علي هاني يوسف
New member
- إنضم
- 09/01/2008
- المشاركات
- 81
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 8
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
[h=2]ربط الآية بما قبلها :[/h]يخبر تعالى أن نصره ينزل على رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك ، كما في قوله تعالى : { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } ، وكل ذلك إعلام بأن سنته جرت بأنه يطيل الامتحان ، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار ، حثاً للأتباع على الصبر وزجراً للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء، فهذه الآيات تصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل ، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله ، وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد .
إنها صورة رهيبة ، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل ، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود ، وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل ، وتكر الأعوام والباطل في قوته ، وكثرة أهله ، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة ، إنها ساعات حرجة ، والكفر يطغى ويبطش ويغدر، والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا .
تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس.
علاقة الآية بالسورة الكريمة سورة يوسف:
· هذه الآية الكريمة جاءت تعليقا وختاما لقصة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام التي سيقت لتصبير الرسول صلى الله عليه وسلم على أذى قومه وأهل وعشيرته ، فيوسف عليه السلام قد أوذي من أقرب الناس إليه إيذاء شديد وكذلك يعقوب ثم كانت إرادة الله هي الغالبة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، فنصرت الذين اتقوا وأحسنوا وكذلك يفعل بك يا رسول الله وبمن معك إن صبرتم، لكن النصر لا يأتي بسرعة في سنة الله تعالى بل لا بد من الصبر والتحمل والتضحيات الكثيرة ثم يأتي النصر في وقت ييأس الإنسان من حصول النصر لا شكا بالله سبحانه ، بل لأن وقت النصر لم يحن بعدُ.
[h=2]حَتَّى :[/h][h=2]يمكن ربط حرف الغاية حتى بأمرين :[/h][h=2]الأمر الأول :[/h]{ حتى } متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام ، كأنه قيل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } فدعا الرجالُ المرسلون إلى الله واجتهدوا في إنذار قومهم لخلاصهم من الشقاء ، وتوعدهم عن الله بأنواع العقوبات إن لم يتبعوهم ، وطال عليهم الأمر وتراخى النصر وهم يكذبونهم في تلك الإيعادات ويبكتونهم ويستهزئون بهم ، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم فتراخى نصرهم واستمر ذلك من حالهم وحالهم ، { حتى إذا استيئس الرسل } عن النصر.
اختاره الزمخشري وابن الجوزي والبقاعي والجلال وابن عاشور .
[h=2]الأمر الثاني:[/h]غايةٌ لمحذوف دل عليه السياقُ أي: لا يغُرّنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء والتكذيب، فإن مَنْ قبلهم قد أُمهلوا وتراخى النصر للرسل وصبروا وطال دعاؤهم حتى أيِسَ الرسل عن النصر عليهم في الدنيا .
أبو السعود
[h=2]إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ :[/h]الاستيئاس واليأس انقطاع الطمع، لكن صيغة الاسيئاس استفعال تدل على المبالغة في اليأس ، أي يئسوا من النصر يأساً عظيماً.
وفي المعنى الذي استيأس منه الرسل قولان:
1) القول الأول: استيأسوا من قومهم أن يؤمنوا بالله ، ويصدّقوهم فيما أتوهم به من عند الله ، قال ابن عباس: يريد من قومهم أن يؤمنوا .
ابن عباس والطبري والواحدي والقرطبي و ابن أبي زمنين والقشيري والنسفي والقاسمي
يقول علي هاني : وهذا التفسير أنسب بقراءة التشديد في (كذِّبوا).
2) القول الثاني: استيأسوا من مجيء النصر لهم على أعدائهم .
البقاعي والزمخشري ومجاهد والشوكاني
يقول علي هاني: وهذا التفسير أنسب بقراءة التخفيف (كُذِبوا).
3) القول الثالث: جواز الوجهين
أبو السعود وأبو حيان
[h=2]وَظَنُّوا [/h]الظن : أنه اسم لما تحصل عن أمارة متى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت لم تتجاوز حد الوهم ، ولكن اليقين الحاصل من الظن لا يساوي تماما يقين الرؤية ، فيقين الظن ليس كيقين العيان ، وعبارة المحكم لابن سيده "الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر "،
وعبارة الراغب :"الظن: اسم لما يحصل من أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضَعُفَت لم تجاوز حد الوهم".
و متى قوي استعمل معه أنَّ المشدة، أو " أنْ " المخففة منها ـ كما هنا ـ ، ومتى ضعف استعمل معه " أنْ " المصدرية المختصة بالمعدومين من الفعل نجو " ظننت أن خرج، وأن يخرج "
قال الشاعر :
[SUP]1[/SUP] فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بأَلْفَيْ مُدَجَّج، ... سَرَاتُهُمُ فِي الفارِسِيِّ المُسَرَّدِ
معناه ايقنوا.
وقد ورد استعمال الظن بمعنى اليقين كثيرا في القرآن الكريم لكنه يقين حصل عن أمارات حتى وصلت درجة اليقين لكنه مع ذلك لا يكون كيقين العيان نحو:
{ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}، { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} ، { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} { َ قال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} .
[h=2]أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [/h]عندنا قراءتان متواترتان :
خفف الذال أبو جعفر والكوفيون (عاصم، حمزة والكسائي) ، وشددها الباقون.
توجيه قراءة التخفيف:
في توجهيها خلاف سيأتي أختار منه أن المعنى :
كذبتْهم أنفسُهم حين حدثتْهم بأنهم يُنْصرون عليهم أو كذبهم رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب، والمعنى أن مدة التكذيبِ والعداوة من الكفار وانتظارَ النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا أن لا نصر لهم في الدنيا.
[h=2]توجيه قراءة التشديد (كذِّبوا): [/h]وقرىء بالتشديد أي أيقن الرسل ان الامم كذبوهم تكذيبا عمهم حتى لا يفلح احد منهم ،و أن الأمم قد كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم ، ويئسوا من فلاح القوم وعلموا ان القوم لقوهم بالتكذيب .
[h=2]جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [/h] أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور جاءهم نصرنا فجأة، والظاهر أن ضمير { جَاءهُمُ } على سائر القراءات والوجوه للرسل .
· فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ : هم الرسلُ والمؤمنون بهم وأتباعهم ،وإنما لم يعينوا للإشارة إلى أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم .
· وتفريع { فنجي من نشاء } على { جاءهم نصرنا } لأن نصر الرسل عليهم السلام هو تأييدهم بعقاب الذين كذبوهم بنزول العذاب وهو البأس ، فينجي الله الذين آمنوا ولا يردّ البأس عن القوم المجرمين .
· القراءات في {فنجي من نشاء}:
1) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنون واحدة مضمومة وبعدها جيم مشددة وبعد الجيم ياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول ، و " مَنْ " قائمة مقام الفاعل .
2) وقرأ الباقون بنونين: الأولى مضمومة والثانية ساكنة وبعد الثانية جيم مخففة، وبعد الجيم ياء ساكنة مدية(فننجي) على لفظ المستقبل [1] على أنه مضارع أَنْجَى و " مَنْ " مفعوله ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه.
