علي هاني يوسف
New member
- إنضم
- 09/01/2008
- المشاركات
- 81
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 8
قد سألني كثير من الإخوة في هذه الأيام عن المراد بالجمل في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40} فكنت أجيبهم وأبين الحق في معنى الآية وهو أن التفسير الصحيح للآية أن الجمل هو الجمل المعروف وهو الذكر من الإبل ، وكنت أظن أن هذا سؤال خطر في ذهنهم عند قراءة الآية إلى أن أخبرني أحدهم أن هناك مقالا منتشرا على الانترنت فيه تحريف لمعنى الآية ، فكتبت ردا سريعا على هذا المقال ، لكن لما قرأه من لا يسعني مخالفته الأستاذ الدكتور وليد الشاويش طلب مني أن أعيد كتابة البحث بشيء من التفصيل والترتيب فأجبته وكتبت هذا المقال لأبين فيه الحق في الآية :
********
التفسير المحرف للآية المنتشر في وسائل التواصل يقول:
"يعتقد معظم الناس أن الجمل هو البعير، وهذا خطأ لو كان الجمل هو البعير فلا يكون هناك أي علاقة بين البعير وثقب الإبرة، والقرآن الكريم لا يعطي من الأمثلة إلا ما يكون متوازنا ، أما أن يأتي بالبعير فيدخله في خرم الإبرة فهذا غير منسجم منطقيا ، والقرآن الكريم ذكر هذا الحيوان باسم البعير {ونزداد كيل بعير}، و الجمل حسب لغة القبائل العربية الأصيلة والقديمة هو حبل السفينة الغليظ الذي نشد به السفينة إلى المرساة ، وبذلك يكون المعنى منسجما وجمع بعيرهو إبل ، { أفلا ينظرون إلى الإبل }، وأما جمع جمل فهو جمالة { فإنها ترمي بشرر كالقصر كأنها جمالة صفر} ، القصر أفاعي ضخمة والجمالة الصفر الحبال الغليظة" .
********
أقول هذا المقال حوى كثيرا من المغالطات والأخطاء التفسيرية ، وأنا أحسن الظن بكاتب هذا المقال أنه أراد الخير لكن كان عليه أن يأخذ بوسائل العلم، وأن يرجع إلى ما كتبه علماؤنا قبل أن يجتهد في فهم كتاب الله تعالى سبحانه القائل { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}، وأنا أبين هذه المغالطات على الترتيب الذي ذكره الكاتب عفا الله عنه:
1) أولا : قوله" يعتقد معظم الناس أن الجمل هو البعير، وهذا خطأ":
قوله هذا يوهم أن عامة الناس قالوا هذا ، عامة الناس الذين لا يعرفون تفسير القرآن ولا اللغة العربية قالوا هذا القول، ولم يكتف بذلك حتى حكم عليه بأنه خطأ ، وهذا يدل على أن هذا الأخ لم ينظر في التفاسير ولا أقوال الصحابة ولا التابعين رضوان الله عليهم .
فتفسير "الجمل" في الآية بالجمل المعروف ذي القوائم الأربعة ، هو الذي ارتضاه ورجحه جماهيرُ الصحابةِ والتابعين، وكبارُ المفسرين وعلماء اللغة والأدب، العارفون بكلام العرب ، وبينوا حسن هذا التشبيه ورجحوه على كل تفسير سواه:
كابن مسعود، والحسن البصري، وأبي العالية، والضحاك، ونقله العوفي عن ابن عباس ، واختاره :الطبري والزمخشري وأبو السعود والبقاعي وابن عاشور والآلوسي والبيضاوي،و الفخر الرازي، و ابن الجوزي وابن عطية، و أبو حيان البغوي، و ابن الجوزي والسعدي وغيرهم، وكفى بهؤلاء الأعلام علما بالأدب والتشبيهات ومعاني الكلام ، ثم يأتي في آخر الزمان هذا الأخ ويحكم على كلامهم بالخطأ يا للعجب!.
مع أن العجب من تفسيره هو ، فابن مسعود والحسن لما سئلا عن الآية استجهلا وتعجبا من إرادة غير الظاهر:
فعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال : "هو زوج الناقة كأنه فهم ما أراد السائل فاستغباه .. وعن الحسن أنه قال :" ابن الناقة الذي يقوم في المربد[1] على أربع قوائم" وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف.
*******
2) ثانيا: قوله" وهذا خطأ لو كان الجمل هو البعير فلا يكون هناك أي علاقة بين البعير وثقب الإبرة، والقرآن الكريم لا يعطي من الأمثلة إلا ما يكون متوازنا ، أما أن يأتي بالبعير فيدخله في خرم الإبرة فهذا غير منسجم منطقيا".
نقول قوله :"والقرآن لا يعطي من الأمثلة إلا ما يكون متوازنا "ـ هذا حق لا مرية فيه ، فالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا يذكر من التشبيهات والاستعارات والعبارات إلا ما هو غاية في الدقة في اختيار الألفاظوالصورة والإبداع، { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}العالمون الذين يفتحون قلوبهم وعقولهم ويستجيبون لأوامر ربهم ويفهمون عن الله حق الفهم، والفهم الصحيح لـ"الجمل" في الآية هو تفسيرها بالجمل المعروف وذلك لعدة أسباب:
أ- السبب الأول: أننا نفسر القرآن بالمعنى المتبادر المناسب للسياق ، والمعنى المتبادرالمشهور المعروف عند الناس المناسب للسياق هو الجمل المعروف ، فالقرآن الكريم أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجَمل وحقيقة الخِياط[2]، فاستعمال لفظة الجمل في الحيوان المعروف أكثر، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جداً ، وتفسير القرآن بالمتبادر هو الأصح المعتبر عند كبار المفسرين والعلماء باللغة .
