة على الاختصاص بوصف ثابت.
- إظهار الرغبة في حصول الفعل.
- إظهار الرغبة في انقطاع الفعل وتغييبه.
من السياقات القرآنية التي يدل التحول فيها إلى الماضي على سرعة تحقق الفعل وحدوثه قولـه تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْض إِلا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ِ [النمل، 87]. فقد تحول السياق القرآني عن الفعل المضارع "ينفخ" إلى الماضي "ففزع" وكان مقتضى الظاهر للسياق أن يجري على نسق واحد فيكون "فيفزع" لأن الحدث لم يقع بعد، وإنما هو حديث عن المستقبل البعيد وهو يوم القيامة، فدل التحول إلى الماضي على سرعة تحقق الفعل وحصوله مثل تحقق الماضي في حدوثه، وكأنه يتحدث عن أمر قد حدث وحصل في الزمن الماضي( ) وفيه مزيد من تأكيد لأمر البعث والنشور ودلالة على السرعة والدهشة والذهول، بدلالة مجيء حرف العطف (الفاء).
والتعبير بالفعل الماضي عن المستقبل هو أسلوب من البلاغة بمكان، يقول ابن الأثير( ): "والإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل فائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده؛ لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها".
وأفاد الفعل المضارع "ينفخ" استحضار صورة الحدث من المستقبل البعيد وهو يوم القيامة حتى لكأنها ماثلة أمام الأنظار، فكما أفاد المضارع في سياقات سابقة استحضار صورة الحدث من الماضي السحيق، كذلك أفاد هنا استحضار الصورة من المستقبل البعيد، ويجمع الاستحضارين عنصر الزمن، وهناك فرق بينهما، فاستحضار الماضي استرجاع لزمن قد حدث بالفعل لإفادة تصويره في النفس، واستحضار المستقبل استباق للزمن كون الحدث لم يحصل لإفادة تحقق وقوعه.
ونجد -أيضاً- في هذا السياق أن الفعلين المضارع "ينفخ" والماضي "ففزع" قد استعملا للإخبار عن المستقبل، ولكن تختلف دلالتاهما، فدلالة المضارع في الإخبار عن المستقبل تفيد استحضار صورة الحدث، ودلالة الماضي تفيد تحقق حدوثه وحصوله.
ومنه قولـه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود، 96-98].
لقد تحول السياق عن المضارع "يقدم" إلى الماضي "فأوردهم"، ولو جرى على مقتضى الظاهر لكان على النحو: "سيقدم قومه يوم القيامة وسيوردهم النار"؛ لأن الحديث عن زمن مستقبل وهو يوم القيامة، ومجيء التحول إلى الماضي (فأوردهم) فيه دلالة على القطع والتأكيد بوقوع الحدث وحصوله، وصُدِّرَ الفعل بحرف (الفاء) ليدل على سرعة الورود؛ لما في ذلك من التهديد والتخويف.
وهذا النوع من التحول يخبر عن نتائج محققة لأحداث سابقة لها، تحمل طابع الدهشة والمفاجأة، فَفَزَعُ من في السموات والأرض حدث مفاجيء مترتب على النفخ في الصور، وكذلك ورود فرعون وقومه النار يعقب مشهد قدومه لهم إلى ساحة الحشر بذلة وصغار( ). ويرد غالباً في مشاهد البعث والقيامة والحشر؛ لذا أضفى عليها الأسلوب القرآني زمن الماضي في حدوثها لتأكيد تحققها وحصولها( ).
ويرد التحول إلى الماضي للدلالة على أنه سابق للمضارع في التحقق والحصول، من ذلك قولـه تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف، 47].
فقد جيء بـ (حشرناهم) ماضياً بعد (نسير) "للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك"( ).
ومنه قولـه تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ [النحل، 89]. جاءت هذه الآية في سياق ذكر بعث الأنبياء والرسل شهداء على قومهم، وخصص خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم بمزيد عناية وتكريم بأن جعله الله عزوجل شهيداً على هذه الأمم كلها، وهو ما ذهب إليه بعض المفسرين( )، ويدل على هذه العناية أيضاً التحول إلى الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بعد الإخبار عن البعث بالغيبة "وجئنا بك"، والتحول المعجمي عن كلمة البعث إلى المجيء، وفي "إيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه-صلى الله عليه وسلم"( ). وفيه التحول الذي نحن بصدده عن الفعل المضارع "نبعث" إلى الماضي "جئنا"، وفي كل ذلك "إشعار بأفضليته صلى الله عليه وسلم على سائر المرسلين، وأفضلية شهادته في هذا اليوم على شهاداتهم، وأنه لهذا وذاك يجاء به شاهداً قبل بعث هؤلاء الرسل في أمهم شهداء"( ).
لقد أفاد التحول إلى الماضي في هذا السياق أن الفعل الماضي سابق للمضارع في تحققه وحصوله، فقولـه: "وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" أي: وجئنا بك شهيداً قبل أن نبعث في كل أمة شهيداً عليهم.
ومنه قولـه تعالى: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة، 2]، فنجد التحول عن الفعل المضارع الواقع جواباً للشرط "يكونوا ويبسطوا" إلى الماضي "وودّوا".
ويعلل الزمخشري هذا التحول فيقول( ): "والماضي وإن كان يجري في جواب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني: أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعاً من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض وردِّكم كفاراً، وردُّكم كفاراً أسبق المضار عندهم؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم؛ لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعزّ شيء عند صاحبه".
وقد بين الزمخشري في هذا السياق نكتة التحول من زاوية النظر إلى عنصر الزمن، وذلك من كون الماضي أسبق في الحصول من المضارع، ونجد بالمقابل السكاكي (ت 626هـ) وأبا السعود (ت 951هـ) وغيرهما يفسرون هذا التحول من زاوية النظر إلى الحدث، فالماضي يدل على تحقق الحدث وحصوله لا محالة، يقول السكاكي( ): "وترك يود إلى لفظ الماضي؛ إذ لم تكن تحتمل ودادتهم لكفرهم من الشبهة ما كان يحتملها كونهم -أي يثقفوهم- أعداء لهم، وباسطي الأيدي والألسنة إليهم للقتل والشتم".
ويفيد حرف الشرط (إنْ) الداخل على الفعل المضارع "يثقفوكم" الشك في وقوع الحدث، فظفر الكفار بالمسلمين ليس مؤكداً فهو متوقف على مدى تمسكهم بدينهم قوة وضعفا، وهذا يختلف من حال إلى حال، في حين أن ودادة أعدائهم كفرهم أمر محقق وحاصل في كل حال، سواء قبل الظفر بهم أم بعده، فليس متعلقاً بالشرط ومترتباً عليه، فدل التحول إلى الماضي على تحققه في الحدوث وحصوله سابقاً للشرط والجواب، ولو جاء مضارعاً لأوهم تعلقه بالشرط، فيكون وُدُّ أعدائهم كفرهم أمراً حاصلاً بعد الظفر بهم لا غير، يقول أبو السعود( ): "وودّوا لو تكفرون" أي: تمنوا ارتدادكم، وصيغة الماضي للإيذان بتحقق ودادتهم قبل أن يثقفوهم أيضاً".
ونجد أن الآية السابقة لهذه الآية وهي قولـه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [الممتحنة، 1]. جاء التعبير فيها عما قد يصدر من المسلمين من ودٍ للكفار بصيغة الفعل المضارع "تلقون إليهم بالمودة"، و"تسرون إليهم بالمودة" وذلك في سياق نهي المؤمنين عن فعل ذلك، في حين ورد التعبير عما يوده الكفار للمؤمنين من ارتداد عن دينهم بالفعل الماضي "وودّوا لو تكفرون" وفي ذلك "إبراز للمفارقة أو البون الشاسع بين ما قد يصدر من المسلمين من مولاة هؤلاء، وما يضمره الكفار لهم من ضغينة وحسد"( ). وذلك أن دلالة المضارع تفيد التجدد، في حين أن الماضي "وودّوا لو تكفرون" أفاد التحقق والرسوخ -كما أوضحنا سابقاً- فكأن السياق القرآني يخاطب المسلمين قائلاً لهم: إنه مهما تجددت هذه المودة من قبلكم واستمرت لهؤلاء الكفار سراً أو علانية، فإنها لن تغير ما استقر في قلوبهم ونفوسهم من كراهيتكم ورغبتهم في ارتدادكم عن دينكم الذي تنعمون به دونهم.
ويرد التحول إلى الماضي للدلالة على الاختصاص بوصف ثابت من ذلك قولـه تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف، 170].
فالتحول في هذا السياق عن الفعل المضارع "يمسكون" إلى الماضي "أقاموا" فيه دلالة على "أن التمسك بالكتاب أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف إقامة الصلاة فإنها مختصة بأوقاتها"( ).
ومعنى هذا أن التعبير بالمضارع قد دلّ على "استمرار استمساكهم بكتاب الله وتجدده، كلما عنّ لهم في حياتهم أمر يهرعون إليه طلباً لهدايته وتطبيقاً لمنهجه، أما الصلاة فإنها لما "كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" عبر عن إقامتها بالفعل الماضي للدلالة على ثباتها، حتى صارت إقامتها على وجهها في وقتها صفة لهم"( ).
ومن السياقات القرآنية التي يرد فيها التحول إلى الماضي للدلالة على إظهار الرغبة في حصول الفعل قولـه تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة، 215].
لقد حصل التحول عن المضارع "ينفقون" إلى الماضي "أنفقتم". ولو جرى السياق على مقتضى الظاهر لكان "يسألونك ماذا ينفقون، قل ما تنفقون …" لأن الجواب جاء بأسلوب الشرط، والشرط يقتضي الاستقبال، والنحاة يؤولون فعل الشرط الماضي بالاستقبال( ). "ولكن القصد من مجيء الشرط ماضياً وإن كان معناه الاستقبال، هو إنزال غير المتيقن منزلة المتيقن، وغير الواقع منزلة الواقع"( ).
يقول ابن جني( ): "وكذلك قولـهم: (إن قمتَ قمتُ) فيجيء بلفظ الماضي والمعنى معنى المضارع، وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى، فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ الماضي المقطوع بكونه، حتى كأن هذا قد وقع واستقر، لا أنه متوقع مترقب".
ومما سبق ذكره يتضح لنا سر التحول إلى الفعل الماضي في الشرط، في قولـه تعالى: وما أنفقتم وإن كان مستقبلاً في معناه، وذلك لإظهار الرغبة في حصوله وحثهم على فعله، فكأنه حاصل منهم متقرر، متجاوزاً مسافة الزمن في ذلك ليشد الانتباه إلى حقيقة الحدث نفسه وهو الإنفاق، مشيراً إلى وجوه مصارفه الحقة، ليصرف عن النفس أدنى تردد أو شُحٍّ في الإنفاق والعطاء.
ومنه قولـه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة، 159-160].
نزلت هذه الآية في أحبار اليهود( ) الذين كتموا ما في التوراة من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، ودينه الخاتم، ودلائل صدق نبوته.
وقد حصل التحول في الآية الكريمة عن الفعل المضارع الواقع في جملة الصلة (الذين يكتمون) إلى الماضي الصلة (الذين تابوا)، وما عطف عليه (وأصلحوا)، و(بيّنوا)، ولو جاء السياق على أصله في مقتضى الظاهر لكان (إلا الذين يتوبون ويصلحون، …) فيأتي فعلاً مضارعاً دالاً على الاستقبال( )، لا سيما أن قولـه تعالى: إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا يراد به الاستقبال؛ "لأن (يكتمون) فعل مضارع وهذا بعده، فالتوبة بعد الكتمان"( ).
والذي يظهر لي -والله أعلم- أن مجيء التحول إلى الفعل الماضي في هذا السياق أفاد الحث على التوبة والحض على الإصلاح والتبيين، فالماضي يدل على تحقق وقوع الفعل وحصوله، وكأنه يخبر عن توبة قد حصلت منهم وإصلاح قد كان، أو هكذا ينبغي أن يكون.
وأما التعبير بالفعل المضارع "يكتمون" فيرى ابن عاشور( ): "أنه للدلالة على
أنهم -أي: علماء اليهود- في الحال كاتمون للبيّنات والهدى، ولو وقع بلفظ
الماضي لتوهم السامع أن المعنِيَّ به قوم مضوا، مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين".
ويرى الباحث أن دلالة الفعل "يكتمون" تتجاوز دلالة الحال إلى دلالة الاستمرار، فالكتمان للبينات والهدى حاصل منهم حال نزول القرآن، ويتجدد ذلك منهم ويستمر إلى قيام الساعة، فكتمان الحق صفة فيهم على الدوام.
وإذا كان التحول عن المضارع إلى الماضي في السياقات السابقة قد دل على الرغبة في حصول الحدث وتحققه، فإنه قد يرد في سياقات أخرى ليدل على النقيض وهو الرغبة في الانصراف عن الفعل وتركه، وهذا يدل على أن السياق هو الذي يحدد الدلالة المناسبة للتحول، من ذلك قولـه تعالى: وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان، 12].
سبقت الإشارة في هذا البحث أن فعل الشرط إذا جاء ماضياً، وحقه أن يأتي مضارعاً كما هو الأصل اللغوي، فإنه يدل على تحقق الحدث وحصوله، وقد يرد ماضياً لأسباب أخرى كالتفاؤل أو لإظهار الرغبة في وقوعه -كما سلف ذكره- "أو للدلالة على حصول الحدث مرة واحدة، في حين أن المضارع قد يفيد تكرار الحدث وتجدده"( ).
وكل الدلالات السابقة قد يقبلها الفعل ولكن السياق -كما أسلفنا- هو الذي يحدد الدلالة المناسبة للتحول إلى الماضي، فقد ذكرنا في سياق سابق أن التحول إلى الماضي "أنفقتم" في قولـه تعالى: قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْن [البقرة، 215] قد أفاد الرغبة في هذا الإنفاق فأتى به ماضياً وإن كان مستقبلاً في المعنى، في حين دل المضارع السابق له في السياق نفسه "يسألونك ماذا ينفقون" على التجدد والاستمرار في النفقة، فأراد المولى -عزوجل- الرغبة عند المكلفين في تحقق الحدث وحصوله على صورة التجدد والاستمرار، فنكون بذلك قد جمعنا بين أكثر من دلالة في سياق واحد إذا احتملها السياق، وكذلك الحال نفسه في هذه الآية التي نحن بصددها، فيرى فاضل السامرائي أن سر مجيء الفعل (يشكر) بصيغة المضارع، و(كفر) بصيغة الماضي؛
"لأن الشكر يتجدد ويكثر، وليس كذلك الكفر، فإن الكفر يحصل ابتداء ويبقى
صاحبه عليه إلا إذا شاء الله، فالشكر عمل يومي متجدد بخلاف الكفر الذي هو الاعتقاد"( ).
ولكن ما ذهب إليه السامرائي في هذا السياق ينقضه ما ورد في سياقات قرآنية أخرى، من ذلك قولـه تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة، 121].
وقولـه تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ[آل عمران، 19]، وقولـه تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً [النساء، 136]، ومنه قولـه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران، 21]، وقولـه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بين اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [النساء،150].
ففي السياقات السابقة وغيرها ورد التعبير عن الكفر بصيغة المضارع الذي يدل على التجدد والحدوث، خلافاً لزعمه أن الكفر يرد مرة واحدة ولا يتجدد؛ لذا ورد التعبير عنه في سياق الآية بالماضي.
والحقيقة أن دلالة التحول إلى الماضي ينبغي فهمها من السياق نفسه، وبالمقارنة بالفعل المتحول عنه، مع افتراض بقاء التركيب على أصله ثم النظر إلى البدائل الأسلوبية الحاصلة في السياق وما أضفته من بعد دلالي جديد، فسياق الآية يذكر الشكر بصيغة المضارع (من يشكر) ثم تحول عنه إلى الماضي، بقولـه: (ومن كفر)، فالسياق سياق ترغيب وحث على الطاعة والشكر وتنفير من الشرك والكفر، بدليل سياق وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان، 12].
وجاء بعدها على التو: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان، 13]، فجاء قولـه تعالى: وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان، 12]، بين أمر ونهي، فهو مسبوق بأمر بالشكر "أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ"، وملحوق بنهي "لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ"، فالسياق كله أمر بالإيمان والشكر ونهي عن الكفر والشرك. فدل المضارع في الحالة هذه على التجدد والاستمرار للحث على تجدد الشكر واستمراره، ومحاولة الوصول فيه إلى مرتبة من الكمال والتمام، ثم تحول عن ذلك في التعبير عن الكفر بالماضي "ومن كفر"، تغييباً لحدث الكفر، وعدم التوقف عنده رغبة للانصراف عنه والترك.
