تحقيق في معنى (الظن) في القرآن الكريم.

إنضم
06/03/2015
المشاركات
51
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
مصر
تحقيق في معنى (الظن) في القرآن.
ثم وصف الخاشعين وصفاً يناسب المقام، ويظهر وجه الاستعانة به فقال سبحانه: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 46)
أي : الذين يتوقعون لقاء الله - تعالى - يوم الحساب والجزاء وأنهم إليه راجعون ، بعد البعث لا مرجع لهم إلى غيره.
قال الشيخ محمد عبده : فالإيمان بلقاء الله - تعالى - هو الذي يوقف المعتقدَ له عند حدوده ، ولو لم يكن الاعتقاد يقينيا ، فإن الذي يغلب على ظنه أن هذا الشيء ضارٌّ يجتنبه أو أنه نافع يطلبه ، ولذلك اكتفى هنا بذكر الظن .
قال: وقد فسر جلال الدين السيوطي الظنَّ هنا باليقين ؛ لأنه الاعتقاد المُنْجِي في الآخرة ، وفاته أن الاكتفاء بذكر الظن- في هذا الموضع- أبلغ في التقريع والتوبيخ كأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يقرأون الكتاب لا يصل إيمانهم بالله وبكتابه إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالاحتياط!
يقول رشيد رضا: بل دينهم هو تقليدٌ محض بحكم العادة والميراث، لم يرجعوا فيه إلى يقين أو حتى ترجيح (أي ظن بتعبير القرآن) كالعادات القومية والوطنية فهو لا ينجي صاحبه في الآخرة.
قال: وقوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون} هذا من تمام الكلام الذي قبله ، أي : وإن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ، أي : يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة ، معروضون عليه ، وأنهم إليه راجعون ، أي : أمورُهم راجعةٌ إلى مشيئته ، يحكم فيها ما يشاء بعدله ، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سَهُل عليهم فعلُ الطاعات وتركُ المنكرات . انتهى [SUP]([SUP][/SUP])[/SUP]
وفي الحديث الصحيح: أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة:" ألم أزوجْكَ، ألم أكرمك، ألم أسخِّر لك الخيل والإبل، وأَذَرَكَ تَرْأَسْ وتربع؟ فيقول: بلى.
فيقول الله تعالى: أفظننتَ أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا.
فيقول الله: اليوم أنساك كما نسيتني ".[SUP]([SUP][ii][/SUP]) [/SUP]
قال الفخر الرازي: أما قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} فللمفسرين فيه قولان: الأول: أن الظن بمعنى العلم.
قالوا: لأن الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة وذلك كفر والله تعالى مدح على هذا الظن والمدح على الكفر غير جائز، فوجب أن يكون المراد من الظن هاهنا العلم، وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقادا راجحا إلا أن العلم راجح مانع من النقيض والظن راجح غير مانع من النقيض، فلما اشتبها من هذا الوجه صح إطلاق اسم أحدهما على الآخر، قال أوس بن حجر:
فأرسلته مستيقن الظن أنه ... مخالط ما بين الشراسيف خائف.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} [الْحَاقَّةِ: 20] وَقَالَ: {أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 4] ذكر الله تعالى ذلك إنكارا عليهم وبعثا على الظن ولا يجوز أن يبعثهم على الاعتقاد المجوز للنقيض فثبت أن المراد بالظن هاهنا العلم.
القول الثاني: أن يحمل اللفظ على ظاهره وهو الظن الحقيقي، ثم هاهنا وجوه:
الأول: أن تجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت، وذلك لأن ملاقاة الرب مسبب عن الموت فأطلق المسبب والمراد منه السبب، وهذا مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات إنه لقي ربه. إذا ثبت هذا فنقول: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون الموت في كل لحظة، وذلك لأن كل من كان متوقعا للموت في كل لحظة فإنه لا يفارق قلبه الخشوع فهم يبادرون إلى التوبة، لأن خوف الموت مما يقوي دواعي التوبة ولأنه مع خشوعه لا بد في كل حال من ألا يأمن تقصيرا جرى منه فيلزمه التلافي، فإذا كان حاله ما ذكرنا كان ذلك داعيا إلى المبادرة إلى التوبة.