ب- السبب الثاني: حمل الآية على تفسير الجمل بالجمل المعروف أبلغ؛ لأن المعنى لا يَدْخلون الجنة حتى يدخل ويتقحَّمَ الجمل الذي هو هو مَثَلٌ في عِظَم الجِرْم عند العرب وأعظمُ الأشياء وأكبرها الذي بلغ من عظم جثته أنه لا يلج إلا في باب واسع
، يدخل في أضيقِ الأشياءِ وأصغرِها الذي هو مثل في ضيق المسلَك وهو ثُقب الإبرة ، و ذلك مما لا يكون لأنه مستحيل فكذا ما يتوقف عليه، وهو دخول الكفار الجنة، فهو محال فالله تعالى علق دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهذا في الحقيقة نفي لدخولهم الجنة على التأبيد، وهذا كقولك : لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار ومنه قول الشاعر :
إذا شاب الغراب أتَيْتُ أهلي *** وصارَ القارُ كاللينِ الحليب
فلما كان الجمل أكبر شأنا عند العرب من سائر الدواب ، فإنهم يقدمونه في الحجم والقوة على غيره ، ولهذا عجبهم من خلق الإبل ، فقال : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } [ الغاشية : 17 ] ، وسم الإبرة يضرب به المثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرق الإبرة ، وأضيقُ من خُرْتِ الإِبرة ، ومنه الخِرِّيْتُ وهو البصير بمضايق الطرق ـ لما كان الأمر كذلك آثر القرآن ذكره على غيره لهذا المعنى.
فكلا من الجمل وسم الخياط مناسب جدا لما سيق له الكلام من استحالة دخولهم الجنة ، والقرآن أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجَمل وحقيقة الخِياط ،
وقد قال الزمخشري ـ الذي هو من أعلم الناس بالكلام والبلاغة ـ بعد ذكر القراءة الشاذة التي هي الجَمْل بفتح فسكون والتي فسرت بالحبل :" إلاّ أن قراءة العامّة (أي القراء العشرة) أوقع (أي أبلغ)؛ لأنّ سم الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرت الإبرة . وقالوا للدليل الماهر : خِرِّيت ، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر . والجمل : مثل في عظم الجرم" .
ت- السبب الثالث: أن هذا هو قول جماهير العلماء كما تقدم .
ث- السبب الرابع : أن هذا المثل مشهور متداول في الأمم السابقة وفي كتب الله المنزلة فمما بقي من الإنجيل مما لم يحرف ما جاء في ، إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25:" إنّ عيسى قال : «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله ؛ لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله » .
********
3) ثالثا: قوله : "والقرآن الكريم ذكر هذا الحيوان باسم البعير {ونزداد كيل بعير}، و الجمل حسب لغة القبائل العربية الأصيلة والقديمة هو حبل السفينة الغليظ الذي نشد به السفينة إلى المرساة".
نقول القرآن الكريم في غاية الدقة في استعمال الألفاظ وانتقائها ، فهو أدق من ميزان الذهب في اختيار الألفاظ في السياق المناسب.
وقد استعمل القرآن الجمل ، والجمالة ، والبعير ، ففي الآية الكريمة التي نتحدث عنها استعمل الجمل ، وفي قوله تعالى { :{ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)} استعمل الجمالة ، وفي { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}{ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} استعمل البعير .
ونحن إذا رجعنا إلى أصل كل من كلمة الجمل والبعير أدركنا السر الذي اختيرت لأجل كل كلمة في معناها:
1) الجمل :
المعنى المحوري الذي تدور عليه مادة (ج، م، ل):عِظَم الجِرْم مع تمام وتجانس حال ،ومنه الجَملاء: التامة الجسم من كل حيوان ، وجَمول المرأة السمينة، والجامل: الحي العظيم.
والجمل : الذكر من الإبل والجمل لا يطلق على الأنثى بل تسمى ناقة، فالجمل بمنزلة الرجل ، والناقة بمنزلة المرأة تختص بالأنثى ، ولا يسمى كذلك إلا أذا بزل وخرج نابه وذلك في السنة التاسعة من سنيه وهو أضخم ما يكون عليه، ، لذلك قال العلماء في بيان معنى الجمل:" هو ما كان ناضجا كاملا في العظم والكبر" فالتركيز في أطلاقه هو العظم والكبر، كما تدل عليه المادة واستعمالاتها، ومنه الجَملاء: التامة الجسم من كل حيوان ، وجَمول المرأة السمينة، والجامل: الحي العظيم .
أ) وبهذا ندرك سر استعمال الجمل هنا في هذه الآية الكريمة :
فالآية سيقت لبيان أنهم لا يدخلون الجنة حتى يدخل ما هو مثل في العظم والكبر في أصغر الأشياء ، فالكلمة المناسبة هنا التي لا يسد غيرها مسدها هي الجمل الدال على الضخامة وتمامية الجسم .
ب) وندرك سر في استعمال الجمالة التي هي جمع جمل في قوله تعالى:{ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)}وإليك تفسيرها ليتضح السر:
الشرر: ما تطاير من النار متبدّداً في كل جهة ، واحده شرارة.
