تحرير مواقف بعض النحاة من الاحتجاج بالحديث في النحو

إنضم
29/10/2023
المشاركات
50
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
الإقامة
ليبيا
موقف السيوطي من الاحتجاج بالحديث في النحو:
من خلال تتبعي لمنهج السيوطي فيما احتج به من الحديث خرجتُ بالنتيجة الآتية:
صرّح السيوطي في «الاقتراح» بأن الحديثَ دليلٌ من أدلة النحو، وأصلٌ من أصول السماع، وأنه إنما يُستدَل منه بما ثبت أنه جاء على اللفظ المروي(1)، لكنه عندما فصَّلَ أكثرَ ضيَّقَ دائرةَ الأحاديثِ المحتجِّ بها كثيرًا؛ فقد ذكر أن أكثرَ الأحاديثِ مروي بالمعنى، وأن ما ثبت أنه مرويٌّ على اللفظ نادرٌ جدًّا، وأنه إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضًا(2)، ثمَّ صحَّحَ تعليلَ ابنِ الضائعِ وأبي حيان تَرْكَ المتقدمين الاستشهادَ بالحديث، بل أوردَ كلامَ الحسين الدِّينَوَري مستدلًا به على أن الحديثَ ليس من مصادرِ النحو، ولم يتعقب أحدًا منهم بشيء(3)، فوقع في كلامِه تضارُبٌ.
ثم قرر في «همع الهوامع» أنه لا يُستدل بالحديثِ على ما خالفَ القواعد النحوية، ويُدلِّل لهذا بكلام ابن الضائع وأبي حيان(4)، وكأنه يرى أن الأحاديث التي ثبت أنها مِن لفظِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- جميعُها موافقةٌ للقواعد. وهو في الوقت نفسِه لم يمنع الاحتجاجَ بالحديث فيما وافق القواعد.
ثم قال في موضع آخر من «الهمع»: «وأما الحديث فلم يَثْبُت كونُه بلفظ الرسول -عليه الصلاة والسلام- (كما تَقَرر غيرَ مرة)»(5). فهو هنا يعمم ويطلق الكلام دون أن يستثني.
وفي موضعٍ آخر احتج بأحاديث معلِّقًا الاحتجاج بها على مجرد الصحة، دون التطرق إلى مسألةِ ثبوتِ اللفظِ أو عدمِ ثبوتِه(6).
وفي مواضع أُخَر احتج بأحاديث لا تصح، أو بألفاظٍ لبعضِ الأحاديثِ غيرِ محفوظةٍ أو فيها خلافٌ يَمنع من الاحتجاج بها(7).
وفي بعض المواضع احتج بالحديث بمفرده في تقرير قاعدة(8 ).
فالظاهر أن السيوطي في هذه المسألة لم يكن له مذهب ثابت، مما جَعَلَ الناسَ يختلفون في حقيقةِ مذهبِه في هذه المسألة(9). لكنه على كل حال لا يخرج عن دائرة المتوسطين؛ لأنه لم يمنع منعًا عامًّا مطلَقًا.
---------------------------
(1) ينظر: «الاقتراح» (15، 74، 89).
(2) ينظر: «الاقتراح» (89). وينظر الرد على هذا الزعم في «الاستشهاد بالحديث» (1/ 127).
(3) ينظر: «الاقتراح» (96).
(4) ينظر: «همع الهوامع» (2/ 42). ويُلاحَظُ هنا أنه عَزَا قولَه (إن الحديث لا يستدل به على ما خالف القواعد النحوية) – عزاه إلى كتابه: «أصول النحو»، ولا أُراهُ إلا «الاقتراح»، ولم أقف على هذا الكلام في النسخ المطبوعة من «الاقتراح»، فيحتمل أن السيوطي يعني أن هذا مفهومُ كلامِه فيه لا أنه نصَّ عليه نصًّا، ويُحتمل أيضًا أن يكون صرَّحَ به في إحدى إبرازاتِ «الاقتراح»، أو أنه توهَّمَ أنَّه صرَّحَ به فيه، لا سيما أنه كثيرُ التآليف.
(5) «همع الهوامع» (3/ 44).
(6) ينظر: «همع الهوامع» (6/ 47).
(7) وأمثلة هذا منثورة في رسالتي للماجستير مرتبة حسب أبوابها النحوية.
(8 ) وأمثلة هذا منثورة في رسالتي أيضا.
(9) ينظر: «تحرير الرواية» (96- 97)، و«الحديث النبوي في النحو العربي» (133- 134).
 
