تحقيق الفرق بين (فوق،من فوق) (تحت، من تحت) وآناء ومن آناء ونحوها

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
بسم الله الرحمن الرحيم:
هذا البحث يتضمن سبعة مباحث مهمة جدا في تفسير القرآن الكريم:
المبحث الأول: الفرق بين(فوق، من فوق).
المبحث الثاني: الفرق بين(تحت ، من تحت ) وفي ضمنه بيان الفرق بين تجري من تحتها الأنهار وتجري تحتها الأنهار وتجري من تحتهم الأنهار.المبحث الثالث: الفرق حذف (من) في (أمامَه).
المبحث الرابع: الفرق
بين (آناء)، (من آناء).
المبحث الخامس: معنى من في من أول يوم.
المبحث السادس: معنى من في من يوم .
بذلت فيه جهدي وحاولت استقصاء ما في وسعي من كلام المفسرين والمحققين أرجو من الله تعالى أن أكون سددت للصواب، بعونه سبحانه .
المبحث الأول :الفرق بين : (من فوق) و(فوق) .
(من فوق) تدل على ثلاثة معان متلازمة:
1. المعنى الأول: الابتداء وبيان مبدأ جهة الشيء أي الشيء مبتدئ من كذا ، لذلك يغلب أن تسبق بفعل تكون هي ابتداء له أو ما يقوم مقام الفعل نحو { لهم} أي كائن ، مستقر، استقر[1].
2. المعنى الثاني: على القرب الشديد بلا فاصل وأنه يعمهم ويحيط بهم من جميع جهاتهم إحاطة قريبة جدا بلا فاصل ، وهو مأخوذ من الابتداء منهم بلا فاصل لأنها لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية.
3. المعنى الثالث: وفيها التأكيد .
وأما (فوق) بدون (مِنْ) فهي تستعمل بمعنيين متصاحبين:
1) المعنى لأول: التركز فيه على الفوقية التامة البعيدة ، ولهذا أفراد و مصاديق:
علو كبير مع عموم وإحاطة كالقبة كالسماء مثلا ، و الدرجات العالية جدا، و رفعة الشأن رفعة عالية المدى جدا ، وقد تستعمل في مجرد كون شيء فوق شيء مطلقا ولو بدون علو .
2) المعنى الثاني : تستعمل حيث لا يكون النظر إلى أن شيئا ناشئ أو مبتدئ من شيء آخر ، وإنما شيء فوق شيء .
[h=1]تطبيق هذا على الآيات القرآنية : [/h]أولا : فوق مع (منْ): (من فوق):
[h=1]وردت في عدة مواضع هي: (5/11) (6 / 65) (7/ 41) (14/ 26) (14/ 26)[/h](16/ 50) (16/ 88) (29/55) (33/10) (39/16) (39/20) (41/10) (42/ 5).
الآية الأولى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (5/11)
الجملة الكريمة استعارة عن سبوغ النعم عليهم ، وتوسعة الرزق عليهم ، { لأكلوا}: لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض و يكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع و يرزقهم الجنان اليانعة الثمار من كل جانب وإدخال (من) لبيان جهة المأكول أنه من جهة الفوق والتحت ، وأنه يعمهم من جميع جهاتهم بحيث جعلوا مغمورين فيه مع القرب وفيها التأكيد ، والأكل من جميع الجهات كناية عن سبوغ النعمة وكثرتها وأنها عمتهم .[2]
[h=1]الآية الثانية : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (6 / 65) .[/h]إدخال (من) يعطي عدة فوائد:
1. بيان جهة ومبدأ العذاب فهو عذاب كائن من هاتين الجهيتن .
2. أنه يحيط بهم من الفوق ومن التحت إحاطة قريبة جدا ، ففيها بيان قربه الشديد منهم .
3. فيها التأكيد فيبعث العذاب من الجهة التي لا يستطيعون دفعها من فوقهم أو من محل استقرارهم ، ولم يقل من تحتكم بل قال { من تحت أرجلكم }فهي تصور العذاب الغامر من فوق ، أو النابع من تحت لا مقاومة له ولا ثبات معه ، وهذا أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال .
ولا يمكن أن يقال يبعث عليكم عذابا فوقكم ؛ لأنه ليس المراد تعميم جهات الفوق وأنه عال وليس المراد أن شيئا فوق شيء، بل المراد ما تقدم [3].
[h=1]*************[/h][h=1] الآية الثالثة : ( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(7/ 41).[/h][h=1]تدل على قوة إحاطة النار بهم من تحت ومن فوق، وأنها قريبة منهم بلا فاصل ، مطبقة عليهم ، وبيان الجهة التي يعذبون منها فهم محاطون بالعذاب من تحتهم ومن فوقهم ، والغواشي جمع غاشية ، وهى ما يغشى الشيء أي يغطيه ويستره .[/h]قال أبو حيان : هذه استعارة لما يحيط بهم من النار من كل جانب كما قال: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}.
قال الثعالبي :وهي لهم { غَوَاشٍ } جمع غاشية ، وهي ما يَغْشَى الإنسان أي : يغطيه ، ويستره من جهة فَوْق .
قال السامرائي: ولم يقل {فوقهم} أي أن الظلل تكون ابتداء من فوقهم ومن تحت أرجلهم بلا فاصل بينها وبينهم بخلاف ما لو قال فوقهم وتحتهم ؛لأن ذلك يحتمل المسافة القريبة والبعيدة والله أعلم بمراده[4] .
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الرابعة : [/h][h=1]{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.[/h] (14/ 26)
لما أريد بيان جهة الاجتثاث أنها كائنة من فوق الأرض، مع بيان أن عروقها قريبة من الأرض ليس بثابتة ولا متأصلة كالشجرة الطيبة مع التأكيد في القلع ذكر( من)[5] .
قال البيضاوي: { من فوق الأرض } لأن عروقها قريبة منه
قال أبو حيان: واجتثت من فوق الأرض مقابل لقوله : أصلها ثابت أي : لم يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض ، وإنما هي نابتة على وجه الأرض .
قال اطفيش في الهميان: { مِنْ فوق الأَرْضِ } فإِن عروقها وإِن كانت تحت الأَرض لكنها قريبة من فوقها ، وأيضاً قطعها من أصل ذهاب لها من فوق كما هو إِذهاب لها من تحتها .
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الخامسة: { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ[6] فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ }(14/ 26)[/h]{من فوقهم} : 1) تبين الجهة وأن الخرور من جهة الفوق ، 2) وأن السقف سقط محيطا بهم كأنه ملاصق لهم فهي تفيد القرب وأنه أطبق عليهم 3) مع التأكيد .
وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل ، يطبق عليهم من فوقهم ، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها ، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم ، وفي ذكر { من فوق} بيان ، كانوا تحته فوقع عليهم فهلكوا :
قال ابن عطية : ومعنى قوله { من فوقهم } رفع الاحتمال في قوله { فخر عليهم السقف } فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته ، كما تقول : انفسد عليه متاعه ، وقوله { من فوقهم } ألزم أنهم كانوا تحته .
[h=1]*************[/h][h=1]الآية السادسة : ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (16/ 50).[/h](من): تدل على شدة خوفهم من الله واستشعارهم لعظمته ورقابته وجلالته فوقهم ، وأنها قريبة وهذا السر في ذكر من بخلاف { وهو القاهر فوق عباده} هناك لبيان عظمة القهر وتعاليه علوا كبيرا عظيما فحذفت( من).
قال البقاعي: خوفاً مبتدئاً { من فوقهم } إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم ، أو حال كون ربهم مع إحسانه إليهم له العلو والجبروت ، فهو المخوف المرهوب ، فهم عما نهوا عنه ينتهون .
قال الطباطبائي : فهذه المخافة هي المخافة منه تعالى وهو وإن لم يكن عنده إلا الخير ، والخوف إنما يكون من شر مترقب إلا أن حقيقته التأثر والانكسار والصغار وتأثر الضعيف قبال القوي الظاهر بقوته ، وانكسار الصغير الوضيع أمام الكبير المتعال القاهر بكبريائه وتعاليه ضروري فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من مقام ربهم ولا يغفلون عنه قط ، و يؤيد ما ذكرناه تقييد قوله : { يخافون ربهم } بقوله { من فوقهم } فإن فيه إشارة إلى أن كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في مخافتهم ، وليس هذا إلا الخوف من مقامه تعالى لا من عذابه فهو خوف ذاتي ويرجع إلى نفي الاستكبار عن ذواتهم .
[h=1]*************[/h][h=1] الآية السابعة : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) (16/ 88) }[/h](من) في (من فوق): لبيان جهة الصب وأنها من فوق رؤسهم ؛ للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء ، ولتفيد إطباق العذاب مع قرب الصب لأن (من) لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية فتفيد أن ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة ،لأن الحميم إذا صب عن قرب أشد من أن يصب عن بعد ؛ لأن الصب عن بعد ينقص من حرارته بخلاف ما إذا صب عن قرب نزل كما هو .
لأنه أشد .
قال السامرائ: أي ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة لأن العاقبة لهذا الصبّ أن يُصهر به ما في بطونهم
قال ابن عرفة: فإن قلت: ما فائدة زيادة (مِنْ) في قوله تعالى: (مِنْ فَوْقِ)، وهلا استغنى عنها؟
الجواب أنها لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية، قال: وذلك أن الحميم إذا صب فوقهم عن بعد، فإنه يدركه الهوي فينقص من حرارته، فإذا صب فوق رءوسهم بالقرب نزل كما هو، وهذا مشاهد عندنا في المس إذا طبخناه أو صب في الإناء يرده بالمغرفة ترفع بها إلى فوق وتصبه فيبرد بالهواء ومهما علونا بالمغرفة إلى فوق، كان أشد في تبريده فأفادت زيادة (من) أنه يصب فوق رءوسهم من أقرب أمكنة الفوقية إليهم حتى لَا ينتقص من حرارته شيء..
قال الآلوسي في سورة البقرة في { أو كصيب من السماء }: وعندي أن ذكر(من السماء) يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] وكثيرا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك والعيان والوجدان أقوى شاهد على ما قلنا. ومِنَ لابتداء الغاية.
[h=1]*************[/h][h=1] الآية الثامنة : ( يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (29/55)[/h]العذاب يغشاهم قال مبتدأ من جهة الفوق، و ملتصقا بهم مستعليا عليهم من مكان قريب ، و يحيط من جميع جهات الفوق ففيها بيان لإحاطة العذاب .
قال الآلوسي: { يَوْمٍ يَغْشَاهُمُ العذاب } ظرف لمضمر قد طوى ذكره إيذاناً بغاية كثرته وفظاعته كأنه قيل : يوم يأتيهم ويجللهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال ، وقيل : ظرف لمحيطة على معنى وإن جهنم ستحيط بالكافرين يوم يغشاهم العذاب { مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } أي من جميع جهاتهم فما ذكر للتعميم كما في الغدو والآصال[7] .

[h=1] الآية التاسعة : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (33/10) .[/h]في ذكر (من) بيان الجهة، مع الابتداء القريب، وأنهم حصروهم ؛ لأن المراد أنهم حصروا المدينة من أعلاها وأسفلها وهذا يناسبه ذكر (من) أي جاءوكم من جهة الفوق ومن جهة التحت مع القرب مع التأكيد حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها.
{ مّن فَوْقِكُمْ }: من أعلى الوادي من فوقه قِبَل المشرق وهم بنو غطفان ومن تبعهم من أهل نجد وبنو قريظة وبنو النضير.
{ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ }: من أسفل الوادي من قِبَل المغرب من جانب الغرب، وهم قريش ومن تابعهم من الأَحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة.
تحزبوا حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها ، وأضاف الفوق إلى ضميرهم لبيان قوة العدو وإحاطته فنسبة الفوتية اليهم للملابسة ، وانما الفوتية لبعض الوادي على بعض .
[h=1]*************[/h]الآية العاشرة: ( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (39/16).
ذكر (من): لبيان أن الظلل من جهة الفوق ومن تحت الأرجل ، وقربها و إحاطتها بهم ، بحيث تحتوي عليهم من جميع الجوانب ، وفيها تأكيد.
قال البقاعي : وأشار إلى قربها منهم بإثبات الجار فقال : { من فوقهم ظلل } ولما أوهمهم ذلك الراحة ، أزال ذلك بقوله : { من النار } وذلك أنكأ مما لو أفهمهم الشر من أول الأمر . ولما كان في القرار - كائناً ما كان على أي حال كان نوع من الراحة بالسكون ، بين أنهم معلقون في غمرات الاضطراب ، يصعدهم اللهيب تارة ، ويهبطهم انعكاسه عليهم برجوعه إليهم أخرى ، فلا قرار لهم أصلاً كما يكون الحب في الماء على النار ، يغلي به صاعداً وسافلاً ، لا يقر في أسفل القدر أصلاً لقوله : { ومن تحتهم }.
سيد قطب : وهو مشهد رعيب حقاً . مشهد النار في هيئة ظلل من فوقهم وظلل من تحتهم ، وهم في طيات هذه الظلل المعتمة تلفهم وتحتوي عليهم . وهي من النار !.
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الحادية عشرة: { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (39/20).[/h]بيان أن الغرف طوابق متتابعة بعضها من فوق بعض يعتلي طابق على طابق ، مع التأكيد في مقابلة ما قال للكافرين لهم من فوقهم ظلل من النار ، ومن تحتهم ظلل مع التأكيد .
قال ابن عاشور : ومعنى { من فَوْقِهَا غُرَفٌ } أنها موصوفة باعتلاء غرف عليها وكل ذلك داخل في حيّز لام الاختصاص ، فالغرف التي فوق الغرف هي لهم أيضاً لأن ما فوق البناء تابع له وهو المسمّى بالهواء في اصطلاح الفقهاء . فالمعنى : لهم أطباق من الغُرف ، وذلك مقابل ما جعل لأهل النار في قوله : { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } [ الزمر : 16 ] .
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الثانية عشرة : ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (41/10).[/h]أفادت (من) أن الرواسي من جهة الفوق كائنةً من فوقها مرتفعةً على الأرض قريبة بحيث تنتفعون بها وليست مغمورة جميعها في أعماق الأرض فمع أن أكثر أجزائها في أعماق الأض لكنه سبحانه من رحمته جعل جزاء كبيرا منها فوق الأرض ، ولم يجعلها بعيدة عن الأرض بحيث لا تنتفعون بها بل هي من فوق الأرض؛ لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها ، حاضرة لمحصليها ، بالمتنال قريبة ، و ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار وتكون منافعها معرضة للطلاب وفيها تأكيد .
قال الطبري : وهي الثوابت في الأرض من فوقها ، يعني : من فوق الأرض على ظهرها . قال الزمخشري: فإن قلت : ما معنى قوله : { مِنْ فَوْقِهَا } وهلا اقتصر على قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } كقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات } [ المرسلات : 27 ] ، { وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِىَ } [ الأنبياء : 31 ] ، { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ } [ النمل : 61 ] ؟ قلت : لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها ، أو مركوزة فيها كالمسامير : لمنعت من الميدان أيضاً ، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض[8] ، لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها ، حاضرة محصليها ، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه ، وهو ممسكها عزّ وعلا بقدرته
قال السامرائي: فمن تدل على الابتداء قال تعالى { وجعل فيها رواسي من فوقها } ولم يقل فوقها لأن كلمة فوق تحتمل المسافة القريبة والبعيدة قال تعالى { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم } وقال { ورفعنا فوقكم الطور } { وقال { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن } .
[h=1]*************[/h][h=1] الآية الثالثة عشرة: ( تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (42/ 5).[/h]مِنْ " لابتداءِ الغايةِ متعلقةً بـ(يتفطرن) أي مبتدئاً تفطرهن من فوقهن؛ لأن المراد يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانية ، وتخصيصها لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه تعالى من تلك الجهة من عظيم العظمة والجلال والكبرياء والعزة ، أي: يتفطرن من فوقهن من عظمة الله وجلاله و علو شأن الله وعظمته ، يدل عليه مجيئه بعد العلي العظيم، وفي (من) أيضا تأكيد .
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قال : { مِن فَوْقِهِنَّ } ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السموات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : { يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي يبتدىء الانفطار من جهتهنّ الفوقانية . ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ } [ الحج : 19-20 ] فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة .
قال البيضاوي - { من فوقهن } أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية ، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة ، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى .
[h=1]فوق بدون (منْ): [/h]وأما (فوق) بدون (مِنْ) فهي تستعمل بمعنيين متصاحبين:
أ- المعنى لأول: التركز فيه على الفوقية التامة البعيدة ، ولهذا أفراد ومصاديق:
علو كبير مع عموم وإحاطة كالقبة ، كالسماء مثلا ، و الدرجات العالية جدا، و رفعة الشأن رفعة عالية المدى جدا .
أ- المعنى الثاني : أن شيئا فوق شيء ، فتستعمل حيث لا يكون النظر إلى أن شيئا ناشئ أو مبتدئ من شيء آخر، وإنما شيء فوق شيء .
[h=1]وردت في عدة مواضع وهي: ( 2/26 ). (2/ 63) (2/ 93) (4/154) (7/171) 2/ 212) (3/55) (4/ 11) (6/18) (6/61) (6/ 165) (127) (7/ 127) (12/36) (12/76) (16/ 88) (23/ 17) (43/ 32) (48/10) (50/ 6) (67/ 19) (19/17) (78/ 12) (8/12) (49/ 2).[/h][h=1]آية اجتمع فيها فوق ومن فوق: (24/40)[/h]مقارنة بين آيتين في إحداهما (من) وفي الأخرى حذفها :
(44/ 48) (22/19)
[h=1]الآية الأولى :[/h][h=1]{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَايُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } ( 2/26 ).[/h]· استعمل فوق دون (من) لأن السياق ليس للابتداء أي ليس لبيان ابتداء شيء من مكان ، ولكن للتعميم في كل الفوق ، أي بعوضة فصاعدا أي فخذ جميع الأشياء التي فوقها في الحجم والكبر فالله سبحانه لا يستحيي أن يضرب بها المثل فهو ترق من الصغير للكبير في الحجم والجُثة ، لأن البعوضة غاية في الصغرفيكون ذكر البعوضة تنبيهاً على الصغر ، وما فوقها تنبيهاً على الكبر [9].

