تحرير المقال في الرمي قبل الزوال

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
الحمد لله ، وبعد : فهذه رسالة كتبتها منذ أكثر من سبع سنوات ، وهي تتعلق بمسألة الرمي قبل الزوال ، ولأن الحاجة إليه في هذه الأيام ملحة ، خاصة ولا يزال البعض يعمل بفتوى الرمي قبل الزوال مطلقًا ، أردت أن أوقف إخواننا على تفصيل المسألة ، والله المستعان .

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ؛ وبعد :
فقد طال الحديث حول مسألة الرمي قبل الزوال مطلقًا في أيام التشريق بين الجواز والمنع ؛ مما استدعى تحرير المسألة وتحقيق النقول الواردة ، والنظر في الآراء المنقولة للوصول إلى الحق ؛ فالعلم إما نقل مصدق أو نظر محقق ، فليس كل قول ينسب إلى أحد من أهل العلم يقبل حتى يثبت ذلك بطريق صحيح عنه ؛ وكذلك ليس كل حكم يصدر عن أحد من أهل العلم يكون معتبرًا إلا ما كان معه الحجة التي يقوم بها من دليل أو إجماع أو اجتهاد من أهله بشروطه ، وقد قال الله تعالى : ] قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [(البقرة : 111 ) ؛ ولذا قال العلماء تأصيلا لذلك : إن كنت ناقلا فالنص ،وإن كنت قائلا فالدليل .
والحق أنه قد تكلم في هذه المسألة علماء أجلاء نحبهم ، ولكن الحق أحب إلينا ، كما هو - فيما نحسب - أحب إليهم ؛ ونشهد بصدقهم وأنهم ما قالوا ذلك إلا محاولة للتيسيرعلى إخوانهم المسلمين ، لا سيما وقد كان في السنين الأواخر حوادث مؤلمة ، غير أن ذلك لا يبرر إطلاق جواز الرمي قبل الزوال .. كما سيأتي بيانه ؛ ومعلوم أن الاجتهاد ظن المجتهد في المسألة الذي أداه إليه بذل الجهد في البحث عنها ، وهو ساقط الاعتبار مع وجود النص بغير خلاف ، ولا يجب على أحد من خلق الله أن يدين الله بظن غيره .
قال العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله : ألا فليعلم كل مسلم أن المفتي ليس شارعًا للدين , وإن كان مجتهدًا , وإنما وظيفته بيان حكم الله الذي أنزله في كتابه , أو بينَّه على لسان رسوله e , فإذا لم يكن في المسألة نص عنهما ؛ فليس له أن يحمل الناس على أن يدينوا الله ويعبدوه بمقتضى رأيه واجتهاده الذي هو ظن من ظنونه ، فضلاً عن حمله إياهم على العمل برأي غيرهم ما يقرؤه في الكتب ، ولم يكن أحد من الأئمة المجتهدين بحق - ولا سيما الأربعة - يأمر الناس بالعمل باجتهاده وتقليده في رأيه وفهمه ، وإنما كانوا يبينون للناس ما يفهمون من نصوص الشارع بطرق الدلالة المعروفة عندهم ، فمن وافق فهمه فهم أحد منهم فعمل به كان عاملاً بما اعتقد أن الله شرعه له ، ومن لم يوافقه تركه وعَدَّهُ كأن لم يكن ؛ وليس له أن يدين الله تعالى به , والنصوص عنهم في ذلك مشهورة.ا.هـ.
وسئل - رحمه الله : هل يجوز رد الفتوى الفقهية طلبًا للنص ؟ فأجاب : إن الله تعالى أمرنا باتباع كتابه واتباع رسوله ، ونهانا أن نتبع غيرهما، وإنما العلماء أدلاء ومبلغون لكتاب الله وسنة رسوله e ، وإنما الواجب على من يجهل شيئًا من دينه أن يسأل العالم عن حكم الله ورسوله فيه , لا عن رأيه أو رأي من يقلده هو فيه , فإذا قال له العالم : حكم الله كذا , فله أن يسأله عن النص , ويقول له : لا أقبل قولك ولا ما تنقله من كتاب من كتبالفقه؛حتىتبينليدليلهمنالكتابوالسنة,قالأبوحنيفة: لا يجوز لأحد أن يأخذ بقولنا حتى يعلم من أين قلناه , وكتب المزني صاحب الشافعي في أول مختصره في الفقه ما نصه : اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس - رحمه الله - ومن معنى قوله لأُقَرِّبه على من أراده , مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره ؛ لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه وبالله التوفيق اهـ . ورئي مالك يبكي في مرض موته ؛ لأنه بلغه أن بعض الناس يعملون بأقواله , مع أنه يقول القول ويرجع عنه ، وامتنع أحمد عن كتابة شيء في الفقه ؛ لئلا يقلده الناس فيه ( [1] ).
وأصل مسألتنا أن بعض العلماء رأى أن شدة الزحام مع التدافع عند المرمى - مما كان سببا في موت بعض الحجيج في بعض المواسم - رأى ذلك مشقة تجري عليها قاعدة ( المشقة تجلب التيسير ) مما يستدعي القول بجواز الرمي قبل الزوال من أول أيام التشريق توسعة على الناس وتلافيا لذلك ؛ مخالفا بذلك ما جاء عن النبي e وما قاله أهل العلم قاطبة من القرون الثلاثة المفضلة ، ومن الأئمة المجتهدين المعروفين ؛ فإن أبا حنيفة - رحمه الله - إنما قال بجوازه في اليوم الثالث من أيام التشريق وخالفه صاحباه ؛ ونقل عنه أنه قال بذلك في يوم النفر مطلقا سواء للمتعجل أو المتم وهي رواية غير مشهورة عند الأحناف ؛ ورواية في مذهب الإمام أحمد رحمه الله ؛ أما القول بأن هناك من رأى الرمي قبل الزوال مطلقا فلم يأت مرويا صحيحا صريحا عن أحد من أهل العلم من القرون الأولى المفضلة ، ولا عن أحد من الأئمة المتبوعين ؛ وما نقل بعد ذلك عن بعض أهل العلم من أتباع المذاهب في ذلك إما نقل بصيغة التضعيف ، وإما ضعفه مجتهدو المذهب ؛ أو نقل بالمعنى فاختلف فيه مما يكون معه اطراحه بالكلية وعدم اعتباره عند النظر ؛ وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى .
وأما النقول عن بعض السلف كابن عباس وابن الزبير وعطاء وطاووس ، فهذه النقول - عند التحقيق - لا دليل فيها على القول بالرمي قبل الزوال ؛ إما لعدم ثبوتها ، إما لورود خلافها عنه صحيحا مما يدخل فيه الاحتمال بأنه قد رجع عن قوله ، أو أن المروي عنه كان في جمرة العقبة يوم النحر ، وإما أنها ذكرت في بعض كتب المتأخرين الذين بينهم وبين المنقول عنهم قرون يقطع الناظر بأن الناقل لها واهم ؛ كما سيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى .
أما مسألة المشقة بالزحام عند الجمرات ما يستوجب أن يقال بجواز الرمي قبل الزوال، فلا يسلم بها ولا لها ، لأن الحج عبادة تعادل الجهاد لما فيه من المشقة والزحام ، وقد كان هذا معلومًا حتى في عهد النبي e ، فقد روى أبو داود عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَرْمِي الْجَمْرَةَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ رَاكِبٌ ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَرَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ يَسْتُرُهُ ، فَسَأَلْتُ عَنْ الرَّجُلِ ؟ فَقَالُوا : الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ فَقَالَ النَّبِيُّ e : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ؛ وَإِذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَارْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ " وفي رواية عند أحمد : وخلفه إنسان يستره من الناس أن يصيبوه بالحجارة ( [2] ) . وعند الحميدي في مسنده : " أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ ، لاَ يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَعَلَيْكُمْ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ " ( [3] ) ، مما يفيد أنهم كانوا يتدافعون ؛ نعم .. لم يكن الزحام كزحام هذه الأيام ؛ ولكنه في زمانهم كان زحاما يستوجب المشقة الزائدة ، ولم يكن لديهم من أسباب التغلب على هذا الزحام أيضا شيء ، فلم تكن الطرق معبدة ولم يكن هناك جسور .. إلى غير ذلك .
والحق أنه يمكن التغلب على الزحام باختيار الوقت المناسب للرمي في مدة الوقت المحدد ، لا باختراع وقت جديد يخالف ما وقته لنا رسول الله e بزعم التيسير على الناس ، فإن في ذلك اتهام صريح لأن النبي e كان معسرًّا في هذه المسألة ، أو أنه لم يبين للأمة وجه التيسير فيها .. وهذا بعيد بعد المشرقين ؛ كما أنه فيه اتهام بالتشدد الممقوت لهؤلاء الجهابذة من العلماء على مر القرون السابقة الذين قالوا بعدم جواز الرمي قبل الزوال في أيام التشريق ، حتى صار حكما مستقِرًّا .
وأصل هذه المشكلة الجهل الذي أصاب الكثيرين من الناس حتى أنهم يأتون الحج ولا علم لهم بمناسكه ولا بأحكامه ؛ وليس علاج الجهل مخالفة السنة والقول بإخراج العبادة عن وقتها ؛ فإن أوقات العبادات لا تعرف إلا بتوقيف ، والعبادات المؤقتة لا يجوز أداؤها قبل وقتها ؛ بل علاج الجهل التعلم ، فإذا تعلم من أراد الحج ما يجب عليه في الحج أداه دون مشقة زائدة عن أصلها .

وأما محاولة الاستدلال على ذلك بعمومات التيسير ، فمن قال أن الذي فعله النبي e كان تعسيرًا ؟!
ثم القياس على الرخص لا يجوز بإطلاقه ؛ والقول بأن النبي e ما سئل عن شيء يوم النحر من الأعمال الأربعة تقديمًا أو تأخيرًا إلا قال : " افعل ولا حرج " إنما كان عن أعمال يوم النحر وهي أربعة أعمال تحتاج إلى انتقال ومشقة ؛ فالقياس مع الفارق ، فيوم القر وما بعده لا ينسحب عليه ذلك ؛ إذ ليس فيه إلا الرمي ؛ ووقته وإن بدأ من بعد الزوال فممتد إلى المغرب عند الجمهور ، وإلى فجر اليوم الثاني عند بعض العلماء ، وهو وقت كاف لرمي الحجيج وأضعافهم ، فلا حاجة إلى القول بالرمي قبل الزوال .
لذا أردت من هذا البحث كشف جوانب هذه المسألة راجيًا من الله تعالى التوفيق والسداد ؛ ولست أول من رد على القائلين بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا ، بل كثير من العلماء ردوا على القائلين به منذ أن خرج هذا القول والذي تكلم فيه علماء أجلاء نحسبهم من أهل العلم والصدق - والله حسيبهم - وكما قال علماؤنا : كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله e ؛ وقالوا : الصادق في خفارة صدقه ، فغفر الله لنا ولهم ، وجعلنا وإياهم ممن يرجع إلى الحق إذا ظهر .