الثاني: أن تفسر ملاقاة الرب بملاقاة ثواب الرب وذلك مظنون لا معلوم فإن الزاهد العابد لا يقطع بكونه ملاقيا لثواب الله بل يظن إلا أن ذلك الظن مما يحمله على كمال الخشوع.
الثالث: المعنى الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله تعالى بذنوبه فعند ذلك يسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح. انتهى. [SUP]([/SUP][SUP][SUP][iii][/SUP][/SUP][SUP])[/SUP]
ولتحقيق الكلام وتوسعة البحث نذكر ما قاله ابن جرير الطبري - رحمه الله- في تفسيره:
العرب قد تسمي اليقين ظنا، والشك ظنا، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة، والضياء سدفة، والمغيث صارخا، والمستغيث صارخا، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يُسَمَّى بها الشيءُ وضده (وهو ما يسميه العرب الأضداد) ، ومنه قول الله تعالى : {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} (الكهف: 53).
ثم قال ابن جرير: -بسنده- عن مجاهد، قال: كلُّ ظنٍ في القرآن يقين، ورَوَى عنه قال: كل ظن في القرآن فهو علم. وهذا سند صحيح. انتهى.
قلتُ: ذكر أهل التَّفْسِير أَن الظَّن فِي الْقُرْآن على خَمْسَة أوجه:
أَحدهَا: الشَّك. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْبَقَرَة: {إِن هم إِلَّا يظنون} وَفِي الجاثية: {إِن نظن إِلَّا ظنا} .
وَالثَّانِي: الْيَقِين. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي الْبَقَرَة: {الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا رَبهم}، وفيهَا: {قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا الله}، وفيهَا: {إِن ظنا أَن يُقِيمَا حُدُود الله} ، وَفِي ص: {وَظن دَاوُد أَنما فتناه} ، وَفِي سُورَة الحاقة: {إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه}.
وَالثَّالِث: التُّهْمَة. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: [فِي التكوير]: {وَمَا هُوَ على الْغَيْب بظنين}، أَي بمتهم.
وَالرَّابِع: الحسبان. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي حم السَّجْدَة: {وَلَكِن ظننتم أَن الله لَا يعلم كثيرا مِمَّا تَعْمَلُونَ وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرداكم}، وَفِي الانشقاق: {إِنَّه ظن أَن لن يحور}، أَي: حسب أنْ لن يرجع إلى ربه.
وَالْخَامِس: الْكَذِب. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى [فِي النَّجْم]: {إِنْ يتَّبعون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا}، قَالَه الْفراء. انتهى[SUP] ([SUP][iv][/SUP])[/SUP]
قال الراغب في المفردات: الظَّنُّ: اسم لما يحصل عن أمارةٍ، ومتى قويت أدّت إلى العلم، ومتى ضعفت جدّا لم يتجاوز حدّ التّوهّم. انتهى [SUP]([SUP][v][/SUP])[/SUP]
فهو نوعٌ من أنواع العلم الذي يقوى دليله أحيانا ويضعف أحياناً أخرى.
فتكون درجات التحقق أربعة: الوهم (الشك) >>>>> الظن>>>>> العلم >>>>>اليقين.
قلتُ- المحقق: فهو بذلك- كما قال ابن جرير-: من المشترك اللفظي الذي يُفْهَم معناه من السياق، هل هو ظن اليقين، أو ظن التوهم. والظَّن فِي الأَصْل: قُوَّة وترجح أحد الشَّيْئَيْنِ على نقيضه فِي النَّفس.
وَالْفرق بَينه وَبَين الشَّك. أَن الشَّك: التَّرَدُّد فِي أَمريْن لَا مزية لأحدهما على الآخر. والعلم والظن يشتركان في كون كل واحدٍ منهما اعتقادا راجحا إلا أن العلم راجحٌ مانعٌ من النقيض، والظن راجحٌ غير مانعٍ من النقيض، فلما اشتبها من هذا الوجه صح إطلاق اسم أحدهما على الآخر.
قال ابن عطية في (المحرر الوجيز): قد يقع الظن موقع اليقين في الأمور المُتَحَقِّقة، لكنه لا يقَع فيما قد خرج مخرج الحس. لا تقول العرب في رجلٍ مرئي حاضر: أظن هذا إنسانا، وإنما نجد استعمال الظن فيما لم يخرج إلى الحس، انتهى.