[h=1] الآية الثانية : [/h][h=1]( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (2/ 63) (2/ 93) .[/h]لما كان الجبل قد صار فوقهم عاليا كأنه ظلة قد ملأ جهة الفوق عاماً لهم وارى جميع أبدانهم بحيث إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان ولم يسلم نزع الجار [10]فقال { ورفعنا فوقكم الطور } ترهيباً لكم لتقبلوا الميثاق الذي هو سبب سعادتكم ، وليس المراد بيان جهة ابتداء الرفع بل المراد رفعنا الجبل عاليا عليهم محيطا بهم عاما لهم .
قال السمين الحلبي : قوله تعالى : { فَوْقَكُمُ } : ظرفُ مكانٍ ناصبُه " رَفعْنا " وحكمُ " فوق " مثلُ حكم تحت ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه . قال أبو البقاء : " ويَضْعُف أن يكونَ حالاً من " الطور " ، لأن التقدير يصير : رَفَعْنا الطورَ عالياً ، وقد استُفيد [ هذا ] من " رَفَعْنا " وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّ المرادَ به علوٌّ خاص وهو كونُه عالياً عليهم لا مطلقُ العلوِّ حتى يصيرَ رفعناه عالياً كما قدَّره . قال : " ولأنَّ الجَبَلَ لم يكُنْ فوقَهم وقتَ الرفع ، وإنما صارَ فوقَهم بالرفْعِ . ولقائلٍ أن يقولَ : لِمَ لا يكونُ حالاً مقدرة ، وقد قالَ هو في قولِه " بقوة " إنها حالٌ مقَدَّرةٌ كما سيأتي .
*************
[h=1]الآية الثالثة :[/h][h=1] ( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (4/154) .[/h]يقال فيه ما قيل في الآيتين السابقتين : لما كان الجبل قد صار فوقهم عاليا كأنه ظلة قد ملأ جهة الفوق عاماً لهم وارى جميع أبدانهم بحيث إنه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان ولم يسلم نزع الجار فقال { ورفعنا فوقكم الطور } .
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الرابعة : [/h]( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7/171).
يقال فيه ما قيل في الآيات السابقة :
لما كان الجبل قد صار فوقهم عاليا كأنه ظلة قد ملأ جهة الفوق عاماً لهم وارى جميع أبدانهم بحيث إنه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان ولم يسلم نزع الجار فقال { ورفعنا فوقكم الطور }
قال البقاعي: ولما كان مستغرقاً لجميع الجهة الموازية لعساكرهم ، حذف الجار فقال : { فوقهم } ثم بين أنه كان أكبر منهم بقوله : { كأنه ظلة } أي سقف ، وحقق أنه صار عليهم موازياً لهم من جهة الفوق كالسقف بقوله .ابن عطية - { فوقَهم } أعطت الرفع بزيادة قرينة هي أن الجبل اقتلعته الملائكة وأمر الله إياه .
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الخامسة: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة 2/ 212) [/h]حذف (من) ؛ لأنه ليس المراد الابتداء بل المراد أنهم فوقهم بمراحل بعيدة فوقية ظاهرة .
[h=1]الآية السادسة :[/h][h=1] ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (3/55).[/h]لم يثبت الجار لبيان الفوقية التامة القوية البعيدة المدى ، والمراد الفوقية في العز والغلبة والظفر والنصرة و القهر والاستيلاء [11] ، وليس المراد ابتداء الاتباع من جهة الفوق .
[h=1]*************[/h][h=1]الآية السابعة : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}(4/ 11) .[/h]حذف (من) لأنه ليس المراد الابتداء والجهة ، وإنما المراد أنه أكثر من اثنتين ولو كثرن وزدن بالغات ما بلغن فلذا لم يدخل حرف الجر، قال البقاعي : ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع ، وهو اثنتان حقيقة أو مجازاً حقق ونفى هذا الاحتمال بقوله : { فوق اثنتين }.
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الثامنة : { وهو القاهر فوق عباده } (6/18) (6/61) .[/h]كل شئ قهر شيئا فهو مستعل عليه ، صور سبحانه قهره وحققه لتمكن الغلبة بقوله : { فوق عباده } وكل ما سواه عبد ؛ ولما كان العباد تحت تسخيره وتذليله وأمره ونهيه ، وصف بأنه فوقهم ، ويدل حذف (من)على قوة وقهره سبحانه الاستعلاء والغلبة ورفعة الشأن رفعة عالية جدا لا تضاهى سبحانه ، قال الزمخشري : تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة كقوله : { وإنا فوقهم قاهرون } " ، قال ابن عرفة:" الفوقية إما إشارة إلى قهره واستيلائه على العباد، أو بمعنى أنه فوق ما يظن من القهر والغلبة".
[h=1]*************[/h][h=1]الآية التاسعة : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (6/ 165).[/h] يدل حذفها على الدرجات العالية في التفاوت الكثيرة المتفاوتة التي يشعر بها أيضا الجمع والتنكير في {درجات}، والمراد ورفع بعضكم درجات في الشرف والعقل ، والمال ، والجاه ، والرزق ،والعلوم وفي مراقي العقل والقوة الحسية والمعنوية والمحاسن والمناظر والأشكال والألوان وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد ، قال أبو السعود :" { فَوْقَ بَعْضٍ درجات } كثيرةٍ متفاوتة" أخذ هذا أبو السعود من التنكير والجمع أقول ويدل عليه أيضا حذف من . قال رشيد رضا : "ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الخلق والخلق والغنى والفقر ، والقوة والضعف والعلم والجهل والعقل والجهل والعز والذل ليختبركم فيما أعطاكم أي يعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك فيبني الجزاء على العمل".
[h=1]*************[/h][h=1]الآية العاشرة: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ }(127) (7/ 127) .[/h]يريد {قاهرون} في المنزلة والتمكن ونحن قاهرون غالبون لهم وهم مقهورون تحت أيدينا كما كنا لم يتغير حالُنا أصلاً ، و { قاهرون } يقتضي تحقير أمرهم أي قاهرون لهم قهراً قلّ من أن نهتم به ولا أثر غلبة موسى لنا في هذه المناظرة وهم مقهورون تحت أيدينا كذلك.
واستعمال فوق بدون (من) لتدل على الفوقية الغالبة القاهرة العالية جدا ، التي هي فوقهم بمراحل التي فيها السيطرة التامة [12] .

[h=1]*************[/h][h=1]الآية الحادية عشرة: [/h][h=1]{ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } (12/36).[/h]لم يستعمل (من) لأن المعهود في الحمل أن يقال حملته فوق ظهري أو فوق رأسي وليس من فوق لأنه ليس المراد جهة ابتداء الحمل بل بيان أن شيئا فوق شيء .
قال الشَّاعِرِ:
أَما تَرَانِي رَجُلًا كَمَا تَرَى ... أَحْمِلُ فَوْقي بِزَّتِي كَمَا تَرَى
عَلَى قَلُوص صَعْبَةٍ كَمَا تَرَى ... أَخافُ أَن تَطْرَحَني كَمَا تَرَى
ولعله يكون فيه إشارة إلى كثرته ، وفي الروايات الإسرائيلية ما يشير إلى ذلك ففيها " وقال الخباز : إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة ، وإذا سباع الطير تنهش منها ". وقد يقتصر على المعنى الأول فقط.
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الثانية عشرة :[/h][h=1] {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } (12/76).[/h]أي نرفع درجاتٍ عاليةً من العلم من نشاء رفعَه ، ولما أراد الدرجات الكبيرة الكثيرة العالية في التفاوت حذف (من)، مع أنه ليس المراد الجهة .
قال ابن عاشور : "وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه ، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس ، والفوقية مجاز في شرف الحال ، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع ، وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف { عليم } باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه ، وظاهر تنكير { عليم } أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى . فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه ، ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم ".
وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة والتعظيم ، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص والمعنى فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم ، وهو الله عز وعلا ، عظيم العلم ، لا تكتنه عظمة علمه العقول أبو السعود : وقوله وفوق كل ذي علم عليمٌ تذييلٌ له .
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الثالثة عشرة: [/h][h=1]{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ }(16/ 88).[/h] لم يذكر (من) ؛ لأن المراد عظمة وكثرة المزيد ، وأنه فوق عذاب كفرهم ، وهو عذاب الصد عن سبيل الله تعالى ، فليس المراد بيان أن المزيد من جهة كذا أو كذا بل المراد كثرة وعظمة المزيد ، فناسب حذف( من) .
والمعنى أنهم لما زادوا على كفرهم صدَّ غيرهم عن الإيمان ، فلا جرم يزيدهم الله تعالى عذابا على عذاب ، وأيضا أتباعهم إنما اقتدوا بهم في الكفر ، فوجب أن يحصل لهم مثل عقاب أتباعهم لقوله تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم }، قال هميان الزاد : أي : عذابا فائقا في الشدة على العذاب الذي استحقوه بكفرهم أنفسهم[13].
[h=1]*************[/h][h=1]الآية الرابعة عشرة:[/h][h=1] { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} (23/ 17).[/h]حذف (من) لبيان شدة علو السماء وارتفاعها مع عمومها فوق البشر في جميع جهة الفوق ؛ للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى ، فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها ، ولأن كونها فوق الناس مما يسهل انتفاعهم بها.
قال البقاعي :" ولما بين لهم أن فكرهم فيهم يكفيهم ، ولاعتقاد البعث يعنيهم ، أتبعه دليلاً آخر بالتذكير بخلق ما هو أكبر منهم ، وبتدبيرهم بخلقه وخلق ما فيه من المنافع لاستبقائهم ، فقال : { ولقد خلقنا قوقكم } في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك".
قال ابن عاشور : "وذِكر { فوقكم } للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها ، ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت".

[h=1]*************[/h][h=1]الآية الخامسة عشرة: ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (43/ 32).[/h]أفادت (فوق) مع التنكير والجمع في (درجات) أنها درجات كبيرة التفاوت كثيرة ، فاوت بينهم وغاير بين منازلهم.
أبو السعود : "{ درجات } متفاوتة بحسبِ القُربِ والبُعدِ حسبَما تقتضيِه الحكمةُ فمنْ ضعيفٍ وقويَ وفقيرٍ وغنيَ وخادمٍ ومخدومٍ وحاكمٍ ومحكوم".
قال الزمخشري :" فلم يسوِّ بينهم ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش ، وغاير بين منازلهم فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج وموالي وخدماً ، ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم ويستخدمون في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم ، حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى منافعهم ويحصلوا على مرافقهم ؛ ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم ، لضاعوا وهلكوا . وإذا كانوا في تدبير أمر المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة ، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى ؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة والسلم إلى حلول دار السلام ؟".
[h=1]*************[/h][h=1]الآية السادسة عشرة : [/h][h=1]( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (48/10).[/h]ذكر الفوق بدون (من) لكمال التنزيه حتى يبقى التنزيه في غايته وعظمته فلا يظن أن الله سبحانه كعبيده ، ومثلها قوله تعالى { وهو القاهر فوق عباده } بحذف (من) ، ولذلك كرر الاسم الأعظم في هذه ثلاث مرات إشارة إلى العظمة الفائتة للوصف والغيب العالي عن الإدراك [14].
[h=1]*************[/h][h=1] الآية السابعة عشرة:[/h] ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (50/ 6).
لما كانت السماء في غاية الارتفاع قال فوقهم ، ولأنها لعلوها وكبرها أحاطت بهم عبر بـ(فوق) ، ف(فوق) تشعر بالإحاطة الكاملة مع العظمة والارتفاع بحيث يشاهدونها كل وقت.

