تحقيقات في { نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يهتدون}

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد الخلق سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمين، سئلت عن المراد بالهداية، والسر في التعبير {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ } دون أم لم تهتد ، الواردة في سورة النمل في قوله تعالى:{ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)}، فوفقني الله تعالى لكتابة هذه الورقات التي حوت جميع أقوال العلماء في هذا مع بيان أحسن الأقوال.

  1. أولًا: الآية وردت في سورة النمل في قصة سيدنا سليمان مع ملكة سبأ ([1])لما جيء لسليمان ـ عليه السلام ـ بعرش ملكة سبأ (بلقيس) قبل وصولها،حيث أمر به أن يغير بعض صفاته؛ ليختبر معرفتها وثبات عقلها عند رؤيته ، وليوقظها إلى هذه المعجزة العجيبة تحريكًا لها للإيمان.
: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ(43)}.
[h=1]2.ثانيًا: المراد بالتنكير في قوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} وحكمته:[/h] التنكير ضد التعريف: وهو تغيير حال الشيء إلى حال يُنِكرها صاحبها إذا رآها، يقال: نكَّرْتُ الشيءَ فتنكر، أي: غيرته فتغير، فمعنى {نَكِّرُواْ}: غيروا معالمه المميزة له، واجعلوه مُنَكَّرًا مغيرًا عن شكله وهيئته، كما يتنكر الرجل للناس امتحاناً لها.
والحكمة من ذلك:

  1. لنعرف إن كانت فراستها وفطنتها تهتدي إليه بعد هذا التنكير، وذلك لأنه لو تركه على ما كان لعرفته لا محالة، وكانت لا تدل معرفتها به أو توقفها فيه على ثبات عقلها ،وإذا غير دلت معرفتها على فضل عقل.
  2. وإيقاظًا لعقلها لهذه المعجزة العظيمة التي وهبها الله لسليمان عليه السلام، وإيقافًا لها على مظاهر قدرة الله - تعالى.