قال الرازي (ت 606هـ)( ): "وفي هذه الآية قال في الشكر (ومن يشكر) بصيغة المستقبل، وفي الكفران "ومن كفر فإن الله غني حميد"، وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد، كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر( )، فنقول: فيه إشارة إلى معنى، وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع، فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران".
الصورة الثالثة: التحول عن الماضي إلى الأمر:
ويمثل الفعل الماضي في هذه الحالة (جملة خبرية) في حين يمثل فعل الأمر جملة (إنشائية طلبية)، "والتحول عن الأسلوب الخبري إلى الأسلوب الإنشائي يهدف إلى تحقيق أغراض بلاغية تتوزع على الوظيفة الانفعالية (المتكلم) والوظيفة الافهامية (المتلقي) كدلالة الرضا بالواقع الصياغي حتى كأنه مطلوب تحقيقه في الواقع بالفعل"( ).
من ذلك قوله تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 29].
حصل التحول في هذا السياق عن الماضي إلى الأمر (وأقيموا) "ولو جاء السياق على أسلوب واحد، لقال: (أمر ربي بالقسط وأمركم أن تقيموا وجوهكم)"( ).
فالمستوى السطحي( ):
أمــر أقيموا
ماضٍ أمر
والمستوى العميق:
أمـر (أمر) بإقامة
ماضٍ ماضٍ
وندرك سر هذا التحول من ارتباط هذه الآية بما قبلها، إذ هي رد على مقولة الكفار التي ذكرها المولى عزوجل بقوله: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28].
وجاء الحديث عن الأمر بالقسط بأسلوب خبري، وإن كان متضمناً معنى الإنشاء (أمر ربي بالقسط) إذ معنى ذلك (أقسطوا) ولكنه جاء بأسلوب خبري ولم يأتِ أمراً مباشراً.
فلم يقل: "قل أقسطوا وأقيموا" وذلك للدلالة على أمرين:
الأول: أن فعل الماضي في (أمر ربي بالقسط) يدل على تحقق ذلك الأمر وحصوله، فهو "مبدأ موغل في القدم، به قام ميزان السموات والأرض، ولذلك أسند الفعل الماضي إلى الذات العلية (ربي)، ليعمق الإحساس بالقدم والتمام، لأن الأمر صدر عن الذات الأزلية"( ).
والثاني: أن القسط هو ما أمر الله به وشرَعَه، سواء التزموا به أم لم يلتزموا، فلا يغير ذك من أمره شيئاً، فهو أمر أزلي استقام عليه أمر الكون والحياة، ولو قال: "أقسطوا" لكان الأمر موجهاً إليهم على وجه الخصوص، ولم يفد تحققه في الزمن الماضي واستمراره في الحاضر والمستقبل، فالفعل (أمر) فعل سلب منه الزمن، فهو دال على الأمر بالقسط مطلقاً، ثم تحول إلى الأمر (وأقيموا) للدلالة على أنه ما دام أمر الله بالقسط أمراً أزلياً كوناً وشرعاً، فحقكم أن تنفعلوا لأمره الكوني، ومراده الشرعي، فتحققوا معنى القسط في حياتكم بإقامة وجوهكم للصلاة له عند كل مسجد.
وفي هذا السياق تتوافق البنية العميقة مع البنية السطحية "فالمحافظة على تنفيذ الأمر بالصلاة في الحاضر والمستقبل (كما هي دلالة الأمر) تؤدي إلى التمسك بإقرار مبدأ التحول، سواء في التعامل مع المنعم الأعلى عزوجل؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، أو في التعامل مع الناس، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر"( ).
لذا كان التحول إلى الأمر ليدل على طلب الفعل على سبيل الوجوب ويحمل في طياته الزمن الحاضر والمستقبل، وأفاد المتلقين "العناية بتوكيده في نفوسهم، فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده"( ).
ومن دلالات هذا التحول الدلالة على سرعة تحقق الحدث وحصوله. من ذلك قولـه تعالى مخاطباً بني إسرائيل: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ* فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة: 65-66].
نجد السياق كله يدل على أن الأحداث الواردة فيه قد حصلت في الزمن الماضي، بقرائن لفظية: (ولقد علمتم، اعتدوا، فجعلناهم، فقلنا، فجعلنا)، فالزمن المسيطر على السياق هو زمن الماضي، ولكن السياق تحول عن الفعل الماضي إلى الأمر بقوله: "كونوا قردة"؛ لأن في الأمر "كونوا" شداً للانتباه بالتحول الحاصل في السياق؛ مما جعل الأمر مركزاً على بؤرة الحدث الهامة وهي تحول ذواتهم إلى قردة خاسئين، وفيه دلالة على سرعة تحقق الحدث وحصوله مستمداً ذلك من قدرة الآمر عزوجل- القائل للأشياء: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، وكأن المولى -عزوجل- قد أمر الحدث نفسه أن يكون فكان، فإذا بذواتهم قد انفعلت لهذا الأمر الإلهي على وجه السرعة فانمحت معالم البشرية والإنسانية منهم ليصبحوا مسخاً حقيقياً حاصلاً فيهم، ففي الأمر دلالة على قوة إيقاع الحدث وتحققه لا تكون في الماضي في ما لو كان السياق على نحو "فجعلناهم قردة خاسئين"؛ لأن الأمر يدل على شدة غضب الجبار عليهم، وصدور الأمر منه على وجه السرعة والقوة والجبروت.
وهذا السياق سياق تحول وتغيير، فكما حصل تحول في أشكالهم وذواتهم رافق ذلك تحول في التعبير عن ذلك الحدث، فوافق تحولَ المبنى تحولٌ في المعنى.
قال أبو حيان (ت 745هـ)( ): "فقلنا لهم "كونوا" أمر من الكون، وليس بأمر حقيقة؛ لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم؛ لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم قردة بل المراد منه سرعة الكون على هذا الوصف، كقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]. ومجازه أنه لما أراد منهم ذلك صاروا كذلك".
وقد يرد التحول إلى الأمر للدلالة على كيفية وقوع الحدث، كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ [البقرة: 243].
يخبر السياق عن حدث مضى، وكان يقتضي أن يكون "فأماتهم الله ثم أحياهم"، ولكنه تحول عن الماضي إلى الأمر "موتوا"، للدلالة على أن الحدث قد وقع بسرعة وقوة شملت جميع المخاطبين فلم يتخلف عنه أحد، وأن الموت قد تلبسهم جميعاً في لحظة واحدة، ولو قال: "فأماتهم" لما كان في الماضي دلالة على ذلك، ولكان المعنى أنهم قد ماتوا فحسب، يقول الزمخشري (ت 538هـ)( ): "فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم"، فإن قلت: ما معنى قوله: فقال لهم موتوا قلت: معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف كقوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون".
ثم مثَّل الفعل الماضي "فأحياهم" تحولاً عن الأمر إلى الماضي، لدلالة توحي بأن القدرة الإلهية هي التي أحيت كما أماتت، إذ ليس بمقدور الأموات أن يكونوا أهلاً للخطاب وتوجيه الأمر إليهم فيما لو قال ثم (احيوا) وفيه إشارة إلى مطل الزمن مع التراخي الذي يشي به الحرف (ثم) مع فعل الإحياء، حتى يشاهد بعضهم بعضاً لحظة الإحياء فيكون ذلك أشد وقعاً على النفس وأثراً.
ويرد التحول عن الماضي الذي يمثل جملة خبرية إلى فعل الأمر الذي يمثل جملة إنشائية بقصد التفريق بين مضمونهما، منه قوله تعالى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج: 30].
حقق التحول عن الماضي (أُحِلَّتْ) الذي هو جملة خبرية إلى الأمر (فاجتنبوا الرجس …) الذي يمثل جملة إنشائية طلبية دالة التفريق بين الخبر والإنشاء، فالخبر بصيغة الماضي في قوله تعالى: "وأحلت لكم بهيمة الأنعام" يشير إلى تحقق حصول الحل وتلبسهم به منذ زمن، وفي ذلك مزيد فضل عليهم وامتنان، ثم استثنى مما أحله من الأنعام ما يتلى عليهم فأتى بصيغة المضارع، وحقه أن يأتي بالماضي لمطابقة السياق فيكون "إلا ما تلي عليكم". فأفاد المضارع هنا الاحتراز؛ أي: ما يتلى عليكم من المحرمات في هذه الآيات وما سيعقبها من محرمات لاحقة لا ما قد ذكر في آيات سابقة فحسب، ثم تحول عن الإخبار إلى الإنشاء والطلب فقال: "فاجتنوا الرجس من الأوثان"، وفي التحول عن الإخبار إلى الإنشاء، وهما أسلوبان مختلفان من أساليب العربية إشارة إلى اختلاف مضمونها مبنىً ومعنىً، فالحلال يختلف تماماً عن الحرام وبينهما بون شاسع، لذلك حسن مجي الأمر بالاجتناب ليكون هذا التحول في الأسلوب لافتاً للنظر إلى الاختلاف بينهما، وأن الرجس من الأوثان وقول الزور لا يدخلان في الحلال.
ولو جاء السياق على نسق واحد من الإخبار، فقال: "وأحلت لكم بهيمة الأنعام وحرم عليكم الرجس من الأوثان وقول الزور"، لما كان فيه من الدلالة المذكورة في المفارقة ما في هذا التعبير.
وازداد الانفتاح الدلالي بإيجاد العلاقة السببية بين الأسلوبين، فكأن السياق القرآني يشير أيضاً إلى أن امتثال أوامر الله -عزوجل- هي سبب في حفظ ما أحله الله، وسبب في بقاء نعمته على العبد، فبينهما علاقة السببية من وجه والمفارقة من وجه آخر.
الصورة الرابعة: التحول عن المضارع إلى الأمر
ويتحول عن المضارع إلى الأمر للدلالة على اختلاف الفعلين، نحو قولـه تعالى حكاية عن هود عليه السلام وقومه: قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [هود: 53-54]. فأتى بالفعل المضارع ابتداء فقال: "أُشْهِدُ الله" ثم تحول عنه إلى فعل الأمر عند مخاطبة قومه فقال: (واشهدوا)، ولم يقل: "وأُشْهِدُكم" فخالف في المطابقة بين الأفعال، على نحو من التباين بين البنية السطحية والعميقة، على النحو التالي:
المستوى السطحي:
أُشْهِدُ اشهدوا
مضارع أمر
المستوى العميق:
أُشْهِدُ أُشْهِدُكُم
مضارع مضارع
لقد تضمن هذا السياق تحولاً عن صيغة المضارع (أشهد الله) إلى صيغة الأمر (واشهدوا)، وذلك لإبراز البون الشاسع بين الإشهادين، فإشهاده الله إشهاد صحيح وثابت عن اعتقاد ويقين، وإشهاده إياهم ليس إشهاداً حقيقياً وإنما هو على سبيل السخرية والتهكم والتحدي لإرادتهم( )، لذا أتى به بصيغة الأمر (واشهدوا) ليشير إلى الهوة الكبيرة بين الطرفين: طرف آمر وحقه أن يطاع وهو (هود) عليه السلام، وطرف آخر مأمور حقير الشأن وهم قوم هود.
ففي الأمر (اشهدوا) دلالة واضحة على البراءة التامة بين الطرفين وعلى التحدي القوي من قبل نبي الله هود لقومه، فأبرز هذا التحول "مواقف الطرفين المتباعدين عن طريق ذكر صيغة المضارع التي توضح تشريف الطرف الأول وقوته وعظمته ثم التحول عنها إلى صيغة الأمر الدالة على حقارة شأن الطرف الثاني وبطلان موقفهم الذليل"( ).
ويرى ابن المنيَّر أنه (ت 689هـ)( ): "يحتمل أن يكون إشهاده لهم حقيقة والغرض إقامة الحجة عليهم، وإنما تحول إلى صيغة الأمر عن صيغة الخبر للتمييز بين خطابه لله تعالى وخطابه لهم، بأن يعبر عن خطاب الله تعالى بصيغة الخبر التي هي أجل وأوقر للمخاطب من صيغة الأمر".
وقد يتحول عن المضارع إلى الأمر للدلالة على أن الفعل المضارع يراد به الأمر، من ذلك قولـه تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155].
أتى بالفعل المضارع المؤكد (ولنبلونكم) ثم تحول إلى فعل الأمر (وبشر الصابرين)، ولم يقل: (ولنبشرنَّ الصابرين) حتى يكون السياق مطرداً على نسق المضارع المؤكد على نحو: (ولنبلونكم … ولنبشرنَّ).
ويرى الألوسي (ت 1270هـ) أن قوله: (وبشر الصابرين) معطوف على (ولنبلونكم) من قبيل عطف المضمون على المضمون، "أي: الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة، لكن لمن صبر منكم"( ).
وهذا العطف بين الإنشاء والخبر هو ما عرف عند الزمخشري بعطف القصة على القصة، فالزمخشري لا يمنع عطف الإنشاء على الخبر ما دام المعتمد بالعطف هو مضمون الجمل لا الألفاظ، وحينئذ لا تطلب المشاكلة بين الألفاظ، وإنما تطلب المناسبة بين المعاني"( ).
"فهو عطف معنى الكلام ومفهومه ومضمونه الكلي المنبثق من جزئيات متعددة مختلفة الصور خبراً وإنشاء على مضمون كلي مثله"( ).
والذي يظهر أن قوله تعالى: "ولنبلونكم" فيه معنى إنشائي، هو طلب الصبر منهم على البلاء؛ لأن الإخبار بذلك مآله طلب الصبر على ذلك البلاء، فيكون (بشر) معطوفاً على (لنبلونكم) لما فيه معنى الطلب، "ولكنه تحول عن أن يقال: فاصبروا وأبشروا إلى ما عليه النظم ليكون الخبر المؤكد في (لنبلونكم) مفجراً الرغبة والعزم على الصبر ومقابلة البلاء به"( ).
ومنه قولـه تعالى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم: 46].
ففي هذه الآية تحول عن الفعل المضارع (أرجمنك) إلى الأمر (واهجرني) ولم يقل: (ولأهجرنك).
وقد علل الزمخشري وغيره أن فعل الأمر (اهجرني) "معطوف على محذوف يدل عليه لأرجمنك؛ أي: فاحذرني واهجرني؛ لأن لأرجمنك تهديد وتقريع"( ).
فالفعل (لأرجمنك) فيه تهديد ووعيد بإبراهيم -عليه السلام- مضمونه إنشاء، يراد به تحذيره من سب آلهتهم المزعومة، وكأنه يقول: إذا لم تنته فاحذرني.
الصورة الخامسة: التحول عن الأمر إلى الماضي
منه قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفيين وَالْعَاكِفِينَ والركع السجود
[البقرة: 125].
في هذا السياق القرآني تحولان: تحول عن الماضي (جعلنا) إلى الأمر (اتخذوا)، ثم إلى الماضي (عهدنا)، وذلك على النحو الآتي:
(جعلنا) (اتخذوا) (عهدنا)
ماض أمر ماض
ففعل الأمر (اتخذوا) مثل تحولاً عن الأصل السياقي وهو الفعل الماضي (جعلنا)، ثم أصبح يمثل أصلاً سياقياً جديداً للفعل الماضي (عهدنا) فمثل الفعل (عهدنا) تحولاً عن الأمر إلى الماضي.
والتحول عن الماضي (جعلنا) إلى فعل الأمر (اتخذوا) فيه شد لانتباه المتلقي للنص القرآني، وذلك "لتقوية" روابط الاتصال بينه وبين النص؛ لأن السياق القصصي المروي ليس غريباً عنه، وإنما يحتوي على أمور تهمه وتتصل به، يجب الحرص عليها وإحياؤها، لتكون مسيرته موصولة بتراث سابقيه"( ).
ويرى الزمخشري( ) أن هناك فعلاً ماضياً محذوفاً تقديره: "قلنا" قبل فعل الأمر (اتخذوا)، أي: وقلنا اتخذوا، وذلك لاطراد الأفعال الماضية في السياق، ولتختفي المخالفة في الأفعال، والحقيقة أن الحذف نفسه على -رأي الزمخشري- قد أظهر فعل الأمر بارزاً في السياق لدلالة مراده ينبغي التوقف عندها وفهمها، وهي -كما ذكرنا- مقصود منها شد انتباه المتلقي للعمل بهذا التوجيه الإلهي من اتخاذ مقام إبراهيم مصلى، ثم استمر السياق في السرد الحكائي للأحداث الماضية بعد ذلك.