· فعلى قراءة فنُجِّي من نشاء الكلام على من مضى .
· وعلى قراءة (فننجي من نشاء) فيها توجيهان كلاهما صحيح :
1) الأول: " على انه حكاية حال ، لان القصة كانت فيما مضى ، فانما حكى فعل الحال على ماكانت
2) في الآية احتباك: فالجمع بين الماضي في ( نجّي ) والمضارع في { نشاء } احتباك تقديره فنُجي من شئنا ممن نجا في القرون السالفة وننجي من نشاء في المستقبل من المكذبين.
[h=2] وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[/h]البأس أصلها الشدة و القوة في الحرب التي تقتل أو تضر من وجهة له إضرارا بليغا ، يقال له بأس في الحرب.
{ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } عذابنا لما له من العظمة وعقوبتنا وبطشنا بمن بطشنا به من أهل الكفر بنا ، {عَنِ القوم المجرمين } فكفروا بالله وخالفوا رسله وما أتوهم به من عنده إذا نزل بهم ، وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين .
والتعبير باسم الفاعل للدالة على الثبوت .
والمجرم : هو المكتسب على وجه الفساد للذنوب الكبيرة ، وأصله من جَرَم الثمر قبل بدو صلاحه على وجه الفساد ، ويقال للجسم الكبير جرم بكسر الجيم فدل على أن الإجرام اكتساب على وجه الفساد والضرر للذنوب الكبير وأعظمها الكفر بالله ورسوله .
****************
[h=2]أقوال العلماء في تفسير الآية على قراءة التخفيف :[/h][h=2]القول الأول: [/h][h=2]اختاره : الطبري ابن عباس ، وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد والضحاك والبغوي ، والقرطبي والجلال و الجصاص ، و الشوكاني و الشربيني و القاسمي و ابن أبي زمنين ، و مكي ، و السمعاني قال الواحدي وهو قول وعامة المفسرين وأهل المعاني لقراءة التخفيف[/h]الضمير في ظنوا للأمم وليس للرسل لأن الرسل لا يظنون ذلك ، والظن هنا بمعنى التوهم والحسبان، ، و (كُذبوا) من قولهم: كذبتك الحديثَ، أي: لم أصدقك، ومنه قوله تعالى : {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}:
أي ظن الأمم أن الرسل كذَبُوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من إمهال الله إياهم، والمعنى :
حتى إذا استيأس الرسل الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله ، ويصدّقوهم فيما أتوهم به من عند الله ، وظنّ الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذّبة أن الرسل الذين أرسلناهم ، قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله من وعده إياهم نصرهم عليهم ، جاءهم نصرنا، وقد ورد مثل هذا المعنى في القرآن الكريم كما أخبر عنه في قصة نوح من قولهم : { بل نظنكم كاذبين } : هود : 27 ، وكذا في قصة هود وصالح وقوله : { فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا } .
فان قيل :كيف يجوز أن يحمل الضمير على انه للمرسل اليهم والذين تقدم ذكرهم الرسل دون المرسل اليهم ، قيل ان ذلك لا يمتنع لان ذكر الرسل يدل على المرسل اليهم ، ويَسْتدعي مُرْسَلاً إليه وقد قال أَبو ذؤيب:
أَمِنْك البَرْقُ أَرْقُبُهُ، فَهَاجا، ... فَبِتُّ إِخالُه دُهْماً خِلاجا؟ [2]
اي بت اخال الرعد صوت دهم ، فاضمر الرعد ولم يجر له ذكر لدلالة البرق عليه.
وان قلت قد جرى لهم ذكر في قوله " افلم يسيروا في الارض فينظروا " فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل كان جيدا .
قال الطبري: وإنما اخترنا هذا التأويل وهذه القراءة ، لأن ذلك عقيب قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أهْل القُرَى أفَلَم يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فكان ذلك دليلاً على أن إياس الرسل كان من إيمان قومهم الذين أهلكوا ، وأن المضمر في قوله : وظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا إنما هو من ذكر الذين من قبلهم من الأمم الهالكة ، وزاد ذلك وضوحا أيضا إتباع الله في سياق الخبر عن الرسل وأممهم قوله : فَنُجّيَ مَنْ نَشاءُ إذ الذين أهلكوا هم الذين ظنوا أن الرسل قد كذبتم ، فكَذّبُوهم ظنّا منهم أنهم قد كَذَبُوهم.
[h=2]القول الثاني: [/h][h=2]الضمائر الثلاثة للرسل ، والظن بمعنى التوهم لا بمعناه الأصلي ولا بمعنى اليقين[/h][h=2]أي كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذبهم رجاؤهم فإن الرجاء يوصف بالصدق والكذب لقولهم : رجاء صادق ، ورجاء كاذب ، والمعنى أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب[/h]اختاره : الزمخشري وأبو السعود والآلوسي والبيضاوي والمظهري والخطابي
قال الخطابي :" لاشك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي ، ولا تشك في صدق المخبر ، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم ، لطول البلاء عليهم ، وإبطاء النصر ، وشدة استنجاز ما وعدوا به توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسبانا من أنفسهم ، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك ، فيكون الذي بنى له الفعل أنفسهم ، لا الآتي بالوحي . والمراد ب ( الكذب ) : الغلط ، لا حقيقة الكذب ، كما يقول القائل : كذبتك نفسك ، قال الحافظ ابن حجر : ويؤيده قراءة مجاهد { وظنوا أنهم قد كذبوا } بفتح أوله مع التخفيف أي : غلطوا ، ويكون فاعل { وظنوا } الرسل".
****************
[h=2]أقوال العلماء على قراءة التشديد ، وهي قراءة واضحة :[/h][h=2]القول الأول: قتادة والحسن وعطاء والواحدي و البغوي والزمخشري وابن الحوزي والقرطبي والسمين الحلبي والجلال [/h]الضمير في ظنوا للرسل، والمراد بالظن اليقين
حمل الظن على العلم ، والمعنى أيقن الرسل أن الامم كذبوهم تكذيبا عمهم حتى لا يفلح احد منهم ،و أن الأمم قد كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعد إيمانهم ، ويئسوا من فلاح القوم و لقوهم بالتكذيب ونسبوهم إلى الكذب ، لان التكذيب نسبة القائل إلى الكذب جاءهم نصرنا
قال قتادة : حتى إذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ من إيمان قومهم ، «وظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذّبُوا » : أي استيقنوا أنه لا خير عند قومهم ، ولا إيمان ، جاءهم نصرنا وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك ، وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } أي يتيقنون ذلك .