والقصر: هو القَصْرُ المعروف وهو البناء الكبير العظيم المشيد، أي: كل شرارة منها كأنها قصر مشيد من عظمها ، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه كالبناء العظيم .
{ جِمالة } بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جَمَل مثل حَجَر وحِجَارة ، يُقال : جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو : ذَكَر وذِكار وذِكارة ، وحَجَر وحِجارة ,
وصفر: جمع أصفر للون المعروف ، والتعبير بصفر؛ لأن لون الإبل يميل إلى الصفرة ، و الشرارَ لما فيهِ من الناريةِ يكونُ أصفرَ .
وفي معنى الآية قولان معتبران:
1) القول الأول: قالوا : ابتداء الشرر يعظم فيكون كالقصر ، ثم يفترق فتكون تلك القطع المتفرقة المتتابعة كالجمالات الصفر، شبه الشرر حين ينفصل من النار في عظمه بالقصر، وحين يأخذ في الارتفاع والانبساط لانشقاقه عن أعداد غير محصورة بالجمال ، لتصور الانشقاق والكثرة والصفرة والحركة المخصوصة، وقد روعي الترتيب في التشبيه رعاية لترتيب الوجود ،.
2) القول الثاني:قالوا: شبهه في عظمه بالقصر للدلالة مع كبره ، و شبهه في لونه بالجمال في الكثرة والتتابع وسرعة الحركة على كثرته وتتابعه واختلاطه وسرعة حركته ، فالأولُ تشبيهٌ في العظمِ ، وهذا في اللونِ والكثرةِ والتتابعِ والاختلاطِ والحركةِ ، فالشرر يتتابع في حجم البيت ، فإذا تتابع بدا كأنه جمال صفر ترتع هنا وهناك ! هذا هو الشرر فكيف بالنار التي ينطلق منها الشرر.
وعلى كلا القولين يظهر سر اختيار كلمة الجمالة التي هي جمع جمل، التي توحي بالضخامة والتمامية والكبر ، فلا يسد مكانها إبل ولا بعير ولا أبعرة ولا غيرها.
**********
بعير:
هذا سر اختيار الجمل في مواضعه ، وأما بعير فهو في المشهور مقابل الناقة ، وقد يطلق على الناقة الأنثى، وجمع البعير أبْعِرة وأباعر وبُعران
قال محمد حسن جبل في المعجم الاشتقاق[3]: يقال للجمل والناقة بعير إذا أجذعا أي دخلا في السنة الخامسة لحظ فيهما السير بهم وبأحمالهم بخطا واسعة تبديها سعتها متئدة ومنتظمة رتيبة ، ويؤكد أن السر في تسمية البعير هو أنه كان وسيلة للسفر[4] والحمل قولُهم باعرت الشاة والناقة إلى حالبها أسرعت وهو نوع من السير، وتسميتُهم كل ما يحمل بعيرا" .
قال المصطفوي في التحقيق[5]:" لا يبعد أن يكونالبعير في أصل اللغة موضوع لكل ما يَحمل من الحمار والجمل ".
وهذا التحقيق عن هذين العالمين المحققين في ألفاظ القرآن الكريم يبين لنا السر في استعمال البعير في قوله تعالى : { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}{ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وهو أن كلمة البعير استعملت حيث أريد الحمل والسير بالأحمال السير بهم وبأحمالهم وكونه وسيلة للسفر والحمل
، وبهذا المعنى استعملت ووضعت في القرآن الكريم : حيث قال تعالى : كيل بعير، وحمل بعير ، ، وبهذا ندرك كيف أن القرآن الكريم استعمل البعير في مكانه الذي لا يقبل غيره واستعمل البعير كذلك ، ولله در النظم الكريم ما أعظمه وما أكثر أسراره كيف يعبر باللفظ الدقيق في مكانه الذي يتطلبه ولا يقبل غيره ، وبهذا يندفع ما قاله
الأخ "والقرآن الكريم ذكر هذا الحيوان باسم البعير {ونزداد كيل بعير}" ويظهر عدم تعمقه في دقائق معاني كلمات القرآن الكريم.
********
رابعا: قوله : " والقرآن الكريم ذكر هذا الحيوان باسم البعير {ونزداد كيل بعير}، و الجمل حسب لغة القبائل العربية الأصيلة والقديمة هو حبل السفينة الغليظ الذي نشد به السفينة إلى المرساة".
هذا قول عجب منه ، فهو يصرح أن الجمل في اللغة العربية الأصيلة والقديمة معناه حبل السفينة الغليظ ، أما الجمل بمعناه المعروف فهو البعير وهذا قول عجيب ، يوهم أن استعمال الجمل بمعنى الحيوان المعروف ليس من اللغات العربية الأصيلة القديمة وهذا تعكيس للواقع ، ونحن إذا نظرنا في لسان العرب لابن منظور نجده يقول:
" جمل: الجَمَل: الذَّكَر مِنِ الإِبل، قِيلَ: إِنما يَكُونُ جَمَلًا إِذا أَرْبَعَ، وَقِيلَ إِذا أَجذع، وَقِيلَ إِذا بزَل، وَقِيلَ إِذا أَثْنَى؛ قَالَ:
نَحْنُ بَنُو ضَبَّة أَصحابُ الجَمَل، ... الْمَوْتُ أَحلى عِنْدِنَا مِنَ الْعَسَلْ
قال اللَّيْثُ: الجَمَل يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ إِذا بَزَل" أي فَطَر نابُه أَي انْشَقَّ.