ويحسن التنويه في هذا السياق إلى قراءة نافع وابن عامر بصيغة الماضي (واتَّخَذُوا) بفتح الخاء، وعلى هذه القراءة ينتفي التحول، إذ يصبح السياق كله سياق سرد ماضٍ، وتمثل كل قراءة وجهاً من وجوه الإعجاز القرآني، فورود القراءة بصيغة الماضي (واتَّخَذُوا) تفيد الإخبار عن الأمم السابقة من المؤمنين أنهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
ويرى ابن خالويه (ت 370هـ)( ): "أن الله أمر بذلك المسلمين من هذه الأمة مبتدئاً ففعلوا ما أمروا به فأثنى بذلك عليهم وأخبر به، وأنزله في العرضة الثانية".
فتكون القراءة بالإخبار عن وقوع الفعل قد تنزلت بعد قراءة الأمر به، وترتبت عليها، فجمع نسق الآية هذين المعنيين بقراءتيه، أي: قال لهم المولى عزوجل: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فاتخذوه مصلى.
الصورة السادسة: التحول عن فعل الأمر إلى المضارع
قد يأتي فعل الأمر ابتداء ثم يتحول عنه إلى الفعل المضارع فيكون في المضارع مزيد حث على تنفيذ هذا الأمر، وذلك من خلال استحضاره مشهد الحدث، نحو قوله تعالى: وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:71-72].
فنجد حركة الأفعال في السياق على النحو الآتي( ):
المستوى السطحي:
أقيموا، واتقوه تحشرون
أمر مضارع
المستوى العميق:
لنسلم، وأن نقيم ونتقيه نحشر (لأنه هو الذي إليه نحشر)
مضارع مضارع
أي: أن البنية العميقة للسياق وفق مطابقة الأزمنة في الأفعال تقتضي أن تكون على نحو:
(وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن نقيم الصلاة ونتقيه؛ لأنه هو الذي إليه نحشر).
وبذلك تطرد الأفعال على نسق واحد وهو زمن المضارع، إلا أن السياق في بنيته السطحية قد أبرز فعل الأمر (أقيموا، واتقوه) ليجسم معنى الفرض، والوجوب عند ذكر الصلاة والتقوى، ثم تحول إلى المضارع (تحشرون) ليفيد الاستحضار الدائم لمشهد الحشر المستقبلي بأهواله الجسام، وجعله متجدداً دائماً أمام عين المتلقي، لكي يقبل بهمة على تنفيذ الأوامر السابقة وهي الإسلام، وإقامة الصلاة، والتقوى( ).
وقد يتحول عن أمر المضارع للدلالة على أن الأمر في معنى الخبر لا الطلب.
من ذلك قوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 75-76].
جاء السياق القرآني بفعل الأمر (فليمدد) ثم تحول عنه إلى المضارع (ويزيد) وذلك على النحو الآتي:
المستوى السطحي:
فليمدد ويزيد
أمر مضارع
المستوى العميق:
فليمدد وليزد
أمر أمر
ولو جاء السياق على نسق واحد لكان (فليمدد له الرحمن مدا … وليزد الله الذين اهتدوا هدى).
ويكون في الفعلين حينئذ معنى الدعاء (فليمدد وليزد)، ولكن السياق خالف بينهما للدلالة على أن فعل الطلب (فليمدد) يراد به الخبر لا الإنشاء.
يقول الزمخشري( ): "(ويزيد) معطوف على موضع فليمدد؛ لأنه واقع موقع الخبر، تقديره: من كان في الضلالة مدّ أو يمد له الرحمن ويزيد".
وعندئذ يصبح السياق مطرداً تقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مدا .. ويزيد الله الذين اهتدوا هدى.
فيكون الطلب قد وضع موضع الخبر، أي: جيء بالطلب والمراد به الخبر، وإنما تحول به عن أسلوب الخبر إلى الإنشاء الطلبي مبالغة في تأكيد ذلك وحصوله وكأنه أمر واجب تحققه ووقوعه( ).
الخاتمة :-
توصل الباحث في ختام بحثه هذا إلى نتائج وتوصيات هي:-
1- تحولات الأفعال في السياق القرآني هي من أبرز الظواهر الأسلوبية في التعبير القرآني، وأكثرها وروداً، وتمثل مظهراً من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
2- توصل الباحث من خلال تحليل سياقات هذه التحولات إلى أن كل تحول في المبنى يصاحبه ت في المعنى قطعاً.
3- تكتسب الأفعال في السياق القرآني دلالتها الزمنية من السياق الواردة فيه، لا من بنيتها الصرفية فحسب
4- ينبغي الربط بين البنية العميقة للتركيب والبنية السطحية؛ ليظهر من خلال ذلك جماليات التركيب، ووظيفته البلاغية.
5- ظاهرة التحولات في الأفعال والخروج عن مقتضى الظاهر هي وجه من وجوه شجاعة العربية وروعتها.
6- كشفت هذه التحولات في الأفعال في النص القرآني عن دلالات نفسية, وتربوية,و فكرية, كما هو الحال في السياقات القرآنية التي تصف حال المؤمنين و المنافقين و الكفار, وكذلك الآيات التي خاطب المولى عز وجل بها هذه الأصناف الثلاثة, فجاء العدول فيها يمثل أثراً نفسياً و يقوم التصور و الفكر, و كذلك الآيات التي وصفت مشاهد الخلق في الكون و الحياة.
7- أبرزت هذه التحولات أيضاً الجوانب الغيبية في صورة المشاهد المحسوسة المرئية, قطعاً بحدوثها و حصولها, كما هو الحال في السياقات القرآنية التي تحدثت عن عوالم الجنة و النار.ومشاهد البعث و الحساب وغيرها من العوالم الغيبية.
8- وُظّف هذا التحول للأفعال في التعبير القرآني ليوافق ببنيته المتحولة الوقائع المحسوسة في مشاهد الحياة, فبرز من خلال ذلك موافقة المقال لمقتضى الحال, و تلك هي البلاغة.
9- يوصي الباحث بالاهتمام بالدراسات اللغوية التي توظف اللغة توظيفاً دلالياً و اجتماعيا,و ذلك من خلال التعامل مع النصوص عن قرب بالتحليل و التعليل,لا سيما النص القرآني المعجز في نظمه و معناه, والذي كل مفردةٍ فيه بل كل حرفٍ أو حركةٍ إعرابية تحمل رسالةً تتجاوز حدود الكلمة و الجملة إلى عالم النفس و الحياة.
10- يشير الباحث إلى أن هناك مواضيع لغوية بلاغية بحاجة إلى دراسات مستقلة، تسهم في إبراز جوانب مضيئة من إعجاز النص القرآني، وعبقرية لغته، لغة التنزيل، من تلك الموضوعات، موضوع التحولات الصوتية، والتحولات المعجمية وتحولات التركيب النحوي في السياقات القرآنية، وكذلك التحولات البلاغية الفنية في الصور و التشبيهات و غيرها من موضوعات البلاغة المختلفة.
والحمد لله في الأولى والآخرة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قائمة المصادر والمراجع:-
• أثر النحاة في البحث البلاغي، عبدالقادر حسين، دار غريب، القاهرة، 1998م.
• أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، (د.ن)، 1990.
• الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، دراسة نظرية تطبيقية للتوظيف البلاغي لصيغة الكلمة، عبدالحميد أحمد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1،
1422هـ -2001م.
• الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، ت: إبراهيم العزباوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتاب العربي، ومؤسسة جمال، بيروت، (د.ت).
أقسام الكلام العربي، من حيث الشكل والوظيفة، د.فاضل مصطفى الساقي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1977م
• الإيضاح في علل النحو، أبو القاسم الزجاجي (ت 337هـ)، ت: مازن المبارك، دار النفائس، بيروت، ط3، 1979م.
• البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، (ت 754هـ)، ط2، دار الفكر، بيروت، 1983م..
• البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، عابدين، القاهرة، ط2، 1408هـ- 1988م
• التبيان في إعراب القرآن، أبو البقاء عبدالله بن الحسين العكبري، (ت 616هـ)،
• التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس،
1984م.
• تحولات البنية في البلاغة العربية، د. أسامة البحيري، دار الحضارة، مصر، ط1، التعبير القرآني، د. فاضل صالح السامرائي، دار عمار، الأردن، ط2، 2002م 0م.
•
• تفسير أبي السعود، المسمى بإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم،
أبو السعود محمد بن محمد العمادي، (ت 951هـ)، دار المصحف،
القاهرة، د.ت.
• تفسير الفخر الرازي، المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 604هـ)، دار الفكر، بيروت، ط1، 1981م.
• حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي، المسماة عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي، القاضي شهاب الدين الخفاجي (ت 1069هـ)، ت: عبدالرزاق المهدي، دار المكتبة العلمية، بيروت، 1997م.
• الحجة في القراءات السبع، أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن خالويه، (ت370هـ)، ت: عبدالعال سالم مكرم، دار الشروق، ط3، بيروت، 1979م.
• الخصائص، أبو الفتح، عثمان بن جنّي (ت 392هـ)، ت. محمد علي النّجار، دار الكتاب العربي، بيروت، 1952م.
• دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني ت (474هـ)، ت: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1992م.
• روح المعاني، شهاب الدين السيد محمود الألوسي (ت 1270هـ)، إحياء التراث العربي، بيروت، (د.ت)
• الزمن واللغة، مالك المطلبي، الهيئة المصرية للكتاب، مصر، 1986م
• شرح الكافية في النحو، رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي (ت 686هـ)، ت: د. عبدالعال سالم مكرم، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 2000م.
• الطراز، المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، يحيى بن حمزة العلوي، (ت 745هـ)، مطبعة المقتطف، مصر، 1914م.
• غرائب القرآن ورغائب الفرقان، نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمّي، (ت 728هـ)، ضبطه وخرج أحاديثه زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1416هـ - 1996م.
• في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، ط22، 1414هـ - 1994م.
• الكتاب، لسيبويه، أبي بشر بن عمرو بن عثمان بن قنبر، (ت 180هـ)،
ت: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1988م.
• الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، (ت 538هـ)، دار الفكر، 1977م.
اللغة،: ج. فندريس، ترجمة عبدالحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مكتبة الأنجلو
المصرية، 1950م
اللغة العربية معناها ومبناها، د. تمام حسان، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1994م.
• المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ضياء الدين بن الأثير (ت 636هـ)،
ت: أحمد الحوفي وبدوي طبانة، دار الرفاعي، الرياض، ط2، 1983م.
مسالك العطف بين الإنشاء والخبر، د. محمود توفيق سعد، مطبعة الأمانة، مصر،
1993
• معاني النحو، د. فاضل صالح السامرائي، دار الفكر، الأردن، ط1، 1420هـ-2000م.
• مفتاح العلوم، أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي،
(ت 626هـ)، ت: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1983م.
• من أساليب التعبير القرآني، دراسة لغوية وأسلوبية في ضوء النص القرآني،
د. طالب محمد إسماعيل الزوبعي، دار النهضة العربية، بيروت، 1996م.
• النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبدالله درَّاز، ت: محمد عبدالحميد الدخاخني، دار طيبة، الرياض، 1997م.
• همع الهوامع، الإمام جلال الدين السيوطي، (ت 911هـ)، ت: د. عبدالعال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، ط2، 1987م.
لقد جاء هذا البحث ليقف على صور التحولات التي تقع في صيغ الأفعال في السياق القرآني، وذلك بالتحول من الفعل الماضي إلى المضارع أو العكس، وكذلك التحول من الماضي إلى الأمر ومن الأمر إلى الماضي، وهكذا في السياق نفسه.
وهذه التحولات للأفعال في السياق القرآني الواحد لها أبعاد بلاغية، ومقاصد بيانية يعمد إليها النظم القرآني، وتكشف عن وجه من وجوه الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
و قد تتبع الباحث أشكال هذه التحولات في الأفعال كاشفا عن دلالات هذه التحولات ومحللا لهذه المواضع في الآيات القرآنية.
ولا يقف الباحث عند حدود التعليل النحوي فقط بل يتجاوزه إلى التعليل البلاغي والتحليل البياني، محاولا من خلال ذلك ربط التركيب بالمعنى والوقوف على دلالات أزمنة الأفعال من خلال السياق القرآني، وعدم الاقتصار على الدلالة الصرفية للأفعال خارج السياق.
وقد تكون البحث من مقدمة ومبحثين عرضت في المقدمة لأهمية الموضوع ودواعي دراسته، وفي المبحث الأول عرضت لصيغ الأفعال عند النحاة وفي المبحث الثاني تناولت صور التحولات في الأفعال كاشفا عن أثرها البلاغي في البيان القرآني.
مقدمة البحث:-
الحمد لله الذي علم الإنسان، وانزل كتابه للهداية والبيان، وأصلي وأسلم على خير رسله وأنبيائه، محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الأخيار، ومن سار على درب خطاهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين .
وبعد :-
فالقرآن الكريم كتاب الله الذي لاتنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء وكلما أمعن المتأملون النظر فيه والفكر وجدوا أنفسهم أمام بحر من المعاني لا ساحل له،
فمعانيه متجددة حية، تتجدد بتجدد الزمان والمكان، ومع كونه معجزة بيانية خالدة هو- مع ذلك- معجزة تشريعية ربانية، لذلك انصرفت إليه جهود علماء اللغة والبيان لمعرفة أساليبه وبلاغة بيانه، فهو كتاب العربية الأول والبيان الخالد.
والمقصود بتحولات الأفعال في السياق القرآني هو التحول الحاصل من إعادة ذكر الفعل على نسق مخالف لما سبق ذكره في السياق نفسه، وهذه الظاهرة من أبرز الظواهر الأسلوبية في التعبير القرآني.
إذ نجد التعبير القرآني كثيرا ما يغاير في استعمال الأفعال كأن يرد السياق ابتداء بالفعل الماضي ثم يتحول عنه إلى المضارع أو الأمر في السياق نفسه، وكذلك العكس بأن يرد الفعل في السياق مضارعا ثم يتحول عنه إلى الماضي وهكذا.
من ذلك مثلا قوله تعالى"وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [الأعراف، 170]؛ إذ نجد التعبير القرآني قد عدل عن الفعل المضارع (يمسكون) إلى الماضي (أقاموا)، وقد كان المتوقع لدى المتلقي اطراد السياق على سبيل المطابقة في الأفعال فيكون (يمسكون … ويقيمون)
أهمية الموضوع ودواعي دراسته:
هذه التحولات في السياق القرآني، تفاجئ المتلقي وتثير دهشته؛ لخروجها عن المتوقع لديه من اطراد السياق على نمط واحد من المطابقة والمشاكلة، مما يدعو ذلك المتلقي البحث عن مثيراتها السياقية، وأبعادها الدلالية.
لذلك حاول هذا البحث الوقوف على صور هذه التحولات وأثرها البلاغي في التعبير القرآني، فهذه ظاهرة نحوية بلاغية، تبرز وجهاً من وجوه الإعجاز البياني في القرآن، وتدلل على ما وهب المولى عزوجل هذه اللغة، لغة التنزيل من إمكانات عديدة، وقدرات فائقة في التصرف في التعبير، والتعدد في الدلالات.
وهذا الموضوع لم يحظ بدراسة قديما و حديثا تتناول أشكاله ودلالاته في القرآن الكريم حسب علمي المتواضع، غير ما نجده من إشارات عابرة عند البلاغيين والمفسرين مبثوثة هنا وهناك، ويمكن أن ندخله ضمن ما أسماه علماء البلاغة قديما بالالتفات، غير أن الالتفات مصطلح قصد منه البلاغيون التحولات الحاصلة في الضمائر من غيبة إلى مخاطب والعكس، وقد وسع ابن الأثير مصطلح الالتفات ليشمل أيضا الالتفات في الأفعال كما أشار إلى ذلك في كتابه الشهير "المثل السائر"
غير أني آثرت مصطلح " التحولات"لما فيه من الجدة والطرافة لا سيما أن مصطلح الالتفات عند ابن الأثير لم يكن محل اتفاق عند علماء البلاغة، كما هو معلوم من مصنفاتهم، فكان مصطلح التحولات أوسع وأشمل لكل أنواع التحولات الحادثة في السياق القرآني
والتحولات في السياق القرآني ظاهرة بارزة تشمل كل مظاهر التحولات في الأفعال والحروف والتراكيب والصور والمشاهد.
وما يعنينا في هذا البحث هو التحولات في الأفعال على وجه الخصوص.
فهو موضوع طريف لم يستوعب بالدراسة والبحث وتصنيف الصور والتحليل لكل هذه الصور واستنباط الأبعاد البلاغية المقصودة لهذه التحولات في أزمنة الفعل.
وقد جاءت خطة البحث على النحو الآتي :
مقدمة: عرضت فيها لأهمية البحث ودواعي دراسته.
المبحث الأول: صيغ الأفعال عند النحاة.
المبحث الثاني: صور التحولات في الأفعال.