[h=2]القول الثاني: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال الرازي وهذا أحسن الوجوه في الآية [/h]الضمير للرسل ، والظن ظن حسبان لا يقين
قالت عائشة رضي الله عنها: ما زال البلاء بهم حتى ظنوا أن من آمن بهم من أتباعهم قد كذبهم فأتاهم نصر الله عن ذلك، وعلى هذا القول: الظن بمعنى الحسبان، والمعنى: ظنت الرسل ظن حسبان أن أتباعهم من الأمم قد كذبتهم في وعد الظفر والنصر لإبطائه وتأخيره عنهم، وطول البلاء بهم و لشدة المحنة والبلاء عليهم واستبطاء النصر ، لا أنهم كذبوهم في كونهم رسلاً، وهذا التكذيب أيضًا لم يحصل من أتباعهم المؤمنين؛ لأنه لو حصل لكان نوع كفر، ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبُطء النصر، الظن بمعنى: اليقين والتكذيب المتيقن من جهة الكفار
[h=2]توجيه رواية ابن عباس : [/h][h=2]هناك رواية غريبة[3] رويت عن ابن عباس رضي الله عنهما [4]:[/h]قد ذهب قوم ممن قرأ {كُذِبوا}بالتخفيف أن المعنى : وظنت الرسل أنهم قد كذِبوا فيما وعدوا من النصر .
روى الطبري بسنده قال :حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قرأ ابن عباس : حتى إذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قال : كانوا بشرا ضعفوا ويئسوا .
قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قرأ : وَظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خفيفة . قال ابن جريج : أقول كما يقول : أخلفوا . قال عبد الله : قال لي ابن عباس : كانوا بشرا ، وتلا ابن عباس : حتى يَقُولَ الرّسُولُ والّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ ألا إنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ . قال ابن جريج : قال ابن أبي مليكة : ذهب بها إلى أنهم ضعفوا فظنوا أنهم أخلفوا .
وقد أجاب العلماء عن هذه الراوية بعدة إجابات:
[h=2]الإجابة الأولى: بين جماعة كثيرة من الصحابة و العلماء أن هذا التفسير لا يجوز على الأنبياء :[/h]· عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوعد بشيء يخلف فيه، وعنها أيضًا أنها قالت: معاذ الله أن تظن الرسلُ هذا بربها ، نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك ، فقد أخرج البخاري والنسائي وغيرهما من طريق عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية قال : قلت أكذبوا أم كذبوا فقالت عائشة بل كذِّبوا يعني بالتشديد [5]قلت : والله لقد استيقنوا ان قومهم كذبوهم فما هو بالظن قالت : أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت : لعله { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } مخففة قالت : معاذ الله تعالى لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت : فما هذه الآية ؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاء نصر الله تعالى عند ذلك".
· قال أبو بكر بن الأنباري: وهذا غير معول عليه من جهتين: إحداهما: أن التفسير فيه ليس عن ابن عباس، لكنه من متأول تأوله عليه، والأخرى: أن في قوله: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} دلالة على أن أهل الكفر لما ظنوا ما لا يجوز ظن مثله واستضعفوا رسل الله، نصر الرسل ولو كان الظن للرسل كان ذلك منهم خطأً عظيمًا لا يستحقون ظفرًا ولا نصرًا، وتنزيه الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلًا.
· قال أبو إسحاق الزجاج:" منكرًا لهذا التفسير: وذلك بعيد في صفة الرسل".
· قال أبو علي الفارسي: "وإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا، فقد أتى عظيمًا لا يجوز أن ينسب مثلُه إلى الأنبياء، لأن الله سبحانه لا يخلف الميعاد ولا مبدل لكلماته".
· قال الإمام الرازي: والوجه الثاني : أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا : وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد ، لأن المؤمن لا يجوز أن يظن بالله الكذب ، بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل
· قال أبو السعود العمادي: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أُخلِفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطُر بالبال من شبه الوسوسة وحديثِ النفس ، وإنما عبر عنه بالظن تهويلاً للخطب ، وأما الظنُّ الذي هو ترجّحُ أحدِ الجانبين على الآخر فلا يُتصوّر ذلك من آحاد الأمة فما ظنُّك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم ومنزلتُهم في معرفة شؤونِ الله سبحانه منزلتُهم.
· قال القرطبي: قوله تعالى : " حتى إذا استيأس الرسل " تقدم القراءة فيه ومعناه . " وظنوا أنهم قد كذبوا " وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم ، وهذا الباب عظيم ، وخطره جسيم ، ينبغي الوقوف عليه ؛ لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم ".
· قال أبو حيان : "ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل ، لأنهم معصومون ، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله ".
· قال شيخ المفسرين الطبري تعليقا على هذا التفسير : وهذا تأويلٌ وقولٌ ، غيره من أهل التأويل أولى عندي بالصواب ، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء والرسل ، إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسَل إليهم ، فيعذروا في ذلك أن المرسل إليهم لأولى في ذلك منهم بالعذر ، وذلك قول إن قاله قائل لا يخفى أمره . وقد ذكر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرا عن ابن عباس لعائشة ، فأنكرته أشدّ النكرة فيما ذُكر لنا انتهى .
· قال السمين الحلبي : وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء (ابن عباس وابن مسعود وابن جبير) فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام ، وحاشى الأنبياء من ذلك ، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك
[h=2]الإجابة الثانية : على فرض صحة الرواية عن ابن عباس:[/h]قال الأزهري :" إن صح هذا عن ابن عباس فوجهه عندي -والله أعلم- أن الرسل خطر في أوهامهم ما يخطر في أوهام البشر، من غير أن حققوا تلك الخواطر، ولم يكن ظنهم ظنًّا اطمأنوا إليه، ولكن كان ظنًا بخاطر، وقد روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تجاوز الله عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد".
قال القشيري أبو نصر : ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم ، وفي الخبر : ( إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به ) ، ويجوز أن يقال : قربوا من ذلك الظن ، كقولك : بلغت المنزل ، أي قربت منه .
قال أبو السعود :"وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أُخلِفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطُر بالبال من شبه الوسوسة وحديثِ النفس ، وإنما عبر عنه بالظن تهويلاً للخطب ، وأما الظنُّ الذي هو ترجّحُ أحدِ الجانبين على الآخر فلا يُتصوّر ذلك من آحاد الأمة فما ظنُّك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم ومنزلتُهم في معرفة شؤونِ الله سبحانه منزلتُهم".
قال الزمخشري: "فإن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظنّ : ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية . وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر ، فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد".
وقال الترمذي الحكيم : وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعد ما وعد الله النصر ، لا من تهمة لوعد الله ، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم ، فكانت إذا طالت عليهم المدة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه.
قال البيضاوي: وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر ، إن صح فقد أراد بالظن ما يهجس في القلب عن طريق الوسوسة . هذا وأن المراد به المبالغة في التراخي والإمهال على سبيل التمثيل .
الإجابة الثالثة :
أن الذي صح عن ابن عباس ومن رويت عنه هذه الرواية مخالف للمشهور عنهم قال ابن كثير -وهذا عن ابن مسعود وابن عباس ، رضي الله عنهما ، مخالف لما رواه آخرون عنهما . أما ابن عباس فروى الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس في قوله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قال : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم ،
جاءهم النصر على ذلك ، { فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ } وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وعمران بن الحارث السلمي ، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس بمثله .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عارم أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا شعيب [SUP]91[/SUP] حدثنا إبراهيم بن أبي حُرة الجزرِيّ قال : سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف هذا الحرف ، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة : { حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم ، وظن المرسَلُ إليهم أن الرسل كَذَبوا . فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجل يدعى إلى علم فيتلكأ ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا .
ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر : أن مسلم بن يَسَار سأل سعيد بن جبير عن ذلك ، فأجابه بهذا الجواب ، فقام إلى سعيد فاعتنقه ، وقال : فرَّج الله عنك كما فَرجت عني .
وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك ، وكذا فسرها مجاهد بن جَبْر ، وغير واحد من السلف ، حتى إن مجاهدا قرأها : " وظنوا أنهم قد كَذَبوا " ، بفتح الذال . رواه ابن جرير ، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } إلى أتباع الرسل من المؤمنين ، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم ، أي : وظن الكفار أن الرسل قد كَذبوا - مخففة - فيما وعدوا به من النصر .
وأما ابن مسعود فقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن فضيل عن جَحش بن زياد الضبي ، عن تميم بن حَذْلَم قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا ، بالتخفيف . فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس ، وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك ، وانتصر لها ابن جرير ، ووجه المشهور عن الجمهور ، وزيف القول الآخر بالكلية ، وردَّهُ وأبَاه ، ولم يقبله ولا ارتضاه ، والله أعلم .
[1] قال الواحدي: كتبت في المصحف بنون واحدة كراهة لاجتماع المثلين، كما كتبوا: الدنيا والعليا ومحيا ونحو ذلك، بالألف؛ كراهة لاجتماع المثلين، ولولا ذلك لكتبت بالياء كما كتبت: حبلى ونخشى، وما لم يكن فيه ياء من هذا النحو بالياء، فلما كرهوا اجتماع المثلين في الخط حذفوا النون، وقوى ذلك أنه لا يكون في هذه النون إلا الإخفاء ولا يجوز البيان؛ لأنها لا تتبين عند حروف الفم فأشبه بذلك الإدغام؛ لأن الإخفاء لا يتبين فيه الحروف المخففة (2) كما أن الإدغام لا يتبين فيه الحرف المدغم بيانه في غير الإدغام، فلما وافوا هذه النون المدغم استحبوا حذفه من الخط
[2] ناقَةٌ خَلُوجٌ : غَزِيرَةُ اللَّبنِ مأْخوذٌ مِن سَحابةٍ خَلُوجٍ كما يأْتي وفي التهذيب : وناقَةٌ خَلُوجٍ : كثيرةُ اللَّبَنِ تَحِنُّ إِلى وَلِدَهَا يقال هي " الَّتي تَخْلِجُ السَّيْرَ مِنْ سُرْعَتِها " أَي تَجْذِبُه والجَمعُ خُلُجٌ وخِلاَجٌ ، الأَدْهَمُ: الأَسْود، يَكُونُ فِي الْخَيْلِ والإِبل وَغَيْرِهِمَا، فَرس أَدْهَمُ وَبَعِيرٌ أَدْهَمُ.
[3] وهذه الرواية صحت عن ابن عباس كما قال ابن حجر: وحكى الواحديّ عن ابن الأنباري أنه قال : ما روي عن ابن عباس غير معّول عليه ، وأنه ليس من كلامه ، بل تؤول عليه ، قال ابن حجر : وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح ثم للزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس ، فإنه صح عنه ، أي : فرواه البخاري في تفسير البقرة بلفظ : " ذهب بها هناك ، وأشار إلى السماء " ، وزاد الإسماعيلي عنه : " كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا " .
[4] وقد أخذ بهذا التفسير السعدي والمجد بن تيمية ورد عليه الآلوسي : { قال ابن سعدي:
حتى إن الرسل - على كمال يقينهم ، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده - ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس ، ونوع من ضعف العلم والتصديق ، فإذا بلغ الأمر هذه الحال { جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} ، قال الآلوسي:
وذهب المجد بن تيمية إلى رجوع الضمائر جميعها أيضاً إلى الرسل مائلا إلى ما روي عن ابن عباس مدعيا أنه الظاهر وأن الآية على حد قوله تعالى : { ولا نَبِي إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله } [ الحج : 52 ] فإن الالقاء في قلبه وفي لسانه وفي عمله من باب واحد والله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان ، ثم قال : والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما فقد قال صلى الله عليه وسلم : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » وقال سبحانه : { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي * من* الحق شَيْئاً } [ النجم : 28 ] فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم ، وهذا قد يكون ذنباً يضعف الإيمان ولا يزيله وقد يكون حديث النفس المعفو عنه كما قال عليه الصلاة والسلام : «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل » وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمما أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال صلى الله عليه وسلم : «أو قد وجدتموه ؟ قالوا : نعم . قال : ذلك صريح الإيمان » وفي حديث آخر «إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال : الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة » ونظير هذا ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم : «نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي » فسمى النبي صلى الله عليه وسلم التفاوت بين الإيمان والإطمئنان شكا باحياء الموتى ، وعلى هذا يقال : الوعد بالنصر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمناً بإنجازه ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظناً أنه كذب ، فالشك وظن أنه كذب من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب ، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث ،وفي قص مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلى من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فيتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوي إيمان المؤمن وبذلك يصح الاتساء بالأنبياء ، ومن هنا قال سبحانه :
{ لَقَدْ كَان َفي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ } [ يوسف : 111 ] ولو كان المتبوع معصوماً مطلقاً لا يتأتى الاتساء فإنه التابع أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتدار لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة فإنه يصح حينئذ أمر المتابعة كما قيل : أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم أبو البشر آدم . ومن يشابه أبه فما ظلم . ولا يلزم الاقتداء بهم فيما نهوا عنه ووقع منهم ثم تابوا عنه لتحقق الأمر بالاقتداء بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه ووقع منهم ولم يتوبوا منه ، وما ذكر ليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإذا كان ما أمروا به وأبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة فما لم يؤمروا به ووقع منهم وتابوا عنه أحرى وأولى بانقطاع المتابعة فيه اه .
وقد رد الآلوسي كلام المجد بن تيمية بقوله :" ولا يخفى أن ما ذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقروا على ذلك والقول به جل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم ، على أن في كلامه بعدما فيه ؛ وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فانه ما لا بأس به ، وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر).
[5] قال الحافظ ابن حجر : وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف ، ولعلها لم تبلغها ممن يرجع إليه في ذلك ، وقد أقرها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء : عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي . ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع ، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلميّ والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظيّ في آخرين ، قال ابن عاشور: وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون { كذبوا } مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل ، وذلك ليس بمتعيّن ، ولم تكن عائشة قد بلغتْها رواية { كذبوا } بالتخفيف.قال المظهري لكن القراءة متواترة وإن لم تسمعها عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغها متواترا.
[h=2]ربط الآية بما قبلها :[/h]يخبر تعالى أن نصره ينزل على رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك ، كما في قوله تعالى : { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } ، وكل ذلك إعلام بأن سنته جرت بأنه يطيل الامتحان ، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار ، حثاً للأتباع على الصبر وزجراً للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء، فهذه الآيات تصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل ، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله ، وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد .
إنها صورة رهيبة ، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل ، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود ، وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل ، وتكر الأعوام والباطل في قوته ، وكثرة أهله ، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة ، إنها ساعات حرجة ، والكفر يطغى ويبطش ويغدر، والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا .
تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس.
علاقة الآية بالسورة الكريمة سورة يوسف:
· هذه الآية الكريمة جاءت تعليقا وختاما لقصة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام التي سيقت لتصبير الرسول صلى الله عليه وسلم على أذى قومه وأهل وعشيرته ، فيوسف عليه السلام قد أوذي من أقرب الناس إليه إيذاء شديد وكذلك يعقوب ثم كانت إرادة الله هي الغالبة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، فنصرت الذين اتقوا وأحسنوا وكذلك يفعل بك يا رسول الله وبمن معك إن صبرتم، لكن النصر لا يأتي بسرعة في سنة الله تعالى بل لا بد من الصبر والتحمل والتضحيات الكثيرة ثم يأتي النصر في وقت ييأس الإنسان من حصول النصر لا شكا بالله سبحانه ، بل لأن وقت النصر لم يحن بعدُ.
[h=2]حَتَّى :[/h][h=2]يمكن ربط حرف الغاية حتى بأمرين :[/h][h=2]الأمر الأول :[/h]{ حتى } متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام ، كأنه قيل : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } فدعا الرجالُ المرسلون إلى الله واجتهدوا في إنذار قومهم لخلاصهم من الشقاء ، وتوعدهم عن الله بأنواع العقوبات إن لم يتبعوهم ، وطال عليهم الأمر وتراخى النصر وهم يكذبونهم في تلك الإيعادات ويبكتونهم ويستهزئون بهم ، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم فتراخى نصرهم واستمر ذلك من حالهم وحالهم ، { حتى إذا استيئس الرسل } عن النصر.
اختاره الزمخشري وابن الجوزي والبقاعي والجلال وابن عاشور .
[h=2]الأمر الثاني:[/h]غايةٌ لمحذوف دل عليه السياقُ أي: لا يغُرّنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء والتكذيب، فإن مَنْ قبلهم قد أُمهلوا وتراخى النصر للرسل وصبروا وطال دعاؤهم حتى أيِسَ الرسل عن النصر عليهم في الدنيا .
أبو السعود
[h=2]إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ :[/h]الاستيئاس واليأس انقطاع الطمع، لكن صيغة الاسيئاس استفعال تدل على المبالغة في اليأس ، أي يئسوا من النصر يأساً عظيماً.
وفي المعنى الذي استيأس منه الرسل قولان:
1) القول الأول: استيأسوا من قومهم أن يؤمنوا بالله ، ويصدّقوهم فيما أتوهم به من عند الله ، قال ابن عباس: يريد من قومهم أن يؤمنوا .
ابن عباس والطبري والواحدي والقرطبي و ابن أبي زمنين والقشيري والنسفي والقاسمي
يقول علي هاني : وهذا التفسير أنسب بقراءة التشديد في (كذِّبوا).
2) القول الثاني: استيأسوا من مجيء النصر لهم على أعدائهم .
البقاعي والزمخشري ومجاهد والشوكاني
يقول علي هاني: وهذا التفسير أنسب بقراءة التخفيف (كُذِبوا).
3) القول الثالث: جواز الوجهين
أبو السعود وأبو حيان
[h=2]وَظَنُّوا [/h]الظن : أنه اسم لما تحصل عن أمارة متى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت لم تتجاوز حد الوهم ، ولكن اليقين الحاصل من الظن لا يساوي تماما يقين الرؤية ، فيقين الظن ليس كيقين العيان ، وعبارة المحكم لابن سيده "الظن شك ويقين، إلا أنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر "،
وعبارة الراغب :"الظن: اسم لما يحصل من أمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضَعُفَت لم تجاوز حد الوهم".
و متى قوي استعمل معه أنَّ المشدة، أو " أنْ " المخففة منها ـ كما هنا ـ ، ومتى ضعف استعمل معه " أنْ " المصدرية المختصة بالمعدومين من الفعل نجو " ظننت أن خرج، وأن يخرج "
قال الشاعر :
[SUP]1[/SUP] فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بأَلْفَيْ مُدَجَّج، ... سَرَاتُهُمُ فِي الفارِسِيِّ المُسَرَّدِ
معناه ايقنوا.
وقد ورد استعمال الظن بمعنى اليقين كثيرا في القرآن الكريم لكنه يقين حصل عن أمارات حتى وصلت درجة اليقين لكنه مع ذلك لا يكون كيقين العيان نحو:
{ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا}، { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} ، { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} { َ قال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} .
[h=2]أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [/h]عندنا قراءتان متواترتان :
خفف الذال أبو جعفر والكوفيون (عاصم، حمزة والكسائي) ، وشددها الباقون.
توجيه قراءة التخفيف:
في توجهيها خلاف سيأتي أختار منه أن المعنى :
كذبتْهم أنفسُهم حين حدثتْهم بأنهم يُنْصرون عليهم أو كذبهم رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب، والمعنى أن مدة التكذيبِ والعداوة من الكفار وانتظارَ النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا أن لا نصر لهم في الدنيا.
[h=2]توجيه قراءة التشديد (كذِّبوا): [/h]وقرىء بالتشديد أي أيقن الرسل ان الامم كذبوهم تكذيبا عمهم حتى لا يفلح احد منهم ،و أن الأمم قد كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعده إيمانهم ، ويئسوا من فلاح القوم وعلموا ان القوم لقوهم بالتكذيب .
[h=2]جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [/h] أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور جاءهم نصرنا فجأة، والظاهر أن ضمير { جَاءهُمُ } على سائر القراءات والوجوه للرسل .
· فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ : هم الرسلُ والمؤمنون بهم وأتباعهم ،وإنما لم يعينوا للإشارة إلى أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم .
· وتفريع { فنجي من نشاء } على { جاءهم نصرنا } لأن نصر الرسل عليهم السلام هو تأييدهم بعقاب الذين كذبوهم بنزول العذاب وهو البأس ، فينجي الله الذين آمنوا ولا يردّ البأس عن القوم المجرمين .
· القراءات في {فنجي من نشاء}:
1) قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنون واحدة مضمومة وبعدها جيم مشددة وبعد الجيم ياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول ، و " مَنْ " قائمة مقام الفاعل .
2) وقرأ الباقون بنونين: الأولى مضمومة والثانية ساكنة وبعد الثانية جيم مخففة، وبعد الجيم ياء ساكنة مدية(فننجي) على لفظ المستقبل [1] على أنه مضارع أَنْجَى و " مَنْ " مفعوله ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه.
· فعلى قراءة فنُجِّي من نشاء الكلام على من مضى .
· وعلى قراءة (فننجي من نشاء) فيها توجيهان كلاهما صحيح :
1) الأول: " على انه حكاية حال ، لان القصة كانت فيما مضى ، فانما حكى فعل الحال على ماكانت
2) في الآية احتباك: فالجمع بين الماضي في ( نجّي ) والمضارع في { نشاء } احتباك تقديره فنُجي من شئنا ممن نجا في القرون السالفة وننجي من نشاء في المستقبل من المكذبين.
