تحليل بلاغي لمطلع سورة "ق"

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
598
مستوى التفاعل
26
النقاط
28
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} [ق : 1 - 3]


هذا المطلع العجيب اشتمل على وجوه من البلاغة أحصيت منها:
1-الحذف
2-الإضمار في موضع الإظهار
3-الإظهار في موضع الإضمار
4-الاحتباك
5-رد الصدر على العجز
6-المقابلة.
وسيأتيك تفصيل ذلك كله إن شاء الله.

أولا: بلاغة الاحتباك

في هذا المطلع حذف هو بلا شك من ابتكار القرآن ( حذف شبيه بالاحتباك المعروف دون أن يكون إياه):
فقد ذكر من القسَم شقه الأول،
ومن تركيب الإضراب شقه الثاني.
فيكون في الآيتين احتباك في التركيب وليس في الدلالة ،إذ ليس للمذكور علاقة دلالية بالمحذوف، فيستحضر بالحاضر الغائب ، كما هو الشأن في الاحتباك المعنوي المعهود، أو فلتقل:
إن الحذف والذكر في الاحتباك يكون في نظام رباعي ، ولكنه هنا في ثنائيتين منفصلتين...

"ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ"...
المقسم به يحتاج إلى جواب ،والعبارة المجاورة "بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ" لا تصلح لأن تكون جوابا أو لتسد مسده..-وإن قال به نحاة الكوفة-

وكذلك في تركيب الإضراب ،فإن ما قبل "بل" لا يصلح أن يكون مضروبا عنه...
فيتحصل أن هنا تركيبين مشطورين: حذف من الأول آخره، ومن الأخير أوله..
فهذا احتباك..

فإن قلت لم يجب أن يكون جواب القسم مجاورا لفعل القسم !
قلت لا يصح في البلاغة إلا التجاور، كما سنرى في تمام الكلام عن بلاغة الحذف.
 
ثانيا:بلاغة الحذف
ومن النحاة من قال إن جواب القسم غير محذوف بل هو مؤجل الذكر فحسب..:
فجواب القسم عند الأخفش :قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارض مِنْهُمْ [ ق : 4 ] وحذفت اللام لطول الكلام ،
وعنده أيضاًوعند ابن كيسان" ما يلفظ من قول" [ ق : 18 ]
وقيل : "إن في ذلك لذكرى" [ ق : 37 ] وهو اختيار محمد بن علي الترمذي ،
وقيل :" مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ "[ ق : 29 ]

-انظر روح المعاني –
لست أدري مدى ما تسمح به الصناعة النحوية من مسافة بين فعل القسم وجوابه ولكنني متيقن من أن الحس البلاغي لا يقبل شيئا من مثل هذا التأجيل الذي افترضه هؤلاء النحاة..فلا يعقل أن يكون الاعتراض متضمنا لسياحة في قصة الخلق وفصولا من تاريخ البشرية ثم يأتي بعد ذلك جواب القسم!!!
فكأنهم ذهلوا عن مقصد القسم وانساقوا خلف الصنعة..
فالقسم تأكيد وحجاج.
.فلا ينبغي أن يتأخر الجواب إلا بمقدار ما يتأخر المؤكد عن مؤكده..
واختلاف النحاة الذي ذكرناه دليل على ضعف مذاهبهم –على الأقل من جهة بلاغة التداول- فلا يعقل في كلام الناس أن يزمع متكلم منهم على تأكيد شيء، فيخفيه، فلا يعلم الناس ما يريد أن يؤكده لهم ..!
ولا يعقل في تداول الكلام أن يقيم متكلم حجة على أمر ،فيخفيه بين أمور كثيرة، فلا يُتفق على أي أمر يحتج له!!
مذهب من يقول بالحذف أسعد حظا ، فهذا ما يقتضيه الحس البلاغي ،وهذا ما يليق بالبيان المعجز..