ثم ختمت البحث بخاتمة ذكرت فيها أهم ماتوصلت إليه من نتائج وتوصيات.
والله أسأل عز وجل أن يكتب لي أجر هذا العمل، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون.
المبحث الأول:صيغ الأفعال عند النحاة:-
قسم النحاة الفعل ثلاثة أقسام هي: "ماضٍ وهو ما دل على الزمن الماضي، ومضارع وهو ما دل على زمن الحاضر أو المستقبل، وجعلوا القسم الثالث وهو الأمر يدخل ضمن الدلالة على زمن المستقبل"( ).
وفي تقسيمهم هذا انطلقوا من أن الأزمان ثلاثة: ماضٍ وحاضر ومستقبل، يقول سيبويه (ت 180هـ): "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع"( ).
"فالنحاة قسموا الفعل على أساس تقسيم الزمن الفلسفي، وهو الماضي والحاضر والمستقبل، وخصوا كل زمن بصيغة معينة، هو معناها في حالة الإفراد والتساوق على السواء"( ).
وقد انتقد بعض الباحثين المعاصرين النحاة لتركيزهم على الزمن في صيغة الفعل، وإهمال السياق الذي وردت فيه، فيرى فاضل الساقي( ): "أنه كان على النحاة أن يدركوا أن الأفعال مجرد صيغ وألفاظ تدل على زمن ما، هو جزء من معنى الصيغة لا على زمن معين، وأن السياق أو الظروف القولية بقرائنها اللفظية والحالية هي وحدها التي تعين الدلالة الزمنية وترشحها لزمن بعينه".
وعليه فقد قسم هؤلاء الباحثون( ) الزمن على نوعين هما:
أولاً: الزمن الصرفي وهو الزمن الذي تدل عليه الصيغة المفردة خارج السياق.
ثانياً: الزمن النحوي، أو يسمى "الزمن السياقي التركيبي" "وهو الذي تُحَدِّده القرينة اللفظية أو الحالية، أي: هو معنى الفعل في السياق"( ).
وللمقارنة بين الزمن النحوي والزمن الصرفي يمكن القول: إن "مجال النظر في الزمن النحوي هو السياق، وليس الصيغة المفردة، وبناء الجملة العربية أخصب مجال لهذا النظر بينما لا يكون مجال النظر في الزمن الصرفي إلا الصيغة منفردة خارج السياق"( ).
ويرى مالك المطلبي: "أن الصيغ في اللغة العربية تخلو من الدلالة على زمن في المستوى الصرفي"( ). وأن "وقوع الصيغ المتغايرة في مستوى تركيبي واحد يعني تفريغ صيغة ما، دون غيرها من الزمن حيث تشير إلى وجه من وجوه دلالتها الحدثية، ومن هنا يكون من الخطأ إسناد الزمن إلى مثل هذه الصيغ بوصفها "شكلاً زمنياً"؛ لأن الزمن يكتسب من قرائن السياق اللفظية والمعنوية"( ).
ويرى الباحث أن دلالة السياق على الزمن النحوي لا تنفصل عن دلالة المفردة للصيغة الصرفية، فهما متعالقتان، وأن الصيغة الصرفية لا تخلو من دلالة زمنية، غير أن السياق يضفي دلالة إضافية للدلالة الصرفية المفردة يحددها السياق نفسه، فيُجمع بين الدلالتين، ولا تلغي إحدى الدلالتين الأخرى، أو تفرغها من محتواها.
فمن ذلك مثلاً: الفعل "أتى" في قولـه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل، 1]. يدل بصيغته الصرفية على المضي المطلق، في زمن مضى وانقضى، إلا أن وروده في السياق "يفرض عليه دلالة سياقية يقتضيها السياق ويدل عليها، وهي دلالة الاستقبال؛ لأن القرينة اللفظية "فلا تستعجلوه" في السياق النحوي التركيبي تشير إشارة واضحة جلية إلى أنه لما يقع بعد. ومع كونه فعلاً ماضياً في الصيغة الصرفية، فإننا لا نفرغ هذه الصيغة الصرفية من دلالتها الزمنية ولا نخضعها للدلالة السياقية فقط، كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، إذ لو كان ذلك هو المراد لجاءت الصيغة صريحة بقولـه: "سيأتي أمر الله". ومع ذلك لا نقف عند حدود الدلالة الصرفية اللفظية لنقول: بأنه فعل ماضٍ قد وقع وحصل؛ فالقرينة السياقية تمنع ذلك وهي قولـه: "فلا تستعجلوه"، وإنما نجمع بين الدلالتين الصرفية والنحوية، الإفرادية والتركيبية، لنقول: إن المراد "هو توظيف الصيغة في معنى الاستقبال متضمنة معنى المضي وموظفة له في الوقت نفسه، فكأن مقصود الآية أن تقول: سيأتي أمر الله لا محالة مجيئاً مقطوعاً به، بل هو في حكم ما وقع وأتى بالفعل"( ).
ونلحظ أن مجيء الأفعال في السياق القرآني كثيراً ما يخرج عن النمط المألوف للغة من حيث التصرف في أزمنة الفعل، وذلك كالتعبير عن الحدث الماضي بالمضارع والتعبير عن الحدث المستقبل بالزمن الماضي، وكثيراً ما نجد السياق القرآني لا يجري على نمط واحد في المطابقة الزمنية بين الأفعال، إذ يحصل تصرف في التحول الداخلي للسياق نفسه بالمخالفة في أزمنة الأفعال، كأن يرد في السياق ذكر الفعل المضارع ثم ينكسر النسق السياقي بمجيء الفعل الماضي في السياق نفسه أو العكس، مما يثير التساؤل عن معرفة سبب ذلك التحول ودلالته التعبيرية في السياق القرآني.
وهذا التحول "يكشف عن تصادم الأزمنة على مستوى البنية السطحية مما يدفع المتلقي إلى الانتباه والتفاعل مع النص، ومحاولة إعادة التوافق بين صيغ الأفعال وأزمنتها في البنية العميقة"( ).
فالبنية العميقة تستوجب المطابقة في أزمنة الفعل في السياق اللغوي، والتحول عنها إلى البنية السطحية التي برزت على سطح النص تستدعي تحولاً في المعنى يرافق هذا التحول في المبنى.
وقد توقف علماؤنا عند هذا النوع من التحول وعدّوه ضرباً من البلاغة، يقول ابن الأثير (ت 636هـ): "واعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيان أن التحول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية، اقتضت ذلك، وهو لا يتوخّاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطّلع على أسرارها، وفتّش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كل كلام، فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهماً وأغمضها طريقاً"( ).
ونحن في تناولنا لهذا التحول في صيغ الأفعال، لا نتناولها من الناحية الصرفية، وإنما نتناولها من حيث دلالة الزمن النحوي الذي وردت فيه في السياق.
إذ تناول هذه الصيغ مفردة خارج السياق اللغوي يعد تناولاً صرفياً، وتناولها في السياق الواردة فيه من حيث الدلالة الزمنية يعد تناولاً نحوياً سياقياً، كما سبقت الإشارة إليه.
المبحث الثاني: صور التحولات في الأفعال:-
تتمثل التحولات في الأفعال في ست صور هي على النحو الآتي:
الصورة الأولى: التحول عن الفعل الماضي إلى المضارع:
مجيء المضارع بعد الماضي في هذا الضرب من التحول يكون على نوعين( ): نوع يستعمل فيه المضارع للدلالة على حدث قد مضى وانقضى، ونوع آخر يستعمل فيه المضارع للدلالة على حدث يقع في الحال والاستقبال.
أما النوع الأول: فمجيء المضارع فيه للدلالة على حدث قد مضى، وقد قرر علماء البلاغة أن المضارع في الحالة هذه يقصد به استحضار الصورة للحدث الماضي، وكأنه أمر مشاهد بارز للعيان، يقول ابن الأثير( ): "واعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذلك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي". وهذا ما أطلق عليه الزمخشري (ت 538هـ) مصطلح "حكاية الحال". يقول الزمخشري عند قولـه تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ ميِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر، 9]. فإن قلت لم جاء "فَتُثِيرُ" على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية"( ).
فالسياق هو الذي أضفى على الفعل المضارع في هذه الحالة دلالة زمنية معينة، وذلك من عطف الفعل المضارع على الفعل الماضي، إذ يقتضي السياق بموجب المطابقة الزمنية أن تجري الأفعال الواردة فيه على نسق واحد، يقول السيوطي (ت 911هـ)( ): "وما عطف على حال أو مستقبل أو ماضٍ أو عطف عليه ذلك فهو مثله؛ لاشتراط اتحاد الزمان في الفعلين المتعاطفين".
فمجيء الفعل المضارع في الحالة هذه خارجاً عن النسق العام للسياق يؤدي إلى توليد بارزتين في السياق، دلالة نحوية متمثلة في الفعل المضارع الدال على الزمن الحاضر أو الاستقبال، ودلالة سياقية متمثلة في الإشارة إلى الزمن الماضي، وذلك بالعطف على الماضي أو مجيئه بعده، فالدلالة السياقية تقتضي مضيه والدلالة النحوية للصيغة تقتضي استحضاره، فيجمع بين الدلالتين ليقال: إنه الماضي الحاضر، أو بعبارة (فندريس) هو "المضارع التاريخي"، وذلك "استعمال شائع في الحكاية حيث يسمى بالحاضر التاريخي، وفيه يجد المثقفون سحراًَ خاصاً، يقولون بأن الحاضر أكثر تعبيراً أو أبلغ حتى ليجعل المنظر يحيا من جديد أمام عيني القاريء، ويرجع بفكرنا إلى اللحظة التي دار فيها الحديث"( ).
ومن أمثلة هذا المضارع التاريخي ما جاء في حديث عبد الله بن عتيك حين دخل على أبي رافع اليهودي حصنه، قال: فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أنى هو من البيت، فقلت: أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف وأنا دهش"( ).
ففي هذا النص نجد أن الفعل المضارع (أضرب) يدل في معناه على حدث مضى وانقضى، بدلالة السياق على ذلك، إذ كل أحداثه ماضية (فانتهيت .. فقلت .. فأهويت ..)، وكان حق الفعل (أضرب) أن يرد ماضياً فيكون (فأهويت نحو الصوت فضربته وأنا دهش) لكنه تحول عن الماضي إلى المضارع؛ لاستحضار الحدث وكأنه مشاهد للعيان؛ لأن الموقف موقف تعجب ودهشة.
ومنه أيضاً قول تأبط شراً( ):
ألا مَنْ مُبْلغٌ فِتَيانَ فَهْمِ
بِأَنِّي قَدْ لَقِيتُ الغُولَ تَهْويَ
فأضربُها بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّتْ
بِمَا لاَقَيْتُ عِنْدَ رَحى بِطَانِ
بِسَهْبٍ كالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانَ
صَرِيْعَاً لليديْن وَلِلْجِرَانِ
فالمستوى السطحي( ): لقيتُ أضربها
ماضٍ مضارع
والمستوى العميق: لقيتُ فضربتها
ماضٍ ماضٍ
فالسياق الزمني للأبيات يسير على جهة الإخبار بالماضي (لاقيت، لقيت)، والشاعر في هذا الموقف يريد أن يخبر على سبيل السرد والحكاية عن واقعة مدهشة حصلت له، فأتى بـ (ألا) الاستفتاحية ليشد انتباه السامعين لسماع السرد والحكاية، ثم يذكر المكان "رحى بطان" ويثير الرعب والخوف بذكر اسم "الغول"، وأنه لقاه بمكان خلاء لا ملجأ فيه ولا احتماء، ثم بعد السرد الحكائي بصيغة المضي تحول إلى الفعل المضارع. لحظة المواجهة الحاسمة مع الغول، فقال: "فأضربها" وذلك أنه "قصد أن يصور لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها مشاهدة، للتعجب من جراءته على ذلك الهول، ولو قال: "فضربتها" عطفاً على الأول؛ لزالت هذه الفائدة المذكورة"( ).
ويقول ابن الأثير( ): "فإن قيل: إن الفعل الماضي أيضاً يتخيل منه السامع ما يتخيله من المستقبل، قلت في الجواب: إن التخيل يقع في الفعلين معاً، لكنه في أحدهما وهو المستقبل أوكد وأشد تخيّلاً؛ لأنه يستحضر صورة الفعل، حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منه، ألا ترى لما قال تأبط شراً "فأضربها" تخيّل للسامع أنه مباشر للفعل، وأنه قائم بإزاء الغول، وقد رفع سيفه لضربها، وهذا لا يوجد في الفعل الماضي؛ لأنه لا يتخيل السامع منه إلا فعلاً قد مضى من غير إحضار للصورة في حالة سماع الكلام الدال عليه، وهذا لا خلاف فيه".
وعد السكاكي ( 626هـ) هذا النوع من التحول أصلاً بلاغياً ثابتاً إذا اقتضى السياق اللجوء إليه، فقال( ): "وإنه -أي الانتقال من التعبير بالماضي إلى المضارع- طريق للبلغاء لا يتحولون عنه، إذا اقتضى المقام سلوكه".
ويرد هذا النوع من التحول بكثرة في الكتاب العزيز، ويعد من روائع البيان فيه، إذ عمد القرآن الكريم إلى صورة مغرقة في القدم فاستدعاها من الماضي السحيق إلى الزمن الحاضر؛ لتصبح كأنها مشاهدة ماثلة للعيان، من ذلك قولـه تعالى مخاطباً اليهود: أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة، 87].
ففي هذا السياق حصل تحول عن الفعل الماضي "كذبتم" إلى الفعل المضارع "تقتلون" وكان مقتضى السياق بموجب المطابقة الزمنية بين الأفعال أن يكون على النحو "ففريقاً كذبتم وفريقاً قتلتم".
لا سيما أنه يتحدث عن أمر حدث في الزمن الماضي، من تكذيب اليهود للأنبياء وقتلهم إياهم، لكن السياق تحول عن الماضي إلى المضارع؛ لأن قتل الأنبياء أمر فظيع، فأراد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب( ).
وسياق هذه الآية يشابهه سياق آخر وهو قولـه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة، 91].
إذ جاء الفعل المضارع "تقتلون" الدال على الحال مقترناً بظرف الزمان "قبلُ" الدال على الماضي، مما يجعل دلالة الفعل المضارع دالة على الزمن الماضي، فالفعل لا يدل على زمن الحدوث، وإنما يدل على زمن الإخبار، فللفعل الماضي زمانان؛ زمن حدوث ووقوع، وزمن إخبار عنه، وهو ما أشار إليه الزجاجي (ت 337هـ) بقولـه( ): "والفعل الماضي ما تقضى وأتى عليه زمانان، لا أقل من ذلك، زمان وجد فيه، وزمان خبر فيه عنه".
ونجد أن السياق القرآني قد نسب جريمة القتل إلى الأحفاد عندما خاطبهم فقال: "فلم تقتلون أنبياء الله من قبلُ"، في حين أن القتل قد حصل في الزمن الماضي من الأجداد، وذلك من بلاغة السياق القرآني، إذ أفاد الفعل "تقتلون" الاستمرارية للحدث، كما أفاد الحضور للمشهد في الأذهان، إشارة إلى أن نزعة القتل والإجرام تسري في دماء الأحفاد كما سرت في دماء الأجداد.
وفي ذلك تنبيه في الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض، وأنهم سواسية في الجرم، فعلى أيهم وضعت يدك فقد وضعتها على الجاني الأثيم؛ لأنهم لا ينفكون عن الاستنان بسنة أسلافهم، أو الرضى عن أفاعيلهم، أو الانطواء على مثل مقاصدهم"( ).
وأضفى ظرف الزمن الماضي "قبلُ" على السياق دلالتين، دلالة تفيد إرجاع السياق اللغوي للفعل إلى الزمن الحقيقي للحدوث وهو الماضي، ودلالة أخرى توحي بأن قتل الأنبياء قد كان في الزمن الماضي في حق من سلف منهم، أما هذا النبي فلا يمكنون منه، فالله يعصمه من الناس، يقول دراز( ): "ولقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح باباً من الإيحاش لقلب النبي العربي الكريم وباباً من الأطماع لأعدائه في نجح تدابيرهم ومحاولاتهم لقتله، فانظر كيف أسعفنا بالاحتراس عن ذلك كله بقولـه "من قبلُ" فقطع بهذه الكلمة أطماعهم وثبت بها قلب حبيبه، إذ كانت بمثابة وعده إياه بعصمته من الناس".
"فإذا أخذنا بدلالة الماضي للظرف "قبلُ" كانت دلالة الفعل "تقتلون"تفيد استحضار الصورة لحدث مضى في الزمان، وإذا أخذنا بما توحيه دلالة "قبلُ" من استحالة حصول الفعل وتحققه بالنسبة لهذا النبي، كانت دلالة الفعل "تقتلون" تفيد تجدد محاولة الفعل منهم والاستمرار، والجمع بينهما نوع من الانفتاح الدلالي للنص القرآني.