وإذا نظرنا في العين للخليل نجده يقول:" الجَمَلُ: يستحقُّ هذا الاسم إذا بزل"
فالجمل في المعنى المشهور شهرة عظيمة عند العامة والخاصة هو ذكر الإبل وأما استعماله في حبل السفينة لا يعرفه إلا خاصة الخاصة ، وكفى بهذا ردا عليه، وبيانا لما أتى به من المغالطات .
********
2) خامسا: قوله" وجمع بعيرهو إبل ، { أفلا ينظرون إلى الإبل }، وأما جمع جمل فهو جمالة { فإنها ترمي بشرر كالقصر كأنها جمالة صفر} ، القصر أفاعي ضخمة والجمالة الصفر الحبال الغليظة" .
قوله جمع بعير هو إبل فهو ظاهر الخطأ ؛لأن جمع البعير أبْعِرة وأباعر وبُعران,
وأما الإبل ـ كما قال السمين الحلبي ـ فاسمُ جمعٍ واحدُه : بعير وناقة وجمل.
وقد يقول قائل هو عنى بالجمع الجمع عند اللغويين وهم يطلقون لفظة " الجمع" على اسم الجمع ، نقول هذا صحيح لكن الكاتب أراد شيئا آخر ، أراد أن الجمل الذي جمعه جمالة لا يراد به إلا الحبال الغليظة ، وأما البعير الذي هو الحيوان المعروف فجعه إبل، وهذا خطأ ظاهر فقد نص العلماء في قوله تعالى { كأنه جمالة صفر} على أن جمالة جمع جمل ، وفسروها بالحيوان المعروف وهو قول جمهور المفسرين كما تقدم في تفسير الآية ، قال ابن عاشور:" { جِمالة } بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جَمَل مثل حَجَر وحِجَارة" ثم فسرها بالحيوان المعروف
وقال الزمخشري:"{ جمالة } جمع جمال . أو جمالة جمع جمل ؛ شبهت بالقصور ، ثم بالجمال لبيان التشبيه" ثم فسرها بالحيوان المعروف.
********
وبما تقدم ظهرت المغالطات التي أتى بها هذا الأخ عفا الله عنه ، ولو أنه قال:
إن بعض الصحابة كما روي عن ابن عباس في إحدى روايتيه[6]، وبعض العلماء فسروا الجمل في الآية الكريمة بالحبل الغليظ وقالوا إنه أنسب، ثم قال وهذا عندي أرجح لِكذا وكذا ، لكان قوله مقبولا، ولكان هذا رأيا يحترم اختاره لنفسه تقليدا لبعض العلماء لاقتناعه بأدلتهم الآية ، وهذا لا يلام عليه ، فما من آية إلا فيها عدة أقوال للعلماء ، لكن المشكلة أنه أتى بالمغالطات والطامات السابقة وخطأ القول المعتبر في الآية وأوهم أنه ظنون العوام ، وهذا الذي نلومه عليه ولا نقبله منه ، ولا ممن أتى بمثل ما أتى به في هذا العصر الذي تجرأ في كثير من غير المتخصصين على كتاب الله تعالى ، وهذا كله نتاج الجهل في الدين الذي انتجه عصرنا، وأبرز الجرأة على كتاب الله ممن لم يملك أدوات فهم كتاب الله ، أجارنا الله من الفتن .
كتبه الفقير إلى الله تعالى: علي هاني العقرباوي
جعله الله خالصا لوجهه سبحانه
[1] والمربد ( كمنبر ) محبس الإبل وكذا الغنم ومكان بالبصرة مشهور كانت تحبس به أو كان سوقا لها
[2] والخِياط هو المِخْيَط بكسر الميم وهو آلة الخياطة المسمّى بالإبْرَة والسَمّ : الخَرْت الذي في الإبرة يُدخل فيه خيط الخائط ، وهو ثقب ضيّق ، وهو بفتح السّين، والوُلوج : هو الدخول في مضيق فهو أخصُّ من الدخول
[3] المعجم الاشتقاقي (1/146)
[4] قال الآلوسي :والبعير في المشهور مقابل الناقة ، وقد يطلق عليها وتكسر في لغة باؤه ويجمع على أبعرة وبعران وأباعر ، وعن مجاهد تفسيره هنا بالحمار وذكر أن بعض العرب يقول للحمار بعير وهو شاذ .