وقد رتبت هذا البحث على النحو التالي :
حكم رمي الجمرات أيام منى .
وقت رمي الجمرات أيام منى .
أقوال الأئمة في هذه المسألة .
تحقيق النقل والعزو عن من نقل عنهم جواز الرمي قبل الزوال .
مسألة الرمي قبل الزوال في يوم النفر .
والله أسأل أن يردنا إلى الحق ردًّا جميلا ، وأن يوفقنا وإخواننا جميعًا لمرضاته ما أحيانا ، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ؛ وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .

[1] - انظر مجلة المنار - المجلد (‌ 28 ) الجزء (‌ 6 ) ص 423 -‌ صفر 1346 - أغسطس 1927 .

[2] - أحمد : 3 / 503 ، 5 / 379 ، 6 / 379 ، وأبو داود ( 1966 ) ، وحسنه الألباني في الصحيحة ( 2445 ) .

[3] - مسند الحميدي ( 358 ) .
 
حكم رمي الجمرات أيام التشريق
الرمي في أيام التشريق واجب باتفاق ، لِأَنَّ أَفْعَاله e في الحجِ بَيَانٌ لِمُجْمَلٍ وَاجِب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : ] وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت [ ( آل عمران : 97 ) ، لأن ذلك داخل في امتثاله لأمر الله سبحانه بالحج ، وفي تفسيره للحج المجمل في كتاب الله ؛ والفعل إذا خرج منه e مخرج الامتثال والتفسير كان حكمه حكم الأمر ، وهو داخل في عموم قوله : " لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ " رواه مسلم عن جابر t ؛ أفاده ابن تيمية رحمه الله ( [1] ) . وهو قول جمهور العلماء .

[1] - انظر شرح العمدة : 3 / 603 – مكتبة العبيكان .
 
وقت رمي الجمرات أيام التشريق

روى مسلم عَنْ جَابِرٍ t قَالَ: رَمَى رَسُولُ اللهِ e الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى ، وَأَمَّا بَعْدُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ ( [1] ) . وفي صحيح البخاري عَنْ وَبَرَةَ قَالَ : سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ ؟ قَالَ : إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ ؛ فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ ! قَالَ : كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا ( [2] ) . وقوله : ( نتحين ) نتفعل من الحين وهو الزمان ؛ أي : نراقب الوقت المطلوب . وعند مالك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ t كَانَ يَقُولُ : لَا تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ( [3] ) . وروى الترمذي عن ابن عباس قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَرْمِي الْجِمَارَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ . ورواه ابن ماجة والطبراني بلفظ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e كَانَ يَرْمِي الْجِمَارَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ قَدْرَ مَا إِذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِهِ صَلَّى الظُّهْرَ ( [4] ) . وروى أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ e مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، كُلُّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَيَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَيُطِيلُ الْقِيَامَ وَيَتَضَرَّعُ ، وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ( [5] ) .
فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على أن الرمي في أيام منى بعد الزوال ؛ قال ابن تيمية - رحمه الله : إن الحاج يرمى الجمرات الثلاث أيام منى الثلاثة بعد الزوال ؛ وهذا من العلم العام الذي تناقلته الأمة خلفًا عن سلف عن نبيها e .. ثم ذكر الأحاديث المتقدمة ( [6] ) . وقال النووي في شرح حديث جابر المتقدم : وأما أيام التشريق فمذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء أنه لا يجوز الرمي في الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال لهذا الحديث الصحيح ؛ وقال طاووس وعطاء : يجزئه في الأيام الثلاثة قبل الزوال ؛ وقال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه : يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال ؛ دليلنا أنه e رمى كما ذكرنا وقال e : " لتأخذوا عني مناسككم " ([7]).
وقال المحب الطبري في(القِرى لقاصد أم القرى ) : قد دلت هذه الأحاديث على أن وقت الرمي في هذه الأيام من بعد الزوال ، رماها بعد الزوال عمر وابن عباس وابن الزبير ؛ وهي سنة الرمي أيام التشريق الثلاثة ؛ ولا يجوز قبل الزوال عند الجمهور ، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد ؛ وحكي عن بعضهم خلاف ذلك ، والسنة الصحيحة ترد ذلك ( [8] ) .ا.هـ .
وقال ابن حجر في ( الفتح ) في شرح حديث وبرة المتقدم :فيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال ، وبه قال الجمهور ، وخالف فيه عطاء وطاووس فقالا : يجوز قبل الزوال مطلقًا ، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال ؛ وقال إسحاق : إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه ( [9] ) .
وقال الشوكاني في (نيل الأوطار):قوله: ( حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ ) وكذا قوله في حديث عائشة : ( إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ) ، وقوله في حديث ابن عمر : ( فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا ) .. هذه الروايات تدل على أنه لا يجزئ رمي الجمار في غير يوم الأضحى قبل زوال الشمس ، بل وقته بعد زوالها ، كما في حديث جابر أنه e رمى يوم النحر ضحى ، ورمى بعد ذلك بعد الزوال ؛ وإلى هذا ذهب الجمهور ، وخالف في ذلك عطاء وطاووسفقالا:يجوزالرميقبلالزوالمطلقًا؛ورخصالحنفيةفي الرمييومالنفرقبلالزوال؛وقالإسحاق:إن رمى قبل الزوال أعاد إلافياليومالثالثفيجزيه( [10] ) . والأحاديث المذكورة ترد على الجميع ( [11] ) .
وقال المباركفوري في ( تحفة الأحوذي ) : والحق ما ذهب إليه الجمهور ؛ وأحاديث الباب كلها ترد على من قال بجواز الرمي قبل الزوال بعد يوم النحر ( [12] ) .

[1] - مسلم ( 1299 ) .

[2] - البخاري ( 1746 ) .

[3] - 1 / 408 ( 918 ) .

[4] - الترمذي ( 898 ) وحسنه ، وللحديث شواهد يصح بها ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي ؛ ورواه ابن ماجة ( 3054 ) ، والطبراني في الكبير : 11 / 395 ( 12110 ) من طريق أخرى بإسناد ضعيف .

[5] - أحمد : 6 / 90 ، أبو داود ( 1973 ) ابن خزيمة ( 2956 ، 2971 ) وابن حبان ( 3868 ) ، والداراقطني : 2 / 274 ، والحاكم ( 1756 ) وصححه على شرط مسلم ، والبيهقي في الكبرى : 5 / 148 .

[6] - العدة شرح العمدة : 3 / 558 .

[7]- شرح مسلم : 9 / 48 .

[8] - انظر القرى ص 524 .

[9] - الفتح : 3 / 580 ، ونقله عنه البدر العيني في ( عمدة القاري ) : 10 / 86 ، فقد كان ينقل عن ابن حجر في شرحه كثيرا ولا يعزه ، ونقله أيضا المباركفوري في تحفة الأحوذي : 3 / 641 ، فظهر أن المصدر واحد .

[10] - من قوله : وخالف ... نقله عن ابن حجر ولم يعزه .

[11] - نيل الأوطار : 5 / 161 .

[12] - تحفة الأحوذي : 3 / 548 ، والحديث رواه البيهقي في الكبرى : 5 / 152 ، وقال : طلحة بن عمرو المكي : ضعيف ا.هـ وضعف ابن حجر الحديث في ( الدراية في تخريج أحاديث الهداية ) .
 
تحقيق المقال

قلت : قد نقل الإجماع ابن عبد البر والقرطبي على أن وقت الرمي في أيام التشريق بعد الزوال ؛ قال ابن عبد البر - رحمه الله : أجمعوا أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق الثلاثة - التي هي أيام منى بعد يوم النحر - وقت الرمي فيما بعد زوال الشمس إلى غروب الشمس( [1] ) وقال القرطبي في تفسيره : أجمعوا أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب ( [2] ) .
وقد يقال : إن الإجماع منعقد على أن وقت الرمي بعدالزوال ؛ والخلاف قائم في هل يجوز قبله أو لا؟

والجواب : عند التحقيق يتبين أن هناك إجماعًا على أن وقت الرمي في اليوم الأول من أيام التشريق لا يجوز إلا بعد الزوال ، والخلاف إنما هو في يوم النفر الأول والثاني فقط ؛ ولم ينقل خلاف ذلك عن المتقدمين من أهل العلم قاطبة نقلا صحيحًا ؛ وإنما نقل عن بعض المتأخرين من الأحناف عَدُّ الرمي قبل الزوال مطلقا رواية عن أبي حنيفة ، وهو خلاف ما عليه المذهب ؛ وأما ما نُقل عن عطاء وطاووس وغيرهما فسيأتي التحقيق ببيان أنه لا يثبت عنهم .
ولذا لن نطيل بنقل أقوال أهل المذاهب ؛ وإنما نحاول في هذه العجالة أن نحرر هذا القول المنقول عن أبي حنيفة - رحمه الله .

[1]- التمهيد : 17 / 254 .

[2]- تفسير القرطبي : 3 / 4 ، 5 .
 