ولكننا نجد سياقاً آخر في القرآن الكريم يرد فيه الإخبار بصيغة ضمير الغائب في الحديث عن بني إسرائيل، كما هو الحال في قولـه تعالى: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ [المائدة، 70].
وهذا السياق تنسجم فيه الدلالة الزمنية للسياق الداخلي من خلال الإخبار عمن سبق من بني إسرائيل بصيغة ضمير الغائب "إليهم، جاءهم، أنفسهم" مع السياق الخارجي للزمن الماضي، وبناءً على ذلك فتنصرف دلالة الفعل المضارع "يقتلون"، في الحالة هذه إلى استحضار الصورة لا غير، وليس فيه دلالة استمرار الحدث وتجدده، يقول الزمخشري (ت 538هـ)( ): "جيء "يقتلون" على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحالة الشنيعة للتعجيب منها".
ومما سبق ذكره يمكننا الجمع بين دلالات هذه السياقات المختلفة، لنقول: إن دلالة الفعل "يقتلون" تفيد استحضار صورة قتل الأجداد للأنبياء تبشيعاً لقبح فعلتهم، وذلك من سياق الإخبار عنهم بضمير الغائب، وفيه دلالة على استمرار الحدث وتجدد حصوله من الأبناء والأحفاد وذلك من سياق الخطاب، وفيه تيئيس من تحقق ذلك وحصوله في حق هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يعد من بلاغة تصريف القول في القرآن الكريم، فقد تم توظيف القيمة الزمنية في صياغة الفعل للحصول على مساحة تتعدد فيها الدلالات للنص وتتسع.
وكما أن وظيفة استحضار الصورة في سياق الآيات السابقة كان لغرض تصوير فظاعة الحدث وقبحه، فكذلك نجد استحضار الصورة في سياق آخر يرد للفت الأنظار إلى موضع القدرة والاعتبار، من ذلك قولـه تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر، 9]. فإنه إنما قال: "فتثير، مستقبلاً، وما قبله وما بعده ماضٍ؛ لذلك المعنى الذي أشرنا إليه وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة"( ).
ويتحول الماضي المنفي إلى المضارع المنفي فيفيد الفعل المضارع في هذه الحالة تأكيد النفي، وليس استحضار الصورة كما هو الحال مع المضارع المثبت، وهو ما ذهب إليه ابن جني (ت 392هـ) إذ قال( ): "ومنه قولـهم: لم يقم زيد، جاءوا فيه بلفظ المضارع وإن كان معناه المضي؛ وذلك أن المضارع أسبق رتبة في النفس من الماضي، ألا ترى أن أول أحوال الحوادث أن تكون معدومة، ثم توجد فيما بعد، فالمضارع معدوم باعتبار أنه لم يقع بعد، أما الماضي فقد وقع وانتهى، فإذا نفي المضارع الذي هو الأصل فما ظنك بالماضي الذي هو الفرع". "وفي هذا النفي نوع من التوكيد، فالتعبير بالمضارع المنفي بدلاً من الماضي لا يفيد عند ابن جني استحضار الصورة، كما يفيد التعبير بالمضارع بصفة عامة، ولكنه يأتي لإرادة التوكيد"( ).
وبناء على ما تقدم يكمننا فهم سر التحول في سياق قولـه تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون، 76]. فالمتوقع من سياق هذه الآية أن تكون على النحو التالي: "فما استكانوا لربهم وما تضرعوا" لكن السياق القرآني تحول عن الماضي المنفي إلى المضارع المنفي، والسبب في ذلك -والله أعلم- أن حالة التضرع هي مرتبة أعلى في الخضوع من الاستكانة نفسها، إذ التضرع ضرب من الإمعان في الابتهال واللجوء إلى الله تعالى، فنفي ما هو أدنى يستلزم من باب أولى التأكيد في نفي ما هو أعلى رتبة، فإذا انتفت الاستكانة منهم، فمن باب أولى ينتفي حصول أدنى تضرع منهم، لذا تحول السياق في النفي عن الماضي إلى المضارع؛ فنفي المضارع أشد تأكيداً من نفي الماضي، -كما سبق ذكره عند ابن جني- فوافق المقال مقتضى الحال.
ولعل ذلك ما قصده ابن عاشور بقولـه( ): "والتعبير بالمضارع في "يتضرعون" لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم". إذ يفهم من قوله: "تجدد الانتفاء" تكرار النفي واستمراره وذلك ضرب من التأكيد، وكأني بالسياق يقول: "ما تضرعوا، وما تضرعوا، وما تضرعوا، …"، فقال: "وما يتضرعون"، وهو ما يفهم أيضاً من قول الألوسي( ): "وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام، إلا أن المراد دوام النفي، لا نفي الدوام".
ولو جرى السياق على النمط المتوقع فجاء "فما استكانوا لربهم وما تضرعوا" لكان المقصود -والله أعلم- وما تضرعوا التضرع المطلوب لرفع البلاء وكشف العذاب، وإنما جاء "وما يتضرعون" لنفي حصول أدنى شيء من التضرع أصلاً".
ولا منافاة فيما قررناه هنا وبين قولـه تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ [المؤمنون، 64-65]. فهناك فرق بين الجؤار والتضرع.
يقول الشهاب الخفاجي (ت 1069هـ)( ): "فالتضرع يستعمل فيما إذا كان عن صميم القلب لا باللسان فقط، ولذا عبر عن استغاثتهم أولاً بالجؤار الذي هو من صوت الحيوان، فلا منافاة بينهما كما توهم".
وللتحول إلى المضارع دلالات تخرج عن دلالة استحضار الصورة إلى معانٍ أخرى يشي بها السياق القرآني الكريم، من ذلك دلالة التلطف في الخطاب، وكثرة وقوع الفعل وتكراره، أو تجدده واستمراره، فمن دلالة التلطف في الخطاب قولـه تعالى: قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ، 25].
لقد كان من المتوقع لدى المتلقي أن يجري السياق على نمط واحد فيكون" قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما أجرمتم"، ولكن السياق القرآني تحول عن الظاهر والمتوقع تحولين، تحولاً معجمياً عن لفظة "أجرم" إلى لفظة "عمل"، وتحولاً نحوياً عن الماضي "أجرمنا" إلى المضارع "تعملون".
وعلل ذلك الألوسي فقال( ): "وهذا أبلغ في الإنصاف، حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو منها مؤمن بما يعبر به عن العظائم وأسند إلى النفس، وعن العظائم من الكفر ونحوه بما يعبر عن الهفوات، وأسند للمخاطبين، وزيادة على ذلك أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقق، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك".
"وهذا أسلوب غاية في الكسب للخصم إلى جانب المتحدث، وطريق بارع في التغاضي عن هفوات الخصم، ووسيلة لتحريك دوافع التفكير في المقول، مما يشير إلى وعي الداعية إلى الله في الأسلوب الذي يدعو به الناس"( ).
ومن السياقات القرآنية التي يرد فيها هذا التحول للدلالة على كثرة وقوع الفعل وتكراره قولـه تعالى: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الزخرف، 6-7].
ففي هذه الآية نجد التحول عن الفعل الماضي "أرسلنا" إلى الفعل المضارع "يأتيهم"، وكان المتوقع بموجب المطابقة بين الأفعال أن يرد السياق على النحو التالي: "وكم أرسلنا … وما أتاهم … إلا استهزؤا به"؛ لأنه يخبر عن حدث مضى، وذلك بقرينة لفظية، وهي قولـه "في الأوّلين"، ولكن التحول إلى الفعل المضارع "يأتيهم" في هذا السياق دل على الكثرة والتكرار، فكثرة مجيء الرسل قوبل بكثرة الاستهزاء، والفعل الدال على ذلك "يستهزؤن" مسبوقاً بـ (كان) "وسبق الفعل المضارع بـ (كان) قد يفيد الدلالة على اعتياد الأمر في الماضي، ووقوعه بصورة متكررة"( ). قال الرازي( ): "والمعنى أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء".
والفرق بين هذا النوع من التحول الدال على الكثرة والتكرار والنوع الآخر الذي يليه الدال على الاستمرار، أن التكرار يتخلله فترات انقطاع، وإن كانت متقاربة في الزمان، في حين أن الاستمرار يقتضي الاتصال.
ومن أمثلة مجيء هذا التحول للدلالة على الاستمرار، قولـه تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج، 8].
لقد تحول السياق القرآني عن الفعل الماضي "نقموا" إلى المضارع "يؤمنوا" وكان يتوقع أن يرد السياق على النحو التالي: "وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد؛ لأنه يخبر عن حدث مضى وانقضى، وهو ما حصل للفئة المؤمنة على أيدي أعدائهم، واللافت للنظر، هو مجيء الفعل المضارع "إلا أن يؤمنوا" وليس "إلا أن آمنوا"، كما هو الحال في قولـه تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [المائدة، 59].
فما السر في مجيء الفعل "نقموا" ماضياً في سياق سورة البروج، والتحول عنه إلى المضارع "يؤمنوا" في السياق نفسه، في حين ورد العكس في سورة المائدة إذ جاء الفعل "تنقمون" مضارعاً وتحول عنه إلى الماضي "آمنا"؟!
والذي يظهر -والله أعلم- أن السياق هو الذي يفرض التعبير المقصود للمعنى المسوق له، فيكون كل سياق قد اختص بتركيب قصد إليه لمعنى، وهو من البلاغة بمكان؛ لأنه يقتضي موافقة الكلام لمقتضى الحال.
إن مجيء الفعل "نقموا" ماضياً في سياق الآية السابقة من سورة البروج يشير إلى أن هذه النقمة مضت وانتهت بهلاك الذين فُتِنُوا من المؤمنين، فليس فيها تجدد واستمرار، ودل التحول إلى صيغة المضارع "إلا أن يؤمنوا" على أن أعداءهم نقموا منهم استمرارهم على الإيمان وثباتهم عليه( ). في حين دل سياق الآية من سورة المائدة على أن نقمة أهل الكتاب متجددة مستمرة ضد المسلمين لا تنقطع عنهم بحال، بدلالة الفعل المضارع "تنقمون"، ودل التحول إلى الفعل الماضي "آمنا" أن إيمان المسلمين حاصل متحقق، فهو في حكم الماضي في تحققه وحصوله، فلا مطمع لأعدائهم في ارتدادهم عنه. ويبرز الانفتاح الدلالي للنص القرآني في هذا السياق، ليضيف دلالة أخرى للفعل الماضي مفادها أن إيمان المسلمين ليس حادثاً، وإنما هو امتداد لقافلة الإيمان التي مضت في تاريخ البشرية.
وما سبق ذكره من الآيات القرآنية هي نماذج للنوع الأول الذي يستعمل فيه المضارع للدلالة على حدث مضى وانقضى.
وأما النوع الثاني: فيرد فيه المضارع للدلالة على حدث يقع في الحال والاستقبال.
ويقرر البلاغيون أن مجيء المضارع للدلالة على الحال والاستقبال يفيد التجدد والحدوث، وأن هذا الحدث مستمر الوجود ولم يمض، يقول ابن الأثير( ): "وعطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين: أحدهما بلاغي، وهو إخبار عن ماضٍ بمستقبل، والآخر غير بلاغي: وليس إخباراً بمستقبل عن ماضٍ، وإنما هو مستقبل دلّ على معنى مستقبل غير ماضٍ، ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمضِ".
ويُفهم من كلام ابن الأثير أن هذا النوع من التحول ليس ضرباً من ضروب البلاغة، وما ذهب إليه ليس صحيحاً، إذ البلاغة هي موافقة المقال لمقتضى الحال، وقد جاء هذا التحول ليوافق مقتضى الحال الذي سيق من أجله كما سنوضحه لاحقاً في هذا البحث، وقد استعمل في النصوص الأدبية الراقية لا سيما القرآن الكريم، ولا يكون ذلك إلا لمنحى بلاغي، إذ لا يقع ما ليس بليغاً في كلام الله عزوجل، وقد اعترض محمد أبو موسى على ابن الأثير لإخراجه هذا النوع من التحول من البلاغة فقال( ): "ولست أدري لماذا كان هذا القسم غير بلاغي؟ أليست البلاغة نظراً فيما تنطوي عليه خصائص الألفاظ وأحوالها لإبراز معانيها وبيان لطائفها ومطابقتها لبيان الكلام؟ وأليس هذا داخلاً في أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال؟"
بل إن ابن الأثير نفسه عند تحليله لنماذج قرآنية من هذا النمط، أشار إلى وجه البلاغة والبيان فيها، مما يوحي بالتضارب لديه( ).
ويشير هذا النوع من التحول في السياق القرآني إلى دلالات عديدة منها:
- الدلالة على التجدد والاستمرار للحدث.
- الدلالة على إطالة مشهد الحدث.
- التركيز على نتيجة الحدث.
فمن السياقات التي يدل هذا التحول فيها على التجدد والاستمرار قولـه تعالى:
الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد، 28].
تحول إلى المضارع (تطمئن) لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره؛ وأنه لا يتخلله شك ولا تردد"( )، ولو جرى السياق على نمط واحد فكان "واطمأنت قلوبهم" لما أفاد معنى التجدد والاستمرار الذي نجده في زمن المضارع الذي أضفى دلالة الزمن المفتوح في الماضي والحاضر والاستقبال، فقلوبهم قد اطمأنت بذكر الله منذ الزمن الماضي وما تزال تطمئن في الحال والاستقبال، في حين ورد ذكر الإيمان بصيغة المضي "آمنوا" لإفادة معنى الحصول والتحقق، فهو ثابت متحقق كتحقق الماضي.
ومنه قولـه تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد، 22]. فقد تحول عن الماضي الصلة "صبروا" وما عطف عليه إلى المضارع "يدرؤون"، وذلك "لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء مما يحرص عليه، لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوصف لهم دواء ذلك بأن يدفعوا السيئات بالحسنات"( ).
ومن السياقات التي يرد فيها هذا التحول للدلالة على إطالة مشهد الحدث لما في ذلك من التخويف والتهديد قولـه تعالى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج، 31].
إذ حصل في هذا السياق تحول عن الفعل الماضي خرّ إلى المضارع "فتخطفه" أو "تهوي"، ولم يأتِ السياق على نمط واحد فيكون "خرّ من السماء فخطفته الطير أو هوت به الريح"، وذلك أن الفعل الماضي يشير في هذا السياق إلى تحقق حصول الخرور من المشرك لا محالة حاله حال الماضي في تحققه، فقال: "خرّ من السماء"، وفيه دلالة على سرعة حصول الخرور والسقوط دون تماسك أو انتظام، كما يوحي به جرس اللفظة "خرّ" وقصرها وخفتها، وتكرار صوت الراء فيها إشارة إلى تكرار السقوط والهوي والتقلب في الهواء، وما أضفاه التفخيم في الخاء والراء من تفخيم لمشهد الهوي نفسه "فالملحوظ هو سرعة الحركة مع عنفها وتعاقب خطواتها في اللفظ بـ "الفاء" وفي المنظر بسرعة الاختفاء"( ).
"ثم تحول إلى المضارع "فتخطفه" و"تهوي" لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح به"( ).
فكان التحول إلى المضارع لاستحضار المشهد وإطالته، وأمعن في إطالة مشهد الهوي أيضاً مجيء الحرف "في" الذي أفاد هنا الإمعان في تصوير التسفل والسقوط، وكأن المكان السحيق قد أصبح ظرفاً ووعاءً له لا ينتهي فيه إلى قرار. ولو قال: "إلى مكان سحيق" لأفاد انتهاء الهوي به إلى منطقة معينة، وذلك يوحي بالتهديد الشديد والإيعاد لمن كان هذا حاله.
ولو جرى السياق على النمط نفسه من المضي لمضى السياق كله على عجالة دون أن يتمكن المتلقي من إمعان النظر والفكر في مشهد الخطف والهوي.
ومثله قولـه تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً [الحديد، 20].
لقد تحول السياق عن الماضي "أعجب" إلى المضارع "يهيج" و"يكون"، ولو جرى السياق على نمط واحد لجاء: "كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم هاج ثم كان حطاماً"، لكن التحول عن الماضي إلى المضارع في هذا الموضع جاء لمنحى دلالي مقصود، فالسياق القرآني تجاوز لحظة الإعجاب بهذا الزرع، بالإخبار عنها بالزمن الماضي، وكأنها لحظة مضت دون تريث أو إمهال، تلاها على الفور مشهد الفناء والزوال، مخبراً عنه بالزمن الحاضر، حتى يظل مشهد الاندثار كأنه حاضر ماثل للعيان، ولا ينافي ذلك مجيء حرف العطف "ثم"، فهو هنا يفيد التراخي الرتبي لا الزمني( ).