  1. ثالثًا: خلاف العلماء في المراد بالهداية في {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)}:
[h=1]1)القول الأول: قالوا المراد: أتهتدي بفطنتها لمعرفة العرش بعد تغيير هيئته وشكله أنه هو الذي لها، فيظهر بذلك فرط عقلها وذكاؤها وفطنتها التي تليق بملكها، أم تكون من الذين لا يهتدون فلا تعرف ولا تثبت عرشها؟ وقد تبين من الاختبار أنها واعية مدركة في غاية الذكاء، اهتدت إلى جواب ذكي أريب: «قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ» لا تنفي ولا تثبت ، وتدل على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة.[/h][h=1] قالوا وليس المراد ( أنها تهتدي إلى الإيمانِ بالله تعالى ورسولِه عند رؤيتِها؛ لتقدمِ عرشِها من مسافةٍ طويلةٍ في مدةٍ قليلةٍ، وقد خلَّفته مغلقةً عليه الأبوابَ موكلةً عليه الحَّراسَ والحجَّابَ)؛ لأنَّه علَّق النظر المتعلق بالاهتداءِ بالتنكيرِ{ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)}؛ والاهتداء للإيمان ممَّا لا دخلَ فيه للتنكيرِ؛ فتغييره لا يكون سبباً للاهتداء للإيمان ، ولا لعدم الاهتداء ، فلا يقال : ننظر أتهتدى الى الايمان أم لا ، نعم لو أبقاه كما هو ، فشاهدته عنده كما هو ، وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب، موكلة عليه الحراس والحُجَّاب فمشاهدته كما هو تكون سبباً للإيمان.[/h]وهذا القول اختاره: سعيد بن جبير، وقتادة، ومجاهد، ومقاتل، والسدي، ويحيى بن سلام، و الهواري، الطبري، والزمخشري، والبيضاوي، والآلوسي، والسمرقندي، و ابن أبي زمنين، و السمعاني، والبغوي، والخازن، وابن كثير، وأبو حيان، والجلالين، وأبو السعود، والأعقم، والمظهري، وابن عجيبة، والشوكاني، والميرغني، واطفيش (في التيسير)، والقاسمي، وفريد وجدي، والسعدي، والطبرسي، شحاته، و الجلال، والصابوني.
[h=2]2)القول الثاني: اختاره الجبائي، يزيد بن رومان[2]، الطوسي، وأجازه الماتريدي.[/h]قالوا المراد : {أتهتدي}: للدين والإيمان بنبوّة سليمان ـ عليه السلام ـ إذا رأت تلك المعجزة البينة، من تقدّم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب ونصبت عليه الحرَّاس.
[h=1]3)القول الثالث: اختاره البقاعي، والقونوي، والمراغي، وسيد طنطاوي، ومحمد حسين فضل الله [3] قالوا :المعنى : {ننظر أتهتدي} أي إلى معرفة عرشها، فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين {أم تكون من الذين } ، بل لو هدوا لوقفوا عند الشبه ، وجادلوا بالباطل وما حلوا .[/h][h=1]والمقصود بتغيير هيئة عرشها:[/h]
  1. اختبار ذكائها وفطنتها، وحسن تصرفها، عند مفاجأتها بإِطْلَاعِها على عرشها الذي خلفته وراءها في بلادها، هل تهتدي إليه بعد هذا التنكير؟
  2. وإيقاظ عقلها لهذه المعجزة العظيمة التي وهبها الله لسليمان عليه السلام، لتعلم صدق سليمان في دعواه النبوة، وإيقاف لها على مظاهر قدرة الله تعالى لديها؛ ليوصلها إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه السلام إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليه الحراس والحجاب؛ لأنها مفاجأة ضخمة لا تخطر للملكة على بال، فأين عرشها في مملكتها، وعليها أقفالها وحراسها، وأين هو من بيت المقدس مقر ملك سليمان؟ وكيف جيء به؟ ومن ذا الذي جاء به؟، ولكن العرش عرشها من وراء هذا التغيير والتنكير!
وحكمة سيدنا سليمان في الإتيان بالعرش هي إظهار آية باهرة من آيات نبوته لها، وتنكيره وسيلة لإيقاظها لهذه المعجزة العجيبة وتحريك لفكرها؛ لأن المسألة عنده هي في إعداد الأجواء لهدايتها وهداية قومها إلى الدين الحق، ولذلك كانت إثارة التفكير لديها ولدى قومها، هدفاً ملحوظاً في كل حركة على مستوى المرحلة الأولى، من أجل الوصول إلى الهدف الأعمق وهو الهداية في المرحلة الأخيرة.
قال البقاعي: "{ننظر أتهتدي} أي إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين {أم تكون من الذين } ، بل لو هدوا لوقفوا عند الشبه ، وجادلوا بالباطل وما حلوا".[4]
قال محمد سيد طنطاوي:" فالمقصود بتغيير هيئة عرشها: اختبار ذكائها وفطنتها، وحسن تصرفها، عند مفاجأتها باطلاعها على عرشها الذي خلفته وراءها في بلادها. وإيقافها على مظاهر قدرة الله- تعالى- وعلى ما وهبه لسليمان- عليه السلام- من معجزات".[5]
الترجيح: كل الأقوال السابقة صحيحة، بالنص أو باللازم، وأدقها وأشملها القول الثالث، وإليك بيان ذلك:

  1. فأما القول الأول فقد اقتصر على حكمة معتبرة لسيدنا سليمان من تنكير العرش، وهي أن يظهر بذلك فرطُ عقلِها وذكاؤها وفطنتها التي تليق بملكها" وهذا كلام ظاهر وهو قول الجمهور، لكنهم لم يكملوا بقية الحكم.
  2. وأما القول الثاني القائل "{أتهتدي}: للدين والإيمان بنبوّة سليمان ـ عليه السلام ـ إذا رأت تلك المعجزة البينة، من تقدّم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب ونصبت عليه الحرَّاس" فهو صحيح باعتبار وغير صحيح باعتبار ، فإذا قلنا إنه نكر عرشها لتهتدي للإيمان فيعترض العلية بما قاله أصحاب القول الأول حيث قالوا: وليس المراد ( أنها تهتدي إلى الإيمانِ بالله تعالى ورسولِه عند رؤيتِها؛ لتقدمِ عرشِها من مسافةٍ طويلةٍ في مدةٍ قليلةٍ، وقد خلَّفته مغلقةً عليه الأبوابَ موكلةً عليه الحَّراسَ والحجَّابَ)؛ لأنَّه علَّق النظر المتعلق بالاهتداءِ بالتنكيرِ{ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)}؛ والاهتداء للإيمان ممَّا لا دخلَ فيه للتنكيرِ؛ فتغييره لا يكون سبباً للاهتداء للإيمان ، ولا لعدم الاهتداء ، فلا يقال : ننظر أتهتدى الى الايمان أم لا ، نعم لو أبقاه كما هو ، فشاهدته عنده كما هو ، وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب، موكلة عليه الحراس والحُجَّاب فمشاهدته كما هو تكون سبباً للإيمان"اهـ .
وهذا اعتراض قوي ظاهر، لكن نقول: إن كان مراد القول الثاني تهتدي إلى الإيمان باللَّـه بعد معرفة عرشها فكلامهم صحيح؛ لذلك قال القونوي في حاشيته على البيضاوي عند قول البيضاوي:" أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون إلى معرفته أو الجواب الصواب، وقيل إلى الإيمان بالله ورسوله إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليها الحراس".[6]
قال "قوله (وقيل إلى الإيمان) مرَّضه لأن الإيمان باللَّه لا يحتاج إلَى تنكير عرشها بل إبقاؤه عَلَى حالته الأولى أعون عَلَى ذلك، إلا أن يقال إن مراد القائل "إلى الإيمان باللَّه مع معرفته ؛ إذ الإيمان بدون المعرفة غير متصور فثبت الاهتداء إلى المعرفة اقتضاء لكونه لازمًا متقدمًا، وبهذه النُّكْتَة الأنيقة ظهر صحة هذا الغرض، أي: كون الغرض من التنكير الاهتداء إلَى الإيمان إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليها الحراس ،وهذه معجزة باهرة، فلهذا صح أن يقال أتهتدي إلَى الإيمان. [7] قال مكارم الشيرازي في الأمثل:" وهناك تفسيران لجملة ( أتهتدي ) فقال بعضهم : المراد منها معرفة عرشها . وقال بعضهم: المراد من هذه الجملة أنّها هل تهتدي إلى الله برؤية المعجزة، أو لا ؟ ! ، إلاّ أنّ الظاهر هو المعنى الأوّل ، وإن كان المعنى الأوّل بنفسه مقدمة للمعنى الثّاني ".
ج) وأما القول الثالث فهو أعدل الأقوال، وأدقها حوى ما ذكره الجمهور مع غوص في مراد السياق .