تحرير المقال

قال السرخسي ( ت : في حدود 490 هـ ) - رحمه الله في ( المبسوط ) : وَإِنْ رَمَاهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ ; لِأَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ الزَّوَالِ عُرِفَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ e فَلَا يُجْزِئُهُ قَبْلَهُ , وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ رحمه الله تعالى فِي ( الْمُنْتَقَى ) أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتُ الرَّمْيِ حَتَّى لَوْ رَمَى أَجْزَأَهُ .. قَالَ : وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ , وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ , وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : إنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ , وَإِنْ رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ أَفْضَلُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ قَصْدِهِ التَّعْجِيلُ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ بَعْضُ الْحَرَجِ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ بِأَنْ لَا يَصِلَ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِاللَّيْلِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَرْمِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَصِلَ إلَى مَكَّةَ بِالنَّهَارِ فَيَرَى مَوْضِعَ نُزُولِهِ فَيُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ , وَالْأَفْضَلُ مَا هُوَ الْعَزِيمَةُ , وَهُوَ الرَّمْيُ بَعْدَ الزَّوَالِ , وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ هَذَا الْيَوْمُ نَظِيرُ الْيَوْمِ الثَّانِي فَإِنَّ النَّبِيَّ e رَمَى فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ .. إلى أن قال : وَإِنْ صَبَرَ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْمِيَ الْجِمَارَ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى , وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُجْزِئُهُ بِمَنْزِلَةِ الْيَوْمِ الثَّانِي , وَالثَّالِثِ ; لِأَنَّهُ يَوْمٌ تُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ الثَّلَاثُفَلَايَجُوزُإلَّابَعْدَالزَّوَالِبِخِلَافِيَوْمِالنَّحْرِ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ t ( إذَا انْتَفَحَ النَّهَارُ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَارْمُوا ) يُقَالُ انْتَفَحَ النَّهَارُ إذَا عَلَا , وَاعْتُبِرَ آخِرُ الْأَيَّامِ بِأَوَّلِ الْأَيَّامِ فَكَمَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَكَذَا فِي الْيَوْمِ الْآخَرِ , وَهَذَا لِأَنَّ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ يَجُوزُ تَرْكُهُ أَصْلًا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ النَّوَافِلَ , وَالتَّوْقِيتُ فِي النَّفْلِ لَا يَكُونُ عَزِيمَةً فَلِهَذَا جُوِّزَ الرَّمْيُ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَصِلَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ اللَّيْلِ . ( [1] ) .
وكتاب المبسوط هو الكتاب المعتمد عند الأحناف عند الخلاف ، لأنه هو المحتوي على كتب ظاهر الرواية للإمام محمد بن الحسن الشيباني عن الإمام أبي حنيفة رحمهما الله ؛ ولذا سنجد أن كل من جاء بعد السرخسي ينقل عنه .
ويستفاد من هذا النقل :
1 – أن ظاهر الرواية أنه لا يجوز الرمي قبل الزوال ( فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ [ الأول من أيام التشريق ] ; لِأَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ الزَّوَالِ عُرِفَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ e فَلَا يُجْزِئُهُ قَبْلَهُ .
2 – أن أبا حنيفة - في غير ظاهر الرواية - جوَّز الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق لمن أراد النفر في رواية الحسن عنه ، ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ [ أي النفر ] مِنْ قَصْدِهِ لَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ) . أما ظاهر الرواية فلا يجوز : ( وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ : هَذَا الْيَوْمُ نَظِيرُ الْيَوْمِ الثَّانِي فَإِنَّ النَّبِيَّ e رَمَى فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ ) .
3 – أن أبا حنيفة رأى الرمي قب لالزوال في اليوم الثالث من أيام التشريق استحسانا، وخالفه صاحباه .
هذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - الذي نقله له أئمة المذهب ؛ ولم ينقل عنه القول بجواز الرمي مطلقًا .
قال الكاساني ( ت : 587 هـ ) - رحمه الله - في ( بدائع الصنائع ) : وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ - وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ - فَبَعْدَ الزَّوَالِ حَتَّى لَا يَجُوز الرَّمْيُ فِيهِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بَعْدَ الزَّوَالِ , فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ جَازَ ؛ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَكَذَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ أَيَّامُ النَّحْرِ , وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى , وَرَمَى فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ , وَهَذَا بَابٌ لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ ... قال : وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ - وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ - فَالْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ , وَلَوْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ , وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ , وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ t أَنَّ النَّبِيَّ e رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى , وَرَمَى فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ , وَأَوْقَاتُ الْمَنَاسِكِ لَا تُعْرَفُ قِيَاسًا ، فَدَلَّ أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ , وَلِأَنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ فَكَانَ وَقْتُ الرَّمْيِ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ , وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ t أَنَّهُ قَالَ : ( إذَا اُفْتُتِحَ النَّهَارُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ جَازَ الرَّمْيُ ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَهُ سَمَاعًا مِنْ النَّبِيِّ e إذْ هُوَ بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ ، فَصَارَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَخْصُوصًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ t بِهَذَا الْحَدِيثِ ، أَوْ يُحْمَلُ فِعْلُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ , وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ الرَّمْيِ , وَيَتْرُكَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ رَأْسًا فَإِذَا جَازَ لَهُ تَرْكُ الرَّمْيِ أَصْلًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الرَّمْيُ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْلَى , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( [2] ) .
قلت : أما قوله : ( وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بَعْدَ الزَّوَالِ , فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ جَازَ ) فمراده اليوم الثالث والرابع من أيام الرمي ؛ لأن الكاساني ابتدأ القول : ( وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ) ، فالحديث عن الرمي في أيام التشريق ، وحمل ذلك على اليوم الثاني من أيام النحر بعيد لمخالفته لسياق الكلام ، ولما ذكره السرخسي في (المبسوط) عن الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ رحمه الله تعالى فِي ( الْمُنْتَقَى ) أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتُ الرَّمْيِ حَتَّى لَوْ رَمَى أَجْزَأَهُ .. قَالَ : وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ , وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ا.هـ ..
وقد توهم الشيخ علي ونيس في رسالته : ( تحقيق المقال في رمي الجمار قبل الزوال ) بأن المقصود [ من نقل الكاساني عن أبي حنيفة ] بالثاني والثالث بعد يوم النحر ( [3] ) ، ثم نقل عن الكمال بن الهمام قوله : ( قَوْلُهُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَة - رحمه الله - قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ , فَإِنْ رَمَى قَبْلَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ ) .
وهذا اجتزاء لا يجوز ، إذ كلام الكمال عن الرمي أيام التشريق ، ومعلوم أن المنقول عن أبي حنيفة في الحديث عن أيام النفر ، فمراد ابن الهمام من النقل اليوم الثالث والرابع ؛ فابن الهمام قال شارحا : ( قَوْلُهُ : وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ إلَخْ ) أَفَادَ أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَدْخُلُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَكَذَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَسَيَتَبَيَّن ... إلى أن قال : ( قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ ) هُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِيَوْمِ النَّفْرِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ فِيهِ بَعْدَ الرَّمْيِ ، وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُسَمَّى يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي ... إلى أن قال : ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ) أَيْ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا الرَّمْيِ ( وَالثَّانِي ) مِنْهَا فَإِنَّهُمَا الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ وَالثَّالِثُ مِنْهُ ( قَوْلُهُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ ) احْتِرَازٌ عَمَّا عَنْ أَبِي حَنِيفَة - رحمه الله قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ , فَإِنْ رَمَى قَبْلَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ وَحُمِلَ الْمَرْوِيُّ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى اخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ . وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْمَنْقُولِ لِعَدَمِ الْمَعْقُولِيَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ تَخْفِيفٍ فِيهَا بِتَجْوِيزِ التَّرْكِ لِيَنْفَتِحَ بَابُ التَّخْفِيفِ بِالتَّقْدِيمِ , وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَبُو حَنِيفَة وَحْدَهُ ( [4] ) . انتهى المراد منه ، وهو واضح .
وبهذا تندفع شبهة الاستدلال على أن المراد من المنقول عن أبي حنيفة أنه اليوم الثاني من أيام الرمي أي اليوم الأول من أيام التشريق .وأما ما نقله ونيس عن ابن عابدين نقلا عن اللباب ؛ فلعله خطأ من الناسخ ؛ وهذا يقع كثيرا ، واللباب من كتب المتأخرين ، ولم أجد في كتب المتقدمين من الأحناف من قال بهذا القول ؛ ونسبته إلى أبي حنيفة يحتاج إلى نقل مصدق .. وهيهات ...
وعد الرمي قبل الزوال مطلقا رواية ثالثة عن أبي حنيفة لا يعرف في المذهب إلا من نقل ونيس عن القاري ، ولم يوافقه عليه أحد .. فكيف ؟!! بل نقل هو عن ( إرشاد الساري ) انتقاد أخواجان من الحنفية هذا القول ؛ قال : وقد تقرر في كتبنا أنه لا يُعدل عن العمل بظاهر الرواية إلا إذا صُحح خلافه في كتاب مشهور تلقته الفحول بالقبول ، كالهداية والكافي ( [5] ) . ا.هـ .
وأما نقله عن إرشاد الساري نقلا عن طاهر سنبل في ( ضياء الأبصار ) ؛ فيا لله العجب !! حديثه عن يوم النفر الأول فكيف يستدل به على هذا القول ؛ وأنا أعيده هنا بحروفه ليرى القارئ بنفسه أين وجه الاستدلال ؟ قال : واحترز في المحيط بقوله : في ظاهر الرواية كما ذكره الحاكم في المنتقى [ تقدم نقله عن المبسوط ] عن الإمام ، أنه لو أراد النفر في اليوم قبل الزوال - يعني الثاني عشر من ذي الحجة - جاز له أن يرمي ؛ كذا في المبسوط وكثير من المعتبرات ؛ وهي رواية عن أبي يوسف كذا في شرح الطحاوي ... انتهى المراد منه ؛ فالكلام عن يوم النفر الأول ، لا عن اليوم الأول من أيام التشريق ..
وأما نقل ونيس في ( تحقيق المقال ) عن هداية السالك لابن جماعة : وحكى الاسبيجاني وغيره ذلك رواية عن أبي حنيفة .ا.هـ . هكذا نقله مما يوهم أن النقل في جواز الرمي قبل الزوال مطلقا ؛ والأمر غير ذلك ؛ فكلام ابن جماعة - رحمه الله : وجزم الميرغيناني بجواز الرمي في اليوم الثاني عشر قبل الزوال لمن أراد النفر فيه ؛ وحكى الاسبيجاني وغيره ذلك رواية عن أبي حنيفة ( [6] ) .ا.هـ.
وبهذا التحقيق تزول الشبهة عن أبي حنيفة - رحمه الله - من أنه له رواية بالقول بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا في أيام التشريق .. فإذا زالت الشبهة فمن نقل عنه ذلك فعليه الإثبات بطريق علمي صحيح ، لا بالنقل عن المتأخرين ، ولا بالنقل عن غير كتب المذهب .
وهذه كتب الأحناف المتقدمة والمتأخرة عدا ما ذكرنا لا يذكرون ذلك ؛ بل يكتفون بذكر المشهور ، أو التنويه بالرواية الثانية عن أبي حنيفة - رحمه الله - ومخالفة صاحبيه له ؛ فمثلا : قال زين بن إبراهيم في ( البحر الرائق شرح كنز الدقائق ) : قوله : ( .. إلى منى فارم الجمار الثلاث في ثاني النحر بعد الزوال ) أي : ثم رح إلى منى فارم الجمار اقتداء برسول الله e ... وأشار بقوله : (بعدالزوال) إلى أول وقته في ثاني النحر وثالثة ، حتى لو رمى قبل الزوال لا يجوز ؛ ولم يذكر آخره وهو ممتد إلى طلوع الشمس من الغد فلو رمى ليلا صح وكره ؛ كذا في المحيط . فظهر أن له وقتين : وقتا لصحة ووقتا لكراهة ( [7] ) ا.هـ .
وحتى كتب الخلاف التي كتبها الأحناف ككتاب ( التجريد ) لأبي الحسين القدوري ( ت : 428 هـ ) لم يذكر فيه هذا قولا ، ولم يتعرض إلاللمشهورفيالمذهبفقط([8]) .
وقال الشيخ نظام - رحمه الله - في ( الفتاوى الهندية ) : وَالْكَلَامُ فِي الرَّمْيِ فِي مَوَاضِعَ : الْأَوَّلُ فِي أَوْقَاتِ الرَّمْيِ : وَلَهُ أَوْقَاتٌ ثَلَاثَةٌ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ أَوَّلُهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَوَقْتُ الرَّمْيِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : مَكْرُوهٌ ، وَمَسْنُونٌ ، وَمُبَاحٌ ؛ فَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الطُّلُوعِ مَكْرُوهٌ ، وَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى زَوَالِهَا وَقْتٌ مَسْنُونٌ ، وَمَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقْتٌ مُبَاحٌ ، وَاللَّيْلُ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ .. قال : وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَهُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْغَدِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّمْيُ فِيهِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ ، إلَّا أَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقْتٌ مَسْنُونٌ ، وَمَا بَعْدَ الْغُرُوبِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ ، هَكَذَا رُوِيَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَأَمَّا وَقْتُهُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، إلَّا أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ ، وَمَا بَعْدَهُ مَسْنُونٌ ؛ كَذَا فِي مُحِيطِ السَّرَخْسِيِّ ( [9] ) . انتهى المراد منه . وفي فتاوى قاضيخان : لا يدخل وقت الرمي في اليوم الأول والثاني من أيام التشريق حتى تزول الشمس في المشهور من الرواية ؛ وفي اليوم الثالث من أيام التشريق يجوز قبل الزوال في قول أبي حنيفة رحمه الله ؛ وقال صاحباه : لا يجوز .. وإن لم يرم الجمار كان عليه دم لترك الواجب ( [10] ).ا.هـ .
فهذا هو المنقول عن الأحناف ؛ فمن قال عنهم غير ذلك فليأت ببينة .
هذا والعلم عند الله تعالى .. وللحديث صلة .