إذ يوحي المشهد بالتدرج من لحظة السرور والفرح بهذا النبات، إلى مرحلة شديدة على النفس متمثلة في هيجان الزرع وذبوله، تليها مرحلة أشد من سابقتها وهي مرحلة الاصفرار والاحتضار( ).
ويرد هذا التحول للتركيز على نتيجة الحدث نفسها، من ذلك قولـه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
[الحج،63]. وقولـه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[الحج، 65]، ففي الآيتين السابقتين نجد أنه قد تحول عن الماضي "أنزل" و"سخّر" إلى المضارع "يمسك" "فتصبح" واختيرت صيغة الماضي في "سخّر لكم ما في الأرض" و"أنزل من السماء"، وذلك لأن "الرؤية الباعثة على التأمل والاعتبار لا تتعلق بتلك الأحداث بذاتها بل بنتائجها أو آثارها المترتبة عليها"( ).
فمحل التأمل في الآية الأولى ليس فعل التسخير نفسه وإنما مظاهر هذا الفعل وآثاره، ومن أهمها إمساك السماء بغير عمد.
بينما جاء التحول إلى المضارع (فتصبح) في الآية الثانية "لِتُثَبِّتَ المشهد عند نقطة مهمة، ينبغي للمتلقي أن يقف عندها ويستحضرها دائماً أمام عينيه"( ). وفيه دلالة على "بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجوده، واخضرار الأرض باق لم يمض"( ).
ومنظر الخضرة في الأرض يشيع البهجة في النفس ويطمئن النفوس على أرزاقها، لذا جاء التعقيب بقولـه تعالى: إن الله لطيف خبير، فهو لطيف بعباده، خبير بما يصلح أحوالهم.
الصورة الثانية: التحول عن الفعل المضارع إلى الماضي:
ويرد هذا النوع من التحول في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وفي حين نجد بعض النحاة يجيز عطف الماضي على المضارع أو العكس، نجد آخرين منهم يذهبون إلى تأويل الفعل الماضي في هذه الحالة بالمضارع لينسجم السياق لديهم، فممَّن أجاز العطف مطلقاً الرضي في شرح الكافية بقولـه( ): "ويعطف الماضي على المضارع وبالعكس، خلافاً لبعضهم، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ [الأعراف، 170]، ونحو: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ [الحج، 25]".
وممن ذهب إلى التأويل السيوطي (ت 911هـ)( )، إذ يشترط لصحة عطف الماضي على المضارع أو العكس، اتحادهما في التأويل، بأن يكون الماضي مستقبل المعنى ليصح عطفه على المضارع، أو المضارع ماضي المعنى ليصح عطفه على الماضي، فيذهب إلى تأويل الماضي بالمضارع والعكس، وينقل عن السهيلي عدم جواز التعاطف "بين فعل واسم لا يشبهه، ولا فعلين اختلفا في الزمان"( ).
وذهب إلى التأويل أيضاً أبو حيان (ت 754هـ) والشهاب الخفاجي (ت1069هـ) والفراء (ت 207هـ) وأبو البقاء العكبري (ت 616هـ)، فمن ذلك مثلاً قوله تعالىrوَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف، 47-48]، أي؛ ونحشرهم ويعرضون"( ).
ونحو قولـه تعالى: إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء، 4]، أي: فتظل"( ).
ويذهب بعض الباحثين المعاصرين -كما سبقت الإشارة إليه- إلى "أن وقوع الصيغ المتغايرة في مستوى تركيبي واحد، يعني تفريغ صيغة ما، دون غيرها من الزمن، …، ففي قولـه تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود، 98]، فالفعل "يقدم" مفرغ من دلالته على الزمن وكذا الفعل "أورد"، وإنما قصد بالأول استحضار صورة الحدث لا غير، وبالآخر تحقق حصول الحدث"( ).
ويرى الباحث أنه لا داعي لتأويل الماضي بالمضارع أو العكس، فلو أراد المولى عزوجل أن يرد التعبير بالمضارع أو الماضي لجاء السياق السابق على نحو: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فتظل أعناقهم لها خاضعين"، ولجاء قولـه مصوراً حال فرعون يوم القيامة على نحو" سيقدم قومه يوم القيامة فسيوردهم النار وبئس الورد المورود"، وإنما ورد التعبير القرآني على هذا النحو لدلالة مقصودة فلا داعي للتأويل، فالعطف بين الأفعال المختلفة في الأزمنة وإن لم يظهر بين هذه المتعاطفات تناسب لفظي بموجب الصنعة النحوية فإن بينها تناسب معنوي يقتضيه السياق، وهو مبدأ نهجه البلاغيون في بحثهم للوصل والفصل( ).
وقد عني البلاغيون والمفسرون بالإبانة عن دلالات هذا التحول، فيذكر العلوي صاحب الطراز( ): "أن إيثار الماضي والتحول إليه يدل على مبالغة في الثوابت والاستقرار".
ولا يسلم له بهذا العموم، وإنما السياق هو الذي يحدد الدلالة المناسبة، فقد يدل التحول إلى الماضي على الاستقرار كما قال، وقد يدل على غير ذلك من تحقق الفعل أو التقليل والانقطاع، وغير ذلك مما يدل عليه السياق ويقتضيه، فمن هذه الدلالات التي يقتضيها السياق:
- الدلالة على سرعة تحقق حصول الفعل وحدوثه.
- الدلالة على أن الفعل سابق للمضارع في التحقق والحصول.
- الدلالة على الاختصاص بوصف ثابت.
- إظهار الرغبة في حصول الفعل.
- إظهار الرغبة في انقطاع الفعل وتغييبه.
من السياقات القرآنية التي يدل التحول فيها إلى الماضي على سرعة تحقق الفعل وحدوثه قولـه تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْض إِلا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ِ [النمل، 87]. فقد تحول السياق القرآني عن الفعل المضارع "ينفخ" إلى الماضي "ففزع" وكان مقتضى الظاهر للسياق أن يجري على نسق واحد فيكون "فيفزع" لأن الحدث لم يقع بعد، وإنما هو حديث عن المستقبل البعيد وهو يوم القيامة، فدل التحول إلى الماضي على سرعة تحقق الفعل وحصوله مثل تحقق الماضي في حدوثه، وكأنه يتحدث عن أمر قد حدث وحصل في الزمن الماضي( ) وفيه مزيد من تأكيد لأمر البعث والنشور ودلالة على السرعة والدهشة والذهول، بدلالة مجيء حرف العطف (الفاء).
والتعبير بالفعل الماضي عن المستقبل هو أسلوب من البلاغة بمكان، يقول ابن الأثير( ): "والإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل فائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده؛ لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها".
وأفاد الفعل المضارع "ينفخ" استحضار صورة الحدث من المستقبل البعيد وهو يوم القيامة حتى لكأنها ماثلة أمام الأنظار، فكما أفاد المضارع في سياقات سابقة استحضار صورة الحدث من الماضي السحيق، كذلك أفاد هنا استحضار الصورة من المستقبل البعيد، ويجمع الاستحضارين عنصر الزمن، وهناك فرق بينهما، فاستحضار الماضي استرجاع لزمن قد حدث بالفعل لإفادة تصويره في النفس، واستحضار المستقبل استباق للزمن كون الحدث لم يحصل لإفادة تحقق وقوعه.
ونجد -أيضاً- في هذا السياق أن الفعلين المضارع "ينفخ" والماضي "ففزع" قد استعملا للإخبار عن المستقبل، ولكن تختلف دلالتاهما، فدلالة المضارع في الإخبار عن المستقبل تفيد استحضار صورة الحدث، ودلالة الماضي تفيد تحقق حدوثه وحصوله.
ومنه قولـه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود، 96-98].
لقد تحول السياق عن المضارع "يقدم" إلى الماضي "فأوردهم"، ولو جرى على مقتضى الظاهر لكان على النحو: "سيقدم قومه يوم القيامة وسيوردهم النار"؛ لأن الحديث عن زمن مستقبل وهو يوم القيامة، ومجيء التحول إلى الماضي (فأوردهم) فيه دلالة على القطع والتأكيد بوقوع الحدث وحصوله، وصُدِّرَ الفعل بحرف (الفاء) ليدل على سرعة الورود؛ لما في ذلك من التهديد والتخويف.
وهذا النوع من التحول يخبر عن نتائج محققة لأحداث سابقة لها، تحمل طابع الدهشة والمفاجأة، فَفَزَعُ من في السموات والأرض حدث مفاجيء مترتب على النفخ في الصور، وكذلك ورود فرعون وقومه النار يعقب مشهد قدومه لهم إلى ساحة الحشر بذلة وصغار( ). ويرد غالباً في مشاهد البعث والقيامة والحشر؛ لذا أضفى عليها الأسلوب القرآني زمن الماضي في حدوثها لتأكيد تحققها وحصولها( ).
ويرد التحول إلى الماضي للدلالة على أنه سابق للمضارع في التحقق والحصول، من ذلك قولـه تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف، 47].
فقد جيء بـ (حشرناهم) ماضياً بعد (نسير) "للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك"( ).
ومنه قولـه تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ [النحل، 89]. جاءت هذه الآية في سياق ذكر بعث الأنبياء والرسل شهداء على قومهم، وخصص خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم بمزيد عناية وتكريم بأن جعله الله عزوجل شهيداً على هذه الأمم كلها، وهو ما ذهب إليه بعض المفسرين( )، ويدل على هذه العناية أيضاً التحول إلى الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بعد الإخبار عن البعث بالغيبة "وجئنا بك"، والتحول المعجمي عن كلمة البعث إلى المجيء، وفي "إيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه-صلى الله عليه وسلم"( ). وفيه التحول الذي نحن بصدده عن الفعل المضارع "نبعث" إلى الماضي "جئنا"، وفي كل ذلك "إشعار بأفضليته صلى الله عليه وسلم على سائر المرسلين، وأفضلية شهادته في هذا اليوم على شهاداتهم، وأنه لهذا وذاك يجاء به شاهداً قبل بعث هؤلاء الرسل في أمهم شهداء"( ).
لقد أفاد التحول إلى الماضي في هذا السياق أن الفعل الماضي سابق للمضارع في تحققه وحصوله، فقولـه: "وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" أي: وجئنا بك شهيداً قبل أن نبعث في كل أمة شهيداً عليهم.
ومنه قولـه تعالى: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة، 2]، فنجد التحول عن الفعل المضارع الواقع جواباً للشرط "يكونوا ويبسطوا" إلى الماضي "وودّوا".
ويعلل الزمخشري هذا التحول فيقول( ): "والماضي وإن كان يجري في جواب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإن فيه نكتة، كأنه قيل: وودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني: أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعاً من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض وردِّكم كفاراً، وردُّكم كفاراً أسبق المضار عندهم؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم؛ لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعزّ شيء عند صاحبه".
وقد بين الزمخشري في هذا السياق نكتة التحول من زاوية النظر إلى عنصر الزمن، وذلك من كون الماضي أسبق في الحصول من المضارع، ونجد بالمقابل السكاكي (ت 626هـ) وأبا السعود (ت 951هـ) وغيرهما يفسرون هذا التحول من زاوية النظر إلى الحدث، فالماضي يدل على تحقق الحدث وحصوله لا محالة، يقول السكاكي( ): "وترك يود إلى لفظ الماضي؛ إذ لم تكن تحتمل ودادتهم لكفرهم من الشبهة ما كان يحتملها كونهم -أي يثقفوهم- أعداء لهم، وباسطي الأيدي والألسنة إليهم للقتل والشتم".
ويفيد حرف الشرط (إنْ) الداخل على الفعل المضارع "يثقفوكم" الشك في وقوع الحدث، فظفر الكفار بالمسلمين ليس مؤكداً فهو متوقف على مدى تمسكهم بدينهم قوة وضعفا، وهذا يختلف من حال إلى حال، في حين أن ودادة أعدائهم كفرهم أمر محقق وحاصل في كل حال، سواء قبل الظفر بهم أم بعده، فليس متعلقاً بالشرط ومترتباً عليه، فدل التحول إلى الماضي على تحققه في الحدوث وحصوله سابقاً للشرط والجواب، ولو جاء مضارعاً لأوهم تعلقه بالشرط، فيكون وُدُّ أعدائهم كفرهم أمراً حاصلاً بعد الظفر بهم لا غير، يقول أبو السعود( ): "وودّوا لو تكفرون" أي: تمنوا ارتدادكم، وصيغة الماضي للإيذان بتحقق ودادتهم قبل أن يثقفوهم أيضاً".
ونجد أن الآية السابقة لهذه الآية وهي قولـه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [الممتحنة، 1]. جاء التعبير فيها عما قد يصدر من المسلمين من ودٍ للكفار بصيغة الفعل المضارع "تلقون إليهم بالمودة"، و"تسرون إليهم بالمودة" وذلك في سياق نهي المؤمنين عن فعل ذلك، في حين ورد التعبير عما يوده الكفار للمؤمنين من ارتداد عن دينهم بالفعل الماضي "وودّوا لو تكفرون" وفي ذلك "إبراز للمفارقة أو البون الشاسع بين ما قد يصدر من المسلمين من مولاة هؤلاء، وما يضمره الكفار لهم من ضغينة وحسد"( ). وذلك أن دلالة المضارع تفيد التجدد، في حين أن الماضي "وودّوا لو تكفرون" أفاد التحقق والرسوخ -كما أوضحنا سابقاً- فكأن السياق القرآني يخاطب المسلمين قائلاً لهم: إنه مهما تجددت هذه المودة من قبلكم واستمرت لهؤلاء الكفار سراً أو علانية، فإنها لن تغير ما استقر في قلوبهم ونفوسهم من كراهيتكم ورغبتهم في ارتدادكم عن دينكم الذي تنعمون به دونهم.
ويرد التحول إلى الماضي للدلالة على الاختصاص بوصف ثابت من ذلك قولـه تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف، 170].
فالتحول في هذا السياق عن الفعل المضارع "يمسكون" إلى الماضي "أقاموا" فيه دلالة على "أن التمسك بالكتاب أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف إقامة الصلاة فإنها مختصة بأوقاتها"( ).
ومعنى هذا أن التعبير بالمضارع قد دلّ على "استمرار استمساكهم بكتاب الله وتجدده، كلما عنّ لهم في حياتهم أمر يهرعون إليه طلباً لهدايته وتطبيقاً لمنهجه، أما الصلاة فإنها لما "كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" عبر عن إقامتها بالفعل الماضي للدلالة على ثباتها، حتى صارت إقامتها على وجهها في وقتها صفة لهم"( ).
ومن السياقات القرآنية التي يرد فيها التحول إلى الماضي للدلالة على إظهار الرغبة في حصول الفعل قولـه تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة، 215].
لقد حصل التحول عن المضارع "ينفقون" إلى الماضي "أنفقتم". ولو جرى السياق على مقتضى الظاهر لكان "يسألونك ماذا ينفقون، قل ما تنفقون …" لأن الجواب جاء بأسلوب الشرط، والشرط يقتضي الاستقبال، والنحاة يؤولون فعل الشرط الماضي بالاستقبال( ). "ولكن القصد من مجيء الشرط ماضياً وإن كان معناه الاستقبال، هو إنزال غير المتيقن منزلة المتيقن، وغير الواقع منزلة الواقع"( ).
يقول ابن جني( ): "وكذلك قولـهم: (إن قمتَ قمتُ) فيجيء بلفظ الماضي والمعنى معنى المضارع، وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى، فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ الماضي المقطوع بكونه، حتى كأن هذا قد وقع واستقر، لا أنه متوقع مترقب".
ومما سبق ذكره يتضح لنا سر التحول إلى الفعل الماضي في الشرط، في قولـه تعالى: وما أنفقتم وإن كان مستقبلاً في معناه، وذلك لإظهار الرغبة في حصوله وحثهم على فعله، فكأنه حاصل منهم متقرر، متجاوزاً مسافة الزمن في ذلك ليشد الانتباه إلى حقيقة الحدث نفسه وهو الإنفاق، مشيراً إلى وجوه مصارفه الحقة، ليصرف عن النفس أدنى تردد أو شُحٍّ في الإنفاق والعطاء.
ومنه قولـه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة، 159-160].
نزلت هذه الآية في أحبار اليهود( ) الذين كتموا ما في التوراة من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، ودينه الخاتم، ودلائل صدق نبوته.