[h=1]*************[/h][h=1] الآية الثامنة عشرة : [/h]( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (67/ 19).
حذف (من) لأن ارتفاع الطير ليس من فوقهم مباشرة بل هناك مسافة عالية تحلق فيها الطير، وهذا أدل على قدرة الله تعالى في أنه سبحانه يمسكها ويرفعها لهذا الارتفاع الكبير في الجو على خلاف طبيعة الأجسام من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها ، وتفيد أن النظر إليها سهل في متناول اليد فمجرد أن يرفعوا رءوسهم يرونها .
قال البقاعي : "ولما كان الجو كله مباحاً للطيران ، نزع الجار فقال : { فوقهم } وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفاً لها بالتأنيث ، إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها { صافات ـ ـ لما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ، ترجمه بقوله: { ما يمسكهن } أي في الجو في حال القبض والبسط عن السقوط ، على خلاف ما يقتضيه الطبع.
[h=1]*************[/h][h=1]الآية التاسعة عشرة : [/h]{ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (19/17).
لما كان العرش عظيما ضخما جدا عاما لجهة الفوق كلها مع إحاطته بالملائكة عبر بفوقهم بإسقاط الجار (من)[15].
والضمير في قوله : { فوقهم } للملائكة الذين هم على الأرجاء وقيل فوق الخلائق.
قال ابن عاشور : "(فوقهم): وهو تأكيد لما دّل عليه يحمل من كون العرش عالياً فهو بمنزلة القيدين في قوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ]" .
[h=1]*************[/h][h=1]الآية العشرون: [/h][h=1]( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) (78/ 12).[/h]حذف (من) لبيان شدة علوها وارتفاعها مع عمومها كالقبة وإحاطتها فوق البشر في جميع جهة الفوق ، للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق ، فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها لأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها.
قال البقاعي :" { فوقكم } أي عاماً لجميع جهة الفوق ، وهي عبارة تدل على الإحاطة { سبعاً } أي من السماوات" ،قال ابن عاشور:" واستعير فعل { بنيْنا } في هذه الآية لمعنى : خلقنا ما هو عَالٍ فوق الناس ـ ـ ـ مع ما فيه من تنبيه النفوس للاعتبار والنظر في تلك السَبع الشداد" .
[h=1]وبقيت آيتان فيهما المعنيان السابقان لكنهما يحتاجان لمزيد بيان: [/h][h=2]الآية الأولى : [/h]( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَا) (8/12) .
ليس المراد من جهة الفوق بل المراد ضرب نفس الفوق وهو أعالي الأعناق التي هي المذابح وهي محل تركيب الرقبة في أعلاها ففيها بيان مكان الضرب وهو الأعالي التي هي المذابح والمفاصل وليس المراد الابتداء ونحوه.
قال الزمخشري - { فَوْقَ الاعناق } أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح ، لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييرا للرؤوس . وقيل : أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق ، يعني ضرب الهام . قال :
وَأضْرِبُ هَامَة الْبَطَلِ الْمُشِيحِ ***
غَشَّيْتُهُ وَهْوَ فِي جَأْوَاءَ بَاسِلَة *** عَضْباً أَصَابَ سَوَاءَ الرَّأْسِ فَانْفَلَقَا
قال البقاعي:" ولما كان ضرب العنق والراس أوحى مهلك للإنسان ، وكان العنق يستر في الحرب غالباً ، عبر بقوله : { فوق الأعناق } أي الرؤوس أو أعالي الأعناق منهم لأنها مفاصل ومذابح ".قال السمين الحلبي ـ ـ " أحدها : أن " فوق " باقيةٌ على ظرفيتها ، والمفعولُ محذوفٌ أي : فاضربوهم فوق الأعناق ، عَلَّمَهم كيف يضربونهم . والثاني : أن " فوق " مفعولٌ به على الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل : فاضربوا رؤوسَهم . وهذا ليس بجيدٍ لأنه لا يَتَصَرَّف . وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول : فوقُك رأسُك برفع " فوقك " ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال : " فوق الأعناق : أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح التي هي مفاصل " يقول علي هاني: ما ذكره الزمخشري هو الحق لمن تأمل أقوال المفسرين وسياق الآية ، وقد رجحه أيضا الضحاك والسمعاني والقرطبي وابن جزي وأبو عبيدة ابن عاشور والشنقيطي .
[h=2]الآية الثانية : ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (49/ 2) .[/h]ليس المراد بيان الجهة والابتداء هنا ، إنما المراد أن الصوت يكون مرتفعا ومستعليا فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يغمر صوته عليه الصلاة والسلام فلذلك حذف (من).
قال الزمخشري : أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوت ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم ، وجهره باهراً لجهركم ؛ حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم ". وقال ابن عاشور :"والرفع مستعار لجهر الصوت جهراً متجاوزاً لِمعتاد الكلام ، شبه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشدّ بلوغاً إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار ، على طريقة الاستعارة المكنية ، أو شبه إلقاء الكلام بجهر قويّ بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة على طريقة الاستعارة التبعية . و { فوق صوت النبي } ترشيح لاستعارة { لا ترفعوا } وهو فوْق مجازي أيضاً . وموقع قوله : { فوق صوت النبي } موقع الحال من { أصواتكم } ، أي متجاوزة صوت النبي صلى الله عليه وسلم أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بجهر معتاد . ولا مفهوم لهذا الظرف لأنه خارج مخرج الغالب ، إذ ليس المراد أنه إذا رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه . والمعنى : لا ترفعوا أصواتكم في مجلسه وبحضرته إذا كلم بعضُكم بعضاً كما وقع في سُورة سبب النزول ".
يقول علي هاني: فالنهي عام في رفع الصوت فوق صوته عليه السلام على الإطلاق ، وسبب النزول أنه كانت عادة الأَعراب الجَفَاء وعُلُوّ الصَّوْتِ ، وأنه تمارى عند الرسول صلى الله عليه وسلم رجلان فارتفعت أصواتهما ، ففي فوق التركز على الفوقية في رفع الصوت التي فيها سوء أدب وهي ما يفعلها الأعراب ونحوهم ، وليس فيها أن شيئا ناشيء أو مبتدئ من شيء آخر .
[h=1]آية اجتمع فيها فوق ومن فوق: [/h][h=1] {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ }(24/40) .[/h]هذه الآية مثال رائع للمراد بدخول (من) على فوق( من فوق)، وعلى حذفها منها ، فلما أراد الجهة وابتداء الغاية والقرب وأن البحر يغشاه موج موصوف أنه من جهة فوقه مباشرة موج آخر ملتصق به متتابع تجيء موجة تتبعها أخرى ، فهي أمواج مترادفة متكاثفة موجة من فوقها أخرى وأنه قريب مع التأكيد قال من فوقه .
ولما أراد أن الظلمات طبقات من الظلمات الكثيرة المتكاثفة ، وأراد استغراق الفوقية لم يثبت الجار ، فهي ظلمة الموج المترادف ظلمة اللجة ، وظلمة الموج المتراكب ، وظلمة السحاب قال ظلمات بعضها فوق بعض ، والمعنى : إن الكافر يعمل في حيرة ، ولا يهتدي لرشده ، فهو من جهله وحيرته ، كمن هو في هذه الظلمات ، لأنه من عمله وكلامه واعتقاده ، متقلب في ظلمات.
قال البقاعي : { موج } آخر { من فوقه } أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول { سحاب } قد غطى النجوم ، وهو مثال الرين والختم والطبع على القلب ، فلا سماء تبصر ولا أرض
ولما كان هذا أمراً مهولاً ، أشار إلى هوله وتصويره بقوله : { ظلمات } أي من البحر والموجين والسحاب { بعضها } . ولما كان المراد استغراق الجهة ، لم يثبت الجار فقال : { فوق بعض } متراكمة ، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر.
قال أبو حيان : بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن ، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه ، وفوق هذا الموج { سحاب } وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها ، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب . ، أبو السعود : وقولُه تعالى : { مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } جملةٌ مِن مبتدأ وخبرٍ محلُّها الرَّفعُ على أنَّها صفةٌ لموجٌ أو الصِّفةُ هي الجارُّ والمجرورُ وموجٌ الثَّانِي فاعلٌ له لاعتمادِه على الموصوفِ والكلامُ فيهِ كما مرَّ في قولِه تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } أي يغشاهُ أمواجٌ متراكمةٌ متراكبةٌ بعضُها على بعضٍ ، وقوله تعالى : { مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } صفةٌ لموجٌ الثَّاني على أحد الوجهينِ المذكُورينِ أي من فوق ذلك الموجِ سحابٌ ظلمانيٌّ ستَر أضواءَ النُّجومِ وفيه إيماءٌ إلى غايةِ تراكم الأمواجِ وتضاعفُها حتَّى كأنَّها بلغت السَّحابَ { ظلمات } خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي هي ظلماتٌ { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } أي متكاثفة متراكمة وهذا بيان لكمال شدَّةِ الظُّلماتِ كما أنَّ قوله تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } بيانٌ لغاية قُوَّةِ النُّورِ خلا أنَّ ذلك متعلِّق بالمشبَّهِ وهذا بالمشبَّه به كما يُعرِبُ عنه ما بعده . وقرئ بالجرِّ على الإبدالِ من الأُولى ، وقرئ بإضافةِ السَّحابِ إليها
مقارنة بين آيتين في إحداهما (من) وفي الأخرى حذفها :
[h=1]في سورة الدخان ( ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) (44/ 48) ، وفي سورة الحج (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ )) (22/19) فحذف (من) في الدخان وأثبتها في الحج .[/h]حذف (من) في سورة الدخان لأن الصب هنا يتعلق بالعذاب ، فذكر العذاب معلقاً به الصب ، ، ليكون أهول وأهيب ولم يعلق الصب بنفس الحميم مباشرة ، وإن كان العذاب ناتجا عنه ، وكلما كان العذاب ينزل من أعلى يعطي قوة أكثر وإحاطة أكثر واستيعابا أكبر نحو { فصب عليهم ربك سوط عذاب} ، فالمعنى{ في صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } صب ما تولد عن الحميم من الآلام والعذاب ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن العذاب هو المسبب عن الحميم ، ولفظة العذاب أهول وأهيب وفيه مبالغة وبجعل العذاب مصبوباً كالمحسوس ، وفيه مبالغة أخرى في ذكر من (من عذاب الحميم) فـذكر من { مِنْ } تبين نوع المصبوب وأنه بعض هذا النوع وأن هناك ما هو أكثر منه في قدرتنا ، فهناك إما تمثيل أو استعارة تصريحية أو مكنية أو تخييلية.
ال البقاعي : "فقال : { ثم صبوا } أي في جميع الجهة التي هي { فوق رأسه } ليكون المصبوب محيطاً بجميع جسمه".
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : صبوا فوق رأسه من الحميم ، كقوله تعالى : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الحميم } [ الحج : 19 ] لأنّ الحميم هو المصبوب لا عذابه ؟ قلت : إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدّته ، إلا أنّ صب العذاب طريقة الاستعارة ، كقوله :صُبَّتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ الدَّهْرِ مِنْ صَبَبِ *** وكقوله تعالى : { أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } [ البقرة : 250 ] فذكر العذاب معلقاً به الصب ، مستعاراً له ، ليكون أهول وأهيب
وأما سورة الحج : فقال سبحانه {يصب من فوق رءوسهم الحميم}؛ لأن الصب يتعلق بنفس الحميم يصب ، وكلما كان أقرب كان أقوى حتى لا يبرد أي ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة لأن العاقبة لهذا الصبّ أن يُصهر به ما في بطونهم
فـ(من) في (من فوق) ـ كما تقدم : لبيان جهة الصب وأنها من فوق رؤسهم ؛ للإشارة إلى أن ما يؤذيهم وهو الحميم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء ، ولتفيد إطباق العذاب مع قرب الصب لأن (من) لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية فتفيد أن ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة ،لأن الحميم إذا صب عن قرب أشد من أن يصب عن بعد ؛ لأن الصب عن بعد ينقص من حرارته بخلاف ما إذا صب عن قرب نزل كما هو ".
يقول علي هاني: فالجهة والتركيز في كل آية مخلتفة ؛لأن آية الدخان تركز على صب العذاب نفسه فهذا اقتضى العلو والإحاطة والاستيعاب وكلما كان العذاب ينزل من أعلى يعطي قوة أكثر وإحاطة أكثر واستيعابا أكبر فحذف (من) ، وأما آية الحج التركيز فيها على صب الحميم وصبه إن كان من قرب يكون أشد حتى لا تخف حرارته فذكر (من) فكان كل منهما في موضعه عين البلاغة أصاب المفصل بين شدة العذاب .
وقد رأينا عالمين يقارنان بين الآيتين أيهما أبلغ فقال السامرائي حفظه الله ، آية الحج أبلغ من آية الدخان ، وقال الجلال المحلي آية الدخان أبلغ وعبارته : "( ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ) أي من الحميم الذي لا يفارقه العذاب فهو أبلغ مما في آية " يصب من فوق رؤوسهم الحميم .