[1] - انظر المبسوط : 4 / 68 ، 69 .

[2] - انظر بدائع الصنائع : 3 / 1121 : 1123 ( مطبعة الإمام – القلعة – مصر ) .

[3] - انظر تحقيق المقال ص 32 .

[4] - انظر شرح الكمال ابن الهمام على الهداية المسمى فتح القدير : 2 / 509 وما بعدها .

[5] - انظر إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي القاري لحسين بن محمد سعيد المكي الحنفي ص159 ، وكلام أخواجان في رسالة له في منع الرمي قبل الزوال نصها كاملة في إرشاد الساري ، فليرجع إليها من شاء ، وانظر تحقيق المقال ص 92 .

[6] - انظر هداية السلك إلى المذاهب الأربعة في المناسك : 3 / 1210 ، 1211 – تحقيق د نور الدين عتر - - دار البشائر .

[7] - البحر الرائق شرح كنز الدقائق : 2 / 374 .

[8] - انظر التجريد : 4 / 1943 : 1945 _ دار السلام الطباعة والنشر – مصر .

[9] - الفتاوى الهندية : 1 / 233 ( دار إحياء التراث العربي – بيروت ) .

[10] - فتاوى قاضيخان على هامش الفتاوى الهندية : 1 / 298 ( دار إحياء التراث العربي – بيروت ) .
 
وأما المنقول عن بعض الشافعية
فقد قال في تحفة المحتاج في شرح المنهاج : ( وَإِذَا تَرَكَ رَمْيَ ) ، أَوْ بَعْضَ رَمْيِ ( يَوْمٍ ) لِلنَّحْرِ ، أَوْ مَا بَعْدَهُ عَمْدًا ، أَوْ غَيْرَهُ ( تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ ) وَيَكُونُ أَدَاءً ( فِي الْأَظْهَرِ ) ؛ لِأَنَّهُ e جَوَّزَ ذَلِكَ لِلرِّعَاءِ ، فَلَوْ لَمْ تَصِحَّ بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ لِلرَّمْيِ لَتَسَاوَى فِيهَا الْمَعْذُورُ وَغَيْرُهُ كَوُقُوفِ عَرَفَةَ وَمَبِيتِ مُزْدَلِفَةَ ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ e جَوَّزَ التَّدَارُكَ لِلْمَعْذُورِ فَلَزِمَ تَجْوِيزُهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا ؛ وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّ لَهُ تَدَارُكَهُ قَبْلَ الزَّوَالِ لَا لَيْلًا ؛ وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ اضْطِرَابٍ فِي ذَلِكَ جَوَازُهُ فِيهِمَا بِخِلَافِ تَقْدِيمِ رَمْيِ يَوْمٍ عَلَى زَوَالِهِ ، فَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ كَمَا صَوَّبَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَجَزْمُ الرَّافِعِيِّ بِجَوَازِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ كَالْإِمَامِ ضَعِيفٌ ، وَإِنْ اعْتَمَدَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمَعْرُوفُ مَذْهَبًا ، وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي جَوَازُهُ مِنْ الْفَجْرِ نَظِيرَ مَا مَرَّ فِي غُسْلِهِ . وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ أَيَّامَ مِنًى كُلَّهَا كَالْوَقْتِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّأْخِيرِ دُونَ التَّقْدِيمِ ( [1] ) .
قال الشرواني في حاشيته على التحفة : قوله: (كما صوبه المصنف) قد يفيد هذا التعبير أنه لا يجوز العمل بمقابله الآتي ، ولعله ليس بمراد بقرينة ما بعده ، فإنه يقتضي أن له نوع قوة فهو من قبيل مقابل الأصح لا الصحيح . قوله: ( وعليه ) أي : الضعيف من جواز رمي أيام التشريق قبل الزوال ؛ قوله : ( فينبغي جوازه الخ ) ولا يخفى أنه لا يلزم من جواز الرمي قبل الزوال على الضعيف جواز النفر قبله عليه ، لاحتمال أن الأول لحكمة لا توجد في الثاني ، كتيسر النفر عقب الزوال قبل زحمة الناس في سيرهم ، ولا يسع لأمثالنا قياس نحو النفر على نحو الرمي ( [2] ) .ا.هـ .
ولبيان هذا القول أقول : النقل عن الإمام الجويني يحتاج إلى توثيق ، إذ المعروف عنه خلافه ؛ فهو قد رد على الحنفية في جواز الرمي قبل الزوال في اليوم الرابع ( [3] ) ؛ فكيف يقول هو بجوازه من اليوم الأول للتشريق ؟! وبالرجوع إلى ( شرح الوجيز ) للرافعي رأيته قال : إذا ترك رمى يوم القر [ الحادي عشر ] عمدا أو سهوا هل يتداركه في اليوم الثاني أو الثالث ؟ أو ترك رمى اليوم الثاني أو رمي اليومين الأولين هل يتداركه في الثالث ؟ فيه قولان ؛ أصحهما : نعم ؛ قاله في المختصر وغيره ، وبه قال أبو حنيفة كالرعاة وأهل السقاية . والثاني : لا ، كما لا يتدارك بعد أيام التشريق . ( التفريع ) : إن قلنا بأنه لا يتدارك في بقية الأيام فهل يتدارك رمى اليوم في الليلة التي تقع بعده من ليالي التشريق ؟ فيه وجهان ، وهما مفرعان على الصحيح في أن وقته لا يمتد إلى الليلة على ما سبق ؛ وإن قلنا بالتدارك فتدارك فهو قضاء أو أداء ؟ فيه قولان : أحدهما : أنه قضاء لمجاوزته الوقت المضروب له ؛ وأظهرهما : أنه أداء ولولاه لما كان للتدارك فيه مدخل ، كما لا يتدارك الوقوف بعد فواته . ( التفريع ) : إن قلنا أداء فجملة أيام مني في حكم الوقت الواحد ، وكل يوم للقدر المأمور به فيه وقت اختيار ، كأوقات الاختيار للصلوات ؛ ويجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال ؛ ونقل الإمام - رحمه الله - أن على هذا القول لا يمتنع تقديم رمى يوم إلى يوم ، لكن يجوز أن يقال : إن وقته يتسع من جهة الآخر دون الأول فلا يجوز التقديم .. ( [4] ) .
فهذا الذي قاله الإمام وليس فيه أدنى إشارة إلى القول بجواز الرمي قبل الزوال مطلقًا ؛ إنما هي مسألة مفرعة على التدارك أقضاء هو أم أداء ؟ وهل يجوز تقديم رمي يوم إلى يوم ؟
والمسألة قد نقلها النووي في ( روضة الطالبين وعمدة المفتين ) قال : ويجوز تقديم رمي يوم التدارك [ أي اليوم الذي لم يرم فيه فتداركه في اليوم بعده ] على الزوال ؛ ونقل الإمام [ أي الجويني ] أن على هذا القول لا يمتنع تقديم رمي يوم إلى يوم ، لكن يجوز أن يقال : إن وقته يتسع من جهة الآخر دون الأول ، فلا يجوز التقديم .ا.هـ . قلت [ أي النووي ] : الصواب الجزم بمنع التقديم ؛ وبه قطع الجمهور تصريحا ومفهوما ، والله أعلم .ا.هـ ( [5] ) . فالكلام في جواز تقديم يوم على يوم لا في جواز تقديم رمي اليوم قبل الزوال ، وقد تكلم فيها الجويني تفريعا ؛ وحكاها الرافعي دون جزم أو ترجيح ، بل قال : لكن يجوز أن يقال : إن وقته يتسع من جهة الآخر دون الأول فلا يجوز التقديم ا.هـ . وجزم النووي بعدم جواز التقديم ؛ فالقول ضعيف عند الشافعية ، وليس هو من باب الصحيح والأصح كما قال الشرواني - رحمه الله ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - انظر تحفة المحتاج : 4 / 138 .