وقد حصل التحول في الآية الكريمة عن الفعل المضارع الواقع في جملة الصلة (الذين يكتمون) إلى الماضي الصلة (الذين تابوا)، وما عطف عليه (وأصلحوا)، و(بيّنوا)، ولو جاء السياق على أصله في مقتضى الظاهر لكان (إلا الذين يتوبون ويصلحون، …) فيأتي فعلاً مضارعاً دالاً على الاستقبال( )، لا سيما أن قولـه تعالى: إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا يراد به الاستقبال؛ "لأن (يكتمون) فعل مضارع وهذا بعده، فالتوبة بعد الكتمان"( ).
والذي يظهر لي -والله أعلم- أن مجيء التحول إلى الفعل الماضي في هذا السياق أفاد الحث على التوبة والحض على الإصلاح والتبيين، فالماضي يدل على تحقق وقوع الفعل وحصوله، وكأنه يخبر عن توبة قد حصلت منهم وإصلاح قد كان، أو هكذا ينبغي أن يكون.
وأما التعبير بالفعل المضارع "يكتمون" فيرى ابن عاشور( ): "أنه للدلالة على
أنهم -أي: علماء اليهود- في الحال كاتمون للبيّنات والهدى، ولو وقع بلفظ
الماضي لتوهم السامع أن المعنِيَّ به قوم مضوا، مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين".
ويرى الباحث أن دلالة الفعل "يكتمون" تتجاوز دلالة الحال إلى دلالة الاستمرار، فالكتمان للبينات والهدى حاصل منهم حال نزول القرآن، ويتجدد ذلك منهم ويستمر إلى قيام الساعة، فكتمان الحق صفة فيهم على الدوام.
وإذا كان التحول عن المضارع إلى الماضي في السياقات السابقة قد دل على الرغبة في حصول الحدث وتحققه، فإنه قد يرد في سياقات أخرى ليدل على النقيض وهو الرغبة في الانصراف عن الفعل وتركه، وهذا يدل على أن السياق هو الذي يحدد الدلالة المناسبة للتحول، من ذلك قولـه تعالى: وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان، 12].
سبقت الإشارة في هذا البحث أن فعل الشرط إذا جاء ماضياً، وحقه أن يأتي مضارعاً كما هو الأصل اللغوي، فإنه يدل على تحقق الحدث وحصوله، وقد يرد ماضياً لأسباب أخرى كالتفاؤل أو لإظهار الرغبة في وقوعه -كما سلف ذكره- "أو للدلالة على حصول الحدث مرة واحدة، في حين أن المضارع قد يفيد تكرار الحدث وتجدده"( ).
وكل الدلالات السابقة قد يقبلها الفعل ولكن السياق -كما أسلفنا- هو الذي يحدد الدلالة المناسبة للتحول إلى الماضي، فقد ذكرنا في سياق سابق أن التحول إلى الماضي "أنفقتم" في قولـه تعالى: قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْن [البقرة، 215] قد أفاد الرغبة في هذا الإنفاق فأتى به ماضياً وإن كان مستقبلاً في المعنى، في حين دل المضارع السابق له في السياق نفسه "يسألونك ماذا ينفقون" على التجدد والاستمرار في النفقة، فأراد المولى -عزوجل- الرغبة عند المكلفين في تحقق الحدث وحصوله على صورة التجدد والاستمرار، فنكون بذلك قد جمعنا بين أكثر من دلالة في سياق واحد إذا احتملها السياق، وكذلك الحال نفسه في هذه الآية التي نحن بصددها، فيرى فاضل السامرائي أن سر مجيء الفعل (يشكر) بصيغة المضارع، و(كفر) بصيغة الماضي؛
"لأن الشكر يتجدد ويكثر، وليس كذلك الكفر، فإن الكفر يحصل ابتداء ويبقى
صاحبه عليه إلا إذا شاء الله، فالشكر عمل يومي متجدد بخلاف الكفر الذي هو الاعتقاد"( ).
ولكن ما ذهب إليه السامرائي في هذا السياق ينقضه ما ورد في سياقات قرآنية أخرى، من ذلك قولـه تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة، 121].
وقولـه تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ[آل عمران، 19]، وقولـه تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً [النساء، 136]، ومنه قولـه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران، 21]، وقولـه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بين اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [النساء،150].
ففي السياقات السابقة وغيرها ورد التعبير عن الكفر بصيغة المضارع الذي يدل على التجدد والحدوث، خلافاً لزعمه أن الكفر يرد مرة واحدة ولا يتجدد؛ لذا ورد التعبير عنه في سياق الآية بالماضي.
والحقيقة أن دلالة التحول إلى الماضي ينبغي فهمها من السياق نفسه، وبالمقارنة بالفعل المتحول عنه، مع افتراض بقاء التركيب على أصله ثم النظر إلى البدائل الأسلوبية الحاصلة في السياق وما أضفته من بعد دلالي جديد، فسياق الآية يذكر الشكر بصيغة المضارع (من يشكر) ثم تحول عنه إلى الماضي، بقولـه: (ومن كفر)، فالسياق سياق ترغيب وحث على الطاعة والشكر وتنفير من الشرك والكفر، بدليل سياق وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان، 12].
وجاء بعدها على التو: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان، 13]، فجاء قولـه تعالى: وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان، 12]، بين أمر ونهي، فهو مسبوق بأمر بالشكر "أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ"، وملحوق بنهي "لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ"، فالسياق كله أمر بالإيمان والشكر ونهي عن الكفر والشرك. فدل المضارع في الحالة هذه على التجدد والاستمرار للحث على تجدد الشكر واستمراره، ومحاولة الوصول فيه إلى مرتبة من الكمال والتمام، ثم تحول عن ذلك في التعبير عن الكفر بالماضي "ومن كفر"، تغييباً لحدث الكفر، وعدم التوقف عنده رغبة للانصراف عنه والترك.
قال الرازي (ت 606هـ)( ): "وفي هذه الآية قال في الشكر (ومن يشكر) بصيغة المستقبل، وفي الكفران "ومن كفر فإن الله غني حميد"، وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد، كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر( )، فنقول: فيه إشارة إلى معنى، وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع، فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران".
الصورة الثالثة: التحول عن الماضي إلى الأمر:
ويمثل الفعل الماضي في هذه الحالة (جملة خبرية) في حين يمثل فعل الأمر جملة (إنشائية طلبية)، "والتحول عن الأسلوب الخبري إلى الأسلوب الإنشائي يهدف إلى تحقيق أغراض بلاغية تتوزع على الوظيفة الانفعالية (المتكلم) والوظيفة الافهامية (المتلقي) كدلالة الرضا بالواقع الصياغي حتى كأنه مطلوب تحقيقه في الواقع بالفعل"( ).
من ذلك قوله تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 29].
حصل التحول في هذا السياق عن الماضي إلى الأمر (وأقيموا) "ولو جاء السياق على أسلوب واحد، لقال: (أمر ربي بالقسط وأمركم أن تقيموا وجوهكم)"( ).
فالمستوى السطحي( ):
أمــر أقيموا
ماضٍ أمر
والمستوى العميق:
أمـر (أمر) بإقامة
ماضٍ ماضٍ
وندرك سر هذا التحول من ارتباط هذه الآية بما قبلها، إذ هي رد على مقولة الكفار التي ذكرها المولى عزوجل بقوله: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 28].
وجاء الحديث عن الأمر بالقسط بأسلوب خبري، وإن كان متضمناً معنى الإنشاء (أمر ربي بالقسط) إذ معنى ذلك (أقسطوا) ولكنه جاء بأسلوب خبري ولم يأتِ أمراً مباشراً.
فلم يقل: "قل أقسطوا وأقيموا" وذلك للدلالة على أمرين:
الأول: أن فعل الماضي في (أمر ربي بالقسط) يدل على تحقق ذلك الأمر وحصوله، فهو "مبدأ موغل في القدم، به قام ميزان السموات والأرض، ولذلك أسند الفعل الماضي إلى الذات العلية (ربي)، ليعمق الإحساس بالقدم والتمام، لأن الأمر صدر عن الذات الأزلية"( ).
والثاني: أن القسط هو ما أمر الله به وشرَعَه، سواء التزموا به أم لم يلتزموا، فلا يغير ذك من أمره شيئاً، فهو أمر أزلي استقام عليه أمر الكون والحياة، ولو قال: "أقسطوا" لكان الأمر موجهاً إليهم على وجه الخصوص، ولم يفد تحققه في الزمن الماضي واستمراره في الحاضر والمستقبل، فالفعل (أمر) فعل سلب منه الزمن، فهو دال على الأمر بالقسط مطلقاً، ثم تحول إلى الأمر (وأقيموا) للدلالة على أنه ما دام أمر الله بالقسط أمراً أزلياً كوناً وشرعاً، فحقكم أن تنفعلوا لأمره الكوني، ومراده الشرعي، فتحققوا معنى القسط في حياتكم بإقامة وجوهكم للصلاة له عند كل مسجد.
وفي هذا السياق تتوافق البنية العميقة مع البنية السطحية "فالمحافظة على تنفيذ الأمر بالصلاة في الحاضر والمستقبل (كما هي دلالة الأمر) تؤدي إلى التمسك بإقرار مبدأ التحول، سواء في التعامل مع المنعم الأعلى عزوجل؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، أو في التعامل مع الناس، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر"( ).
لذا كان التحول إلى الأمر ليدل على طلب الفعل على سبيل الوجوب ويحمل في طياته الزمن الحاضر والمستقبل، وأفاد المتلقين "العناية بتوكيده في نفوسهم، فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده"( ).
ومن دلالات هذا التحول الدلالة على سرعة تحقق الحدث وحصوله. من ذلك قولـه تعالى مخاطباً بني إسرائيل: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ* فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة: 65-66].
نجد السياق كله يدل على أن الأحداث الواردة فيه قد حصلت في الزمن الماضي، بقرائن لفظية: (ولقد علمتم، اعتدوا، فجعلناهم، فقلنا، فجعلنا)، فالزمن المسيطر على السياق هو زمن الماضي، ولكن السياق تحول عن الفعل الماضي إلى الأمر بقوله: "كونوا قردة"؛ لأن في الأمر "كونوا" شداً للانتباه بالتحول الحاصل في السياق؛ مما جعل الأمر مركزاً على بؤرة الحدث الهامة وهي تحول ذواتهم إلى قردة خاسئين، وفيه دلالة على سرعة تحقق الحدث وحصوله مستمداً ذلك من قدرة الآمر عزوجل- القائل للأشياء: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، وكأن المولى -عزوجل- قد أمر الحدث نفسه أن يكون فكان، فإذا بذواتهم قد انفعلت لهذا الأمر الإلهي على وجه السرعة فانمحت معالم البشرية والإنسانية منهم ليصبحوا مسخاً حقيقياً حاصلاً فيهم، ففي الأمر دلالة على قوة إيقاع الحدث وتحققه لا تكون في الماضي في ما لو كان السياق على نحو "فجعلناهم قردة خاسئين"؛ لأن الأمر يدل على شدة غضب الجبار عليهم، وصدور الأمر منه على وجه السرعة والقوة والجبروت.
وهذا السياق سياق تحول وتغيير، فكما حصل تحول في أشكالهم وذواتهم رافق ذلك تحول في التعبير عن ذلك الحدث، فوافق تحولَ المبنى تحولٌ في المعنى.
قال أبو حيان (ت 745هـ)( ): "فقلنا لهم "كونوا" أمر من الكون، وليس بأمر حقيقة؛ لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم؛ لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم قردة بل المراد منه سرعة الكون على هذا الوصف، كقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]. ومجازه أنه لما أراد منهم ذلك صاروا كذلك".
وقد يرد التحول إلى الأمر للدلالة على كيفية وقوع الحدث، كما في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ [البقرة: 243].
يخبر السياق عن حدث مضى، وكان يقتضي أن يكون "فأماتهم الله ثم أحياهم"، ولكنه تحول عن الماضي إلى الأمر "موتوا"، للدلالة على أن الحدث قد وقع بسرعة وقوة شملت جميع المخاطبين فلم يتخلف عنه أحد، وأن الموت قد تلبسهم جميعاً في لحظة واحدة، ولو قال: "فأماتهم" لما كان في الماضي دلالة على ذلك، ولكان المعنى أنهم قد ماتوا فحسب، يقول الزمخشري (ت 538هـ)( ): "فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم"، فإن قلت: ما معنى قوله: فقال لهم موتوا قلت: معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف كقوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون".
ثم مثَّل الفعل الماضي "فأحياهم" تحولاً عن الأمر إلى الماضي، لدلالة توحي بأن القدرة الإلهية هي التي أحيت كما أماتت، إذ ليس بمقدور الأموات أن يكونوا أهلاً للخطاب وتوجيه الأمر إليهم فيما لو قال ثم (احيوا) وفيه إشارة إلى مطل الزمن مع التراخي الذي يشي به الحرف (ثم) مع فعل الإحياء، حتى يشاهد بعضهم بعضاً لحظة الإحياء فيكون ذلك أشد وقعاً على النفس وأثراً.
ويرد التحول عن الماضي الذي يمثل جملة خبرية إلى فعل الأمر الذي يمثل جملة إنشائية بقصد التفريق بين مضمونهما، منه قوله تعالى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج: 30].
حقق التحول عن الماضي (أُحِلَّتْ) الذي هو جملة خبرية إلى الأمر (فاجتنبوا الرجس …) الذي يمثل جملة إنشائية طلبية دالة التفريق بين الخبر والإنشاء، فالخبر بصيغة الماضي في قوله تعالى: "وأحلت لكم بهيمة الأنعام" يشير إلى تحقق حصول الحل وتلبسهم به منذ زمن، وفي ذلك مزيد فضل عليهم وامتنان، ثم استثنى مما أحله من الأنعام ما يتلى عليهم فأتى بصيغة المضارع، وحقه أن يأتي بالماضي لمطابقة السياق فيكون "إلا ما تلي عليكم". فأفاد المضارع هنا الاحتراز؛ أي: ما يتلى عليكم من المحرمات في هذه الآيات وما سيعقبها من محرمات لاحقة لا ما قد ذكر في آيات سابقة فحسب، ثم تحول عن الإخبار إلى الإنشاء والطلب فقال: "فاجتنوا الرجس من الأوثان"، وفي التحول عن الإخبار إلى الإنشاء، وهما أسلوبان مختلفان من أساليب العربية إشارة إلى اختلاف مضمونها مبنىً ومعنىً، فالحلال يختلف تماماً عن الحرام وبينهما بون شاسع، لذلك حسن مجي الأمر بالاجتناب ليكون هذا التحول في الأسلوب لافتاً للنظر إلى الاختلاف بينهما، وأن الرجس من الأوثان وقول الزور لا يدخلان في الحلال.
ولو جاء السياق على نسق واحد من الإخبار، فقال: "وأحلت لكم بهيمة الأنعام وحرم عليكم الرجس من الأوثان وقول الزور"، لما كان فيه من الدلالة المذكورة في المفارقة ما في هذا التعبير.
وازداد الانفتاح الدلالي بإيجاد العلاقة السببية بين الأسلوبين، فكأن السياق القرآني يشير أيضاً إلى أن امتثال أوامر الله -عزوجل- هي سبب في حفظ ما أحله الله، وسبب في بقاء نعمته على العبد، فبينهما علاقة السببية من وجه والمفارقة من وجه آخر.
الصورة الرابعة: التحول عن المضارع إلى الأمر
ويتحول عن المضارع إلى الأمر للدلالة على اختلاف الفعلين، نحو قولـه تعالى حكاية عن هود عليه السلام وقومه: قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [هود: 53-54]. فأتى بالفعل المضارع ابتداء فقال: "أُشْهِدُ الله" ثم تحول عنه إلى فعل الأمر عند مخاطبة قومه فقال: (واشهدوا)، ولم يقل: "وأُشْهِدُكم" فخالف في المطابقة بين الأفعال، على نحو من التباين بين البنية السطحية والعميقة، على النحو التالي:
المستوى السطحي:
أُشْهِدُ اشهدوا
مضارع أمر
المستوى العميق:
أُشْهِدُ أُشْهِدُكُم
مضارع مضارع
لقد تضمن هذا السياق تحولاً عن صيغة المضارع (أشهد الله) إلى صيغة الأمر (واشهدوا)، وذلك لإبراز البون الشاسع بين الإشهادين، فإشهاده الله إشهاد صحيح وثابت عن اعتقاد ويقين، وإشهاده إياهم ليس إشهاداً حقيقياً وإنما هو على سبيل السخرية والتهكم والتحدي لإرادتهم( )، لذا أتى به بصيغة الأمر (واشهدوا) ليشير إلى الهوة الكبيرة بين الطرفين: طرف آمر وحقه أن يطاع وهو (هود) عليه السلام، وطرف آخر مأمور حقير الشأن وهم قوم هود.