[h=1]المبحث الثاني : الفرق بين(من تحت) ،(تحت):[/h]كما تقدم في المبحث السابق فـ(من) تستعمل إن أريد الجهة أي جهة ابتداء شيء ، للدلالة على القرب والإحاطة وغالبا ما تسبق بفعل تكون ابتداء له أو ما يقوم مقام الفعل فهي ثلاثة معان متلازمة.
1. المعنى الأول: الابتداء ببيان مبدأ جهة الشيء أي الشيء مبتدئ من كذا.
2. المعنى الثاني: القرب الشديد بلا فاصل وأنه يعمهم ويحيط بهم من جميع جهاتهم إحاطة قريبة جدا بلا فاصل ، وهو مأخوذ من الابتداء منهم بلا فاصل لأنها لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية.
3. المعنى الثالث: فيها التأكيد .
وأما حذف (من) فيكون إن أريد عمق التحت، أو كون الشيء تحت شيء وليس ابتداء لشيء نحو { تحت الشجرة }.
فتدل على معنيين :
المعنى لأول: التركز فيه على التحتية التامة البعيدة أي عمق التحت أو أن شيئا تحت شيء ولو لم يكن بعيدا .
المعنى الثاني : تستعمل حيث لا يكون النظر إلى أن شيئا ناشئ أو مبتدئ من شيء آخر ، وإنما شيء تحت شيء .
[h=1]تطبيق هذا على الآيات القرآنية : [/h][h=1]اولا : (تحت) بدون (من): [/h]( 18/ 82) (20/6) (41/29) (48/18) (66/10).
[h=1]أولا : تحت بدون (من) : [/h][h=2]الآية الأولى: [/h][h=1]{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ( 18/ 82)} [/h]والكنز: المال المدخور، عبر بـ(تحت) دون ( من تحت) لأن التركز فيه على أن شيئا تحت شيء على التحتية وأن الكنز كائن تحت الجدار ؛ لأن عادة الكنز أن يحفر له ويدفن ويتوثق من حفظه بدليل أنه لم يكتف بالحفر حتى بنى فوقه جدارا ، والمعنى (تحت) أساسه الذي بني عليه في باطن الأرض ، وذلك أحفظ له ، وليس النظر هنا إلى ابتداء شيء من شيء ، وإنما شيء تحت شيء .
[h=1]*************[/h]
[h=2]الآية الثانية: [/h][h=1]{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (20/6).[/h]ذكر تحت لأنه أراد عموم ما تحت الثرى وجميعه فما تحت الثرى كله له سبحانه ، و ليس النظر هنا إلى ابتداء شيء من شيء ، وإنما شيء تحت شيء ، و { الثرى } التراب الندي [16] .
فما وارى الثرى من كل شيء له سبحانه : ملكا وخَلقا فيشمل ما هو في باطن الأرض كله وهو تخوم الأرض وطبقاتها إلى نهايتها فتشمل الكائنات و المعادن وفلزات وغير فلزات وجواهر ، وخص - سبحانه - ما تحت الثرى بالذكر ، مع أنه داخل في قوله : { وَمَا فِي الأرض } لزيادة التقرير ، ولتأكيد شمول ملكيته - سبحانه - لكل شيء فالكائنات التي تحت الثرى اكثر بكثير مما هو فوق الأرض .
[h=1]*************[/h]
[h=2]الآية الثالثة : [/h][h=1]{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} (41/29).[/h]المراد أنهم تمنوا لشدة عداوتهم لهما والحنق والتحرق على الانتقام منهما وبغضهم إياهما أن يدوسوهما بغاية القوة ويذلوهما غاية الإذلال ليبالغوا في جعلهما في أقصى غايات السفول والتحتية ، وهذا يناسبه حذف (من) ويؤيده { ليكونا من الأسفلين }أي مكانا أو ذلا
، و ليس النظر هنا إلى ابتداء شيء من شيء ، وإنما شيء تحت شيء في غاية السفول .
قال ابن عاشور: والأسفلون : الذين هم أشد حَقارة من حقارة هؤلاء الذين كفروا ، أي ليكونوا أحقر منا جزاء لهم ، فالسفالة مستعارة للإِهانة والحقارة .
قال أبو السعود: { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } أيْ ندوسُهُما انتقاماً منهُمَا وقيلَ : نجعلْهُما في الدركِ الأسفلِ ، { لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين } أي ذلاً ومهانةً أو مكاناً.
قال البقاعي: { نجعلهما تحت أقدامنا } في النار إذلالاً لهما كما جعلانا تحت أمرهما { ليكونا من الأسفلين } أي من أهل الدرك الأسفل وممن هو دوننا كما جعلانا كذلك في الدنيا في حقيقة الحال بإتباعنا لهما فيما أراد بنا.
[h=1]*************[/h]
[h=2]الآية الرابعة: [/h][h=1]{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا }(48/18).[/h]لأن المراد أن الشجرة فوقهم وهم أسفلها وهذا يناسبه (تحت الشجرة) وليس (من تحت) لأن (من تحت) فيها معنى ابتداء شيء من شيء : يقال جئتك من تحت الشجرة وليس جلست من تحت الشجرة .
قال البقاعي: وزاد الأمر بياناً وقيده تفضيلاً لأهل البيعة بقوله : { تحت الشجرة }، واللام للعهد الذهني ، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية ، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان.
[h=1]*************[/h][h=2]الآية الخامسة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (66/10).[/h]عبر سبحانه هنا بأقوى التعبيرات الدالة على أن أحدا لا يغني عن أحد فعبر أولا بأنهما تحتهما وهذه من الكنايات القوية في قوة الصحبة لَيْلًا وَنَهَارًا يُؤَاكِلَانِهِمَا وَيُضَاجِعَانِهِمَا وَيُعَاشِرَانِهِمَا أَشَدَّ الْعِشْرَةِ وهي عشرة الزوجية، ولم يقل: تحتهما، بل أظهرهما بوصف العبودية المضافة إليه سبحانه وتعالى(تحت عبدين من عبادنا ) ثم زاد الوصف بالصلاح لأن ذلك أفخم لأن آثر الناس عند الملك كما تقدم عبيده ، فيكون أشد تأثيراً للموعوظ وأعظم،فبالرغم أنهما عبدان صالحان في غاية الصلاح والقرب من الله تعالى ومع ذلك لم يغنيا عنهما من الله شيئا .
فالتعبير بالتحت بدون (من) هو المناسب لأن المراد أنهما تحتهما في المضاجعة والزوجية وهذا أقوى في بيان التمكن والقرب ، ولأنه ليس المراد ابتداء شيء من شيء حتى يؤتى بـ(من) فهذه الآية نحو (تحت الشجرة) .
قال ابن كثير : تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أَيْ: نَبِيَّيْنِ رَسُولَيْنِ عِنْدَهُمَا فِي صُحْبَتِهَالَيْلًا وَنَهَارًا يُؤَاكِلَانِهِمَا وَيُضَاجِعَانِهِمَا وَيُعَاشِرَانِهِمَا أَشَدَّ الْعِشْرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ .
قال المعجم الاشتقاقي ومعجم الهيئة المصرية : كناية عن الزوجية.
وقال ابن عاشور : والتحتية هنا مجاز في معنى الصيانة والعصمة ومنه قول أنس بن مالك في الحديث المروي في « الموطأ » وفي « صحيح البخاري » عن أم حرام بنت ملحان : « وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت » .وقال ابن عاشور: عند قوله تعالى حاكيا عن فرعون: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} : كِنَايَةً عَنِ التَّسْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ [التَّحْرِيم: 10] أَيْ كَانَتَا فِي عِصْمَتِهِمَا. وَيَقُولُ النَّاسُ: دَخَلَتِ الْبَلْدَةُ الْفُلَانِيَّةُ تَحْتَ الْمَلِكِ فُلَانٍ
[h=1]*************[/h]
[h=1]ثانيا : ( تحت) مع (منْ) : (من تحت): [/h]وردت في خمسة مواضع : { 5/66) (6/65) (19/24) (29/55) (39/16) غير
{من تحتها الأنهار} التي ستأتي في مبحث مستقل.
[h=2]الآية الأولى :[/h]{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) ) { 5/66) .
تقدم الكلام عليها في بحث (فوق ، من فوق) .
[h=1]*************[/h]
[h=2]الآية الثانية :[/h]{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) (6/65).
تقدم الكلام عليها في بحث (فوق ، من فوق) .
[h=1]*************[/h]
[h=2]الآية الثالثة: [/h][h=1]{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (19/24)}.[/h]لأن المراد أن جهة النداء وابتداء النداء كان من مكان أسفل منها من تحتها ، ثم هو قريب منها سواء قلنا المنادي جبريل أم عيسى عليهما الصلاة والسلام .
قال ابن عطية : «مِن تحتها »: بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية.
قال السمين الحلبي: ومعنى كونِه { مِن تَحْتِهَآ } أنه في مكانٍ أسفلَ منها ، أي : جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ.
قال الآلوسي: ومعنى { من تحتها } من مكان أسفل منها وكان واقفاً تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفاً ". أي إذا قلنا المنادي جبريل عليه السلام.
[h=1]*************[/h]
[h=2]الآية الرابعة: [/h]{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }(29/55).
تقدم الكلام عليها في بحث (فوق ، من فوق) .
[h=1]*************[/h][h=2] الآية الخامسة: [/h]{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ }(39/16).
تقدم الكلام عليها في بحث (فوق ، من فوق) .
[h=1]*************[/h]


ثالثا: تجري من تحتها الأنهار ، تجري من تحتهم الأنهار:
[h=1]{ تجري من تحتها الأنهار} : في كل القرآن (2/25) ( 2 /266 ) (3 / 15) ( 3/ 136) ( 3/ 195) (3 /198 ) (4 /13 ) ( 4 / 57) ( 4 /122 ) ( 5/12 ) (5 / 85) ( 5 /119 ) (9 /72 ) (9 /89 ) ( 13 /35 ) ( 14 /23 ) ( 16 /31 ) ( 19 / 24) ( 20/76 ) ( 22/14 ) (22 /23 ) (25 /10) ، ( 29 / 58) ، ( 39 /20 )، ( 47/ 12) (48 /5 ) ( 48 /17 ) ( 57 / 12) ( 58/ 22) ( 61/12 ) (64 / 9) ( 65 / 11) (66 /8 ) (85 / 11) ( 98/8 ).[/h]*************
من تحتي: (43/51)
*************
{ تجري من تحتهم }: (6/ 6) ( 7 / 43) ( 10/9 ) ( 18/31 ) ، ( 39/ 16).
[h=1]أولا : معنى الجري:[/h]الجري: الحركة والمر السريع المسترسل المتصل وهو إسراع حركة الشيء ودوامها ، حركة منظمة دقيقة في طول مكان.
قال الحرالي :" من الجري وهو إسراع حركة الشيء ودوامها ".
قال الراغب: الجري :" المر السريع وأصله كمر الماء وما يجري بجريه" .
قال التحقيق: الحركة المنظمة الدقيقة في طول مكان ويعبر عنه بالانسياح.
قال النورسي في إشارات الإعجاز[17]: أحسن الرياض ما فيها ماء، ثم أحسنها ما يسيل ماؤها. ثم أحسنها ما يجري جريا ثم ما استمر جريه فدل على كل هذا بلفظ (تجري) الذي فيه تصوير ذلك .
[h=1]ثانيا : معنى تحتها هل تحت أشجار الجنة وثمارها وغروسها ، أم تحت ما ذكر وتحت غرفها ومبانيها ومساكنها أيضا : [/h][h=1]في معنى جري الأنهار من تحت الجنات قولان متقاربان يجتمعان ولا يتعارضان : [/h][h=2]القول الأول:[/h][h=1]أن أنهار الجنة جارية تحت أشجار الجنة وثمارها وغروسها ؛لأن المراد بذكر الجنة أشجارها وثمارها وغروسها ، كما ترى الأنهار الجارية تحت الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار ، وليس المراد أن الأنهار تجري تحت الأرض ، والمراد جريانُها بغيرِ أخدودٍ ، فأنهار الماء واللبن والخمر والعسل تجري زيادة في بهجتها ودوام زهرتها ونضرتها فهي لا تزال يانعة غضة .[/h][h=1]اختار هذا : الطبري الزمخشري والراغب ، البيضاوي ، النيسابوري ، الطوسي ، الماوردي والسمعاني ، ابن الجوزي ، ابن أبي زمنين ، وأبو السعود وغيرهم .[/h]قال الزمخشري: "فإن قلت : كيف صورة جري الأنهار من تحتها ؟ قلت : كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية ، وعن مسروق : أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود ، وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظللة ، والأنهار في خلالها مطردة . ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط حتى يجري فيها الماء ، وإلا كان الأنس الأعظم فائتاً ، والسرور الأوفر مفقوداً ، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها ، وصور لا حياة لها ، لما جاء الله تعالى بذكر الجنات مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها مسوقين على قرن واحد كالشيئين لا بد لأحدهما من صاحبه ، ولما قدّمه على سائر نعوتها.
قال الراغب في تفسيره : إن قيل: لم قال: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وقد علم أن الماء في البساتين إذا كان جارياً على وجه الأرض أحسن منها إذا كان جارياً تحتها؟ قيل: عنى أنهاراً جارية تحت الأشجار، لا تحت الأرض، وقد روي عن مسروق ما يدل على ذلك، وهو أن كل أنهار الجنة تجري في غير أخاديد، قال ابن عاشور - : ومعنى { من تحتها } من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات ، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير :
شُجَّت بذِي شبَمٍ من ماء مَحنية *** صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمولُ والتحت اسم لجهة المكان الأسفل وهو ضد الأعلى ، ولكل مكان علوٌّ وسفلٌ ولا يقتضي ذلك ارتفاعَ ما أضيف إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله
[h=2]القول الثاني:[/h][h=1] كالقول الأول قالوا تحت أشجار الجنة وثمارها وغروسها إلا أنهم زادوا تجري تحت غرفها ومبانيها ومساكنها وغيره.[/h]اختار هذا : ابن كثير ، ابن عطية ، السمرقندي ، الثعلبي ، مكي ، الواحدي ، البغوي الطبرسي ، ابن جزي ، الخازن ، والطبراني ، وغيرهم .
قال ابن كثير : أَيْ تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا
ـــــــــــــــــــــــــ
[h=1]ثالثا : معنى (من) في (من تحتها الأنهار) من حيث النحو : [/h][h=2]للعلماء أربعة أقوال في معنى (من) في { من تحتها}: [/h][h=2]القول الأول : [/h][h=2]قالوا (من) ابتدائية أي لابتداء الغاية .[/h]اختاره : أبو حيان والسمين الحلبي وكذا ابن عاشور في بعض المواضع وهو قول المحققين .
قال أبو حيان: ومن قال: إن من زائدة والتقدير تجري تحتها، أو بمعنى في، أي في تحتها، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية، بل هي متعلقة بتجري، وهي لابتداء الغاية.
قال السمين الحلبي: و { مِن تَحْتِهَا } متعلقٌ بتجري ، و " تحت " مكانٌ لا يَتَصَرَّفُ ، وهو نقيضُ " فوق " ، إذا أُضيفا أُعْرِبَا ، وإذا قُطِعَا بُنِيَا على الضم . و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ وقيل : زائدةٌ ، وقيل : بمعنى في ، وهما ضعيفان .
[h=2]القول الثاني: [/h][h=2]قالوا (من) زائدة .[/h][h=2]اختاره: جماعة منهم ابن مالك واختاره ابن عاشور في التوبة وذكره احتمالا الإمام الرازي [/h].قال الصبان: وفي التصريح [18]عن الناظم أن من الداخلة على قبل وبعد وأخواتهما زائدة
[h=2]القول الثالث:[/h][h=2]قالوا (من) بمعنى (في).[/h]اختاره جماعة منهم الرضي .
" قال الرضي ومن الداخلة على الظروف غير المتصرفة أكثرها بمعنى في نحو جئت من قبلك ومن بعدك {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] ، وأما جئت من عندك وهب لي من لدنك فلابتداء الغاية. ا. هـ.
[h=2]القول الرابع :[/h][h=2] قالوا (من) للتبعيض اختاره البقاعي والرازي في بعض المواضع.[/h][h=2]قال البقاعي : ولما كان تفرق المياه في الأراضي أبهج ، بَعَّضَ فقال : { من تحتها الأنهار } " وسيأتي تفصيل هذا القول [/h]
[h=1]الراجح : [/h]هو القول الأول ، وهو أنها لابتداء الغاية؛ فهي لبيان مبدأ شيء من شيء ، فالشيء مبتدئ من كذا ، فالأنهار وتدل أيضا على القرب الشديد ، لأنها لابتداء الغاية في أول أمكنة التحتية فتحصل أنها تفيد أمرين :
[h=2]الأمر الأول :[/h][h=2]أن مكان وابتداء جري الأنهار من منطقة التحت التي تفيد تخلله فيها، فالأنهار تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا منتشراً بين أشجارها.[/h][h=2]الأمر الثاني :[/h]قرب النهر الجاري، وهذا من فوائد ه سهولة الانتفاع والتلذذ بالشرب والنظر والمشاهدة بحيث يروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان مع سماع صوت خرير الماء .
وكان هذا القول هو الأرجح وهو أنها لابتداء الغاية ؛ لأنه المعنى الأصلي لـ(من) عند محققي النحاة([19]) ولأن المعنى أظهر عليه ،قال أبو حيان عند تفسير {تجري من تحتها الأنهار} :" ومن قال : إن (من) زائدة والتقدير تجري تحتها ، أو بمعنى في ، أي في تحتها ، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية ، بل هي متعلقة بتجري ، وهي لابتداء الغاية" .
قال السمين الحلبي : " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ وقيل : زائدةٌ ، وقيل : بمعنى في ، وهما ضعيفان.
[h=1]*************[/h]