[2] - حاشية الشرواني على تحفة المحتاج : 4 / 138 .

[3] - انظر الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية – تحقيق د عبد العظيم الديب ، ص 381 .

[4] - شرح الوجيز : 7 / 402 ، 403 .

[5] - انظر روضة الطالبين وعمدة المفتي : 2 / 388 ، وهو اختصار لشرح الوجيز للرافعي .
 
وأما النقل عن بعض الحنابلة
فقال ابن مفلح ( ت : 884 هـ ) - رحمه الله : فَيَبِيتُ بِمِنًى ثَلَاثَ لَيَالٍ ، وَيَرْمِي فِي غَدٍ بَعْدَ الزَّوَالِ ، نَصَّ عَلَيْهِ ، وَيُسْتَحَبُّ قَبْلَ الصَّلَاةِ ؛ وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَبْلَ الزَّوَالِ ؛ وَفِي الْوَاضِحِ : بِطُلُوعِ الشَّمْسِ ، إلَّا ثَالِثَ يَوْمٍ ، وَأَطْلَقَ أَيْضًا فِي مَنْسَكِهِ أَنَّ لَهُ الرَّمْيَ مِنْ أَوَّلِ ، وَأَنَّهُ يَرْمِي فِي الثَّالِثِ كَالْيَوْمَيْنِ قَبْلَهُ ( [1] ) .
قال المرداوي في ( الإنصاف ) : قَوْلُهُ ( وَيَرْمِي الْجَمَرَاتِ بِهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ ) هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ ، وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ ؛ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي ( الْمُذْهَبِ ) وَ ( مَسْبُوكِ الذَّهَبِ ) : إذَا رَمَى فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى قَبْلَ الزَّوَالِ : لَمْ يُجْزِهِ رِوَايَةً وَاحِدَةً ، فَأَمَّا فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ : فَيَجُوزُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ انْتَهَى .. قَالَ فِي الْفُرُوعِ : وَجَوَّزَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ الرَّمْيَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَقَالَ فِي الْوَاضِحِ : وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ إلَّا ثَالِثَ يَوْمٍ وَأَطْلَقَ فِي مَنْسَكِهِ أَيْضًا : أَنَّ لَهُ الرَّمْيَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ، وَأَنَّهُ يَرْمِي فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَالْيَوْمَيْنِ قَبْلَهُ ثُمَّ يَنْفِرُ .. ( [2] ) .ا.هـ . ولم أقف على منسك ابن الجوزي - رحمه الله - لتحقيق النقل عنه ؛ ولكن قال ابن رجب في ( ذيل طبقات الحنابلة ) : ذكر ابن الزاغوني في منسكه : أن رمي الجمار أيام منى ، ورمي جمرة العقبة يوم النحر يجوز قبل الزوال وبعده ، والأفضل بعده . ا.هـ. قال ابن رجب - رحمه الله : ولهذا لم يوافقه عليه أحد - فيما أعلم - وهو ضعيف مخالف للسنة في رَمي جمرة العقبة يوم النحر ( [3] ) . قلت : ومخالف أيضا للسنة في رمي أيام التشريق .
وبكل حال فهؤلاء من متأخري المذهبين ( الشافعية والحنابلة ) ؛ ولا يخرم خلافهم - إن صح - الإجماع قبلهم ، ولم ينقلوا هذا عن أحد ، إنما كان باجتهاد منهم ، وهو ظنٌ مخالف لما ورد عن النبي e ، وعن السلف ، وعن العلماء قبلهم .. وقد رده كبار علمائهم المعتمد قولهم ؛ فعند النظر لا اعتبار له في الخلاف .
فالقول بأن هذا خلاف معتبر مخالف لما عليه الدليل والنظر ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - الفروع لابن مفلح : 3 / 518 ، وأعاد الكلام في المبدع : 3 / 250 .

[2] - الإنصاف : 4 / 45 ؛ ولم أجد قول ابن الجوزي في المطبوع من ( المذهب الأحمد في مذهب الإمام أحمد ) ؛ انظر باب صفة الحج ص 44 ، 45 من طبعة خليل شرف الدين بمباي ؛ فلعلها في نسخة أخرى أصح ، والعلم عند الله تعالى .

[3] - ذيل طبقات الحنابلة : 1 / 182 – دار المعرفة .
 
تحقيق المنقول عن السلف في الرمي قبل الزوال

جمع بعض الباحثين ( [1] ) نقولا عن ابن عباس وابن الزبير وعطاء وطاووس وابنه وعكرمة ومحمد بن علي الباقر ، وزعم بأنهم يجوزون الرمي قبل الزوال مطلقا ؛ وهذا النقل يحتاج إلى تحقيق نتناوله كما يلي :

أولا : ما نقل عن ابن عباس :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة قال : رمقت ابن عباس رماها عند الظهيرة قبل أن تزول ( [2] ) .
قلت : ليس فيه ما يستدل به على القول بالرمي قبل الزوال مطلقًا في أيام التشريق لأمور : الأول : لم يذكر ابن أبي مليكة أي الجمرات رمى ابن عباس ، فمن المحتمل أن تكون جمرة العقبة يوم النحر ، والظهيرة من وقتها .
الثاني : قوله ( عند الظهيرة ) يفيد قرب وقت الزوال وربما وهم ابن أبي مليكة في قوله ( قبل أن تزول ) أو أراد قبل أن يستبين زوالها ؛ ولا يتطرق احتمال ثالث لهذا الخبر ؛ لأن ابن عباس روى عن النبي e خلاف ذلك ؛ وهو الأمر الثالث .
الثالث : قال الترمذي : حدثنا أحمد بن عبدة الضبي البصري،حدثنازيادبنعبدالله عن الحجاج [ ابن دينار الواسطي ] ، عن الحكم [ ابن عتيبة ] عن مقسم ، عن ابن عباس قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَرْمِي الْجِمَارَ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ( [3] ) .
أفتراه يروي ذلك عن النبي e ويرى خلافه ؟! سبحانك هذا بهتان عظيم .
الرابع : لم يعرف عن ابن عباس أنه كان يرمي قبل الزوال مطلقًا أو أفتى بذلك ، وإلا لطار به من قال بهذاالقول، بل حكى ابن عبد البر ( [4] )والمحب الطبري أنه ممن رمى بعد الزوال ؛ ولم نر من نسب له أنه كان يرى الرمي قبل الزوال مطلقا ؛ وإنما نسب له بعض الأحناف جواز الرمي من بعد الفجر يوم النفر الثاني لخبر رواه عنه البيهقي وضعفه ( [5] ) . قال المباركفوري في ( تحفة الأحوذي ) : احتج الحنفية بما رواه البيهقي عن ابن عباس : إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر .ا.هـ قال الزيلعي في نصب الراية : في سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي ؛ قال : والانتفاخ الارتفاع ([6]) .
فهل بعد ذلك يقال : إن ابن عباس t يرى جواز الرمي قبل الزوال مطلقا ؟!!
وللحديث صلة .

[1] - الشيخ علي محمد ونيس في رسالته ( تحقيق المقال في الرمي قبل الزوال ) ، وونيس لم يقل بالرمي قبل الزوال في أيام التشريق بعد البحث ، ولكن اعتبره من الخلاف المعتبر لهذه النقول ، فإذا سقطت دلالتها سقط اعتبار الخلاف .

[2] - مصنف ابن أبي شيبة ( 14578 ) ، وقد احتج البخاري ومسلم بعنعنة ابن جريج عن ابن أبي مليكة ، انظر البخاري ( 2457 ، 4552 ) ، ومسلم ( 1711 ، 2668 ) .

[3] - الترمذي ( 898 ) وحسنه ، وهو كما قال ؛ فالحجاج هو ابن دينار الواسطي كذا قال المباركفوري : قال الذهبي في السير : 7 / 77 : حسن الحال . وقال العجلي في معرفة الثقات : 1 / 285 : ثقة . وقال في التقريب لا بأس به . ا.هـ فحديثه حسن ، وللحديث شواهد يصح بها والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي ؛ ورواه ابن ماجة ( 3054 ) ، والطبراني في الكبير : 11 / 395 ( 12110 ) وفيه إبراهيم بن شيبة أبو شيبة وهو ضعيف .

[4]- في التمهيد : 7 / 272 .

[5] - انظر المبسوط : 4 / 69 ، ونصب الراية : 3 / 175 ، والهداية للميرغيناني : 1 / 194 ، و بدائع الصنائع : 3 / 1121 : 1123 ( مطبعة الإمام – القلعة – مصر ) .

[6] - تحفة الأحوذي : 3 / 548 ، والحديث رواه البيهقي في الكبرى : 5 / 152 ، وقال : طلحة بن عمرو المكي : ضعيف ا.هـ وضعف ابن حجر الحديث في ( الدراية في تخريج أحاديث الهداية ) .
 
ثانيا : ما نقل عن ابن الزبير
قال الفاكهي في ( أخبار مكة ) : حدثنا محمد بن أبي عمر قال : ثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار قال : ذهبت أرمي الجمار فسألت : هل رمى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما ؟ فقالوا : لا ، ولكن قد رمى أمير المؤمنين ( يعنون ابن الزبير رضي الله عنهما ) ، قال عمرو : فانتظرت ابن عمر - رضي الله عنهما - فلما زالت الشمس خرج فأتى الجمرة الأولى فرماها ، ثم تقدم أمامها قليلا فوقف وقوفا طويلا ، ثم أتى الوسطى فرماها ، ثم قام عن يسارها فوقف وقوفا طويلا ، ثم أتى جمرة العقبة فرماها ، ثم انصرف ولم يقف عندها ( [1] ) . وهذا إسناد صحيح ، وهو واضح في أن عبد الله ابن الزبير رمى قبل الزوال ؛ ولكن لم يبين لنا عمرو بن دينار في أي أيام التشريق كان ، فيحتمل أنه في اليوم الأول ، فتكون دلالته واضحة في المسألة ، كما يحتمل أن يكون في يوم النفر الأول أو الثاني ؛ فيسقط الاستدلال به في أن ابن الزبير كان يرى الرمي قبل الزوال مطلقا ، إذ جائز أنه كان يرى ذلك يوم النفر ، وهي مسألة أخرى سيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى .
وقد روى ابن أبي شيبة خلاف ذلك عنه فقال : حدثنا أبو خالد ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار قال : رأيت ابن الزبير وعبيد بن عمير يرميان الجمار بعد ما زالت الشمس ( [2] ) . وقال الفاكهي : حدثنا هارون بن موسى بن طريف قال : ثنا ابن وهب ، عن عمرو قال : إن أبا الزبير حدثه أنه رأى عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهم - يرميان الجمار حين تزيغ الشمس، ورآهما يطيلان الوقوف عند الجمرتين الأوليين ( [3] ) .
فهذان الخبران يؤكدان على أن ابن الزبير رمى بعد الزوال ، والروايات الثلاثة عن عمرو ابن دينار ، الأوليتان برؤيته ، والثالثة بتحديث أبي الزبير له ، فيحتمل أنه كان يرى جواز الأول وأفضلية الثاني ، كما يحتمل أن الرمي قبل الزوال كان له رأي رجع عنه ؛ وهذا كثير عند السلف لم يكن يبلغهم الدليل فيجتهدون في المسألة ، فإذا انتهى إليهم الدليل رجعوا إلى الصواب .. وهذا الظن بمثل ابن الزبير ، خاصة وأنه لم يذكر أحد ممن تكلموا في هذه المسألة من القدماء اسم ابن الزبير فيمن يرى ذلك ، بل ذكره المحب الطبري في ( القرى ) فيمن لا يرى ذلك كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - أخبار مكة للفاكهي ( 2664 ) .