[h=2] وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[/h]البأس أصلها الشدة و القوة في الحرب التي تقتل أو تضر من وجهة له إضرارا بليغا ، يقال له بأس في الحرب.
{ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } عذابنا لما له من العظمة وعقوبتنا وبطشنا بمن بطشنا به من أهل الكفر بنا ، {عَنِ القوم المجرمين } فكفروا بالله وخالفوا رسله وما أتوهم به من عنده إذا نزل بهم ، وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين .
والتعبير باسم الفاعل للدالة على الثبوت .
والمجرم : هو المكتسب على وجه الفساد للذنوب الكبيرة ، وأصله من جَرَم الثمر قبل بدو صلاحه على وجه الفساد ، ويقال للجسم الكبير جرم بكسر الجيم فدل على أن الإجرام اكتساب على وجه الفساد والضرر للذنوب الكبير وأعظمها الكفر بالله ورسوله .
****************
[h=2]أقوال العلماء في تفسير الآية على قراءة التخفيف :[/h][h=2]القول الأول: [/h][h=2]اختاره : الطبري ابن عباس ، وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد والضحاك والبغوي ، والقرطبي والجلال و الجصاص ، و الشوكاني و الشربيني و القاسمي و ابن أبي زمنين ، و مكي ، و السمعاني قال الواحدي وهو قول وعامة المفسرين وأهل المعاني لقراءة التخفيف[/h]الضمير في ظنوا للأمم وليس للرسل لأن الرسل لا يظنون ذلك ، والظن هنا بمعنى التوهم والحسبان، ، و (كُذبوا) من قولهم: كذبتك الحديثَ، أي: لم أصدقك، ومنه قوله تعالى : {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}:
أي ظن الأمم أن الرسل كذَبُوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من إمهال الله إياهم، والمعنى :
حتى إذا استيأس الرسل الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله ، ويصدّقوهم فيما أتوهم به من عند الله ، وظنّ الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذّبة أن الرسل الذين أرسلناهم ، قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله من وعده إياهم نصرهم عليهم ، جاءهم نصرنا، وقد ورد مثل هذا المعنى في القرآن الكريم كما أخبر عنه في قصة نوح من قولهم : { بل نظنكم كاذبين } : هود : 27 ، وكذا في قصة هود وصالح وقوله : { فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا } .
فان قيل :كيف يجوز أن يحمل الضمير على انه للمرسل اليهم والذين تقدم ذكرهم الرسل دون المرسل اليهم ، قيل ان ذلك لا يمتنع لان ذكر الرسل يدل على المرسل اليهم ، ويَسْتدعي مُرْسَلاً إليه وقد قال أَبو ذؤيب:
أَمِنْك البَرْقُ أَرْقُبُهُ، فَهَاجا، ... فَبِتُّ إِخالُه دُهْماً خِلاجا؟ [2]
اي بت اخال الرعد صوت دهم ، فاضمر الرعد ولم يجر له ذكر لدلالة البرق عليه.
وان قلت قد جرى لهم ذكر في قوله " افلم يسيروا في الارض فينظروا " فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل كان جيدا .
قال الطبري: وإنما اخترنا هذا التأويل وهذه القراءة ، لأن ذلك عقيب قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أهْل القُرَى أفَلَم يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فكان ذلك دليلاً على أن إياس الرسل كان من إيمان قومهم الذين أهلكوا ، وأن المضمر في قوله : وظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا إنما هو من ذكر الذين من قبلهم من الأمم الهالكة ، وزاد ذلك وضوحا أيضا إتباع الله في سياق الخبر عن الرسل وأممهم قوله : فَنُجّيَ مَنْ نَشاءُ إذ الذين أهلكوا هم الذين ظنوا أن الرسل قد كذبتم ، فكَذّبُوهم ظنّا منهم أنهم قد كَذَبُوهم.
[h=2]القول الثاني: [/h][h=2]الضمائر الثلاثة للرسل ، والظن بمعنى التوهم لا بمعناه الأصلي ولا بمعنى اليقين[/h][h=2]أي كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذبهم رجاؤهم فإن الرجاء يوصف بالصدق والكذب لقولهم : رجاء صادق ، ورجاء كاذب ، والمعنى أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ، حتى استشعروا وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا ، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب[/h]اختاره : الزمخشري وأبو السعود والآلوسي والبيضاوي والمظهري والخطابي
قال الخطابي :" لاشك أن ابن عباس لا يجيز على الرسل أنها تكذب بالوحي ، ولا تشك في صدق المخبر ، فيحمل كلامه على أنه أراد أنهم ، لطول البلاء عليهم ، وإبطاء النصر ، وشدة استنجاز ما وعدوا به توهموا أن الذي جاءهم من الوحي كان حسبانا من أنفسهم ، وظنوا عليها الغلط في تلقي ما ورد عليهم من ذلك ، فيكون الذي بنى له الفعل أنفسهم ، لا الآتي بالوحي . والمراد ب ( الكذب ) : الغلط ، لا حقيقة الكذب ، كما يقول القائل : كذبتك نفسك ، قال الحافظ ابن حجر : ويؤيده قراءة مجاهد { وظنوا أنهم قد كذبوا } بفتح أوله مع التخفيف أي : غلطوا ، ويكون فاعل { وظنوا } الرسل".
****************
[h=2]أقوال العلماء على قراءة التشديد ، وهي قراءة واضحة :[/h][h=2]القول الأول: قتادة والحسن وعطاء والواحدي و البغوي والزمخشري وابن الحوزي والقرطبي والسمين الحلبي والجلال [/h]الضمير في ظنوا للرسل، والمراد بالظن اليقين
حمل الظن على العلم ، والمعنى أيقن الرسل أن الامم كذبوهم تكذيبا عمهم حتى لا يفلح احد منهم ،و أن الأمم قد كذبوهم تكذيبا لا يرجى بعد إيمانهم ، ويئسوا من فلاح القوم و لقوهم بالتكذيب ونسبوهم إلى الكذب ، لان التكذيب نسبة القائل إلى الكذب جاءهم نصرنا
قال قتادة : حتى إذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ من إيمان قومهم ، «وظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذّبُوا » : أي استيقنوا أنه لا خير عند قومهم ، ولا إيمان ، جاءهم نصرنا وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك ، وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } أي يتيقنون ذلك .