[h=1]رابعا : تفصيل القول في معنى (من تحتها)ودلالتها عند المفسرين مع تطبيقها على المعاني السابقة لـ(من) : [/h][h=1]القول الأول:[/h][h=1] وهو الأرجح عندي أن (من) لابتداء الغاية تفيد أمرين كما تقدم : [/h][h=3]الأمر الأول :[/h][h=2]أن مكان وابتداء جري الأنهار من منطقة التحت التي تفيد تخلله فيها، فالأنهار تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا منتشراً بين أشجارها.[/h][h=3]الأمر الثاني :[/h]قرب النهر الجاري، وهذا من فوائد ه سهولة الانتفاع والتلذذ بالشرب والنظر والمشاهدة بحيث يروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان مع سماع صوت خرير الماء .
اختار هذا القول : البقاعي في عدة مواضع والنورسي وهو ظاهر كلام ابن كثير والصابوني .
قال البقاعي : ودل على قرب الجاري وتخلله الأراضي بالجار فقال : { من تحتها } أي تحت أشجارها وغرفها وكل متنزه فيها { الأنهار } فهي لا تزال غضة زهراء.
وقال البقاعي في موضع آخر : { جنّات } أي بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ، ورياض مديدة منوعة الأزاهير [SUP]23[/SUP] عطرة النشر تبهج رائيها ، وأشار إلى دوام ريها بقوله : { تجري } ولما كان عموم الماء لجميع الأرض غير [SUP]24[/SUP] ممدوح [20]، بين أنه في خلالها على أحسن [SUP]25[/SUP] الأحوال فقال : { من تحتها } وبين عظمه بقوله : { الأنهار}
وقال البقاعي في سورة البروج : { تجري } وقـَرَّبَ منالها بالجار فقال : { من تحتها } أي [SUP]5[/SUP] تحت غرفها وأسرتها وجميع أماكنها { الأنهار } يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحر الذي صبروا عليه في الدنيا ويروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان والوجوه الحسان الجالبة للسرور الجالية- [SUP]6[/SUP] للأحزان .وقال البقاعي : وبين قرب الماء من وجهها بقوله : { من تحتها الأنهار } أي فهي دائمة النمو [SUP]8[/SUP] والبهجة والنضارة والثمرة لأن أصول أشجارها ربى وهي بحيث متى أثرت بقعة مناه أدنى أثارة جرى منها نهر . قال البقاعي: ولما كان الماء لا يحسن إلا بقربه وانكشافه عن بعض الأرض قال : { من تحتها الأنهار } أي من [SUP]30[/SUP] شدة الريّ البقاعي -وأفهم القرب بإثبات الجارّ فقال : { من تحتها الأنهار }
قال النورسي في إشارات الإعجاز: تحت تَحْت مقابل لفوق، و «تحت» : فاعلم! كما مر ان أوّل حاجات الانسان الضرورية - لأنه جسم - المكان والمسكن؛ وان أحسن المكان هو المشتمل على النباتات والأشجار، وان ألْطفَه هو الذي يتسلل بين خضراواته الماء، وان اكمله هو الذي تجري بين أشجاره وتحت قصوره الأنهار بكثرة. فلهذا قال (تجري من تحتها الأنهار) ـ ــ ـ ـ واما (من تحتها) فاعلم! ان أحسن الماء الجاري في الخضراوات ان ينبع صافيا من تلك الروضة [21]، ويمر مُتَخَرْخِراً تحت قصورها، ويسيل منتشراً بين أشجارها فاشار بـ (من تحتها) الى هذه الثلاثة.. "اهـ
قال ابن كثير : أَيْ تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا .الصابوني": تجري من خلال جوانبها وأرجائها الأنهار وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ولهم جنات تجري خلال أشجارها الأنهار "
يقول علي هاني : ويدل أن (من) تفيد أيضا القرب مقابلة القرآن {تجري من تحتها الأنهار } بقوله تعالى { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } الدالة على القرب والإحاطة في عذاب الكفار في سورة الزمر:قال تعالى { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ
قال ابن عطية : وقوله تعالى : { من تحتها } أي من تحت الغرف ، وعادلت { غرف من فوقها غرف } ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم .
قال سيد قطب : ومشهد الغرف المبنية ، من فوقها غرف ، تجري الأنهار من تحتها . . هذا المشهد يتقابل مع مشهد ظلل النار هناك من فوقهم ومن تحتهم . هذا التقابل الذي ينسقه التعبير القرآني وهو يرسم المشاهد للأنظار .
[h=1]القول الثاني : [/h][h=1]قالوا (من) لابتداء الغاية لكن قالوا (من) تفيد أن هذه الأنهار تجري من الجنة نفسها وليس من موضع آخر كما يحصل في بعض البلاد يأتيها نهر من خارجها كنهر النيل لمصر مثلا .[/h]ذكره الإمام الرازي واختاره الشعراوي والبقاعي في بعض المواضع .
[h=1]القول الثالث:[/h] اختاره البقاعي في بعض المواضع .
قال: (من) تفيد أن أرضها في غاية الرِّيّ ، فكل موضع منها صالح لأن يُجري منه المؤمنُ نهرا كقوله تعالى { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)} البقاعي { تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت غرفها وأسرتها وأرضها ؛ فلا يراد موضع منها لأن يجري فيه نهر إلا جرى.
قال البقاعي : أي إن أرضها في غاية الريّ ، كل موضع منها صالح لأن تجري منه نهر . وقال البقاعي في موضع آخر: { من تحتها الأنهار } أي المياه الواسعة ، أينما أردت من أرضها جرى لك نهر في مقابلة ما يجري من فوق رؤوس أهل النار .
وقال البقاعي : { تجري من تحتها الأنهار } أي تكون أرضها عيوناً نابعة ، أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى ، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجه في استثمارها إلى سقي.
و قال البقاعي : ثم وصفها بقوله : { تجري من تحتها الأنهار } أي أن ماءها غير مجلوب، بل كل مكان منها متهيئ لأن ينبع منه ماء يجري لتثبت بهجتها وتدوم زهرتها ونضرتها .
يقول علي هاني : لعل هذا القول يجعل (من) لابتداء الغاية مع التأكيد.
[h=2]القول الرابع :[/h][h=1] قالوا (من ) تفيد التبعيض فهي تفيد أن الأنهار لم تعم جميع الجنة بل في بعض أجزائها ، فالأنهار متفرقة في نواح من الجنات، قالوا وهذا هو الأنفع الأجمل لأن كثرة الأنهار تغرق .[/h][h=1]اختاره البقاعي والرازي في مواضع .
قال البقاعي: " ولما كان تفرق المياه في الأراضي أبهج ، بعض فقال : { من تحتها الأنهار }".
[/h]وقال البقاعي : "{ جنات تجري } وبين أن الماء غير عام لجميع أرضها بإدخال الجار فقال : { من تحتها الأنهار .
وقال البقاعي : ولما كانت العلالي لا تروض إلا بالرياض قال : { تجري } ولما كان عموم الماء لجهة التحت بالعذاب أشبه ، بعضه فقال : { من تحتها الأنهار } البقاعي ولما كانت المياه لو عمت الأرض لم يكن بها مستقر ، أثبت الجار فقال [SUP]40[/SUP] :{ من تحتها الأنهار } .
وقريب منه ما قال الفخر الرازي :" { من تحتها } إشارة إلى عدم التنغيص ، وذلك لأن التنغيص في البستان ، إما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم ، وإما بسبب الغرق والكثرة ، فذكر من تحتها .
[h=1]القول الخامس : الجمع بين القرب والتبعيض فـ(من) ابتدائية تبعيضية .[/h] البقاعي : { تجري } أي جرياً دائماً لا انقطاع له . ولما كان عموم الماء مانعاً من تمام اللذة ، قرب وبَعَّضَ بقوله : { من تحتها }.
[h=1]القول السادس: [/h][h=1] زائدة للتأكيد المؤذن بكمال العناية فلا يكون هذا الجري إلا أكمل نوعه.[/h][h=1] وهو قول ابن مالك واختاره ابن عاشور في التوبة وذكره احتمالا الإمام الرازي .[/h]قال الفخر الرازي :
"المسألة الثانية : ذكرنا مرارا أن (من) في قوله { من تحتها الأنهار } يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار ـ ـ".
قال ابن عاشور في سورة التوبة في قوله تعالى { تجري تحتها} بدون (من) :" وقد خالفت هذه الآية عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها ( مِنْ ) مع ( تَحتِها ) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء ، فتكون خالية من التأكيد إذ ليس لحرف ( من ) معنى مع أسماء الظروف إلا التأكيد ، ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ، ومن فعل ( أعد ) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه ، وثبتت ( مِن ) في مصحف مَكة ، وهي قراءة ابن كثير المكي ، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين .
[h=1]خامسا : دلالة { تجري تحتها الأنهار } بدون (من) الواردة في التوبة : [/h][h=1]{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } قرأ جميع القراء بحذف من إلا ابن كثير المكي قرأ بزيادة (من)[/h][h=1] (من تحتِها }وكذلك هي في المصحف المكي وقد تقدم توجيه ذكر من .[/h][h=1]وفي توجيه حذف (من) في هذه الآية ثلاثة أقوال : [/h][h=1]القول الأول :[/h]وهو المختار عندي ، واختاره البقاعي، وبعض شيوخ موقع أهل التفسير .أن هذه الآية جاءت في وصف أعلى طبقة في هذه الأمة بعد الأنبياء وهم {السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان} فحذف (من) لبيان عظم وكثرة ما يؤتون من الأجر الذي يفضلون به على غيرهم فحذف (من )للتركيز على وفرة هذه الأنهار وأنها واصلة إلى عمق كبير فهو ماء وافر كثير مغدق يناسب حسن أعمالهم وسبقهم كما تقدم في الفرق بين (فوق) و(من فوق) (وتحت ومن تحت ) .
بخلاف (من تحتها) ففيها وصف جمال الجنة بتخلل أنهارها وقربها ، فالتركيز فيها على أمرين : أن مكان وابتداء جري الأنهار من منطقة التحت التي تفيد تخلله فيها، فالأنهار تَتَخَرَّقُ فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا منتشراً بين أشجارها والأمر الثاني : لتدل على قرب الأنهار ، وهذا من فوائد ه سهولة الانتفاع والتلذذ بالشرب والنظر والمشاهدة بحيث يروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان مع سماع صوت خرير الماء
، ولكل مقام مقال فعند ذكر كثرة أجرهم وعظمة أجرهم حذف (من) للدلالة على الكثرة والوفرة والعموم ، وفي مقام ذكر جمال الأنهار وجمال الجنات وسهولة تناول الأنهار ذكر (من تحتها)؛ ليدل على قرب النهر الجاري الذي من فوائد ه سهولة الانتفاع والتلذذ بالشرب والنظر والمشاهدة ويروقهم النظر إليها مع خضرة الجنان مع سماع صوت خرير الماء .
قال البقاعي في سورة التوبة عند هذه الآية : { جنات تجري }: ونبه على عموم ريّها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة الجماعة فقال : { تحتها الأنهار } أي هي كثيرة المياه . فكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه نهر ولما كان المقصود من الماء إنما هو السهولة في إنباطه بقربه ويسر جريه وانبساطه أثبته ابن كثير[من تحتها] دلالة على ذلك كسائر المواضع، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف لأنه يخص هذه الأمة، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رياً وحسناً وزياً. ".
قال أبو أحمد وهو من المشاركين لموقع أهل التفسير :" المتدبر في سياق الموضعين يجد الجواب ففي سورة التوبة "تجري تحتها الانهار" بدون "من" وهي قراءة العامة, وهي الوحيدة في كتاب الله, و"تجري تحتها" أعم من" تجري من تحتها", فحرف ( من) يأتي هنا للتخصيص والقرب, ويناسب مجيء الآية بغير من ما ذكر من تعميم لذكر لمؤمنين ,السابقين الاولين من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان" فالآية جمعت كل المؤمنين بحق وعمتهم جميعا, من أجل ذلك عمم الله الجزاء والنعيم " .
[h=1]القول الثاني:[/h]اختاره الخطيب الإسكافي في درة التنزيل والسامرائي والكرماني والشعراوي.
[h=1]على النقيض من القول الأول ، فهم جعلوا جميع ما في القرآن { من تحتها}أبلغ في بيان النعيم من { تجري تحتها} في التوبة ، قالوا: لأن سورة التوبة ذكرت المؤمنين وليس فيهم الأنبياء ، بخلاف بقية المواضع فهي تشمل الأنبياء ولا شك أن الثواب الذي يكون فيه الأنبياء أعظم ، وبيان وجه المبالغة في (من تحتها ) أن (من) لابتداء الغاية، تفيد أن منابع الأنهار من تحت المنازل، وأن الجنات مبنية على أوائل الأنهار، ومبادئُ الأنهارِ أشرفُ، وأوائلها في العادة أنظف مما بعدها، والجنات التي مبادئ الأنهار من تحت أشجارها أشرف من غيرها.[/h]قال في درة التنزيل : و(من) لابتداء الغاية، والأنهار مباديها أشرف، والجنات التي مبادئ الأنهار من تحت أشجارها أشرف من غيرها، فكل موضع ذكر فيه (من تحتها) إنما هو عام لقوم فيهم الأنبياء، والموضع الذي لم يذكر فيه (من) إنما هو لقوم مخصوصين، ليس فيهم الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة براءة، {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا}، فجعل مبادئ الأنهار تحت جنات أخبر الله أنها للصادقين والمؤمنين والذين عملوا الصالحات، وفيهم الأنبياء عليهم السلام، بل هم أولهم، والمعتاد أنها أشرف الأنهار، والآية التي في سورة المجادلة فيها الأنبياء عليهم السلام والآية التي في سورة براءة قد خرج الأنبياء عنها، لأن اللفظ لم يشتمل عليهم، فلم يخبر عن جناتهم بأن أشرف الأنهار على مجرى العادة في الدنيا تحت اشجارها كما أخبر به عن الجنات التي جعلها الله لجماعة خيارهم الأنبياء عليهم السلام، إذ لا موضع في القرآن ذكرت فيه الجنات وجري الأنهار تحتها إلا ودخلتها (من) سوى الموضع الذي لم ينطو ذكر الموعودين فيه على الأنبياء عليهم السلام، فهذا الكلام في من تحتها، اعتبروا بما ذكرت ما جميع القرآن.
قال الكرماني في غرائب التفسير وعجائب التأويل : سؤال: لِمَ قال في هذه السورة (تَحْتَهَا) من غير (مِنْ) ، وفي سائر القرآن: (مِنْ تَحْتِهَا) بإثبات (مِنْ) ؟الجواب: لأن (مِنْ) في قوله (مِنْ تَحْتِهَا) أفاد عند عامة المفسرين فصارت الجنات إذا ذكر معها (مِنْ) أبلغ في الوصف من المطلقة المهملة ، وعَامة ما جاء في القرآن قد تقدمها ذكر الأنبياء - عليهم السلام - إما صريحاً، وإما كناية، أو ما تقدمه وصف يصلح للأنبياء، أو كان ذكرها ضرباً للمثل فذكرت الجنات لمكانهم - صلوات الله عليهم - على أحسن وصف وأبلغ وصف، وما في هذه السورة مقطوع به أنه خلاف ما تقدم من صريح ذكر الأنبياء وكنايتهم، ولم يكن وصفاً يصلح لهم، لأنها نزلت في المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وهو قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) ، فلم يبالغ في ذكر الجنات تلك المبالغة، - والله أعلم –
قال السامرائي: لأن بداية الجريان من تحتها، العيون تنبع من تحتها فيصير مشهد الجري مع مشهد بدايته من تحتها (تحتها) ليس بالضرورة أن يكون المنبع تحتها لكن (من تحتها) أي بداية الجريان من تحتها يتمتع بمشهد الجري وبداية الجري.
أما لماذا قال في آية واحدة فقط (تجري تحتها) ؟ كل آية فيها (تجري من تحتها الأنهار) معهم الأنبياء، المؤمنين والمؤمنات معهم أنبياء. أما في آية سورة التوبة فليس معهم أنبياء {َالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} ليس معهم نبيّ. كل الآيات الأخرى على الإطلاق معهم الأنبياء وهذه ليس معهم الأنبياء. تجري من تحتها أي منبع الأنهار من تحتها.
قال الشعراوي : على أن هناك آيات أخرى تقول: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ما الفرق بين الاثنين. . تجري تحتها الأنهار. . أي أن نبع الماء من مكان بعيد وهو يمر من تحتها. . أما قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} فكأن الأنهار تنبع تحتها. . حتى لا يخاف إنسان من أن الماء الذي يأتي من بعيد يقطع عنه أو يجف. . وهذه زيادة لاطمئنان المؤمنين أن نعيم الجنة باق وخالد. .
[h=1]القول الثالث: أن ذكر (من) يفيد التأكيد وحذف (من) لا يفيده .[/h]قال ابن عاشور : وقد خالفت هذه الآية ـ يعني آية سورة التوبة (تجري تحتها} ـ عند معظم القراء أخواتها فلم تذكر فيها ( مِنْ ) مع ( تَحتِها ) في غالب المصاحف وفي رواية جمهور القراء ؟ ويكون خلو الجملة من التأكيد لحصول ما يغني عنه من إفادة التقوي بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ، ومن فعل ( أعد ) المؤذن بكمال العناية فلا يكون المعد إلا أكمل نوعه .
وثبتت ( مِن ) في مصحف مَكة ، وهي قراءة ابن كثير المكي ، فتكون مشتملة على زيادة مؤكدين .
[h=1]مناقشة القول الثاني والثالث : [/h]يقول علي هاني: قد تقدم في تحقيق معنى(من تحتها) القول المختار في بيان ذكر (من) ، ويرد على كلام هؤلاء الأعلامِ الكرامِ الذين اختاروا القولَ الثانيَ ـ الآية ُ التي ورد فيها قولُ فرعون : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } هل معناه أن النيل ينبع من تحته ؟ لا شك ان الجواب: لا، لأنه ينبع من غير مصر فقولهم لا يستقيم ، هذا أولا.
ثم ثانيا: لا شك أن السياقين ليس بينهما تقابل بل لكل مقام مقال كما تقدم فلما أراد بيان الوفرة في الجزاء وهذا يناسب حال السابقين حذف (من)، ولما أراد بيان جمال الجنات ذكر (من) .
ثم ثالثا : ذِكْرُ دخول ِ الأنبياء وعدمِ دخولهم بعيد من السياقات ؛ لأن الكلام في معظم السياقات على المؤمنين وجزاء المؤمنين الذين منهم السابقون وأصحاب اليمين، وكلهم ذكر في جزائهم جريان الأنهار من تحت جناتهم .
وأما القول الثالث القائل بالزيادة فيرد من جهة النحو والمعنى ، أما النحو فـ(من) لا تزاد عند الجمهور إلا إذا سبقت بنفي أو استفهام وهو غير موجود هنا ، وأما من حيث المعنى فحمل الحرف على معنى غير الزيادة التي تفيد التأكيد أولى إن أمكن وهو هنا متأت كما بين من قبل.
فلذلك أرجح القول الأول والله أعلم بمراده .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[h=1]خامسا : بيان معنى التحتية { تجري من تحتهم}:[/h]{ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا } آخَرِينَ } (6/6)
جعلنا الأنهار تجرى من تحت مساكنهم و أمكنتهم التي يبنونها على ضفافها وتحت غرفهم وقصورهم و من بين أيديهم ، فيتمتعون بالنظر إلى جمالها ، وبسائر ضروب الانتفاع من أموالها ، فإن الماءَ الجاري يعلوه القائم والقاعد ، والمراد أنهم عاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار و البساتين والقصور والمنتزهات فالأنهار يلازمها البساتين والرياض ، فقد غزرت نباتهم وأخضرت سهولهم فكثرت زروعهم وثمارهم ، فاتسعت أحوالهم وكثرت أموالهم فتيسرت آمالهم ، و( من تحتهم ) متعلق بـ(تجري) ، وفيه من الدلالة على كونها مسخّرةً لهم مستمرةً على الجريان على الوجه المذكور ما ليس في أن يقالَ : وأجرينا الأنهارَ من تحتهم.
[h=1]*******************[/h]{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (7/43).
{ ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (10/9).
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } (18/ 31).
جريان الأنهار من تحتهم يشمل أمرين:
1. من تحت قصورهم ومنازلهم وتحت غرفهم و، فيرونها وهم في قصورهم و غرفاتهم ومنازلهم تتدفق في جناتها وبساتينها يرونها من علو ؛ زيادة في لذتهم وسرورهم فيزدادون حبورا لا تشوبه شائبة كدر ؛لأن أفضل المنازل ما يجرى فيه الماء.
2. و من بين أيديهم وأسرّتهم فهم يكونون جالسين على سررهم في البساتين على ضفاف الأنهار ، والأنهار تجري من بين أيديهم ، أي من دونهم وبين أيديهم كقوله تعالى { قَدْ جَعَلَ رَبّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا} وكما قال حكاية عن فرعون { وهذه الأنهار تجري من تحتي }، ومعلوم أنه لم يجعل السريّ تحتها وهي عليه قاعدة ، إذ كان السريّ هو الجدول ، وإنما عني به جعل دونها : بين يديها فإن ما التصق بالأرض مطلق عليه أنه تحت ما كان منتصبا أو مرتفعا عليه ، وليس التحت الذي هو
بالمما سة بل يكون إلى الناحية والجانب وبين اليدين ، وكذلك يقال في {الأنهار تجري من تحتي} .
ووجه إيثار إضافة ( تحت ) إلى ضميرهم دون ضمير الجنات لبيان زيادة سرورهم وتنعمهم لتتقرر بشارة المؤمنين أتَمّ تقرر ، ولأنها صورة أخرى غير صورة جري الأنهار من تحت أشجار وبساتين الجنة ، وجريان الأنهار مع جماله يشي بالري وبهجة المنظر واعتدال النسيم والخضرة والجمال.