[2] - ابن أبي شيبة ( 14577 ) ، واحتج البخاري بعنعنة ابن جريج عن عمرو بن دينار ( 3061 ، 4074 ) .

[3] - أخبار مكة الفاكهي ( 2665 ) .
 
ثالثًا : ما نقل عن عطاء
قال النووي في ( شرح مسلم ) : وقال طاووس وعطاء : يجزئه في الأيام الثلاثة قبل الزوال ( [1] ) ؛ وقال ابن حجر في ( الفتح ) في شرح حديث ابن عمر ( كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا ) : فيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال ، وبه قال الجمهور ، وخالف فيه عطاء وطاووس فقالا : يجوز قبل الزوال مطلقا ( [2] ) ؛ وأحسبه وهمًا فبين النووي وابن حجر وبينهما - رحمهم الله - قرونا ، ولم يذكرا إسنادًا لهما ، ولم أقف على أحد سبق النووي - رحمه الله - في ذلك ، وغلبة الظن أن ابن حجر نقله عنه ، وقد قال النووي - رحمه الله : لا يجوز رمي جمرة التشريق إلا بعد زوال الشمس ، وبه قال ابن عمر والحسن وعطاء ومالك والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد وداود وابن المنذر ( [3] ) . فعدَّ عطاء ممن يقول بعدم جواز الرمي قبل الزوال ؛ وكذلك عدَّه ابن قدامة في ( المغني ) ( [4] ) ، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن جريج قال : سمعت عطاء يقول : لا ترمي الجمرة حتى تزول الشمس ؛ فعاودته في ذلك ، فقال ذلك ( [5] ) . وروى الحاكم عن عطاء قال : لا أرمي حتى تزيغ الشمس ، إن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : كان رسول الله e يرمي يوم النحر قبل الزوال فأما بعد ذلك فعند الزوال ( [6] ) . فهذا هو المنقول عن عطاء - رحمه الله - مسندا صحيحا إليه ؛ وهو بين واضح في أن عطاء لم ير الرمي قبل الزوال جائزا ؛ ويقطع بوهم من نقل عنه أنه يرى جواز الرمي قبل الزوال ، لا سيما وقد نقل النووي - رحمه الله - عكسه عنه ، ولا يمكن القول بأن عطاء كان له في المسألة أقوالا ، كيف ، ولم يثبت عنه عكس ما ذكرناه ؟!! وأما ما ذكره المحب الطبري في ( القرى لقاصد أم القرى ) وعزاه لسعيد بن منصور : وقال عطاء : رمي الجمار بعد الزوال ، فإن رمى قبل الزوال بجهالة أجزأه ( [7] ) ، فهو نقل عار عن الإسناد ولم أقف عليه في المطبوع من سنن سعيد ، فعند التحقيق لا يعتبر ، وليس فيه ما يستدل عليه في مسألتنا وهي ( جواز الرمي قبل الزوال مطلقا ) .
فائدة : قال ابن عبد البر في ( التمهيد ) : وأما الجمار التي ترمى في أيام منى بعد يوم النحر فأجمع علماء المسلمين أن وقت الرمي في غير يوم النحر بعد زوال الشمس ؛ وقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو يوسف : لا يجزئ الرمي في غير يوم النحر إلا بعد الزوال ، وقال أبو حنيفة : إن فعله أحد قبل الزوال أجزأه ، وعن عطاء وطاووس وعكرمة مثل قول أبي حنيفة ، إلا أن طاووسا قال : إن شاء رمى من أول النهار ونفر ؛ وقال عكرمة : إن رمى أول النهار لم ينفر حتى تزول الشمس ، وعن عمر وابن عباس وابن عمر وجماعة التابعين مثل قول مالك في ذلك ( [8] ) .
ويمكن حمل كلام ابن عبد البر - رحمه الله - من النقل عن أبي حنيفة على جواز ذلك يوم النفر ، وهذا هو الثابت عنه كما تقدم ، ولم يثبت عنه أنه قال بالجواز مطلقا ؛ وبدليل قول ابن عبد البر : إلا أن طاووسا قال : إن شاء رمى من أول النهار ونفر ؛ وقال عكرمة : إن رمى أول النهار لم ينفر حتى تزول الشمس .ا.هـ . فإن صح هذا النقل فهو في غير مسألتنا ، وإنما في جواز الرمي قبل الزوال في يوم النفر وسيأتي الحديث عن هذه المسألة ، إن شاء الله تعالى .

[1] - شرح مسلم : 9 / 48 .

[2] - الفتح : 3 / 580 ، ونقله عنه البدر العيني في ( عمدة القاري ) : 10 / 86 ، فقد كان ينقل عن ابن حجر في شرحه كثيرا ولا يعزه ، ونقله أيضا المباركفوري في تحفة الأحوذي : 3 / 641 ، فظهر أن المصدر واحد .

[3] - المجموع : 8 / 211 .

[4] - المغني لابن قدامة : 3 / 484 .

[5] - ابن أبي شيبة ( 14582 ) .

[6] - الحاكم ( 1755 ) وصححه ووافقه الذهبي . ورواه ابن خزيمة ( 2969 ) .

[7] - القرى ص 524 .

[8] - التمهيد : 7 / 272 .
 
رابعا : ما نقل عن طاووس :
نقل عنه الماوردي وابن حجر القول بالرمي قبل الزوال مطلقا ( [1] ) ؛ وهو وهم منهما - رحمهما الله - فقد قال ابن أبي شيبة : حدثنا ابن نمير ، عن محمد بن أبي إسماعيل قال : رأيت سعيد بن جبير وطاووسا يرميان الجمار عند زوال الشمس ويطيلان القيام ( [2] ) .
ونقل عنه ابن عبد البر أن ذلك في يوم النفر كما تقدم ؛ وهذه النقول ليس لها إسناد ، فيقدم ما ثبت إسناده .

خامسًا : ما نقل عن ابن طاووس :
قال ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن ابن طاووس قال : ترمى الجمار إذا طلعت الشمس ( [3] ) . وغلبة الظن أن هذا في جمرة العقبة من يوم النحر ، ففيها الخلاف المشهور : هل ترمى قبل طلوع الشمس أو بعد طلوعها ؟ ، وليس في الخبر أدنى إشارة إلى أنه يرى الرمي قبل الزوال مطلقا في أيام التشريق ، والقول بأنه : لعله أخذه من أبيه قول بعيد ، إذ المنقول عن أبيه الرمي بعد الزوال .

سادسًا : ما نقل عن عكرمة :
وأما ما نقل عن عكرمة فقد قال الماوردي في ( الحاوي ) : وقال طاووس وعكرمة : يجوز أن يرمي قبل الزوال كيوم النحر ( [4] ) . وهذا لا يعتمد إذ ليس له إسناد ولم ينقله عن عكرمة قبل الماوردي أحد ، وإنما نقل ابن عبد البر عن عكرمة ذلك يوم النفر ؛ وبين الماوردي وعكرمة قرون .

سابعًا : ما نقل عن الباقر :
وكذا ما نقل عن الباقر أبي جعفر محمد بن علي - رحمه الله ، فقد نقله عنه ابن عبد البر في ( الاستذكار ) والمحب الطبري في ( القرى لقاصد أم القرى ) ؛ وهو حكاية ليس لها إسناد وبين ابن عبد البر والطبري وبين أبي جعفر قرون ، ولم أرها لأحد قبلهما ، وقد عزاها المحب الطبري لسعيد بن منصور ، ولم أجدها في المطبوع من سننه ؛ وهذا كلام ابن عبد البر - رحمه الله : مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : لا ترمى الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس .
قال أبو عمر : هذه سنة الرمي في أيام التشريق عند الجميع لا يختلفون في ذلك ؛ واختلفوا إذا رماها قبل الزوال في أيام التشريق : فقال جمهور العلماء : من رماها قبل الزوال أعاد رميها بعد الزوال ، وهو قول مالك والشافعي وأصحابهما والثوري وأحمد وأبي ثور وإسحاق ؛ وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال : رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها ( [5] ) . وعبارة ( القرى ) : وقال أبو جعفر محمد بن علي : رمي الجمار ما بين طلوع الشمس إلى غروبها ( [6] ) .
فنقلها ابن عبد البر بصيغة التضعيف ، وكتبها المحب الطبري بصيغة الجزم ، وليس لها إسناد ، ولا يعرف قبلهما أحد أسندها إلى الباقر ، والقول محتمل لأن يكون في تحديد وقت رمي جمرة العقبة ، ومثل هذا لا يعتبر ولا يعتمد عند التحقيق .
وصفوة القول : أن ما نقل عن هؤلاء من أنهم يقولون بجواز الرمي قبل الزوال ليس ثابتا عنهم ، فيبقى دعوى ليس عليها دليل ، فيسقط الاعتبار به ؛ ولا يجوز لأحد بعد هذا التحقيق أن ينسب إليهم هذا القول إلا إذا وقف على إسناد صحيح إلى صاحبه صريح في القول بجواز الرمي قبل الزوال .. والعلم عند الله تعالى .
وبهذا التحقيق يتبين صحة القول بأن الإجماع منعقد على أن الرمي لا يجوز في اليوم الأول من أيام التشريق إلا بعد الزوال . ويبقى النظر فيما أورده البعض من النظر في اعتبار جواز الرمي قبل الزوال ؛ ومعلومٌ ابتداء أن النظر لا يخرم الإجماع ؛ وإنما أردنا بذلك دفع شبهة يمكن أن يسببها ذلك النظر .