  1. رابعًا: سر الإطناب في قوله تعالى: {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ } دون أن يقال أم لم تهتد:
{أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ } أبلغ في انتفاء الاهتداء من: "لا تهتدي" لأمور:
أ) لأن (كان) تدل في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها.
ب) "لأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحداً من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده، بناء على أن الواحد يزداد تمسكاً بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة؛ لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها، وعليه جاء قوله تعالى : { أصدقت أم كنت من الكاذبين } [ النمل : 27 ] { قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ }[الشعراء:136]،{ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصابرين الصَّابِرِينَ}[ص:85]،{ قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }[الصافات:102]{ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ }[يوسف:20] ، و عليه في هذه الآية: { أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ }[النمل:41]، دون أن يقول أم لا تهتدي؛ لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء".[8]
ج) والمضارع يدل على الاستمرار.
فالمعنى: أن سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ قال حينما قصدته ملكة سبأ وملؤها لننظر فاحصين ذاتها، ألها نظرات ثاقبة، تهتدي و تصل من ورائها إلى الحقيقة ، { أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)} أي: أم يلبس عليها الأمر فلا تنفذ إلى معرفته من وراء هذا التغيير، فتكون من الطائفة الذين شأنهم أنهم عريقون في عدمِ الهدايةِ المستمرةِ، وتَلَبُّسِ الأمور عليهم، لا قدرة لهم للمعرفة وإدراك الأمور على ما هي عليه ولا يمحصونها ؛ لغاية بلادتهم وسخافة عقلهم؛ لعدم اهتدائهم مع وضوح الدلائل، فلا يتجدد لهم اهتداء؛ لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد أولًا لمعرفته ثم من خلال لإدراك هذه المعجزة الباهرة الدالة على قدرة الله تعالى ونبوة سليمان عليه السلام كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء، فهي بلادة قوية لوضوح الدلالة لا سيما أنه عرشها لكن غير بعض التغيير، والنساء يدركن دائمًا ما يتعلق بالفراش وزينة الحياة الدنيا، فاختيرَ الْإطْنَاب حيث لم يجئ أتهتدي أم لم تهتد؛ لبيان أنها إن لم تعرفه كانت من الطائفة العريقة في البلادة وسخافة العقل، وقد تبين من الاختبار أنها واعية مدركة حيث قالت: {كَأَنَّهُ هُوَ}.
وقد بين هذه المعاني بدقة كل من القونوي في حاشية البيضاوي، وابن عاشور، والبقاعي.