[5] التحقيق للمصطفوي (1/323)
[6] قال الطبري:وأما الذين خالفوا هذه القراءة فإنهم اختلفوا ، فرُوي عن ابن عباس في ذلك روايتان : إحداهما الموافقة لهذه القراءة وهذا التأويل . ذكر الرواية بذلك عنه : حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ والجمل : ذو القوائم . وذكر أن ابن مسعود قال ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ : هو الجمل العظيم لا يدخل في خرق الإبرة من أجل أنه أعظم منها . والرواية الأخرى ما :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : في قوله : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ » قال : هو قَلْس السفينة .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، عن خالد بن عبد الله الواسطي ، عن حنظلة السدوسيّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ » يعني : الحبل الغليظ . فذكرت ذلك للحسن ، فقال : حتى يَلِجَ الجَمَلُ قال عبد الأعلى . قال أبو غسان ، قال خالد : يعني البعير. قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار وهو : حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياطِ بفتح الجيم والميم من «الجمل » وتخفيفها ، وفتح السين من «السّمّ » ، لأنها القراءة المستفيضة في قرّاء الأمصار ، وغير جائز مخالفة ما جاءت به الحجة متفقة عليه من القرّاء
********
التفسير المحرف للآية المنتشر في وسائل التواصل يقول:
"يعتقد معظم الناس أن الجمل هو البعير، وهذا خطأ لو كان الجمل هو البعير فلا يكون هناك أي علاقة بين البعير وثقب الإبرة، والقرآن الكريم لا يعطي من الأمثلة إلا ما يكون متوازنا ، أما أن يأتي بالبعير فيدخله في خرم الإبرة فهذا غير منسجم منطقيا ، والقرآن الكريم ذكر هذا الحيوان باسم البعير {ونزداد كيل بعير}، و الجمل حسب لغة القبائل العربية الأصيلة والقديمة هو حبل السفينة الغليظ الذي نشد به السفينة إلى المرساة ، وبذلك يكون المعنى منسجما وجمع بعيرهو إبل ، { أفلا ينظرون إلى الإبل }، وأما جمع جمل فهو جمالة { فإنها ترمي بشرر كالقصر كأنها جمالة صفر} ، القصر أفاعي ضخمة والجمالة الصفر الحبال الغليظة" .
********
أقول هذا المقال حوى كثيرا من المغالطات والأخطاء التفسيرية ، وأنا أحسن الظن بكاتب هذا المقال أنه أراد الخير لكن كان عليه أن يأخذ بوسائل العلم، وأن يرجع إلى ما كتبه علماؤنا قبل أن يجتهد في فهم كتاب الله تعالى سبحانه القائل { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}، وأنا أبين هذه المغالطات على الترتيب الذي ذكره الكاتب عفا الله عنه:
1) أولا : قوله" يعتقد معظم الناس أن الجمل هو البعير، وهذا خطأ":
قوله هذا يوهم أن عامة الناس قالوا هذا ، عامة الناس الذين لا يعرفون تفسير القرآن ولا اللغة العربية قالوا هذا القول، ولم يكتف بذلك حتى حكم عليه بأنه خطأ ، وهذا يدل على أن هذا الأخ لم ينظر في التفاسير ولا أقوال الصحابة ولا التابعين رضوان الله عليهم .
فتفسير "الجمل" في الآية بالجمل المعروف ذي القوائم الأربعة ، هو الذي ارتضاه ورجحه جماهيرُ الصحابةِ والتابعين، وكبارُ المفسرين وعلماء اللغة والأدب، العارفون بكلام العرب ، وبينوا حسن هذا التشبيه ورجحوه على كل تفسير سواه:
كابن مسعود، والحسن البصري، وأبي العالية، والضحاك، ونقله العوفي عن ابن عباس ، واختاره :الطبري والزمخشري وأبو السعود والبقاعي وابن عاشور والآلوسي والبيضاوي،و الفخر الرازي، و ابن الجوزي وابن عطية، و أبو حيان البغوي، و ابن الجوزي والسعدي وغيرهم، وكفى بهؤلاء الأعلام علما بالأدب والتشبيهات ومعاني الكلام ، ثم يأتي في آخر الزمان هذا الأخ ويحكم على كلامهم بالخطأ يا للعجب!.
مع أن العجب من تفسيره هو ، فابن مسعود والحسن لما سئلا عن الآية استجهلا وتعجبا من إرادة غير الظاهر:
فعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال : "هو زوج الناقة كأنه فهم ما أراد السائل فاستغباه .. وعن الحسن أنه قال :" ابن الناقة الذي يقوم في المربد[1] على أربع قوائم" وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف.
*******
2) ثانيا: قوله" وهذا خطأ لو كان الجمل هو البعير فلا يكون هناك أي علاقة بين البعير وثقب الإبرة، والقرآن الكريم لا يعطي من الأمثلة إلا ما يكون متوازنا ، أما أن يأتي بالبعير فيدخله في خرم الإبرة فهذا غير منسجم منطقيا".
نقول قوله :"والقرآن لا يعطي من الأمثلة إلا ما يكون متوازنا "ـ هذا حق لا مرية فيه ، فالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا يذكر من التشبيهات والاستعارات والعبارات إلا ما هو غاية في الدقة في اختيار الألفاظوالصورة والإبداع، { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}العالمون الذين يفتحون قلوبهم وعقولهم ويستجيبون لأوامر ربهم ويفهمون عن الله حق الفهم، والفهم الصحيح لـ"الجمل" في الآية هو تفسيرها بالجمل المعروف وذلك لعدة أسباب:
أ- السبب الأول: أننا نفسر القرآن بالمعنى المتبادر المناسب للسياق ، والمعنى المتبادرالمشهور المعروف عند الناس المناسب للسياق هو الجمل المعروف ، فالقرآن الكريم أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجَمل وحقيقة الخِياط[2]، فاستعمال لفظة الجمل في الحيوان المعروف أكثر، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جداً ، وتفسير القرآن بالمتبادر هو الأصح المعتبر عند كبار المفسرين والعلماء باللغة .