[1] - انظر الحاوي : 4 / 194 .

[2] - مصنف ابن أبي شيبة ( 14580 ) .

[3] - ابن أبي شيبة ( 14576 ) .

[4] - انظر الحاوي : 4 / 194 .

[5] - الاستذكار : 4 / 353 ( الكتب العلمية ) .

[6] - القرى لقاصد أم القرى ص 425 .
 
ما أورده بعض المحدثين من النظر في اعتبار جواز الرمي قبل الزوال مطلقًا والرد عليه ( [1] )
أورد هنا أهم ما أورده القائلون بجواز الرمي قبل الزوال من جهة النظر ، ثم أتبعه بالرد عليه ، والله المستعان .
1 ) قالوا : يُحمل المروي من فعله e على اختيار الأفضل .
وهذا مردود لأمرين : الأول : ما تقدم من أن الفعل إذا خرج منه e مخرج الامتثال والتفسير كان حكمه حكم الأمر ، وهو داخل في عموم قوله : " لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ " . الثاني : أن النبي e فعل ذلك ثلاثة أيام متواليات يتحرى وقت الزوال فيرمي ، ولو كان من رخصة في تقديم ذلك ، لفعله ولو مرة واحدة ، أو لبين ذلك قولا ؛ ولكنه ترك الرمي قبل الزوال مع وجود المقتضي للبيان فدل على وجوب الرمي بعد الزوال وعدم مشروعيته قبله ؛ إذ القاعدة : ترك العمل بالشيء في عهد النبوة مع وجود المقتضي له دليل على عدم المشروعية .

2 ) قالوا : إن قبل الزوال وقت الرمي في يوم النحر ، فكذا في اليوم الثاني والثالث ، لأن الكل أيام نحر .
وهذا قياس فاسد ، لأن يوم العيد ليس كأيام التشريق من كل وجه ، ولأن البيان في أيام التشريق كان بهذه الصفة ومؤقت بهذا الوقت ، والبيان في يوم العيد كان بصفة أخرى ومؤقت بوقت آخر ، والأخذ بهذا القياس يلزم منه القول بالاقتصار على رمي جمرة العقبة فقط في أيام التشريق قياسا على يوم النحر ، ومعلون أن هذا قياس فاسد .

3 ) قالوا : إن المشروع في أيام التشريق رمي الجمار ثلاثًا فالأولى توسيع وقته لا تضييقه .
وهذا مردود من أوجه : الأول : مع بيان النبي e لوقت كلٍ لا يجوز أن يقال الأولى . الثاني : البيان في حكم المنصوص ؛ ولا قياس في مقابلة النص . الثالث : في يوم النحر أربعة أعمال تحتاج إلى انتقال ومشقة ، وأما في أيام التشريق فلا عمل للحاج إلا الرمي ، ففارق يوم النحر .
4 ) قالوا : حديث ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ e : رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ ؟ فَقَالَ : " لَا حَرَجَ " ( [2] ) وهو نص صريح في جواز تقديم رمي الجمار قبل الزوال ، أو تأخيرها عن هذا الوقت ، فيجوز رميها في أي ساعة شاء من ليل أو نهار أشبه النحر والحلق .
قلت : هذا استدلال في غير محله ؛ فالسؤال خاص في رمي يوم النحر ، ولا خلاف فيه ؛ وفرق بين يوم النحر وأيام التشريق كما تقدم .

5 ) قالوا : إن ترك النبي e الرمي قبل الزوال لا يدل على عدم جوازه فيه ، كما ترك الوقوف بعرفة بعد العشاء إلى طلوع الفجر وهو وقت له .
قلت : القول بأن الترك لا يدل على عدم الجواز مردود بالقاعدة : ترك العمل بالشيء في عهد النبوة مع وجود المقتضي له دليل على عدم المشروعية ، وتقدم أن النبي e داوم على هذا الوقت وكان يتحينه ، ولم يرم قبله طيلة الأيام الثلاثة ، ولم يشر إلى جواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال مع وجود المقتضي لذلك ؛ وأيضا لقاعدة : تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فلما لم يبين النبي e جواز ذلك ظهر عدم جوازه .
وأما القياس على ترك الوقوف بعرفة بعد العشاء ، فباطل لأن عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ لما قال : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طَيِّئٍ ، أَكْلَلْتُ رَاحِلَتِي ، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي ، وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبْلٍ إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ " رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي ( [3] ) ، فدل الحديث على جواز هذا الترك ، فالقياس عليه فاسد .

6 ) قالوا : إن النبي e رمى يوم النحر ضحى وفي الأيام الثلاثة بعده رمى بعد الزوال ، وهذا إعلام منه e بسعة الوقت ، وأن هذا مشروع للأمة فعله ، ولكنه أجل العمل به إلى وقت الحاجة ، فمن قال باختصاص الجواز بيوم العيد فهو مطالب بالدليل .
قلت : هذه دعوى ليس عليها دليل ، ولم يقل أحد من أهل العلم أن النبي e أراد ذلك لأمور : الأول : أنه بمواظبته e على الرمي بعد الزوال في الأيام الثلاثة دل على أنه هو وقت الرمي في أيام التشريق وأنه لا يجزئ الرمي قبله كما تقدم ؛ ولو كان فعله لبيان سعة الوقت لرمى في بعض الأيام قبل الزوال وفي بعضها بعد العصر ؛ فظهر أن مقصوده ليس بيان سعة الوقت وإنما بيان الوقت الواجب .
الثاني : من الذي قال أن المنع في العبادات يحتاج إلى دليل ؟ إنما يطالب المجيز بالدليل ، فشأن العبادات مبني على التوقيف وهذا معروف ، ومع ذلك فالدليل هو فعل النبي e بيانا لواجب الحج ، كما تقدم .

[1] - انقل هنا ما أورده علي ونيس في رسالته ( تحقيق المقال في رمي الجمار قبل الزوال ) ص 52 : 72 على الاختصار ، وقد أنقل رده مصرفا وأضيف إليه ، ثم أتناول الرد على ما لم يرد عليه ، مستعينا بالله تعالى .

[2]- البخاري ( 1723 ) .

[3] - أحمد : ، وأبو داود ( 1950 ) ، والترمذي ( 891 ) ، والنسائي ( 3042 ، 3043 ) ، وابن ماجة ( 3016 ) .
 
تابع ما أوردوه من النظر
7 ) قالوا : من كان استناده إلى فعل النبي e في اليوم الثاني والثالث مع إعراضه وعدم نظره إلى فعل النبي e في اليوم الأول ، وقوله لما سئل عن التقديم والتأخير : " افعل ولا حرج " لزمه أن يقول بوجوب طواف الإفاضة في خاصة يوم العيد من غير تأخير ، كفعله e وكذلك الحلق والتقصير ، على أنه لم يقل بذلك أحد ممن يعتد به .
قلت : هذا إلزام بما لا يلزم ؛ فقد قام الدليل على عدم اختصاص يوم العيد بطواف الإفاضة ؛ ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ e حَاضَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ e فَقَالَ : " أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ " قَالُوا : إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ ، قَالَ : " فَلَا إِذًا " ، وفي رواية " فَلْتَنْفِرْ " ( [1] ) ؛ وقد كان ذلك عندما عزم على السفر بعد أيام التشريق ؛ فدل على امتداد وقت طواف الإفاضة .

8 ) قالوا : إنه e إنما أخره إلى ما بعد الزوال ، لقصد أن يصلي بالناس الظهر بمسجد الخيف من منى ، فيخرج للصلاة وللرمي خروجا واحدا كما فعل ، فإنه لما فرغ من رمي الجمار ، انصرف إلى المسجد، فصلى بالناس فيه ، وذكرهم أحكام حجهم .
قلت : هذه أيضا دعوى ليس عليها دليل ، إذ لو كان هذا هو مقصوده e لبينه ، لئلا يُعتقد عدم الجواز قبل هذا الوقت ، لا سيما أن فعل النبي e في هذا الموضع بيان ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولم يقل ذلك أحد من السلف ! أفيظهر هذا وينكشف بعد أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان ؟!

9 ) قالوا : لو كان ما قبل الزوال وقت نهي ، غير قابل للرمي لبينه النبي e بنص جلي قطعي الرواية والدلالة واردا مورد التكليف العام ، إذ لا يجوز في الشرع تأخير بيان مثل هذا عن وقت حاجته .
وجوابه ما كان من الجواب في رقم (5) من أن مداومة النبي e على هذا الوقت طيلة الأيام الثلاثة ، ولم يشر إلى جواز الرمي فيها قبل الزوال مع وجود المقتضي لذلك ؛ هذا بيان واضح ؛ والقاعدة : ترك العمل بالشيء في عهد النبوة مع وجود المقتضي له دليل على عدم المشروعية، وأيضًا لقاعدة : تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فلما لم يبين النبي e جواز ذلك ظهر عدم جوازه .

10 ) قالوا : أنه لو كان التقدير بهذا الزمن القصير شرطًا لسقط بالعجز عنه ، أو جاز تقديمه محافظة على أصل فعله ، لأن القول بلزومه يستلزم الحكم بسقوطه في خاصة هذه الأزمان مع شدة الزحام.
وجواب ذلك من وجهين ؛ الأول : من الذي جزم بقصر الوقت ؟! فالوقت ممدود إلى مغرب اليوم في قول الجمهور ؛ وإلى فجر اليوم الثاني في قول جماعة من العلماء ، وهو قول يمكن الأخذ به في زماننا، وهذا أولى من مخالفة فعل النبي e وإجماع الأمة .
الثاني : أن العجز عن فعل العبادة لا يؤذن بسقوطها في كل حال ، ولكن يرخص في العمل ببدلها إذا كان لها بدل ، كالعاجز عن استخدام الماء - لمرض مثلا - فإنه يتيمم ، والعاجز عن القيام في الصلاة يصلي قاعدًا أو على جنبه ؛ والرمي يدخل تحت العبادات التي يمكن أداؤها عند العجز بطريق الاستنابة ، وهو أمر متفق عليه في الجملة بين الفقهاء .