غير أننا نرى مذهبا ثالثا في جواب القسم ،وهو أقوى إن شاء الله:
فهو غير محذوف ولا مؤجل بل معدول عنه..
فإن قلت فما الفرق بين المحذوف والمعدول عنه؟
قلنا إن الأول سبق له وجود حقيقة أو حكما ،والثاني لم يوجد أصلا..ثم إن المحذوف يمكن تقديره بخلاف المعدول عنه فتقديره يتنافى مع المقصود .
إن العدول عن القسم ،بعد الشروع فيه، ليتضمن تقريعا كبيرا للكفار..وتنديدا بما هم عليه من جمود عقل وأسر تقليد...فالجواب المعدول عنه يشير إلى أن هؤلاء لا يجدي معهم قسم، ولو كان من رب العالمين..!!!
فأنت –ولله المثل الأعلى-عندما تريد أن تقسم لشخص عن أمر فتشرع في القسم، ثم تقدر في نفسك أن مخاطبك قد بلغ به العناد شأوا بعيدا بحيث لن يتحول عن معتقده قيد أنملة مهما أقسمت له ، فترى الاستمرار في القسم غير ذي فائدة ،فتفضل العدول عما بدأته من قسم...
وكأن العدول عن القسم في حكم"غسل اليدين" من المسألة، وفيه ما ترى من تسجيل التبكيت والتخجيل على الخصم..
(ننبه -وإن كان الأمر لا يحتاج إلى تنبيه لو حسنت النيات-أننا نتحرك فقط على الصعيد البلاغي ،ولا علاقة للعدول بمفهوم "البداء" الذي أدخلته بعض الطوائف في معتقدها!)
 
إن المطوي بين القسم والإضراب له علاقة بالبعث.. وعليه مدار السورة كلها:
بداية، ووسطا، وختاما..
استدلالا، ووصفا،وتخويفا..
قدره الأخفش والمبرد والزجاج:( لتبعثن)
قَالَ الْأَخْفَشُ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) لَتُبْعَثُنَّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً).
وقدره أبو حيان" إنك جئتهم منذرا بالبعث"
وتقدير هؤلاء الأعلام أنسب للسياق من تقدير ابن عاشور ،إذ التقدير عنده: وَالْقُرْآنُ الْمَجِيدُ إِنَّكَ لِرَسُولُ اللَّهِ بِالْحَقِّ.

ومن طريف ما يمكن أن نلاحظ في هذا المطلع المنيف أن طي البعث وقع مرتين:
المرة الأولى: بين القسم والإضراب...ولنا ان نقدر جملتين تذكران البعث: واحدة في حيز المقسم عليه، والثانية في حيز المضروب عنه .. أو نقدر جملة واحدة يتنازعها القسم والإضراب.

المرة الثانية: طويت جملة البعث من مدخول همزة الاستفهام أي متعلق الظرف:
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)} [ق : 1 - 3]
والتقدير:
أ(نبعث)إِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ...
ونكتة الحذف أو العدول في الأولى ذكرناها من قبل.. ونكتة الثانية كأن هؤلاء الكفار ينزهون ألسنتهم عن أن يجري عليها جملة تتحدث عن البعث استخفافا واستهتارا...
 
ثالثا:رد الصدر على العجز

اعلم أن العجب يكون من حصول غير المتوقع، سواء أكان هذا المتوقع من مقتضيات العقل أم من مألوفات العادة...