  • قال القونوي: والْمَعْنَى "أم يظهر كونها من زمرة الحمقى الذين لا قدرة لهم للمعرفة عَلَى ما هُي عليه، ولا الْجَوَاب المطابق للواقع، فقوله أم لا تهتد لا يفيد ذلك، والتَّعْبير بقوله تكون لإفادة دوام ذلك كما أخبر وفي {من الَّذينَ} تَغْليب".[9]
  • قال البقاعي: "{ننظر أتهتدي} أي إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين {أم تكون من الذين} شأنهم أنهم {لا يهتدون} أي بل هم في غاية الغباوة، لا يتجدد لهم اهتداء، بل لو هدوا لوقفوا عند الشبه، وجادلوا بالباطل وما حلوا ".[10]
  • قال ابن عاشور: "ومن الذين لا يهتدون أبلغ في انتفاء الاهتداء من: لا تهتدي".[11]



[1] جاء في التفسير الحديث:" الهدف من قصة سيدنا داوود عليه السلام ثم قصة سيدنا سليمان مع ملكة سبأ " التنويه بما كان من إخلاص داود وسليمان لله تعالى مع ما وصل إليه ملكهما من عظمة وقوة بسبيل تسلية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقال هنا بتمامه، فإذا كان فرعون استكبر وظلم وجحد بآيات الله فإن داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ صاحبي الملك العظيم المسخر لهما قوى الكون الهائلة ـ لم يغترا بذلك وظلا منيبين لله معترفين بفضله يلتمسان منه أن يدخلهما في عباده الصالحين.
ويلحظ أن ذكر داود وسليمان وملكهما وعظمته قد جاء هنا عقب ذكر فرعون وتمرده مما فيه تساوق أسلوبي ونظمي مع سياق قصتهما في سورة (ص) مما فيه تدعيم لما نبهنا عليه من الهدف الرئيسي الذي استهدف هنا كما استهدف في تلك السورة. وبالإضافة إلى ذلك فإن من مواضع العبرة في الحلقة الحوار الذي حكته الآيات بين ملكة سبأ ورجال دولتها حيث احتوى حكما جليلة في صدد سياسة الملك. فالملكة تعلن أنها ما كانت مستبدة ولا ظالمة ولا قاطعة أمرا إلا بعد مشاورة أولي الرأي في مملكتها. وواضح أن كلمة (الملوك) التي وردت في كلامها تعني الملوك الأجانب حيث تقرر أنهم إذا غزوا بلادا ما واحتلوها انصرف همّهم إلى إفساد تلك البلاد وجعل أعزة أهلها أذلة. وإن من الواجب وقاية البلاد من أخطارهم بأي وسيلة. مما فيه حكمة اجتماعية رائعة خالدة. وأسلوب الحوار وإن كان قصصيا ففيه ما يلهم قصد التنويه بما حكاه عن لسان الملكة والدعوة إلى التأسي به وجعله خطة يسار عليها وهي خطة حكيمة سليمة حقا.
ومن ذلك إسلام ملكة سبأ لله بعد أن سمعت من سليمان عليه السلام ما سمعت من حكمة وعظة، حيث ينطوي في هذا تقرير بأنه إذا كان الكفار لا يستجيبون إلى دعوة الله فهناك من عظماء الملوك من كان كافرا فاستجاب إلى هذه الدعوة وأسلم نفسه لله تعالى مع نبيه. (التفسير الحديث/ دروزة محمد عزت (3/ 290).

[2] يزيد بن رومان الأسدي، أبو روح، مولى آل الزبير بين العوام: عالم بالمغازي، ثقة. من أهل المدينة. ووفاته بها. حديثه في الكتب الستة، توفي سنة (130 هـ).

[3] قال محمد حسين فضل الله : { نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ } ليختبر عمق تفكيرها في التعرف على الظاهرة في موقف تأمّل ، وعلى خلفية الفكرة التي تختفي وراءها ؛ لأن المسألة عنده هي في إعداد الأجواء لهدايتها وهداية قومها إلى الدين الحق ، لا لتأكيد السلطة العمياء على مواقعها القويّة في الساحة العامة ، ولذلك كانت إثارة التفكير لديها ولدى قومها ، هدفاً ملحوظاً في كل حركة الظاهرة العجيبة على مستوى المرحلة الأولى ، من أجل الوصول إلى الهدف الأعمق وهو الهداية في المرحلة الأخيرة .


[4] نظم الدرر في تناسب الآي والسور / البقاعي (14/ 167).

[5] الوسيط / محمد سيد طنطاوي (10/ 327).

[6] أنوار التنزيل وأسرار التأويل/ البيضاوي (4/ 161).

[7] حاشية القونوي على البيضاوي (14/ 398).

[8] التحرير والتنوير/ ابن عاشور (1/ 427). بتصرف.

[9] حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (14/ 398).

[10] نظم الدرر/ البقاعي (5/ 701).

[11] التحرير والتنوير/ ابن عاشور (19/273).
 
عودة
أعلى