ففي الأمر (اشهدوا) دلالة واضحة على البراءة التامة بين الطرفين وعلى التحدي القوي من قبل نبي الله هود لقومه، فأبرز هذا التحول "مواقف الطرفين المتباعدين عن طريق ذكر صيغة المضارع التي توضح تشريف الطرف الأول وقوته وعظمته ثم التحول عنها إلى صيغة الأمر الدالة على حقارة شأن الطرف الثاني وبطلان موقفهم الذليل"( ).
ويرى ابن المنيَّر أنه (ت 689هـ)( ): "يحتمل أن يكون إشهاده لهم حقيقة والغرض إقامة الحجة عليهم، وإنما تحول إلى صيغة الأمر عن صيغة الخبر للتمييز بين خطابه لله تعالى وخطابه لهم، بأن يعبر عن خطاب الله تعالى بصيغة الخبر التي هي أجل وأوقر للمخاطب من صيغة الأمر".
وقد يتحول عن المضارع إلى الأمر للدلالة على أن الفعل المضارع يراد به الأمر، من ذلك قولـه تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155].
أتى بالفعل المضارع المؤكد (ولنبلونكم) ثم تحول إلى فعل الأمر (وبشر الصابرين)، ولم يقل: (ولنبشرنَّ الصابرين) حتى يكون السياق مطرداً على نسق المضارع المؤكد على نحو: (ولنبلونكم … ولنبشرنَّ).
ويرى الألوسي (ت 1270هـ) أن قوله: (وبشر الصابرين) معطوف على (ولنبلونكم) من قبيل عطف المضمون على المضمون، "أي: الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة، لكن لمن صبر منكم"( ).
وهذا العطف بين الإنشاء والخبر هو ما عرف عند الزمخشري بعطف القصة على القصة، فالزمخشري لا يمنع عطف الإنشاء على الخبر ما دام المعتمد بالعطف هو مضمون الجمل لا الألفاظ، وحينئذ لا تطلب المشاكلة بين الألفاظ، وإنما تطلب المناسبة بين المعاني"( ).
"فهو عطف معنى الكلام ومفهومه ومضمونه الكلي المنبثق من جزئيات متعددة مختلفة الصور خبراً وإنشاء على مضمون كلي مثله"( ).
والذي يظهر أن قوله تعالى: "ولنبلونكم" فيه معنى إنشائي، هو طلب الصبر منهم على البلاء؛ لأن الإخبار بذلك مآله طلب الصبر على ذلك البلاء، فيكون (بشر) معطوفاً على (لنبلونكم) لما فيه معنى الطلب، "ولكنه تحول عن أن يقال: فاصبروا وأبشروا إلى ما عليه النظم ليكون الخبر المؤكد في (لنبلونكم) مفجراً الرغبة والعزم على الصبر ومقابلة البلاء به"( ).
ومنه قولـه تعالى: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم: 46].
ففي هذه الآية تحول عن الفعل المضارع (أرجمنك) إلى الأمر (واهجرني) ولم يقل: (ولأهجرنك).
وقد علل الزمخشري وغيره أن فعل الأمر (اهجرني) "معطوف على محذوف يدل عليه لأرجمنك؛ أي: فاحذرني واهجرني؛ لأن لأرجمنك تهديد وتقريع"( ).
فالفعل (لأرجمنك) فيه تهديد ووعيد بإبراهيم -عليه السلام- مضمونه إنشاء، يراد به تحذيره من سب آلهتهم المزعومة، وكأنه يقول: إذا لم تنته فاحذرني.
الصورة الخامسة: التحول عن الأمر إلى الماضي
منه قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ للطائفيين وَالْعَاكِفِينَ والركع السجود
[البقرة: 125].
في هذا السياق القرآني تحولان: تحول عن الماضي (جعلنا) إلى الأمر (اتخذوا)، ثم إلى الماضي (عهدنا)، وذلك على النحو الآتي:
(جعلنا) (اتخذوا) (عهدنا)
ماض أمر ماض
ففعل الأمر (اتخذوا) مثل تحولاً عن الأصل السياقي وهو الفعل الماضي (جعلنا)، ثم أصبح يمثل أصلاً سياقياً جديداً للفعل الماضي (عهدنا) فمثل الفعل (عهدنا) تحولاً عن الأمر إلى الماضي.
والتحول عن الماضي (جعلنا) إلى فعل الأمر (اتخذوا) فيه شد لانتباه المتلقي للنص القرآني، وذلك "لتقوية" روابط الاتصال بينه وبين النص؛ لأن السياق القصصي المروي ليس غريباً عنه، وإنما يحتوي على أمور تهمه وتتصل به، يجب الحرص عليها وإحياؤها، لتكون مسيرته موصولة بتراث سابقيه"( ).
ويرى الزمخشري( ) أن هناك فعلاً ماضياً محذوفاً تقديره: "قلنا" قبل فعل الأمر (اتخذوا)، أي: وقلنا اتخذوا، وذلك لاطراد الأفعال الماضية في السياق، ولتختفي المخالفة في الأفعال، والحقيقة أن الحذف نفسه على -رأي الزمخشري- قد أظهر فعل الأمر بارزاً في السياق لدلالة مراده ينبغي التوقف عندها وفهمها، وهي -كما ذكرنا- مقصود منها شد انتباه المتلقي للعمل بهذا التوجيه الإلهي من اتخاذ مقام إبراهيم مصلى، ثم استمر السياق في السرد الحكائي للأحداث الماضية بعد ذلك.
ويحسن التنويه في هذا السياق إلى قراءة نافع وابن عامر بصيغة الماضي (واتَّخَذُوا) بفتح الخاء، وعلى هذه القراءة ينتفي التحول، إذ يصبح السياق كله سياق سرد ماضٍ، وتمثل كل قراءة وجهاً من وجوه الإعجاز القرآني، فورود القراءة بصيغة الماضي (واتَّخَذُوا) تفيد الإخبار عن الأمم السابقة من المؤمنين أنهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
ويرى ابن خالويه (ت 370هـ)( ): "أن الله أمر بذلك المسلمين من هذه الأمة مبتدئاً ففعلوا ما أمروا به فأثنى بذلك عليهم وأخبر به، وأنزله في العرضة الثانية".
فتكون القراءة بالإخبار عن وقوع الفعل قد تنزلت بعد قراءة الأمر به، وترتبت عليها، فجمع نسق الآية هذين المعنيين بقراءتيه، أي: قال لهم المولى عزوجل: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فاتخذوه مصلى.
الصورة السادسة: التحول عن فعل الأمر إلى المضارع
قد يأتي فعل الأمر ابتداء ثم يتحول عنه إلى الفعل المضارع فيكون في المضارع مزيد حث على تنفيذ هذا الأمر، وذلك من خلال استحضاره مشهد الحدث، نحو قوله تعالى: وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:71-72].
فنجد حركة الأفعال في السياق على النحو الآتي( ):
المستوى السطحي:
أقيموا، واتقوه تحشرون
أمر مضارع
المستوى العميق:
لنسلم، وأن نقيم ونتقيه نحشر (لأنه هو الذي إليه نحشر)
مضارع مضارع
أي: أن البنية العميقة للسياق وفق مطابقة الأزمنة في الأفعال تقتضي أن تكون على نحو:
(وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن نقيم الصلاة ونتقيه؛ لأنه هو الذي إليه نحشر).
وبذلك تطرد الأفعال على نسق واحد وهو زمن المضارع، إلا أن السياق في بنيته السطحية قد أبرز فعل الأمر (أقيموا، واتقوه) ليجسم معنى الفرض، والوجوب عند ذكر الصلاة والتقوى، ثم تحول إلى المضارع (تحشرون) ليفيد الاستحضار الدائم لمشهد الحشر المستقبلي بأهواله الجسام، وجعله متجدداً دائماً أمام عين المتلقي، لكي يقبل بهمة على تنفيذ الأوامر السابقة وهي الإسلام، وإقامة الصلاة، والتقوى( ).
وقد يتحول عن أمر المضارع للدلالة على أن الأمر في معنى الخبر لا الطلب.
من ذلك قوله تعالى: قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 75-76].
جاء السياق القرآني بفعل الأمر (فليمدد) ثم تحول عنه إلى المضارع (ويزيد) وذلك على النحو الآتي:
المستوى السطحي:
فليمدد ويزيد
أمر مضارع
المستوى العميق:
فليمدد وليزد
أمر أمر
ولو جاء السياق على نسق واحد لكان (فليمدد له الرحمن مدا … وليزد الله الذين اهتدوا هدى).
ويكون في الفعلين حينئذ معنى الدعاء (فليمدد وليزد)، ولكن السياق خالف بينهما للدلالة على أن فعل الطلب (فليمدد) يراد به الخبر لا الإنشاء.
يقول الزمخشري( ): "(ويزيد) معطوف على موضع فليمدد؛ لأنه واقع موقع الخبر، تقديره: من كان في الضلالة مدّ أو يمد له الرحمن ويزيد".
وعندئذ يصبح السياق مطرداً تقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مدا .. ويزيد الله الذين اهتدوا هدى.
فيكون الطلب قد وضع موضع الخبر، أي: جيء بالطلب والمراد به الخبر، وإنما تحول به عن أسلوب الخبر إلى الإنشاء الطلبي مبالغة في تأكيد ذلك وحصوله وكأنه أمر واجب تحققه ووقوعه( ).
الخاتمة :-
توصل الباحث في ختام بحثه هذا إلى نتائج وتوصيات هي:-
1- تحولات الأفعال في السياق القرآني هي من أبرز الظواهر الأسلوبية في التعبير القرآني، وأكثرها وروداً، وتمثل مظهراً من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
2- توصل الباحث من خلال تحليل سياقات هذه التحولات إلى أن كل تحول في المبنى يصاحبه ت في المعنى قطعاً.
3- تكتسب الأفعال في السياق القرآني دلالتها الزمنية من السياق الواردة فيه، لا من بنيتها الصرفية فحسب
4- ينبغي الربط بين البنية العميقة للتركيب والبنية السطحية؛ ليظهر من خلال ذلك جماليات التركيب، ووظيفته البلاغية.
5- ظاهرة التحولات في الأفعال والخروج عن مقتضى الظاهر هي وجه من وجوه شجاعة العربية وروعتها.
6- كشفت هذه التحولات في الأفعال في النص القرآني عن دلالات نفسية, وتربوية,و فكرية, كما هو الحال في السياقات القرآنية التي تصف حال المؤمنين و المنافقين و الكفار, وكذلك الآيات التي خاطب المولى عز وجل بها هذه الأصناف الثلاثة, فجاء العدول فيها يمثل أثراً نفسياً و يقوم التصور و الفكر, و كذلك الآيات التي وصفت مشاهد الخلق في الكون و الحياة.
7- أبرزت هذه التحولات أيضاً الجوانب الغيبية في صورة المشاهد المحسوسة المرئية, قطعاً بحدوثها و حصولها, كما هو الحال في السياقات القرآنية التي تحدثت عن عوالم الجنة و النار.ومشاهد البعث و الحساب وغيرها من العوالم الغيبية.
8- وُظّف هذا التحول للأفعال في التعبير القرآني ليوافق ببنيته المتحولة الوقائع المحسوسة في مشاهد الحياة, فبرز من خلال ذلك موافقة المقال لمقتضى الحال, و تلك هي البلاغة.
9- يوصي الباحث بالاهتمام بالدراسات اللغوية التي توظف اللغة توظيفاً دلالياً و اجتماعيا,و ذلك من خلال التعامل مع النصوص عن قرب بالتحليل و التعليل,لا سيما النص القرآني المعجز في نظمه و معناه, والذي كل مفردةٍ فيه بل كل حرفٍ أو حركةٍ إعرابية تحمل رسالةً تتجاوز حدود الكلمة و الجملة إلى عالم النفس و الحياة.
10- يشير الباحث إلى أن هناك مواضيع لغوية بلاغية بحاجة إلى دراسات مستقلة، تسهم في إبراز جوانب مضيئة من إعجاز النص القرآني، وعبقرية لغته، لغة التنزيل، من تلك الموضوعات، موضوع التحولات الصوتية، والتحولات المعجمية وتحولات التركيب النحوي في السياقات القرآنية، وكذلك التحولات البلاغية الفنية في الصور و التشبيهات و غيرها من موضوعات البلاغة المختلفة.
والحمد لله في الأولى والآخرة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قائمة المصادر والمراجع:-
• أثر النحاة في البحث البلاغي، عبدالقادر حسين، دار غريب، القاهرة، 1998م.
• أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، د. حسن طبل، (د.ن)، 1990.
• الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم، دراسة نظرية تطبيقية للتوظيف البلاغي لصيغة الكلمة، عبدالحميد أحمد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1،
1422هـ -2001م.
• الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، ت: إبراهيم العزباوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتاب العربي، ومؤسسة جمال، بيروت، (د.ت).
أقسام الكلام العربي، من حيث الشكل والوظيفة، د.فاضل مصطفى الساقي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1977م
• الإيضاح في علل النحو، أبو القاسم الزجاجي (ت 337هـ)، ت: مازن المبارك، دار النفائس، بيروت، ط3، 1979م.
• البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، (ت 754هـ)، ط2، دار الفكر، بيروت، 1983م..
• البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري، محمد أبو موسى، مكتبة وهبة، عابدين، القاهرة، ط2، 1408هـ- 1988م
• التبيان في إعراب القرآن، أبو البقاء عبدالله بن الحسين العكبري، (ت 616هـ)،
• التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس،
1984م.
• تحولات البنية في البلاغة العربية، د. أسامة البحيري، دار الحضارة، مصر، ط1، التعبير القرآني، د. فاضل صالح السامرائي، دار عمار، الأردن، ط2، 2002م 0م.
•
• تفسير أبي السعود، المسمى بإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم،
أبو السعود محمد بن محمد العمادي، (ت 951هـ)، دار المصحف،
القاهرة، د.ت.
• تفسير الفخر الرازي، المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 604هـ)، دار الفكر، بيروت، ط1، 1981م.
• حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي، المسماة عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي، القاضي شهاب الدين الخفاجي (ت 1069هـ)، ت: عبدالرزاق المهدي، دار المكتبة العلمية، بيروت، 1997م.
• الحجة في القراءات السبع، أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن خالويه، (ت370هـ)، ت: عبدالعال سالم مكرم، دار الشروق، ط3، بيروت، 1979م.
• الخصائص، أبو الفتح، عثمان بن جنّي (ت 392هـ)، ت. محمد علي النّجار، دار الكتاب العربي، بيروت، 1952م.
• دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني ت (474هـ)، ت: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1992م.
• روح المعاني، شهاب الدين السيد محمود الألوسي (ت 1270هـ)، إحياء التراث العربي، بيروت، (د.ت)
• الزمن واللغة، مالك المطلبي، الهيئة المصرية للكتاب، مصر، 1986م
• شرح الكافية في النحو، رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي (ت 686هـ)، ت: د. عبدالعال سالم مكرم، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 2000م.
• الطراز، المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، يحيى بن حمزة العلوي، (ت 745هـ)، مطبعة المقتطف، مصر، 1914م.
• غرائب القرآن ورغائب الفرقان، نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمّي، (ت 728هـ)، ضبطه وخرج أحاديثه زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1416هـ - 1996م.
• في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، ط22، 1414هـ - 1994م.
• الكتاب، لسيبويه، أبي بشر بن عمرو بن عثمان بن قنبر، (ت 180هـ)،
ت: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1988م.
• الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، (ت 538هـ)، دار الفكر، 1977م.
اللغة،: ج. فندريس، ترجمة عبدالحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مكتبة الأنجلو
المصرية، 1950م
اللغة العربية معناها ومبناها، د. تمام حسان، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1994م.
• المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ضياء الدين بن الأثير (ت 636هـ)،
ت: أحمد الحوفي وبدوي طبانة، دار الرفاعي، الرياض، ط2، 1983م.
مسالك العطف بين الإنشاء والخبر، د. محمود توفيق سعد، مطبعة الأمانة، مصر،
1993
• معاني النحو، د. فاضل صالح السامرائي، دار الفكر، الأردن، ط1، 1420هـ-2000م.
• مفتاح العلوم، أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي،
(ت 626هـ)، ت: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1983م.
• من أساليب التعبير القرآني، دراسة لغوية وأسلوبية في ضوء النص القرآني،
د. طالب محمد إسماعيل الزوبعي، دار النهضة العربية، بيروت، 1996م.
• النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبدالله درَّاز، ت: محمد عبدالحميد الدخاخني، دار طيبة، الرياض، 1997م.
• همع الهوامع، الإمام جلال الدين السيوطي، (ت 911هـ)، ت: د. عبدالعال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، ط2، 1987م.