[h=2]القول الثاني: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال الرازي وهذا أحسن الوجوه في الآية [/h]الضمير للرسل ، والظن ظن حسبان لا يقين
قالت عائشة رضي الله عنها: ما زال البلاء بهم حتى ظنوا أن من آمن بهم من أتباعهم قد كذبهم فأتاهم نصر الله عن ذلك، وعلى هذا القول: الظن بمعنى الحسبان، والمعنى: ظنت الرسل ظن حسبان أن أتباعهم من الأمم قد كذبتهم في وعد الظفر والنصر لإبطائه وتأخيره عنهم، وطول البلاء بهم و لشدة المحنة والبلاء عليهم واستبطاء النصر ، لا أنهم كذبوهم في كونهم رسلاً، وهذا التكذيب أيضًا لم يحصل من أتباعهم المؤمنين؛ لأنه لو حصل لكان نوع كفر، ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبُطء النصر، الظن بمعنى: اليقين والتكذيب المتيقن من جهة الكفار
[h=2]توجيه رواية ابن عباس : [/h][h=2]هناك رواية غريبة[3] رويت عن ابن عباس رضي الله عنهما [4]:[/h]قد ذهب قوم ممن قرأ {كُذِبوا}بالتخفيف أن المعنى : وظنت الرسل أنهم قد كذِبوا فيما وعدوا من النصر .
روى الطبري بسنده قال :حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قرأ ابن عباس : حتى إذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قال : كانوا بشرا ضعفوا ويئسوا .
قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قرأ : وَظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خفيفة . قال ابن جريج : أقول كما يقول : أخلفوا . قال عبد الله : قال لي ابن عباس : كانوا بشرا ، وتلا ابن عباس : حتى يَقُولَ الرّسُولُ والّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ ألا إنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ . قال ابن جريج : قال ابن أبي مليكة : ذهب بها إلى أنهم ضعفوا فظنوا أنهم أخلفوا .
وقد أجاب العلماء عن هذه الراوية بعدة إجابات:
[h=2]الإجابة الأولى: بين جماعة كثيرة من الصحابة و العلماء أن هذا التفسير لا يجوز على الأنبياء :[/h]· عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوعد بشيء يخلف فيه، وعنها أيضًا أنها قالت: معاذ الله أن تظن الرسلُ هذا بربها ، نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك ، فقد أخرج البخاري والنسائي وغيرهما من طريق عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية قال : قلت أكذبوا أم كذبوا فقالت عائشة بل كذِّبوا يعني بالتشديد [5]قلت : والله لقد استيقنوا ان قومهم كذبوهم فما هو بالظن قالت : أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت : لعله { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } مخففة قالت : معاذ الله تعالى لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت : فما هذه الآية ؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاء نصر الله تعالى عند ذلك".
· قال أبو بكر بن الأنباري: وهذا غير معول عليه من جهتين: إحداهما: أن التفسير فيه ليس عن ابن عباس، لكنه من متأول تأوله عليه، والأخرى: أن في قوله: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} دلالة على أن أهل الكفر لما ظنوا ما لا يجوز ظن مثله واستضعفوا رسل الله، نصر الرسل ولو كان الظن للرسل كان ذلك منهم خطأً عظيمًا لا يستحقون ظفرًا ولا نصرًا، وتنزيه الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلًا.
· قال أبو إسحاق الزجاج:" منكرًا لهذا التفسير: وذلك بعيد في صفة الرسل".
· قال أبو علي الفارسي: "وإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا، فقد أتى عظيمًا لا يجوز أن ينسب مثلُه إلى الأنبياء، لأن الله سبحانه لا يخلف الميعاد ولا مبدل لكلماته".
· قال الإمام الرازي: والوجه الثاني : أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا : وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد ، لأن المؤمن لا يجوز أن يظن بالله الكذب ، بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل
· قال أبو السعود العمادي: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أُخلِفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطُر بالبال من شبه الوسوسة وحديثِ النفس ، وإنما عبر عنه بالظن تهويلاً للخطب ، وأما الظنُّ الذي هو ترجّحُ أحدِ الجانبين على الآخر فلا يُتصوّر ذلك من آحاد الأمة فما ظنُّك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم ومنزلتُهم في معرفة شؤونِ الله سبحانه منزلتُهم.
· قال القرطبي: قوله تعالى : " حتى إذا استيأس الرسل " تقدم القراءة فيه ومعناه . " وظنوا أنهم قد كذبوا " وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم ، وهذا الباب عظيم ، وخطره جسيم ، ينبغي الوقوف عليه ؛ لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم ".
· قال أبو حيان : "ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل ، لأنهم معصومون ، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله ".
· قال شيخ المفسرين الطبري تعليقا على هذا التفسير : وهذا تأويلٌ وقولٌ ، غيره من أهل التأويل أولى عندي بالصواب ، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء والرسل ، إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسَل إليهم ، فيعذروا في ذلك أن المرسل إليهم لأولى في ذلك منهم بالعذر ، وذلك قول إن قاله قائل لا يخفى أمره . وقد ذكر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرا عن ابن عباس لعائشة ، فأنكرته أشدّ النكرة فيما ذُكر لنا انتهى .
· قال السمين الحلبي : وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء (ابن عباس وابن مسعود وابن جبير) فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام ، وحاشى الأنبياء من ذلك ، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك
[h=2]الإجابة الثانية : على فرض صحة الرواية عن ابن عباس:[/h]قال الأزهري :" إن صح هذا عن ابن عباس فوجهه عندي -والله أعلم- أن الرسل خطر في أوهامهم ما يخطر في أوهام البشر، من غير أن حققوا تلك الخواطر، ولم يكن ظنهم ظنًّا اطمأنوا إليه، ولكن كان ظنًا بخاطر، وقد روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تجاوز الله عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد".
قال القشيري أبو نصر : ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم ، وفي الخبر : ( إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به ) ، ويجوز أن يقال : قربوا من ذلك الظن ، كقولك : بلغت المنزل ، أي قربت منه .
قال أبو السعود :"وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أُخلِفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطُر بالبال من شبه الوسوسة وحديثِ النفس ، وإنما عبر عنه بالظن تهويلاً للخطب ، وأما الظنُّ الذي هو ترجّحُ أحدِ الجانبين على الآخر فلا يُتصوّر ذلك من آحاد الأمة فما ظنُّك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم ومنزلتُهم في معرفة شؤونِ الله سبحانه منزلتُهم".
قال الزمخشري: "فإن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظنّ : ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية . وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر ، فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم ، وأنه متعال عن خلف الميعاد".
وقال الترمذي الحكيم : وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعد ما وعد الله النصر ، لا من تهمة لوعد الله ، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم ، فكانت إذا طالت عليهم المدة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه.
قال البيضاوي: وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر ، إن صح فقد أراد بالظن ما يهجس في القلب عن طريق الوسوسة . هذا وأن المراد به المبالغة في التراخي والإمهال على سبيل التمثيل .
الإجابة الثالثة :
أن الذي صح عن ابن عباس ومن رويت عنه هذه الرواية مخالف للمشهور عنهم قال ابن كثير -وهذا عن ابن مسعود وابن عباس ، رضي الله عنهما ، مخالف لما رواه آخرون عنهما . أما ابن عباس فروى الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس في قوله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قال : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم ،
جاءهم النصر على ذلك ، { فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ } وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وعمران بن الحارث السلمي ، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس بمثله .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عارم أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا شعيب [SUP]91[/SUP] حدثنا إبراهيم بن أبي حُرة الجزرِيّ قال : سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف هذا الحرف ، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة : { حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم ، وظن المرسَلُ إليهم أن الرسل كَذَبوا . فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجل يدعى إلى علم فيتلكأ ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا .
ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر : أن مسلم بن يَسَار سأل سعيد بن جبير عن ذلك ، فأجابه بهذا الجواب ، فقام إلى سعيد فاعتنقه ، وقال : فرَّج الله عنك كما فَرجت عني .
وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك ، وكذا فسرها مجاهد بن جَبْر ، وغير واحد من السلف ، حتى إن مجاهدا قرأها : " وظنوا أنهم قد كَذَبوا " ، بفتح الذال . رواه ابن جرير ، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } إلى أتباع الرسل من المؤمنين ، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم ، أي : وظن الكفار أن الرسل قد كَذبوا - مخففة - فيما وعدوا به من النصر .
وأما ابن مسعود فقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن فضيل عن جَحش بن زياد الضبي ، عن تميم بن حَذْلَم قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا ، بالتخفيف . فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس ، وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك ، وانتصر لها ابن جرير ، ووجه المشهور عن الجمهور ، وزيف القول الآخر بالكلية ، وردَّهُ وأبَاه ، ولم يقبله ولا ارتضاه ، والله أعلم .
[1] قال الواحدي: كتبت في المصحف بنون واحدة كراهة لاجتماع المثلين، كما كتبوا: الدنيا والعليا ومحيا ونحو ذلك، بالألف؛ كراهة لاجتماع المثلين، ولولا ذلك لكتبت بالياء كما كتبت: حبلى ونخشى، وما لم يكن فيه ياء من هذا النحو بالياء، فلما كرهوا اجتماع المثلين في الخط حذفوا النون، وقوى ذلك أنه لا يكون في هذه النون إلا الإخفاء ولا يجوز البيان؛ لأنها لا تتبين عند حروف الفم فأشبه بذلك الإدغام؛ لأن الإخفاء لا يتبين فيه الحروف المخففة (2) كما أن الإدغام لا يتبين فيه الحرف المدغم بيانه في غير الإدغام، فلما وافوا هذه النون المدغم استحبوا حذفه من الخط
[2] ناقَةٌ خَلُوجٌ : غَزِيرَةُ اللَّبنِ مأْخوذٌ مِن سَحابةٍ خَلُوجٍ كما يأْتي وفي التهذيب : وناقَةٌ خَلُوجٍ : كثيرةُ اللَّبَنِ تَحِنُّ إِلى وَلِدَهَا يقال هي " الَّتي تَخْلِجُ السَّيْرَ مِنْ سُرْعَتِها " أَي تَجْذِبُه والجَمعُ خُلُجٌ وخِلاَجٌ ، الأَدْهَمُ: الأَسْود، يَكُونُ فِي الْخَيْلِ والإِبل وَغَيْرِهِمَا، فَرس أَدْهَمُ وَبَعِيرٌ أَدْهَمُ.
[3] وهذه الرواية صحت عن ابن عباس كما قال ابن حجر: وحكى الواحديّ عن ابن الأنباري أنه قال : ما روي عن ابن عباس غير معّول عليه ، وأنه ليس من كلامه ، بل تؤول عليه ، قال ابن حجر : وعجب لابن الأنباري في جزمه بأنه لا يصح ثم للزمخشري في توقفه عن صحة ذلك عن ابن عباس ، فإنه صح عنه ، أي : فرواه البخاري في تفسير البقرة بلفظ : " ذهب بها هناك ، وأشار إلى السماء " ، وزاد الإسماعيلي عنه : " كانوا بشرا ضعفوا وأيسوا وظنوا أنهم قد كذبوا " .
[4] وقد أخذ بهذا التفسير السعدي والمجد بن تيمية ورد عليه الآلوسي : { قال ابن سعدي:
حتى إن الرسل - على كمال يقينهم ، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده - ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس ، ونوع من ضعف العلم والتصديق ، فإذا بلغ الأمر هذه الحال { جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} ، قال الآلوسي:
وذهب المجد بن تيمية إلى رجوع الضمائر جميعها أيضاً إلى الرسل مائلا إلى ما روي عن ابن عباس مدعيا أنه الظاهر وأن الآية على حد قوله تعالى : { ولا نَبِي إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله } [ الحج : 52 ] فإن الالقاء في قلبه وفي لسانه وفي عمله من باب واحد والله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان ، ثم قال : والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما فقد قال صلى الله عليه وسلم : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » وقال سبحانه : { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي * من* الحق شَيْئاً } [ النجم : 28 ] فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم ، وهذا قد يكون ذنباً يضعف الإيمان ولا يزيله وقد يكون حديث النفس المعفو عنه كما قال عليه الصلاة والسلام : «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل » وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمما أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال صلى الله عليه وسلم : «أو قد وجدتموه ؟ قالوا : نعم . قال : ذلك صريح الإيمان » وفي حديث آخر «إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال : الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة » ونظير هذا ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم : «نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي » فسمى النبي صلى الله عليه وسلم التفاوت بين الإيمان والإطمئنان شكا باحياء الموتى ، وعلى هذا يقال : الوعد بالنصر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمناً بإنجازه ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظناً أنه كذب ، فالشك وظن أنه كذب من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب ، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث ،وفي قص مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلى من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فيتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوي إيمان المؤمن وبذلك يصح الاتساء بالأنبياء ، ومن هنا قال سبحانه :
{ لَقَدْ كَان َفي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ } [ يوسف : 111 ] ولو كان المتبوع معصوماً مطلقاً لا يتأتى الاتساء فإنه التابع أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتدار لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة فإنه يصح حينئذ أمر المتابعة كما قيل : أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم أبو البشر آدم . ومن يشابه أبه فما ظلم . ولا يلزم الاقتداء بهم فيما نهوا عنه ووقع منهم ثم تابوا عنه لتحقق الأمر بالاقتداء بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه ووقع منهم ولم يتوبوا منه ، وما ذكر ليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإذا كان ما أمروا به وأبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة فما لم يؤمروا به ووقع منهم وتابوا عنه أحرى وأولى بانقطاع المتابعة فيه اه .
وقد رد الآلوسي كلام المجد بن تيمية بقوله :" ولا يخفى أن ما ذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقروا على ذلك والقول به جل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم ، على أن في كلامه بعدما فيه ؛ وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فانه ما لا بأس به ، وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر).
[5] قال الحافظ ابن حجر : وهذا ظاهر في أنها أنكرت القراءة بالتخفيف ، ولعلها لم تبلغها ممن يرجع إليه في ذلك ، وقد أقرها بالتخفيف أئمة الكوفة من القراء : عاصم ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي . ووافقهم من الحجازيين أبو جعفر بن القعقاع ، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلميّ والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظيّ في آخرين ، قال ابن عاشور: وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون { كذبوا } مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل ، وذلك ليس بمتعيّن ، ولم تكن عائشة قد بلغتْها رواية { كذبوا } بالتخفيف.قال المظهري لكن القراءة متواترة وإن لم تسمعها عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغها متواترا.