ب- السبب الثاني: حمل الآية على تفسير الجمل بالجمل المعروف أبلغ؛ لأن المعنى لا يَدْخلون الجنة حتى يدخل ويتقحَّمَ الجمل الذي هو هو مَثَلٌ في عِظَم الجِرْم عند العرب وأعظمُ الأشياء وأكبرها الذي بلغ من عظم جثته أنه لا يلج إلا في باب واسع
، يدخل في أضيقِ الأشياءِ وأصغرِها الذي هو مثل في ضيق المسلَك وهو ثُقب الإبرة ، و ذلك مما لا يكون لأنه مستحيل فكذا ما يتوقف عليه، وهو دخول الكفار الجنة، فهو محال فالله تعالى علق دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهذا في الحقيقة نفي لدخولهم الجنة على التأبيد، وهذا كقولك : لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار ومنه قول الشاعر :
إذا شاب الغراب أتَيْتُ أهلي *** وصارَ القارُ كاللينِ الحليب
فلما كان الجمل أكبر شأنا عند العرب من سائر الدواب ، فإنهم يقدمونه في الحجم والقوة على غيره ، ولهذا عجبهم من خلق الإبل ، فقال : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } [ الغاشية : 17 ] ، وسم الإبرة يضرب به المثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرق الإبرة ، وأضيقُ من خُرْتِ الإِبرة ، ومنه الخِرِّيْتُ وهو البصير بمضايق الطرق ـ لما كان الأمر كذلك آثر القرآن ذكره على غيره لهذا المعنى.
فكلا من الجمل وسم الخياط مناسب جدا لما سيق له الكلام من استحالة دخولهم الجنة ، والقرآن أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجَمل وحقيقة الخِياط ،
وقد قال الزمخشري ـ الذي هو من أعلم الناس بالكلام والبلاغة ـ بعد ذكر القراءة الشاذة التي هي الجَمْل بفتح فسكون والتي فسرت بالحبل :" إلاّ أن قراءة العامّة (أي القراء العشرة) أوقع (أي أبلغ)؛ لأنّ سم الإبرة مثل في ضيق المسلك ، يقال : أضيق من خرت الإبرة . وقالوا للدليل الماهر : خِرِّيت ، للاهتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر . والجمل : مثل في عظم الجرم" .
ت- السبب الثالث: أن هذا هو قول جماهير العلماء كما تقدم .
ث- السبب الرابع : أن هذا المثل مشهور متداول في الأمم السابقة وفي كتب الله المنزلة فمما بقي من الإنجيل مما لم يحرف ما جاء في ، إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25:" إنّ عيسى قال : «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله ؛ لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله » .
********
3) ثالثا: قوله : "والقرآن الكريم ذكر هذا الحيوان باسم البعير {ونزداد كيل بعير}، و الجمل حسب لغة القبائل العربية الأصيلة والقديمة هو حبل السفينة الغليظ الذي نشد به السفينة إلى المرساة".
نقول القرآن الكريم في غاية الدقة في استعمال الألفاظ وانتقائها ، فهو أدق من ميزان الذهب في اختيار الألفاظ في السياق المناسب.
وقد استعمل القرآن الجمل ، والجمالة ، والبعير ، ففي الآية الكريمة التي نتحدث عنها استعمل الجمل ، وفي قوله تعالى { :{ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)} استعمل الجمالة ، وفي { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}{ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} استعمل البعير .
ونحن إذا رجعنا إلى أصل كل من كلمة الجمل والبعير أدركنا السر الذي اختيرت لأجل كل كلمة في معناها:
1) الجمل :
المعنى المحوري الذي تدور عليه مادة (ج، م، ل):عِظَم الجِرْم مع تمام وتجانس حال ،ومنه الجَملاء: التامة الجسم من كل حيوان ، وجَمول المرأة السمينة، والجامل: الحي العظيم.
والجمل : الذكر من الإبل والجمل لا يطلق على الأنثى بل تسمى ناقة، فالجمل بمنزلة الرجل ، والناقة بمنزلة المرأة تختص بالأنثى ، ولا يسمى كذلك إلا أذا بزل وخرج نابه وذلك في السنة التاسعة من سنيه وهو أضخم ما يكون عليه، ، لذلك قال العلماء في بيان معنى الجمل:" هو ما كان ناضجا كاملا في العظم والكبر" فالتركيز في أطلاقه هو العظم والكبر، كما تدل عليه المادة واستعمالاتها، ومنه الجَملاء: التامة الجسم من كل حيوان ، وجَمول المرأة السمينة، والجامل: الحي العظيم .
أ) وبهذا ندرك سر استعمال الجمل هنا في هذه الآية الكريمة :
فالآية سيقت لبيان أنهم لا يدخلون الجنة حتى يدخل ما هو مثل في العظم والكبر في أصغر الأشياء ، فالكلمة المناسبة هنا التي لا يسد غيرها مسدها هي الجمل الدال على الضخامة وتمامية الجسم .
ب) وندرك سر في استعمال الجمالة التي هي جمع جمل في قوله تعالى:{ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)}وإليك تفسيرها ليتضح السر:
الشرر: ما تطاير من النار متبدّداً في كل جهة ، واحده شرارة.
والقصر: هو القَصْرُ المعروف وهو البناء الكبير العظيم المشيد، أي: كل شرارة منها كأنها قصر مشيد من عظمها ، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه كالبناء العظيم .