ومن ثم كان التعجب دليلا على صحة العقل أوعلى فساده !...
فما" أفق التوقع" إلا "نظرية قبلية " مبنية على نظام من الأحكام (ممكن ،محال، مظنون، راجح، الخ...) فينشأ التعجب من كون المتعجب منه يأتي صادما للمقولة التي يجب أن يندرج فيها.
وما أحسن ما قال الناس:
" لا يزال الناس بخير ما تعجبوا من العجب "
قال بكر بن عبد الله المزني: " كنا نتعجب من دهر لا يتعجب أهله من العجب فقد صرنا في دهر لا يستحسن أهله الحسن. ومن لا يستحسن الحسن لم يستقبح القبيح " .
فالعجب كاشف عن النظام القيمي للفرد (وليس فقط حالة نفسية من تيار الشعور) و هنا أهميته.
أعني أن التعجب السليم يدل على سلامة المنظومة الفكرية، والتعجب الفاسد يدل على فسادها...
وقد جمع الله تعالى العجبين: الرصين والسفيه في موضع واحد:
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد : 5]
فالكفار يتعجبون من وقوع البعث وكان الرد عليهم من باب( ما ترى لا ما تسمع )
وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
لأن هؤلاء لا يسمعون أصلا.
وهذا التعجب هو بدوره موضوع تعجب آخر.
.فإذا كان التعجب الأول من الواقع (تعجب أنطلوجي)
فإن
التعجب الثاني من منهج التفكير (تعجب ابستملوجي)
فما يثير التعجب حقيقة ليس هو استبعاد البعث، بل المنهج المعتمد من هؤلاء للوصول إلى هذا الحكم الفاسد!

هذا، وإن التعجب في صدر آية "ق"من مجيء الرسالة
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
والتعجب في العجز من مضمون الرسالة
هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ
التبئير الدلالي في الأول على "من":
فليس عجبهم من مجيء المنذر، بل من كونه منهم...
وهنا احتمالان في تعيين مرجعية الضمير المجرور:

-عام من البشر
-خاص من العرب.
فعلى الاحتمال الأول يكون هؤلاء المشركون كإخوانهم السابقين يستنكفون أن يكون الرسول بشرا فلا يقبلون نذيرا إلا أن يكون ملكا..
وعلى الاحتمال الثاني يكون تعجبهم من مجيء منذر من العرب، مع أن العادة التاريخية اقتضت أن يكون الرسل في غيرهم (في بني إسرائيل).
 
رابعا: الإضمار في موضع الإظهار.
من فوائد هذا الوجه البلاغي التنبيه بالفعل عن الفاعل ، لشدة التلازم بين الطرفين..
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
فكأن معرفة الفعل كاف للدلالة على الفاعل وتحديد هويته....
فالتعجب من مجيء المنذر، أو من ثبوت البعث ،لا يصدر إلا عن طائفة مخصوصة ، فأغنى معرفة الفعل عن التصريح بالفاعل.
 
خامسا:الإظهار في موضع الإضمار.
من بديع هذا المطلع الشريف أن يشتمل على الوجهين المتقابلين: الإظهار في موضع الإضمار، والإضمار في موضع الإظهار!!
فقد أضمر أولا الصريح في المرفوع (عجبوا ) ،ثم أحال إليه بالمنصوب (جاءهم)، ثم كرر الإحالة بالمجرور (منهم)،
فكان من المتوقع أن يطرد النسق ..غير أن الآية أوقفت هذا النسق في الموضع الرابع :(فقال الكافرون ) .
أظهرت في موضع الإضمار.
والنكتة فيه التعليل...(وهو الغالب على الدلالة البلاغية الكلية للإظهار ...)
فمنشؤ التعجب من البعث هو الكفر..
وهنا معنى عميق في ترتيب الأسباب والنتائج:
فهؤلاء لم يكفروا لأنهم لم يتيقنوا بالبعث ، بل إن كفرهم بالبعث تابع لكفرهم العام...
فيكون الكفر بالبعث تبريريا فقط...
وهذا واضح في منهج الفساق والفجار...فتكالبهم على الشهوات ، واطراد الظلم منهم ،والرغبة في أن لا يقع عليهم قصاص،وألا ينغص عليهم شيء في اقتراف اللذات... كل هذا يجعلهم راغبين في ألا يكون ثمة بعث...فتكون الرغبة في الشيء هو عينه الدليل عليه !!!
 