[h=1]*******************[/h][h=1]سادسا شرح آية تحتاج مزيد توضيح : [/h][h=1]{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ } (43/51) [/h]معنى (من) في (من تحتي) كما تقدم في تجري من تحتها الأنهار لكن في معنى التحتية في قوله تعالى حاكيا عن فرعون (من تحتي) قولان :
[h=1]القول الأول :[/h]تحت قصري من أسفل مني وأنا مشرف عليها.
اختاره : الخازن وابن جزي والصابوني و المنتخب و مقاتل ومكي، والسمعاني و البغوي و ابن الجوزي والنسفي والجلال و الشوكاني و الوسيط لمجمع البحوث المصرية، الميرغني ابن سعدي.
قال الخازن: وكانت تجري تحت قصره وقيل معناه تجري بين يدي جناني وبساتيني، وقيل تجري.
[h=1]
القول الثاني:
[/h]من تحتي : أي من تحت قهري وملكي أي بأمري وقبضتي أضعها حيث شئت ، فهي كناية عن التسخير كما يقال : دخلت البلدةُ الفلانية تحت الملك فلان للتمكن من تصاريف النيل
اختاره :الحسن أبو حيان واطفيش الطوسي الواحدي الطبرسي الآلوسي وغيرهم .

[h=1]القول الثالث : قتادة الطبري مكي السمرقندي الثعلبي[/h]بين يدي الجنان والبساتين أي تجري بين يدي في جناني وبساتيني .
[h=1]الراجح عندي: [/h] أن القول الأول مراد أصالة والقولين الآخرين التزاما لأنها كناية أريد منها الحقيقة واللازم ، فالمراد تجري تحت قصري من أسفل مني وأنا مشرف عليها، وهذا يستلزم أنها تحت قهري وملكي بأمري وقبضتي أضعها حيث شئت كجناني وبساتيني ، وهذا مقصود الكلام فهي كناية عن التسخير ، فالأنهار التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل، وأعظمها نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ونهر طولون ، كانت تجري تحت قصره وممالكه بأمره وقبضته يضعها حيث شاء في أي موضع أراده ووجهها ، وهو مشرف عليها.
واختار الجمع البقاعي والمراغي
قال البقاعي: وكأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره ، ونحو ذلك من أموره فقال : { تجري من تحتي } أي من أي موضع أردته بما لا يقدر عليه غيري ، قال المراغي: حيث قال : أي إنه جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها وجري الأنهار المنبثقة من نهر النيل تحت قصوره وتحت جنانه وضياعه.
*******************************************

[h=1]المبحث الثالث: أمامه بحذف (من): [/h][h=1]أمامه : [/h]كلمة (أمام ) وردت في موضع واحد فقط حذف فيها (من) في سورة القيامة: ( بَلْ[22] يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) (75/5) .
حذف (من) ليدل على الانطلاق قدما بقوة واستيعاب لجميع الزمان المستقبل ، ولأنه ليس المراد أن شيئا مبتدئا من شيء بل ما تقدم.
يريد الإنسان أن يمضي أمامه قُدُما في معاصي الله راكبا رأسه في هواه فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه ، ولا يثنيه عنها شيء ، ولا يتوب منها أبدا ، ومطيع أمله ومسوفاً بتوبته ، فهذا الذي يحمله على الإعراض عن الإقرار بالبعث والنشور .
قال البقاعي قال معللاً : { ليفجر أمامه } أي يقع منه الإرادة ليقع منه الفجور في المستقبل من زمانه بأن يقضي شهواته ويمضي راكباً رأسه في هواه ، ونفسه الكاذبة تورد عليه الأماني وتوسع له في الأمل وتطمعه في العفو من دون عمل" .
وقال الراغب :" الفجر شق الشيء شقا واسعا ، قال : والفجور شق ستر الديانة"
فالفجور : شق حجاب الشرع شقا واسعا والانبعاث في المعاصي والشهوات والكفر من غير وازع ولا حياء ولا خوف أو وجل .
وسر اختيار أمامه دون (بين يديه) مع أنه الاستعمال الشائع في جميع القرآن الكريم لأن مادة (أم م) كأمَّ الشيء ، والإمام ، وأمَّة ) تدل القصد والتعمد والتوخي الذي لا ينحرف عنه ولا يلوي ، فهو قصد للشيء مع توجه إليه ، قال الراغب: " الأم القصد المستقيم وهو التوجه نحو مقصود" قال التحقيق: القصد مع التوجه الخاص إليه وهذا المعنى ملحوظ في جميع مشتقات أم ، فالأَمام (بالفتح) ما بين يدي الإنسان في قبال وجهه فيكون موردا للتوجه دائما " فاستعمال أمام هنا لا يصلح غيره مكانه ؛فإنه لما أراد أن المعنى الانطلاق قدما بقوة يمضي في معاصي الله راكبا رأسه في هواه فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه ، ولا يثنيه عنها شيء ، ولا يتوب منها أبدا ، كان أنسب لفظ لهذا لفظ الأمام .

[h=1]***********************************[/h][h=1]المبحث الرابع: الفرق بين (آناء) و(من آناء): [/h][h=1]وردت آناء في ثلاثة مواضع اثنان منها بدون (مِنْ) وموضع مع (مِنْ) [/h]{ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)}(3/113)
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ} (39/9)
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} (20/130)
(آناء) بدون (من) تفيد استغراق آناء وأوقات الليل حقيقة باستيعاب أوقات الليل أو حكما بأن يستغرق كثيرا من الليل كأنه قام جميع الليل ، كما في قوله تعالى { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا } التعبير بهذه الطريقة حيث لم يقل قم نصف الليل أو انقص بل قم الليل نصفه يفيد أن الأصل قيام كل الليل لولا أن طاقة البشر لا تطيقه ، ويفيد ـ كما نص العلماء ـ أن قيام نصف الليل بمنزلة قيام الليل في الأجر، وحذف من ذكر في سياق المدح .
وأما ذكر (من) فهي تفيد التبعيض مع الابتداء أي التسبيح يبتدئ من الآناء ولا يستوفي ، كما في خذ من الدراهم ، وهي تذكر في سياق التكليف فلما ذكر مدح فعل كبار الأولياء ذكر الآناء بدون (من) لإفادة الاستيعاب أو قريب منه كما في { أمن هو قانت آناء الليل } { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون فهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب عبد الله بن سلام فهي تشبه {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما }} { قم الليل إلا قليلا }، وأما في سياق التكليف فهو سبحانه ييسر عليهم فيقول من آناء الليل فسبح ، كما سيأتي .
وإليك التفصيل :
( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)(3/113)
قال أبو حيان :" { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله ، وعبَّر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن ـ ـ ـ وجاءت الصفة الأولى [ يتلون] بالمضارع أيضاً لتدل على التجدد ، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة ، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده وظاهر قوله : آناء الليل أنها جميع ساعات الليل ، فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة والسجود من كل شخص شخص ، وإنما يكون ذلك من جماعة منهم ؛ إذْ بعضُ الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة ". يقول علي هاني: نحن مع أبي حيان رحمه الله في إفادة آناء للاستيعاب لكن على المعنى الذي ذكرنا ؛لأنه أشد مدحا لا على المعنى الذي ذكره أبو حيان من أنه على التوزيع والله أعلم.


[h=1]*******************[/h][h=1]{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ }(39/9)[/h]حذف (من) يفيد الاستيعاب وأنهم يقومون معظم الليل كقوله تعالى { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ويقوي هذا اسم الفاعل في قانت و ساجدا وقائما ، قال البقاعي وتبعه الخطيب الشربيني: { آناء الّيل } أي جميع ساعاته .
قال الفخر الرازي: وعن قتادة { آناء الليل } ساعات الليل أوله ووسطه وآخره ، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار.
قال الأمثل : قوله تعالى : ( قانت آناء الليل ) وردت هنا بصيغة اسم فاعل ، وكلمة ( الليل ) جاءت مطلقة لتشير إلى استمرار عبودية وخضوع أُولئك لله سبحانه .
**************************
[h=1]{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [/h]جاءت هذه الآية مع (من) التي تفيد التبعيض عند تكليف المسلمين فهو سبحانه ييسر عليهم فهو يقول : { من آناء الليل فسبح}، وأيضا الكلام هنا في التسبيح كما هو ظاهر القرآن وهو جزء من العبادات وإن حملنا الآية على الصلوات الخمس كما حملها جمع من المفسرين فالتبعيض أيضا ظاهر[23] .
قال الطباطبائي : و{ من } للتبعيض.
يقول علي هاني: وإذا نظرنا لهذه الآية الكريمة رأينا أنه لم يدخل (من) في شيء من الظروف إلا آناء الليل ، فـ( قبل طلوع الشمس) و(قبل غروبها) كأنه يقول استوعب الوقت وكذلك أطراف النهار، أما الليل فاعتنى به عناية خاصة وأدخلت الفاء على { فسبح } لأنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان ، فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله صلى الله عليه وسلم « ففيهما فجاهد » ، أي الأبوين ، وقوله تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } ، ووجه الاهتمام بآناء الليل أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة فيخشى أن تتساهل في أداء الصلاة فيه ، ولكنه سبحانه خفف على هذه الأمة فقال ومن آناء ولم يقل آناء تخفيفا ، ففي الآية اهتمام وفي الوقت نفسه فيها تخفيف، قال البقاعي: " وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض ، لأن الليل محل الراحة ، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر ، لأن النهار موضع النشاط واليقظة [24]".
ويشبه هذه الآية الكريمة قوله تعالى { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}الإسراء
نص على التبعيض فيها: الزمخشري وابن عطية وأبو حيان والبيضاوي وابن عاشور وسيد طنطاوي، قال الزمخشري : { وَمِنَ اليل } وعليك بعض الليل { فَتَهَجَّدْ بِهِ }[25] .
ومثلها { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)}سورة ق
قال البيضاوي عند تفسيرها : { ومن الليل فسبحه } أي وسبحه بعض الليل.
وقال البقاعي : { ومن الليل } أي في بعض أقواته { فسبحه } بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل لأن الليل وقت الخلوات وهي ألذ المناجاة .
{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)}الإنسان.