أي يكون الظن فيما لا تراه العيون، لأن عند رؤية الشيء بالمعاينة يكون عين اليقين.
وقال ابن عرفة: (الذي يظهر) لي أن الظنّ على بابه مقصودٌ به زمن (الملاقاة) أي هم يستحضرون الموت ويظنونه في كل زمن واقعا بهم. انتهى [SUP]([SUP][vi][/SUP])[/SUP]
قلتُ- المحقق: فالظن على تأويله -وهو تأويلٌ جيد- ينصرف إلى معنى توقعهم لقاء الله في أية لحظةٍ، فيكونون من أهل التقوى وعلى الصراط المستقيم دائما، وهذا هو المقصود الأكبر من الأمر بتذكر الآخرة واليقين في اليوم الآخر، ولقاء الله تعالى، لأنهم يعتقدون المعاد علما لا ظنّا.
ويؤيد هذا التوجيه الحسن الصيغة التركيبية للكلام، فقد قال تعالى (ملاقوا) وهو اسم فاعل من فعل الاستقبال والمضارعة (يلاقوا) الذي يدل على (تجدد) هذا (الظن= التوقع) للقاء ربهم، ولم يقل (يظنون ملاقاة ولقاء ربهم)، وكذلك قال (راجعون) ولم يقل (رجوع) التي توحي بأن الظن هو في اعتقادهم، وليس كذلك؛ بل اليقين في (ملاقاة ولقاء) الله و(الرجوع) إليه هو اعتقادهم، وأما (الظن) فهو توقع تلك الملاقاة والرجوع إلى الله في أية لحظةٍ، وهو أبلغ في الدلالة على يقينهم في ملاقاة الله-تعالى-حتى تحولت عملاً وتوقعا مستمرا متجدداً للقاء الله تعالى.
وهذا يؤيد قول القاضي البيضاوي: في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ} أي يتوقعون لقاء الله تعالى ونيل ما عنده، أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى الله فيجازيهم، ويؤيده أن في مصحف عبد الله بن مسعود «يعلمون» محل "يظنون"، وكأن الظن لما شابه العلم في الرجحان أُطلق عليه لتضمن معنى التوقع، قال أوس بن حُجْر:
فأرْسَلتُهُ مُستَيْقِنَ الظنِّ أنَّه ... مُخالِطُ ما بينَ الشَّراسِيفِ جائِفُ. انتهى [SUP]([SUP][vii][/SUP])[/SUP]
قلتُ- المحقق: هنا لفتةٌ مهمةٌ في لغة القرآن، وهي أنَّ من أسباب العدول عن استعمال كلمةٍ إلى ما يقاربها في المعنى هو وجود (تضمين لمعنى زائد) في الكلمة التي استعملها القرآن العظيم، وهو مفتاحٌ مهم من مفاتيح فهم القرآن وتدبره.
ومثاله: قول الملائكة فيما ذكرنا من سورة البقرة آنفا {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة: 30) فقد اختلف المفسرون في معنى اللام (ونقدس لك) فقال بعضهم هي صلة (أي زائدة) وهذا مرفوضٌ لأنه يكون بمعنى (ونقدسك) أي ننزهك عما لا يليق؛ الذي هو مذكور بالفعل في قولهم (نسبح بحمدك)، والبلاغة في التأسيس لا التأكيد.
والصحيح أنَّ اللام هنا تضمنت الإشارة إلى لفظٍ محذوف أي (ونقدس أنفسنا لك) أي نطهرها لك، وهو معنى جديدٌ وتوجيهٌ جيد حلَّ إشكاله قضيةُ تضمين المعاني ويدل على اتساع لغة القرآن وعمقها الدلالي....
نعود لبحثنا فنقول: من باب التصور المنطقي الحديث في تفسيرنا لمعنى " الظن" المتعلق بأمور العقيدة نراجع القرآن العظيم وآيات ذلك الحوار الراقي بين إبراهيم -عليه السلام- ورب العالمين:
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(البقرة-260)
ونلحظ هنا في سياق الحوار: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} ولم يقلْ: أو لم توقن؟ فدلَّ على أنَّ الإيمان وهو المطلوب من كل أحدٍ غير اليقين وهو درجةٌ تعلو الإيمان والتي عبَّر عنها القرآن هنا بقوله: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، ففهمنا أن قد يجتمع الإيمان القوي الجازم وما يزال في القلب بعض الاضطراب الخفيف الذي لا يتساوى فيه عين اليقين وحق اليقين مع الإيمان (= علم اليقين).
يقول الطبري: { ولكن ليطمئن قلبي } من غير شكٍ في الله تعالى ذكره ولا في قدرته , ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه ... فمسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانا ما كان عنده من علم ذلك خبرا .