{ جِمالة } بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جَمَل مثل حَجَر وحِجَارة ، يُقال : جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو : ذَكَر وذِكار وذِكارة ، وحَجَر وحِجارة ,
وصفر: جمع أصفر للون المعروف ، والتعبير بصفر؛ لأن لون الإبل يميل إلى الصفرة ، و الشرارَ لما فيهِ من الناريةِ يكونُ أصفرَ .
وفي معنى الآية قولان معتبران:
1) القول الأول: قالوا : ابتداء الشرر يعظم فيكون كالقصر ، ثم يفترق فتكون تلك القطع المتفرقة المتتابعة كالجمالات الصفر، شبه الشرر حين ينفصل من النار في عظمه بالقصر، وحين يأخذ في الارتفاع والانبساط لانشقاقه عن أعداد غير محصورة بالجمال ، لتصور الانشقاق والكثرة والصفرة والحركة المخصوصة، وقد روعي الترتيب في التشبيه رعاية لترتيب الوجود ،.
2) القول الثاني:قالوا: شبهه في عظمه بالقصر للدلالة مع كبره ، و شبهه في لونه بالجمال في الكثرة والتتابع وسرعة الحركة على كثرته وتتابعه واختلاطه وسرعة حركته ، فالأولُ تشبيهٌ في العظمِ ، وهذا في اللونِ والكثرةِ والتتابعِ والاختلاطِ والحركةِ ، فالشرر يتتابع في حجم البيت ، فإذا تتابع بدا كأنه جمال صفر ترتع هنا وهناك ! هذا هو الشرر فكيف بالنار التي ينطلق منها الشرر.
وعلى كلا القولين يظهر سر اختيار كلمة الجمالة التي هي جمع جمل، التي توحي بالضخامة والتمامية والكبر ، فلا يسد مكانها إبل ولا بعير ولا أبعرة ولا غيرها.
**********
بعير:
هذا سر اختيار الجمل في مواضعه ، وأما بعير فهو في المشهور مقابل الناقة ، وقد يطلق على الناقة الأنثى، وجمع البعير أبْعِرة وأباعر وبُعران
قال محمد حسن جبل في المعجم الاشتقاق[3]: يقال للجمل والناقة بعير إذا أجذعا أي دخلا في السنة الخامسة لحظ فيهما السير بهم وبأحمالهم بخطا واسعة تبديها سعتها متئدة ومنتظمة رتيبة ، ويؤكد أن السر في تسمية البعير هو أنه كان وسيلة للسفر[4] والحمل قولُهم باعرت الشاة والناقة إلى حالبها أسرعت وهو نوع من السير، وتسميتُهم كل ما يحمل بعيرا" .
قال المصطفوي في التحقيق[5]:" لا يبعد أن يكونالبعير في أصل اللغة موضوع لكل ما يَحمل من الحمار والجمل ".
وهذا التحقيق عن هذين العالمين المحققين في ألفاظ القرآن الكريم يبين لنا السر في استعمال البعير في قوله تعالى : { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}{ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وهو أن كلمة البعير استعملت حيث أريد الحمل والسير بالأحمال السير بهم وبأحمالهم وكونه وسيلة للسفر والحمل
، وبهذا المعنى استعملت ووضعت في القرآن الكريم : حيث قال تعالى : كيل بعير، وحمل بعير ، ، وبهذا ندرك كيف أن القرآن الكريم استعمل البعير في مكانه الذي لا يقبل غيره واستعمل البعير كذلك ، ولله در النظم الكريم ما أعظمه وما أكثر أسراره كيف يعبر باللفظ الدقيق في مكانه الذي يتطلبه ولا يقبل غيره ، وبهذا يندفع ما قاله
الأخ "والقرآن الكريم ذكر هذا الحيوان باسم البعير {ونزداد كيل بعير}" ويظهر عدم تعمقه في دقائق معاني كلمات القرآن الكريم.
********
رابعا: قوله : " والقرآن الكريم ذكر هذا الحيوان باسم البعير {ونزداد كيل بعير}، و الجمل حسب لغة القبائل العربية الأصيلة والقديمة هو حبل السفينة الغليظ الذي نشد به السفينة إلى المرساة".
هذا قول عجب منه ، فهو يصرح أن الجمل في اللغة العربية الأصيلة والقديمة معناه حبل السفينة الغليظ ، أما الجمل بمعناه المعروف فهو البعير وهذا قول عجيب ، يوهم أن استعمال الجمل بمعنى الحيوان المعروف ليس من اللغات العربية الأصيلة القديمة وهذا تعكيس للواقع ، ونحن إذا نظرنا في لسان العرب لابن منظور نجده يقول:
" جمل: الجَمَل: الذَّكَر مِنِ الإِبل، قِيلَ: إِنما يَكُونُ جَمَلًا إِذا أَرْبَعَ، وَقِيلَ إِذا أَجذع، وَقِيلَ إِذا بزَل، وَقِيلَ إِذا أَثْنَى؛ قَالَ:
نَحْنُ بَنُو ضَبَّة أَصحابُ الجَمَل، ... الْمَوْتُ أَحلى عِنْدِنَا مِنَ الْعَسَلْ
قال اللَّيْثُ: الجَمَل يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ إِذا بَزَل" أي فَطَر نابُه أَي انْشَقَّ.
وإذا نظرنا في العين للخليل نجده يقول:" الجَمَلُ: يستحقُّ هذا الاسم إذا بزل"
فالجمل في المعنى المشهور شهرة عظيمة عند العامة والخاصة هو ذكر الإبل وأما استعماله في حبل السفينة لا يعرفه إلا خاصة الخاصة ، وكفى بهذا ردا عليه، وبيانا لما أتى به من المغالطات .