قال الزمخشري عند تفسير هذه الآية : وبعض الليل فصل له . أو يعني صلاة المغرب والعشاء ، وأدخل ( من ) على الظرف للتبعيض ، كما دخل على المفعول في قوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ
قال الطبرسي: ( ومن الليل فاسجد له ) دخلت من للتبعيض ، والمعنى : فاسجد له في بعض الليل ، لأنه لم يأمره بقيام الليل كله . وقيل : فاسجد له يعني صلاة المغرب والعشاء .
قال البيضاوي : ومن الليل فاسجد له وبعض الليل فصل له تعالى ولعل المراد به صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص.
قال البقاعي : في قوله : { ومن الّيل } أي بعضه والباقي للراحة بالنوم { فاسجد له } أي فصل له صلاتي المغرب والعشاء ، وذكرهما بالسجود تنبيهاً على أنه أفضل الصلاة ، فهو إشارة إلى أن الليل موضع الخضوع ، وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص ومزيد الفضيلة [26].
وبما سبق من النقولات يتبين لنا الفرق بين {آناء}و{ من آناء}بدقة والله سبحانه الموفق.
*************************
[h=1]المبحث الخامس: معنى من في قوله تعالى { من أول يوم} .[/h]وردت من أول يوم في قوله تعالى : {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} (9/108).
(من) تفيد ابتداء الغاية مع التأكيد والاستيعاب للأوقات كلها ، ببيان أنه من أول يوم منذ اللبنة الأولى التي وضعت لتأسيسه مصحوبا بالتقوى فما بعده ، أي: أسس على التقوى من أول لحظات تأسيسه فما بعده ، فهي تفيد الابتداء مع تأكيد ، ذلك مع الدلالة على الاستيعاب باللازم لأنه إذا كان من أول لحظاته كذلك فهو دائما على ذلك .
قال محمد الأمين الخضري في (من أسرار حروف الجر): بعد النقل عن الرضي أن (من) بمعنى (في) قوله تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه }
قال الخضري: ولنا أن نسأل إذا كانت (من) بمعنى (في) فما سر العدول عن الحرف الأصلي؟ ولم لم يقل في أول يوم ؟ إنني أرى أراها في الآية على أصلها من الابتداء فمن في { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } هي من الابتدائية ولها دلالات في أن هذا المسجد كان منذ اللبنة الأولى التي وضعت لتأسيسه مصحوبا بالتقوى مبالغة في صدق النوايا وإخلاص العمل لوجه إبَّان التفكير فيه ومن بداية العمل في بنائه فأنت حين تقول : (ذهبت إلى الحقل من أول اليوم) عنيت أن ذهابك كان جد مبكر بحيث بدأ ببداية أول اليوم دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته ، وإذا قلت: ذهبت إلى الحقل أول اليوم أفدت التبكير نعم لكنك لم تستوعب لحظات اليوم من بداية ما يقال له أول ، وعليه فإن (من) في الآية دالة على استيعاب وقت الأولية كله مبالغة في أن جزءا ولو ليسيرا من الوقت لم تكن التقوى مفارقة له وفي ذلك أبلغ الحسم للمرجفين الذين أرادوا الإساءة إلى هذا المسجد وحاولوا الإضرار به وضرب وحدة المؤمنين ببناء مسجد آخر ألا ترى إلى سياق الآية وما يحوطه من الحسم البالغ والتأكيدات المتتالية على سوء النوايا من المنافقين { والذين اتخذوا مسجدا ــ ـ أحق أن تقوم فيه }" .
قال الشهاب:" (من أوّل يوم من أيام وجوده) أي هو أوّل يوم من أيام وجود بنائه وتأسيسه، وإنما قيد به لظهور أنه لم يؤسس على التقوى من أوّل يوم من مطلق الأيام، والمعنى أنّ تأسيسه على التقوى كان مبتدأ من أوّل يوم من أيام وجوده لا حدثا بعده".
[h=1]المبحث السادس: [/h][h=1]من يوم : [/h]وردت من يوم في آيتين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)}(62/9) { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)} (51/60)
[h=1]فأما آية سورة الجمعة فقد وضحها الشيخ الفاضل محمد الأمين الخضري فقال:[/h][h=1]عند قوله تعالى : {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة}: [/h] (من) تفيد التبعيض فلم يقل : (يوم الجمعة) لأن الله تعالى لا يريد من المؤمنين ترك أعمالهم في هذا اليوم والانقطاع إلى الصلاة والعبادة بل طلب إليهم أن يبدأوا يومهم بالعمل فإذا سمعوا النداء لصلاة الجمعة من بعض هذا اليوم لبوا نداء الله تعالى مسرعين، فإذا ما فرغوا من صلاتهم بادروا بالعودة إلى أعمالهم ،ألا ترى إلى قوله { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } أليس الأمر بالانتشار في الأرض ابتغاء لفضل الله ورزقه وتصديره بالفاء المعقبة دليلا على ما يهدف إليه القرآن من أداء هذه الشعيرة في جزء من النهار حتى لا يفهم المسلمون أن احتفاء الإسلام بيوم الجمعة ودعوة المسلمين إلى التجمع فيه واختصاصه بصلاة معينة موجب لترك العمل في هذا اليوم ، إن من التبعيضية هي وحدها التي تنهض بهذا الغرض ولا يؤدي حرف الوعاء (في) ما تؤديه (من) في مكانها وذلك ما يتضح من كلام النيسابوري حين رد القول بأن (من) في الآية بيانية فقال (إن اليوم أعم من وقت النداء والعام لإبهامه لا يصير بيانا ظاهرا فالأولى أن تكون من للتبعيض) .
يقول علي هاني: وفيه أيضا معنى الابتداء كأن النداء جاءنا من قِبَل يوم الجمعة وهذا فيه تعظيم لهذا النداء وحث على إجابته ، ويستفاد من الكلام بيان أن النداء المتكلم عنه في يوم الجمعة لا في يوم آخر .
وقد سبق البقاعي وابن عاشور الشيخ محمد الأمين في بيان هذا المعنى ، قال البقاعي : ولما كانت الإجابة يكفي في إيجابها النداء في الوقت المعروف للنداء ولا يشترط لها استغراق النداء لجميع اليوم أتى بالجار فقال : { من يوم الجمعة }، وقال ابن عاشور: و { مِن } في قوله : { من يوم الجمعة } تبعيضية فإن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال منها الصلاة المعهودة فيه ، فنزّل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء ، ويجوز كون { مِن } للظرفية مثل التي في قوله تعالى : { أروني ماذا خلقوا من الأرض } [ فاطر : 40 ] ، أي فيها من المخلوقات الأرضية [27].
وأما قوله تعالى : {{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)} (51/60)
} فمعنى من واضح وهو الابتداء تؤول إلى معنى التعليل أي ويل يتحصل لهم من يومهم و بسببه ، فهي مثل { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق} .
قال ابن عطية : { من } لابتداء الغاية.
قال ابن عاشور: و ( مِن ) للابتداء المجازي ، أي سوء حال بترقبهم عذاباً آتياً من اليوم الذي أوعدوه.
قال أبو السعود والآلوسي: ومَنْ في قولِه تعالَى : { مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ } للتعليلِ

[h=1]بهذا يكون قد تم الجزء الأول من البحث وبقي الجزء الثاني وهو يتضمن الفرق بين (قبل، من قبل)(بعد، من بعد) (آناء، من آناء).والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.[/h]

[1] بأن يكن الجار والمجرور خبرا متعلقا بمحذوف تقديره { كائن ، أو كان)(مستقر، استقر).

[2] قال البقاعي { لأكلوا } أي لتيسر لهم الرزق ، وعبّر بـ " من " لأن المراد بيان جهة المأكول لا الأكل { من فوقهم } ، ولما كان ذلك ، قال موضحاً له معبراً بالأحسن ليفهم غيره بطريق الأولى : { ومن تحت أرجلهم } أي تيسراً واسعاً جداً متصلاً لا يحصر ، أو يكون كناية عن بركات السماء والأرض ، فبين ذلك أنه ما ضربهم بالذل والمسكنة إلا تصديقاً
قال أبو السعود : ومفعول ( أكلوا ) محذوف بقصد التعميم ، أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قوله : فلان يعطي ويمنع ، و( مِنْ ) في الموضعين لابتداء الغايةاطفيش - الهميان : { لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرجُلِهِم } : من للابتداء ، والكلام عبارة عن توسيع الرزق ، كأنه قيل لأفيض عليهم الرزق من كل جهة ، وجعلوا مغمورين فيه ، فان هذا مما يعبر به عن توسيعه .


[3] قال أبو زهرة والنص الكريم يفيد عموم العقاب ، لأن العذاب الذي ينزل من فوق يعم الجميع كذلك العذاب الذي يجيء من تحت الأرجل يجيء عاما لا خاصا ، فإذا كانت صواعق أو إعصار شديد وصواعق أو سيل عارم كل هذا يعم ولا يخص ، وكذلك الخسف الذي تمور به الأرض مورا ، والزلازل المدمرة والبراكين الحارقة كل هذا يعم ولا يخص ينزل بالمؤمنين مع الكافرين وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمور بعبارتين جديرتين بالنظر فيهما : أولهما : التعبير ب( يبعث عليكم ) فان البعث معناه الإثارة وعبر بيبعث للإشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يثير عليهم ذلك العذاب وعبر ب ( يبعث ) بدل ينزل عليهم لأن البعث والإثارة تعنى أن النزول يكون من عل ولأن البعث والإثارة فيهما معنى الإيجاد لما ليس بموجود .
ثانيهما : التعبير عن ذلك بكلمة ( عذابا ) ففيها الإشارة إلى أنه في معنى الجزاء على بنيان واقع ، أو أن الذين نزل بهم أكثرهم
يستحقون وهو على أية حال أمر مقصود وقد أشار الله تعالى في آيات أخرى إلى أن الكوارث قد تكون عقابا على ذنوب سلفت أو طغيان استحكم كقوله تعالى فيمن ينفقون من غير إيمان : ومعنى العذاب الذي ينزل من فوق أطلقه الكثيرون من العلماء على ما ينزل من السماء ببعث وإثارة من الله من صواعق وإعصار وريح فيها ، صر ، وحاصب من السماء وحجارة من سجيل تجعلهم كعصف مأكول وغير ذلك مما ينزل الله من عل ، والعذاب الذي يكون من تحت الأرجل مما يكون من الأرض التي يفترشونها من خسف في الأرض وميد فيها ، وبراكين وزلازل وغير ذلك من آفات الأرض التي تقرض الزرع .
وعبر عما يجيء من الأرض بقوله تعالى : ( من تحت أرجلكم ) وذلك للإشارة إلى قربه الشديد منهم وإلى أنه يكون في مقام استقرارهم فيكون ميد الأرض من تحت أقدامهم حيث هم مستقرون فيها ، وللإشارة إلى أنهم أول من يصابون بهذا العذاب ولا منجاة منه ، إلا أن يكون لله تعالى في منجاتهم إرادة .
أبو السعود : وقوله تعالى : { من فَوْقِكُمْ } متعلقٌ به أيضاً أو بمحذوف وقع صفةً لعذاباً أي عذاباً كائناً من جهة الفوق كما فَعَل بمن فَعَل من قوم لوطٍ وأصحابِ الفيل وأضرابِهم { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } أو من جهة السُفلِ كما فعل بفِرْعونَ وقارونَالآلوسي { مّن فَوْقِكُمْ } أي من جهة العلو كالصيحة والحجارة والريح وإرسال السماء { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } أي من جهة السفل كالرجفة والخسف والإغراق .


[4] قال اطفيش – الهميان: { لَهم مِنْ جَهنَّم مِهادٌ } فراش { ومِنْ فَوقِهم غَواشٍ } أغطية جمع غاشية وهى ما يتغطى به ، والمراد أن جهنم محيطة ، وفى التعبير بالمهاد والغواشى تهكم ، فإن المهاد ما يفرش لنوم أو استراحة ، والغاشية ما يتغطى به النائم أو المستريح سيد قطب : فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش ، يدعوه - للسخرية - مهاداً ، وما هو مهد ولا لين ولا مريح ! - ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم ! قال ابن عاشور : المِهاد -بكسر الميم- ما يُمْهَد أي يفرش ، و« غواش » جمع غاشية وهي مَا يغشى الإنسانَ ، أي يغطّيه كاللّحاف ، شبّه ما هو تحتهم من النّار بالمِهاد ، وما هو فوقهم منها بالغواشي ، وذلك كناية عن انتفاء الرّاحة لهم في جهنّم ، فإنّ المرء يحتاج إلى المهاد والغاشية عند اضطجاعه للرّاحة ، فإذا كان مهادهم وغاشيتهم النّار . فقد انتفت راحتهم ، وهذا ذِكر لعذابهم السّوء بعد أن ذكر حِرمانهم من الخير .قال سيد طنطاوي : والغواشى جمع غاشية ، وهى ما يغشى الشىء أى يغطيه ويستره . أى : أن هؤلاء المكذبين لهم نار جهنم تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم ، فهى من تحتهم بمنزلة الفراش ، ومن فوقهم بمثابة الغطاء ، ومثل ذلك الجزاء نجزى كل ظالم ومشرك.

[5] قال الزمخشري وقوله تعالى : { اجتثت مِن فَوْقِ الأرض } في مقابلة قوله : { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } [ إبراهيم : 24 ] ومعنى { اجتثت } استؤصلت ، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها قال الطبرسي - ( اجتثت من فوق الأرض ) * أي : اقتطعت واستؤصلت ، واقتلعت جثته من الأرض

[6] قال أبو حيان : ومن القواعد لابتداء الغاية أي : أتاهم أمر الله من جهة القواعد . ابن عاشور : و { من القواعد } متعلق ب « أتى » . { ومِن } ابتدائيّة ، ومجرورها هو مبْدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال ، فهو في معنى هدمه . و { القواعد } : الأسس والأساطين التي تجعل عَمداً للبناء يقام عليها السقف . وهو تخييل أو ترشيح ، إذ ليس في الكلام شيء يشبّه بالقواعد


[7] قال ابن عاشور: وقوله : { من فوقهم } بيان للغشيان لتصويره تفظيعاً لحاله كقوله : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] وتأكيداً لمعنى الغشيان لرفع احتمال المجاز ، فهو في موضع الحال من { العذاب } وهي حال مؤكدة . ، وقوله : { ومِن تحت أرجلهم } احتراس عما قد يُوهمه الغشيان من الفوقية خاصة ، أي تصيبهم نار من تحتهم تتوهج إليهم وهم فوقها .


[8] يقول علي هاني : ووصف القرآن للجبال بأنها أوتاد يدل على أن جزء منها غائر في الأرض أيضا وهو الذي قرره القرآن تقريرا واضحا واكتشفه العلم الحديث أيضا .

[9] والمعنى أنه لا يستحيي من ضرب المثل بالبعوضة فضلاً عما هو أكبر منه لان البعوضة غاية في الصغرورجح هذا لأن إنكار من أنكر كان لضرب الله المثل لمهانتهما فقصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة، والفاء عاطفة ترتيبية } الفاء عاطفة ترتيبية : فهو ترق وترتيب من الصغير للكبير أن يضرب مثلا بعوضة فضلاً عما هو أكبر منه ، وكما تقول لصاحبك - وقد ذمّ من عرفته يشح بأدنى شيء فقال فلان بخل بالدرهم فما فوقه ، تريد بما فوقه ما بخل فيه وهو الدرهم والدرهمان ، كأنك قلت : فضلا عن الدرهم والدرهمين ، و لفظ «فوق» يدل على العلو ، فإذا قيل هذا فوق ذاك ، فإنما معناه أنه أكبر، قال البقاعي : والفاء تدل على ارتباط ما إما تعقيب واتصال أو تسبيب ، ففيه هنا إعلام بأقرب ما يليه على الاتصال والتدريج إلى أنهى ما يكون – انتهى

[10] قاله البقاعي

[11] قال الطباطبائي: قوله تعالى : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } ، وعد منه تعالى له ( عليه السلام ) أنه سيفوق متبعي عيسى ( عليه السلام ) على مخالفيه الكافرين بنبوته ، وأن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى ( عليه السلام ) أو غير ذلك .


[12] قال رشيد رضا : { قال سنقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون } أي قال مجيبا للملأ سنقتل أبناء قومه تقتيلا ما تناسلوا– فتعبيره بالتقتيل يدل على التكثير والتدريج- ونستبقي نساءهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ولادته حتى ينقرضوا . { وإنّا فوقهم قاهرون } وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان قاهرون لهم كما كنا من قبل فلا يستطيعون إفسادا في أرضنا ، ولا خروجا من حظيرة تعبيدنا . ابن عاشور : وجملة : { وإنّا فوقهم قاهرون } اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه ، أي : هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر : الغالب بإذلال .
و { فوقهم } مستعمل مجازاً في التمكن من الشيء وكلمة { فوقهم } مستعارة لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره ، فهي تمثيلية .