وقال آخرون : بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا، فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا، ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا .
ثم رجّح فقال: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صح به الخبر عن رسول الله -- أنه قال: " نحن أحق بالشك من إبراهيم ".
وأنْ تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارضٍ من الشيطان عرض في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفا من أن إبراهيم لما رأى الحوت الميت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر قد تعاوره دواب البر، ودواب البحر، وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذا الحوت من بطون هؤلاء ؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ليعاين ذلك عيانا؛ فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك.
فقال له ربه : { أولم تؤمن } يقول : أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر ؟ قال : بلى يا رب، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت . انتهى
يقول العلماء: أنَّ التصديق بالشيء لا تراه يوجب في القلب المؤمن علماً، ويقوى هذا العلم حتى يصير (علم اليقين). وهو يناقض الشك تماماً، وهذه الدرجة التي كان يقف عندها سيدنا إبراهيم عليه السلام.
ولكنَّ رؤية الشيء توجب علما أعلى لا يداخله أي هاجس ويطمئن إليه القلب تماماً، وهو (عين اليقين) بتعبير القرآن في سورة التكاثر: { ثم لتَرَوُنَّها عينَ اليقين}. وكما تقول العرب ليس الخبر- وحتى إن بلغ درجة علم اليقين- كالمعاينة.
ثم تعالج الشيء وتلابسه فتصير إلى درجة الوقع الفعلي الكامل للخبر (علم اليقين) فيصير ثابتاً لا جدال فيه أصلا، هو بتعبير القرآن (حق اليقين)، وهي درجة لا تحدث إلا بعد قيام الساعة. [SUP]([/SUP][SUP][SUP][viii][/SUP][/SUP][SUP])[/SUP]
فالمؤمن يؤمن بوجود الجنة والنار علم يقين، فإذا عاينهما كان عين اليقين، فإذا دخل الجنة وتنعم بنعيمها فهو حق اليقين.
ويقول الشيخ زكريا الأنصاري في شرحه للرسالة: “هذه الألفاظ عبارات عن علوم جليَّة مع تفاوتها في القوة، والثلاثة مذكورة في القرآن”.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] قال الطبري : معناه لو تعلمون أيها الناس علما يقينا، أن الله باعثكم يوم القيامة من بعد مماتكم من قبوركم ما ألهاكم التكاثر عن طاعة الله ربكم، ولسارعتم إلى عبادته، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ورفض الدنيا إشفاقا على أنفسكم من عقوبته.
وعن قتادة (كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) علم اليقين: أن يعلم أنَّ الله باعثه بعد الموت.
وقوله تعالى:{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)}.
يقسم سبحانه- فيقول: أقسم لترونّ أيها المشركون جهنم يوم القيامة، ثم لترونها عيانا لا تغيبون عنها. [SUP]([/SUP][SUP][SUP][ix][/SUP][/SUP][SUP])[/SUP]
فتدركون حينها صحة الخبر الذي كان عند المؤمنين علم اليقين، وكان عندكم فيه شك وجحود، ففصله الله تعالى بالمعاينة لوجوده حقيقةً.
ثم في موضع آخر؛ في سورة الواقعة لما ذكر سبحانه مصير أهل الجنة ودخولهم الروح والريحان وسلام المؤمنين السابقين عليهم فيها، ودخول أهل النار الجحيمَ؛ قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] لأنه وقع بالفعل وصار حقاً لا مريةَ فيه.
ولعل سيدنا رسول الله -- لما أراد الارتقاء في درجات الكرامة عند ربه سأل ربه بأدب الخليل، ولطف الأريب أن يرفعه مقاما في الإيمان لم يصل أحدٌ إليه كما سألة إبراهيم- الخليل- صراحةً.