********
2) خامسا: قوله" وجمع بعيرهو إبل ، { أفلا ينظرون إلى الإبل }، وأما جمع جمل فهو جمالة { فإنها ترمي بشرر كالقصر كأنها جمالة صفر} ، القصر أفاعي ضخمة والجمالة الصفر الحبال الغليظة" .
قوله جمع بعير هو إبل فهو ظاهر الخطأ ؛لأن جمع البعير أبْعِرة وأباعر وبُعران,
وأما الإبل ـ كما قال السمين الحلبي ـ فاسمُ جمعٍ واحدُه : بعير وناقة وجمل.
وقد يقول قائل هو عنى بالجمع الجمع عند اللغويين وهم يطلقون لفظة " الجمع" على اسم الجمع ، نقول هذا صحيح لكن الكاتب أراد شيئا آخر ، أراد أن الجمل الذي جمعه جمالة لا يراد به إلا الحبال الغليظة ، وأما البعير الذي هو الحيوان المعروف فجعه إبل، وهذا خطأ ظاهر فقد نص العلماء في قوله تعالى { كأنه جمالة صفر} على أن جمالة جمع جمل ، وفسروها بالحيوان المعروف وهو قول جمهور المفسرين كما تقدم في تفسير الآية ، قال ابن عاشور:" { جِمالة } بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جَمَل مثل حَجَر وحِجَارة" ثم فسرها بالحيوان المعروف
وقال الزمخشري:"{ جمالة } جمع جمال . أو جمالة جمع جمل ؛ شبهت بالقصور ، ثم بالجمال لبيان التشبيه" ثم فسرها بالحيوان المعروف.
********
وبما تقدم ظهرت المغالطات التي أتى بها هذا الأخ عفا الله عنه ، ولو أنه قال:
إن بعض الصحابة كما روي عن ابن عباس في إحدى روايتيه[6]، وبعض العلماء فسروا الجمل في الآية الكريمة بالحبل الغليظ وقالوا إنه أنسب، ثم قال وهذا عندي أرجح لِكذا وكذا ، لكان قوله مقبولا، ولكان هذا رأيا يحترم اختاره لنفسه تقليدا لبعض العلماء لاقتناعه بأدلتهم الآية ، وهذا لا يلام عليه ، فما من آية إلا فيها عدة أقوال للعلماء ، لكن المشكلة أنه أتى بالمغالطات والطامات السابقة وخطأ القول المعتبر في الآية وأوهم أنه ظنون العوام ، وهذا الذي نلومه عليه ولا نقبله منه ، ولا ممن أتى بمثل ما أتى به في هذا العصر الذي تجرأ في كثير من غير المتخصصين على كتاب الله تعالى ، وهذا كله نتاج الجهل في الدين الذي انتجه عصرنا، وأبرز الجرأة على كتاب الله ممن لم يملك أدوات فهم كتاب الله ، أجارنا الله من الفتن .
كتبه الفقير إلى الله تعالى: علي هاني العقرباوي
جعله الله خالصا لوجهه سبحانه
[1] والمربد ( كمنبر ) محبس الإبل وكذا الغنم ومكان بالبصرة مشهور كانت تحبس به أو كان سوقا لها
[2] والخِياط هو المِخْيَط بكسر الميم وهو آلة الخياطة المسمّى بالإبْرَة والسَمّ : الخَرْت الذي في الإبرة يُدخل فيه خيط الخائط ، وهو ثقب ضيّق ، وهو بفتح السّين، والوُلوج : هو الدخول في مضيق فهو أخصُّ من الدخول
[3] المعجم الاشتقاقي (1/146)
[4] قال الآلوسي :والبعير في المشهور مقابل الناقة ، وقد يطلق عليها وتكسر في لغة باؤه ويجمع على أبعرة وبعران وأباعر ، وعن مجاهد تفسيره هنا بالحمار وذكر أن بعض العرب يقول للحمار بعير وهو شاذ .
[5] التحقيق للمصطفوي (1/323)
[6] قال الطبري:وأما الذين خالفوا هذه القراءة فإنهم اختلفوا ، فرُوي عن ابن عباس في ذلك روايتان : إحداهما الموافقة لهذه القراءة وهذا التأويل . ذكر الرواية بذلك عنه : حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ والجمل : ذو القوائم . وذكر أن ابن مسعود قال ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمّ الخِياطِ : هو الجمل العظيم لا يدخل في خرق الإبرة من أجل أنه أعظم منها . والرواية الأخرى ما :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : في قوله : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ » قال : هو قَلْس السفينة .
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، عن خالد بن عبد الله الواسطي ، عن حنظلة السدوسيّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «حتى يَلِجَ الجُمّلُ فِي سَمّ الخِياطِ » يعني : الحبل الغليظ . فذكرت ذلك للحسن ، فقال : حتى يَلِجَ الجَمَلُ قال عبد الأعلى . قال أبو غسان ، قال خالد : يعني البعير. قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار وهو : حتى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمّ الخياطِ بفتح الجيم والميم من «الجمل » وتخفيفها ، وفتح السين من «السّمّ » ، لأنها القراءة المستفيضة في قرّاء الأمصار ، وغير جائز مخالفة ما جاءت به الحجة متفقة عليه من القرّاء