[13] قال البيضاوي: { زدناهم عذاباً } ؛ لصدهم . { فوق العذاب } ، المستحق بكفرهم . { بما كانوا يفسدون } ، بكونهم مفسدين بصدهم ضاعفوا كفرهم ، فضاعف الله عقابهم ، { بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } متعلق بزدناهم أي زدناهم عذاباً فوق العذاب الذي يستحقونه بكفرهم بسبب استمرارهم على الإفساد وهو الصد عن السبيل أي بسبب استمرارهم على هذين الأمرين القبيحين } ، قال ابن عاشور : والتّعريف في قوله تعالى : { فوق العذاب } تعريف الجنس المعهود حيث تقدّم ذكره في قوله تعالى : { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب } [ سورة النحل : 85 ] ، لأن عذاب كفرهم لما كان معلوماً بكثرة الحديث عنه صار كالمعهود ؛ وأما عذاب صدّهم الناس فلا يخطر بالبال فكان مجهولاً فناسبه التنكير .


[14] قال البقاعي: ولما عظم بيعته بما رغب فيها ترغيباً مشعراً بالترهيب ، زادها تعظيماً بما الترهيب فيه أظهر من الأول ، فقال مبيناً للأول : { يد الله } أي المرتدي بالكبرياء ، ولما كان منزهاً . عما قد يتوهم من الجارحة مما فيه شائبة نقص ، أومأ إلى نفي ذلك بالفوقية مع ما فيه من الدلالة على تعظيم البيعة فقال : { فوق أيديهم } أي في المبايعة عالية عليهم بالقدرة و القوة والقهر والعزة ، والتنزه عن كل شائبة نقص ، ولذلك كرر الاسم الأعظم في هذه ثلاث مرات إشارة إلى العظمة الفائتة للوصف والغيب العالي عن [SUP]19[/SUP] الإدراك ،
قال الزمخشري : لما قال { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } أكده تأكيداً على طريق التخييل فقال : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين : هي يد الله ، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ، وإنما المعنى : تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما ، كقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : وقال ابن عاشور: فجملة { يد الله فوق أيديهم } مقررة لمضمون جملة { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } المفيدة أن بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، هي بيعة منهم لله في الواقع فقررته جملة { يد الله فوق أيديهم } وأكدته ولذلك جردت عن حرف العطف . وجعلت اليد المتخيلة فوق أيديهم : إمّا لأن إضافتها إلى الله تقتضي تشريفها بالرفعة على أيدي الناس كما وصفت في المعطي بالعليا في قول النبي صلى الله عليه وسلم " اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة " ، وإما لأن المبايعة كانت بأن يمد المبايع كفه أمام المبايَع بالفتح ويضع هذا المبايَع يده على يد المبايع ، فالوصف بالفوقية من تمام التخييلية . ويشهد لهذا ما في « صحيح مسلم » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بايعه الناس كان عُمر آخذاً بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كان عمر يضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي الناس كيلاً يتعب بتحريكها لكثرة المبايعين فدلّ على أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت توضع على يد المبايعين . وأيًّا مَّا كان فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل .


[15] انظر البقاعي.

[16] فكل ما تحت الثرى له سبحانه وهي أشياء لا يعلم كثرتها وعظمتها إلا الله ، وقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن ما تحت الثرى من الحيوانات فقط لو وضعت فوق الأرض لغطب الأرض امتارا كثيرة هذا غير الكنوز والمعادن وما لا يعلمه إلا الله سبحانه.

[17] إشارات الإعجاز (1/199).

[18] أي التصريح على التوضيح للشيخ خالد الأزهري على أوضح المسالك لابن هشام.

[19] وجميع المعاني راجعة إلى الابتداء ، فمثلا من إن دلت (من) على التبعيض نحو { تأكل الطير من رأسه } ففيها معنى الابتداء والتبعيض معا فهي تبتدئ الأكل من الرأس ولا تستوفي ، وهذا الذي اختاره المحققون كالزمخشري وعبد القاهر والسكاكي وابن يعيش والكيا الهراسي وابن السراج شارح كتاب سيبويه وابن سيده وابن العربي : قالوا وفي كلِّ تبعيض معنى الابتداء أي ان أصل (من) المبعضة: ابتداء الغاية، قال السامرائي في معاني النحو :وذهب بعضهم الى كون التبعيض راجع الى ابتداء الغاية كما في المقتضب قال ابن يعيش : فإذا قلت : أخذت من الدراهم درهما ، فانك ابتدأت بالدرهم ولم تنته الى آخر الدراهم فالدرهم ابتداء الأخذ الى أن لا يبقى منه شيء ففي كل تبعيض معنى الابتداء اه معاني النحو
قلت يؤيد هذا الفرق بين أخذت بعض الدراهم وأخذت من الدراهم ففي الأخير المتبادر أنك ابتدأت الأخذ منها وأن الأخذ كان لبعضها لا لكلها بخلاف أخذت بعض الدراهم لا يفهم منها لا التبعيض .
قال السكاكي في مفتاح العلوم : من لابتداء الغاية، ثم تستعمل للتبعيض وللتبيين كنحو أخذت من الدراهم وعندي عشرون منها لرجوعها على معنى الابتداء قال أبوحيان : وَقَالَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي مَاذَا مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ ؟ عَلَى أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ أَصْلَهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ ، وَالْبَاقِي رَاجِعٌ إلَيْهَا ، وَحَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فِي " شَرْحِ الْإِيضَاحِ " عَنْ الْمُبَرِّدِ .
وَمَعْنَاهُ فِي التَّبْعِيضِ أَنَّ ابْتِدَاءَ أَخْذِك كَانَ مِنْ الْمَالِ ، وَقَطَعَ بِهِ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ ، وَقَالَ : لَا تَنْفَكُّ " مِنْ " عَنْ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ التَّبْعِيضُ وَبَيَانُ الْجِنْسِ بِقَرِينَةٍ ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَمِنْ الْمَجَازِ .وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ صَاحِبِ " الْمُفَصَّلِ " أَيْضًا ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْمَحْصُولِ " عَنْ " شَرْحِ سِيبَوَيْهِ " لِابْنِ السَّرَّاجِ .ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ كُلَّ تَبْعِيضٍ ابْتِدَاءُ غَايَةٍ ، وَلَيْسَ كُلُّ ابْتِدَاءِ غَايَةٍ تَبْعِيضًا ، وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيّ ، وَأَنْكَرَ مَجِيئَهَا لِلتَّبْعِيضِ .
قَالَ : وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِلِابْتِدَاءِ عَكْسُ " إلَى " ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ التَّبْيِينَ إلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } : إنَّ الْمُرَادَ ابْتِدَاءُ اجْتِنَابِهِمْ الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ .وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ مَغْمُورٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، وَغَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَجِيءُ إلَّا بِتَمَحُّلٍ " .يقول علي هاني : يهمنا ما نقله أبو حيان من الذين قالوا أصل من ابتداء الغاية وأما رده فموضع نقاشه غير هذا المكان.


[20] في قول البقاعي رحمه : ( ولما كان عموم الماء لجميع الأرض غير ممدوح) ـ نظر لأن حذف من لا يدل على عموم الماء لجميع الأراضي بل يدل على كثرته ووفرته بدليل ما سيأتي في سورة التوبة { تجري تحتها الأنهار} .

[21] كون من تفيد أن الأنهار تجري تنبع منها سأذكره قولا مستقلا ولست أوافقه في أن من تشير إليه وإن كان ممكنا ومما يؤيد ما أقول أن النيل لا ينبع من مصر وقال فرعون { وهذه الأنهار تجري من تحتي )

[22] في (بل) قولان:1) القول الأول: قالوا عطف على { أيحسب } جيء للإضراب عن إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ من كأنه قيل ليس هذا فقط بل يفعل ما هو أفظع من ذلك وهو أنه يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه ، فهو إضراب انتقالي إلى ذكر حال آخر من أحوال فجورهم ، 2) القول الثاني: أن المعنى { بل } إضراب عن حسبانه عدم البعث والإحياء بعد الموت . و المعنى : أنه لا يحسب أن لن نجمع عظامه لأنه من الظهور في حد لا يحتاج إلى كبير تأمل فلو مشى مع عقله عرف الحق بل يريد أن يكذب بالبعث ليفجر مدى عمره فلذلك يكذب بالقيامة وإلا فهو في قرارة نفسه يعلم صحة البعث لكن إرادته الفجور أمامه هو الذي يجعله يكذب، وهذا قول مجاهد والحسن و عكرمة والسدي قال الطبري: ما يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظامه ، ولكنه يريد أن يمضي أمامه قُدُما في معاصي الله ، لا يثنيه عنها شيء ، ولا يتوب منها أبدا ، ويسوّف التوبة.

· [23] من الذين حملوا الآية على حقيقة التسبيح سيد قطب وسيد طنطاوي ودروزة قال سيد قطب : وسبح بحمده فترات من الليل والنهار . . كن موصولا بالله على مدار اليوم . . ( لعلك ترضى ) . . قال سيد طنطاوي : أي : وعليك - أيها الرسول الكريم - أن تكثر من تسبيح ربك وتحميده وتنزيهه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، وفى ساعات الليل وفى " أطراف النهار " أي: في الوقت الذى يجمع الطرفين ، وهو وقت الزوال ، إذ هو نهاية النصف الأول من النهار ، وبداية النصف الثاني منه ، إذا في هذا التسبيح والتحميد والتنزيه لله - تعالى - والثناء عليه بما هو أهله ، جلاء للصدور ، وتفريج للكروب وأنس للنفوس ، واطمئنان للقلوب . ويرى كثير من المفسرين ، أن المراد بالتسبيح هنا ، إقامة الصلاة والمداومة عليها .قال دروزة : و ما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الفرائض اليومية من الصلوات وإليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روي عن بعض القدماء كقتادة وغيره . انتهى ثم إن ذهبنا إلى أن آية سورة طه في الصلوات الخمس كما ذهب إليه كثير من العلماء فالتبعيض واضح لأن صلاة الفرض لا تستغرق كثيرا من الوقت بخلاف قيام الليل في الآيتين الأخريين من الذين حملوها على الصلوات الخمس جمهور المفسرين قال أبو السعود - { وَمِنْ آنَاء الليل } أي من ساعاته جمع إِنّى بالكسر والقصر ، وآناء بالفتح والمد { فَسَبّحْ } أي فصلِّ والمرادُ به المغربُ والعشاءُ إيذاناً باختصاصهما بمزيد الفضلِ فإن القلبَ فيهما أجمعُ والنفسَ إلى الاستراحة أميلُ فتكون العبادةُ فيهما أشقَّ ، ولذلك قال تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً }.

[24] ونص عبارة البقاعي كاملة : " {قبل طلوع الشمس} صلاة الصبح {وقبل غروبها} صلاة العصر والظهر؛ وغير السياق في قوله: {ومن آناء الّيل} أي ساعاته، جمع إنو - بكسر ثم سكون، أي ساعة، لأن العبادة حينئذ أفضل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب، لأن العبادة إذ ذاك أشق وأدخل في التكليف فكانت أفضل عند الله {فسبح} أي بصلاة المغرب والعشاء، إيذاناً بعظمة صلاة الليل، وكرر الأمر بصلاتي الصبح والعصر إعلاماً بمزيد فضلهما، لأن ساعتيهما أثناء الطي والبعث فقال: {وأطراف النهار} ويؤيد ما فهمته من أن ذلك تكرير لهما ما في الصحيحين عن جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال:
«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ، ثم قرأ هذه الاية. وإلا لم يكن في الآية مزيد حث عليهما خاصة، على أن الفظ «آناء وأطراف» صالح لصلاة التطوع من الرواتب وغيرها ليلاً ونهاراً، وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض، لأن الليل محل الراحة، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر، لأن النهار موضع النشاط واليقظة، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المراد بما قبل الطلوع الصبح، وما قبل الغروب العصر فقط، وببعض الآناء المغرب والعشاء، وأدخل الجار لكونهما وقتين، وبجميع الأطراف الصبح والظهر والعصر، لأن النهار له أربعة أطراف: أوله، وآخره وآخر نصفه الأول، وأول نصفه الثاني، والكل مستغرق بالتسبيح، ولذلك نزع الجار، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين: التقديم والتكرير، وإلى ذلك الإشارة بالحديث، وإذا أريد إدخال النوافل حملت الأطراف على الساعات - والله الهادي".

[25] قال ابن عاشور : وقدم المجرور المتعلق ب تهجّدْ على متعلقه اهتماماً به وتحريضاً عليْه . وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء . وهذا مستعمل في الظروف والمجرورات المتقدمة على متعلقاتها ، وهو استعمال فصيح . ومنه قوله تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] وقول النبي : ففيهما فَجَاهِدْ ، وتقدم عند قوله تعالى : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } في سورة [ براءة : 7 ] . وجَعل الزجاج والزمخشري قوله : { ومن الليل } في معنى الإغراء بناءً على أن نصب { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] على الإغراء فيكون { فتهجد } تفريعاً على الإغراء تفريع مفصل على مجمل ، وتكون ( من ) اسماً بمعنى ( بعض ) كالتي في قوله : { من الذين هادوا يحرفون الكلم } [ النساء : 46 ] وهو أيضاً حسن .

[26] ابن عاشور : والتسبيح : التنزيه بالقول وبالاعتقاد ، ويشمل الصلوات والأقوال الطيبة والتدبر في دلائل صفات الله وكمالاته ، وغلب إطلاق مادة التسبيح على الصلاة النافلة ، وقال تعالى : { وسبح بحمد ربك حين تقوم } [ الطور : 48 ] ، أي من الليل . وعن عبد الملك بن حبيب : و { سبحه } هنا صلاة التطوع في الليل ، وقوله { طويلاً } صفة { ليلاً } وحيث وصف الليل بالطول بعد الأمر بالتسبيح فيه ، عُلم أن { ليلاً } أريد به أزمان الليل لأنه مجموعُ الوقت المقابل للنهار ، لأنه لو أريد ذلك المقدارُ كلُّه لم يكن في وصفه بالطول جدوى ، فتعين أن وصف الطول تقييد للأمر بالتسبيح ، أي سبحه أكثرَ الليل ، فهو في معنى قوله تعالى : { قم الليل إلاّ قليلاً } إلى { أو زد عليه } [ الإنسان : 2 ، 4 ] أو يتنازعه كل من ( اسجد ) و { سبحه } . وانتصب { ليلاً } على الظرفية ل { سبحه } . وعن ابن عباس وابن زيد : أن هاتين الآيتين إشارة إلى الصلوات الخمس وأوقاتها بناء على أن الأصيل يطلق على وقت الظهر فيكون قوله : { وسبّحْه } إشارة إلى قيام الليل . وهذه الآية جاءت على وفق قوله تعالى : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين } [ الحجر : 97 ، 98 ] وقوله تعالى : { واذكر اسم ربك وتبتَّل إليه تبتيلاً رب المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون } [ المزمّل : 8 10 ] .


[27] وفي الآية أقوال غير التبعيض وهي كونها بيانية وكونها بمعنى في قال السمين الحلبي : قوله : { مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } : " مِنْ " هذه بيانٌ ل " إذا " وتفسيرٌ لها قاله الزمخشريُّ . وقال أبو البقاء : إنَّها بمعنى " في " ، أي : في يوم . قال الآلوسي : { مِن يَوْمِ الجمعة } أي فيه كما في قوله تعالى : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 40 ] أي فيها ، وجوز أبو البقاء أيضاً كون { مِنْ } للتبعيض ، وفي «الكشاف » هي بيان لإذا وتفسير له ، والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط { مِنْ } البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأن يوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا ؛ وقيل : أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذ فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في ، وكونها للتبعيض وهو كما ترى .
 
عودة
أعلى