موقف الشيخ محمد الخضر حسين:
اختلف الباحثون تجاه مذهب الشيخ -رحمه الله-؛ فغالبهم يجعله من المتوسطين؛ بناء على ما وضعه من ضوابط وقيود للاستشهاد، وعدم تجويزه إياه مطلقًا، وبعضهم يجعله من المجوزين؛ قال لأن مؤدى كلامه يلتقي مع ما قرره المجوزون -حتى في وجود الضوابط التي قررها-.
وكلامُ الشيخ حول هذا الموضوع موجود في كتابه (دراسات في العربية وتاريخها)(1) بما يغني عن إعادته بلفظه. المهم هنا هو مناقشة ذلك الكلام وتحليله للخروج بنتيجةٍ.
الملاحَظُ على كلامِ الشيخِ أنه وسَّع مِن دائرة الاستشهاد أكثر من الشاطبي والسيوطي؛ حيثُ إنه جَعَلَ ما قبِلَه المتوسطون مما لا ينبغي الاختلاف في الاحتجاج به، مع أنها في الحقيقة لا تعدو كونَها قرائنَ تقوي الظنَّ بأن ذلك الحديثَ نُقِل بلفظه، لكن يمكن أن يقع بين الرواة اختلافٌ في ألفاظِها، كما يُحتمل أن يتفرد ببعضِها مَن رُمي باللحن في الحديث، فلا تكون هذه الأحاديثٌ حجةً لمجرد وجود الداعي لروايتها باللفظ، بل لا بد من سلامتها من القوادح(2).
بل إنه يُفهَمُ مِن بعضِ كلامِه أن مذهبَه يَقْرُب إلى حد كبيرٍ جدًّا من مذهب المجوِّزين؛ حيثُ إنه قرر أن الأحاديثَ المدوَّنة في الصدر الأول حاصلٌ فيها الظنُّ الكافي بكونها مرويةً بألفاظِها ممن يُحْتج بكلامه، وأن كثيرًا مما يُرى أنه لحنٌ قد ظهر له وجه من الصحة، وأن وجودَ ألفاظٍ غيرِ موافقة للقواعد المتفق عليها لا يقتضي ترك الاحتجاج بالحديث جملة، وإنما يُـحمَل أمرها على قلة ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة، وإذا وقع في روايةِ بعض الأحاديث غلطٌ أو تصحيفٌ فإن الأشعار يقع فيها الغلط والتصحيف وهي حجة من غير خلاف(3).
---------------------
(1) ينظر: «دراسات في العربية وتاريخها» (166- 180).
(2) ينظر: «الاستشهاد بالحديث في المسائل النحوية» (1/ 131).
(3) ينظر: «دراسات في العربية وتاريخها» (175- 176).
 
موقف أبي حيان:
الذي يترجح من مجموع النقول عن أبي حيان في هذه المسألة أنه مِن المانعين من الاستشهاد بالحديث في النحو، لا من المتوسطين، لكن بالتأمل في منهجه العملي نجده يستشهد بالحديث، وقد يبني عليه بعض القواعد، بل قد يبني بعض الأحكام على الحديث فقط.
فالذي يبدو -والله أعلم- أن صنيعه ذلك ما هو إلا ردَّةُ فعلٍ نظريةٌ لتوسُّعِ ابن خروفٍ وابنِ مالكٍ في الاستشهاد بالحديث على المسائل النحوية وبناء القواعد عليه، واستدراكهما به على متقدمي النحاة.
وقد اختُلِفَ في تعليلِ موقفِ أبي حيان ذاك:
- فقيل: إن سببَه مجردُ تحامُلِ أبي حيان على ابنِ مالك، وأنه لم يكن سوى ثمرةِ نزاعٍ شخصيٍّ اندَفع من أجله أبو حيان إلى هذا الجدل الطويل، بدليل أنه إنما وَجَّهَ سِهامَ نقدِه إلى ابن مالكٍ وحدَه، وقَصَرَ سلوكَ هذه الطريقةِ عليه وحدَه، مع أن ابنَ مالكٍ سُبِقَ إلى ذلك من بلديِّه ابنِ خروفٍ الذي اعتُبِر زعيمَ فريق المجوزين، ولم يكن أمرُ ابنِ خروفٍ خافيًا على أبي حيان، وكذلك السهيليُّ كان يُكثر من الاستشهاد بالحديث ويعتمد عليه في وضع قواعد جديدة تخالف ما ذهب إليه النحاة أو في تجويز ما منعوه من هذه القواعد.
وممن ذهب إلى هذا الاستنتاج: ناظرُ الجيش تلميذُ أبي حيان. ومما يؤيد ذلك: ما ذكره هو نفسه (أي ناظر الجيش) مِن عباراتٍ وإطلاقاتٍ لأبي حيان فيها غضٌّ مِن ابن مالكٍ وانتقاصٌ له تدلُّ على التحامُل عليه، وما وَقع مِنه من مواقف أخرى مشابِهةٍ يُلمَسُ فيها تحاملُه على بعضِ العلماء، ويُلحَظُ فيها إطلاقاتٌ في حقهم ليست صحيحةً، كما فعل مع ابن دقيق العيد، ومع ابن تيمية.
- وقيل: إن أبا حيان موقفُه متذبذبٌ في هذه القضية، وأنه في كل مرةٍ في اجتهاد.
- وقيل: المراد من كلام ابن الضائع وأبي حيان نفيُ اعتمادهم على الحديث وحده في تقرير القواعد، أو أنهم عدوا قلة استشهادهم بالحديث عزوفاً عنه، ثم عبروا عن العزوف والقلة بالترك.
ويمكن أن يكون انتقاد أبي حيان منصبًّا على كثرة احتجاج ابن مالك بالروايات التي ظاهرها مخالف للقواعد ليعترض بها على القواعد ويقرِّر من خلالها قواعدَ جديدةً دون الْتِفاتٍ إلى احتمالِ كونها من تصرف الرواة.
وأقرب هذه الاحتمالات الأولُ والأخيرُ. والله أعلم بواقع الحالِ.
 
عودة
أعلى