سادسا:بلاغة الطباق

خاتمة الآيتين متجانسة
هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
لنلاحظ التوظيف البلاغي للإشارة حيث أسندت ل"هذا" إيحاءات قريبة من التشنيع، وأسندت ل"ذلك" إيحاءات قريبة من الاستهزاء :
اقترن التعجب ب "هذا" المشيرة إلى القريب ..لأن المتعجب منه لا بد أن يكون ظاهرا واضحا ، ومن ثم كان استحضار المتعجب منه بلفظ "هذا" .
لقد أشربت الإشارة معاني التشنيع:
فهذا الرسول يقول شيئا صادما للعقول والأعراف ،وليس أفضل في التشنيع من تسجيل التهمة وتقريبها من المدارك... هذا شيء عجيب!
فيما اقترن الاستبعاد ب "ذلك" المشيرة إلى البعيد...فحصل في التعبير تأكيد الاستبعاد مرتين :مرة بالدلالة الضمنية لاسم الإشارة ، ومرة بالتصريح بصفة "بعيد"...فالبعث موهوم، بل بعيد الاحتمال، كيف وقد تحول الناس إلى تراب ( وَكُنَّا تُرَابًا )
ومعنى هذا أن القائل بالبعث أدنى مرتبة في العقل والنظر من غيره ومن ثم قلنا بتشرب لفظ الإشارة معنى الاستهزاء...
وقد يقال إن الإشارة في كلِّ إلى شيء واحد هو إنذار الرسول...
فأشير بالقريب اعتبارا للخبر ،
وأشير بالبعيد اعتبارا للمخبر به.
والله أعلم.
 
سابعا :بلاغة القسم:

القسم بالقرآن، ولهذا القسم غور عميق لا يمكن أن تدرك أبعاده إلا في ظلال بلاغة الحجاج...
أولا:
إن القسم في الثقافات الإنسانية حجة..وقد ترقى إلى رتبة الحجة المادية، وهكذا نجدها في شرع الإسلام معادلة "للبينة" قال صلى الله عليه وسلم:
لو يعطى الناس بدعواهم لأدعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه. متفق عليه.
وقال عمر بن الخطاب في رسالته لأبي موسى الأشعري: " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"
ثانيا:
لا يمكن للقسم أن يؤدي هذه الوظيفة الحجاجية إلا إذا كان المقسم به مما يعظم في المجال التداولي...
فالمتكلم لا بد وأن يكون المقسم به عنده عظيما وإلا سقطت الحجة..
والمخاطب -لكي يقتنع- لا بد أن يُكِن للمقسم به شيئا من التقدير والإجلال ....لأن المتكلم ،إذا علم أن المقسم به هين عند المخاطب ، فإنه من العبث أن يتخذه وسيلة حجاجية،إلا أن يقال بل يكفي أن يعلم المخاطب أن المقسم به عظيم عند المتكلم لتصح الحجة ، بقطع النظر عن تقييم المخاطب للمقسم به ،بل عن علمه به. فيكون مناط التعظيم في القسم نفسه وليس في المقسم به ..قال تعالى:
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)} [الواقعة : 75 - 76]
فأشارت الآية إلى عظمة المقسم به (مواقع النجوم ) مع جهلهم به .
لكن القرآن ليس كمواقع النجوم بل هو نازل بلغتهم وهم أعلم الناس بخصائصه وأساليبه...
فيكون التعظيم للقسم من لدن المتكلم والمخاطب معا..
فالقرآن مجيد عند رب العالمين لذا أقسم به،
والقرآن مجيد عند الكفار أيضا ،لأنه مجيد عند ربهم!!
ولا يغرنكم ما يبدي الكفار من طعن وتهوين في شأن القرآن، فإن العبرة بما تكنه صدورهم لا بما يظهرونه...فالقرآن في قرارة أنفسهم كلام الله المجيد حقا!!
فاستوفى القسم شروطه التداولية، والحمد لله رب العالمين.
 
عودة
أعلى