فقال -- : " نحن بالشك من إبراهيم" ومعناه لو ظننتم أنَّ إبراهيم –عليه السلام- كان شاكَّاً من أجل سؤاله هذا لربه عز وجل، فنحن أولى منه بأن نكون شاكِّين، وإذا كنا لا نشك أبداً، فإبراهيم ليس شاكَّاً كذلك، وإنما طلب التميز بإيمان المعاينة الذي ليس بعده يقين، وهذا من تواضع سيدنا محمد -- وإلا فهو مع إبراهيم- عليه السلام- في ذات المنزلة العلية واليقين العظيم.
وهذا التحقيق أولى مما قاله إمامنا الطبري، وإنْ كان اقترب من معناه.
فحقيقة الإيمان في مراتب أكثر الخلق إيماناً هو علم اليقين. ولأن هذا اليقين لم يصل إلى درجة المعاينة فهناك اضطراب يسير في القلب يمكن أنْ ينقله قليلا من درجة اليقين الكامل الذي لا يتم إلا بالمعاينة والملابسة إلى درجة الظن الجازم. فتم التعبير عن إيمان المؤمنين بأنه "ظن".
وفيه إشارة لطيفة إلى حجةٍ قوية في مجادلة الملحدين، فيقال لو أن نسبة الحقيقة وجود الله –سبحانه- والجنة والنار والحساب، إلى نسبة عدم وجود ذلك كله هي نسبة1:1 أو نسبة 50% إلى نسبة 50%، فمعنى ذلك أنَّ احتمال وجود الله تعالى والجنة والنار هو 50%، ولو آمن المؤمنُ وحرم نفسه لذات الدنيا أقل أو أكثر من ستين أو سبعين سنة على الأكثر، ثم بُعِث فهو الكاسب لنعيم لا يفنى.
وإذا لم يكن هناك بعث ولا جنة ولا نار على الحقيقة فما هي إلا زمنٌ يسير يمر ونصبح جميعا تراباً ويتساوى الجميع، فليست هذه بالخسارة.
أما إذا كفر الكافر وفوجئ بصحة نسبة 50% لحدوث البعث فسيلقى في جحيم خالدٍ لا ينتهي، وما استفاد غير سنوات في ملذات الدنيا. فهو خاسرٌ لا محالة.
وإذا لم يكن هناك بعثٌ ولا حسابٌ فهو قد تمتع سنوات عمره وانتهى إلى التراب فتساوى الجميع، فلا كاسب ولا خاسر.
وبهذه المعادلة الحسابية الاحصائية البسيطة نجد المحصلة:
المؤمن: 50% نسبة احتمال فوزه الأبدي، 50% نسبة التعادل لا فوز ولا خسارة.
الكافر والملحد: 50% نسبة احتمال خسارته الأبدية، 50 % نسبة التعادل لا فوز ولا خسارة.
وهنا يرجِّح المؤمن نسبة 50% صحة احتمال وجود الله- تعالى- ودينه وشرعه على النسبة الأخرى فينجح.
وهو بعينه الذي قاله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 46]، {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة: 249].
وذكر الكافرين والمنافقين فقال: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154].
فالمسألة مسألة ترجيح، وهذا هو ما يحدد معنى الإيمان أو الجحود، فنحن لم نرَ الله -تعالى- وآمنا به وصدقنا برسله ومعجزاتهم، ولم نرهم كذلك لأننا رجَّحنا بالأدلة والأمارات جانب الإيمان على جانب الشك، والقرآن دقيقٌ جدا حين يعبر عن هذه العملية أنها من " الظن" الصائب الذي سبيله الفلاح. فتأمل هذا المعنى إلى جانب ترجيحات البيضاوي وابن عرفة والرازي التي ذكرناها في وصف إيمان المؤمنين بالظن.
ولذلك أطلق كبار علماء السلف أنَّ ظن المؤمنين في القرآن يعني اليقين.
والله تعالى أعلى وأعلم، وهو يغفر الزلل.



المصادر
() تفسير المنار (1/248-251) بتصرف

[ii]- تفسير ابن كثير (1/253-255).

([iii])من تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (3/ 491).

([iv]) انظر نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر (ص: 425)

([v]) المفردات في غريب القرآن (ص: 539)

([vi]) تفسير ابن عرفة (1/ 272)

([vii]) تفسير البيضاوي = أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/ 78)

([viii]) فعلم اليقين بأنه هو ما علمه الإنسان عن طريق السماع والخبر بالإضافة إلى القياس والنظر، فعلى سبيل المثال إذا أخبر أن هناك عسلاً فقد تم تصديق الخبر أو أن يرى آثار العسل ففي هذه الحالة يكون قد استدل على وجوده.
أما الإنسان الذي رأى العسل وشاهده ثم عاينه فهو في درجة عين اليقين هو أعلى من علم اليقين، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ليس المُخْبَرُ كالمُعايِن”.
أما الذي بلغ درجة حق اليقين فهذا الذي ذاق العسل واستطعم حلاوته.

([ix]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (24/ 581)
 
عودة
أعلى