11 ) قالوا : القول بتوسعة الوقت للرمي هو من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ، بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلا من دلائله ، ومتى عرضت حكمتها على العقول تلقتها بالقبول ، كيف وقد احتف بها أصل من المنقول .
قلت : هذا من الاستدلال في محل النزاع بما هو أجنبي عنه ؛ إذ المصالح ثلاثة أنواع : المصلحة المعتبرة ؛ وهي التي جاء دليل من الشرع باعتبارها. والمصلحة الملغاة : وهي التي جاء الدليل من الشرع بإلغائها. والمصلحة المرسلة : وهي التي لا دليل على اعتبارها ولا إلغائلها ، ولهذا سميت مرسلة ، أي : لم تعتبر ولم تلغ .
وقد جاءت الأدلة ببيان عدم جواز الرمي قبل الزوال ؛ فالمصلحة هنا ملغاة لا مرسلة ولا معتبرة .

12 ) قالوا : إن الفتوى تتغير بتغير الزمان ، نظرا لاختلاف الأحوال ، وتجدد حاجات الناس ، ومعلوم أن الزحام في هذا الزمان أكثر وأشد من الزمان الماضي ، ولذلك قلنا بتوسيع وقت الرمي .
والجواب : إن العبادات المؤقتة لا يتغير وقتها بتغير الزمان ، كالصلوات الخمس ، والصيام وغيرها من العبادات المؤقتة ، قال ابن العربي : كل عبادة مؤقتة بميقات ، لا يجوز تقديمهاعليه.ا.هـ. ووقت الزوال هو الذي حددته الأحاديث الواصفة لفعل النبي e فتغيير هذا الوقت ليس من اليسر في شيء ، لأن النبي e لم يكن ليشرع لأمته ما يشق عليها ، وهو الموصوف بقوله تعالى : ] بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ ( التوبة : 128 ) ، وقد حصل منه الإذن للضعفة بالدفع من مزدلفة آخر ليلة جمع ، ولم يحصل لهم الإذن في رمي الجمار قبل الزوال ، مع قيام مقتضى ذلك وهو الزحام مما يدل على أنه لا رخصة فيه .

13 ) قالوا : إن ما بعد الزوال هو وقت فضيلة ، وما قبل الزوال وبالليل وقت إباحة ، أشبه الوقوف بعرفة ، فإن ما بعد الزوال إلى الغروب هو أفضل ما يوقف فيه ، اقتداء بفعل رسول الله وفعل خلفائه وأصحابه ، والليل كله إلى فجر يوم العيد وقت إباحة للوقوف ، وإن لم يستمر عليه عمل الناس .
قلت : هذا قياس مع الفارق ، فالوارد من الأدلة في الوقوف بعرفة يمكن معه هذا القول ؛ أما في الرمي في أيام التشريق فلم يرد ما يدل على هذا التفصيل ، ولا يجوز هذا التفصيل إلا بدليل .. ولا دليل .

14 ) قالوا : إن هذه المسألة من مسائل الفروع الاجتهادية ، يوضح ذلك أن فقهاء من الحنابلة والشافعية قالوا : إنه لو جمع الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد فرماها في اليوم الثالث من أيام التشريق أجزأت أداء لاعتبار أن أيام منى كلها كاليوم الواحد . فمتى كان الأمر كذلك ، وأن أيام منى كالوقت الواحد حسبما ذكروا ؛ فإذا لا وجه للإنكار على من رمى قبل الزوال والحالة هذه .
قلت : قد جاء أن النبي e رخص للرعاة بالجمع بين رمي يومين ( [2] ) ، فدل ذلك على أن أيام الرمي كيوم واحد ، ولكن يرمون بعد الزوال من اليوم الثاني ، فظهر وجه القول بأن أيام الرمي كيوم واحد ، وسقط ما قالوه ، والعلم عند الله تعالى .

15 ) قالوا : ما رواه البخاري عن وبرة بن عبد الرحمن السلمي قال : سألت ابن عمر - رضي الله عنهما : متى أرمي الجمار ؟ قال : إذا رمى إمامك فارمه ، فأعدت عليه المسألة ، قال : كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا . ا.هـ قال ابن حجر : وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل له من ضرر ، فلما أعاد المسألة أخبره بما كانوا يفعلونه في زمن النبي e .ا.هـ . فهذا ابن عمر الذي هو أحرص الناس على اتباع السنة ، قد أحال هذا السائل على اتباع إمامه فيه عند أول سؤاله ، لعلمه بسعة وقته ، ولو كان يرى أنه محدد بالزوال كوقت الظهر لما وسعه كتمانه ، لأن العلم أمانة ، ويبعد على ابن عمر بصفته مجتهدًا ، فضلا عن كونه صحابيا أن يكتم الحق ، لا سيما إذا كان فعل المخالف باطلاً .
قلت : هذا افتراء على ابن عمر t ، فهو القائل : لَا تُرْمَى الْجِمَارُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ ( [3] ) . فكيف يقال أنه يرى سعة الوقت ليشمل قبل الزوال ؟! وإنما يحتمل كلامه أنه أراد إذا رمى إمامك فهو أعلم بوقت الرمي ، كما أن فيها أيضا اتباع الإمام وهو أمر مطلوب شرعا ؛ فلما أعاد عليه السؤال فهم أنه يريد الوقت الذي كانوا يرمون فيه مع النبي e ، فأجابه . وأما القول بأنه كان يعلم بأن الإمام كان يرمي قبل الزوال فخاف على السائل ، فظنٌ ليس عليه دليل .

16 – قالوا : الرمي قبل الزوال مسكوت عنه ، وما سكت عنه الرسول e فهو عفو ، ولو كان الرمي غير جائز فيه ، لنهى عنه النبي e كما نهى أغيلمة بني عبد المطلب عن الرمي قبل طلوع الشمس يوم النحر .
قلت : لا يلزم هذا ؛ إذا القاعدة : ترك العمل بالشيء في عهد النبوة مع وجود المقتضي له دليل على عدم المشروعية ؛ كما تقدم ، فقد ظهر بتركه e الرمي قبل الزوال عدم المشروعية فيه ، لا أنه مسكوت عنه كما في الصورة المذكورة .
بهذا يتبين أنه لا دليل يدل على ما ذهبوا إليه ، وأن ما قالوه من جهة النظر - وإن كان لا ينتهض إن صح أن يعارض الإجماع - فهو أيضا مردود بما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - البخاري ( 1757 ، 4401 ) ، ومسلم ( 1211 ) .

[2]- رواه أحمد : ، وأبو داود ( 1975 ) ، والترمذي ( 955 ) وصححه ، والنسائي ( 3069 ) ، وابن ماجة ( 3073 ) .

[3] - 1 / 408 ( 918 ) .
 
مسألة الرمي قبل الزوال في يوم النفر
هذه من مسائل النزاع ؛ ومسائل النزاع ترد إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله e ، لقوله تعالى : ] فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [ ( النساء : 59 ) .
والنفر نفران : نفر المتعجل في اليوم الثاني من أيام التشريق ، أي : اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ، ونفر المتمِّ في اليوم الثالث منها ؛ ولا شك أن الأفضل الإتمام لفعله e .
وقد اختلف العلماء في الرمي قبل الزوال في يوم النفر ؛ وذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز لفعل النبي e بيانا لواجب الحج كما تقدم ؛ ولأنه e كان يتحين وقت الزوال فيرمي في الأيام الثلاثة بعد الزوال ؛ ولو كان هناك رخصة في أن يرمي قبل الزوال لفعلها النبي e تيسيرا على الناس ، فلما لم يفعل تبين أنه لا يجوز ، وهو مذهب مالك والشافعي والرواية المشهورة عن أبي حنيفة ، والرواية الصحيحة والمعتمدة مذهبًا عن أحمد .
لكن جوَّز الإمام أبو حنيفة الرمي قبل الزوال في يوم النفر على تفصيل ، وهي رواية عن الإمام أحمد ، وسنتناول رأي المذهبين فيما يلي .

ما جاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله
تقدم نقل السرخسي - رحمه الله - عن الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ - رحمه الله - فِي ( الْمُنْتَقَى ) أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتُ الرَّمْيِ حَتَّى لَوْ رَمَى أَجْزَأَهُ .. قَالَ : وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ , وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ , وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : إنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ [ الثاني عشر ] قَبْلَ الزَّوَالِ , وَإِنْ رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ أَفْضَلُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ; لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ قَصْدِهِ التَّعْجِيلُ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ بَعْضُ الْحَرَجِ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ بِأَنْ لَا يَصِلَ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِاللَّيْلِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَرْمِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَصِلَ إلَى مَكَّةَ بِالنَّهَارِ فَيَرَى مَوْضِعَ نُزُولِهِ فَيُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ , وَالْأَفْضَلُ مَا هُوَ الْعَزِيمَةُ , وَهُوَ الرَّمْيُ بَعْدَ الزَّوَالِ , وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ هَذَا الْيَوْمُ نَظِيرُ الْيَوْمِ الثَّانِي فَإِنَّ النَّبِيَّ e رَمَى فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ .. إلى أن قال : وَإِنْ صَبَرَ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْمِيَ الْجِمَارَ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى , وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُجْزِئُهُ بِمَنْزِلَةِ الْيَوْمِ الثَّانِي , وَالثَّالِثِ ; لِأَنَّهُ يَوْمٌ تُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ الثَّلَاثُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ بِخِلَافِ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ t ( إذَا انْتَفَحَ النَّهَارُ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَارْمُوا ) يُقَالُ انْتَفَحَ النَّهَارُ إذَا عَلَا , وَاعْتُبِرَ آخِرُ الْأَيَّامِ بِأَوَّلِ الْأَيَّامِ فَكَمَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَكَذَا فِي الْيَوْمِ الْآخَرِ , وَهَذَا لِأَنَّ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ يَجُوزُ تَرْكُهُ أَصْلًا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ النَّوَافِلَ , وَالتَّوْقِيتُ فِي النَّفْلِ لَا يَكُونُ عَزِيمَةً ؛ فَلِهَذَا جُوِّزَ الرَّمْيُ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَصِلَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ اللَّيْلِ ( [1] ) . فهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله .

خلاصة مذهب أبي حنيفة :
1 - المنع مطلقا كمذهب الجمهور ، وهو ظاهر الرواية .
2 – جوازه لمن أراد التعجل ، وهي الرواية غير المشهورة ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ التعجل لَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ .
3 – جواز الرمي قبل الزوال في يوم النفر الثاني استحسانا ؛ وخالفه صاحباه .
وأما القول بجواز الرمي مطلقا سواء أراد النفر أم لم يرد ، فلا يصح عنه رحمه الله ، وتقدم تفصيل ذلك .

مذهب الإمام أحمد رحمه الله
قال ابن قدامة - رحمه الله - في ( المغني ) : فَصْلٌ : وَلَا يَرْمِي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيق إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَعَادَ ، نَصَّ عَلَيْهِ ؛ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ ؛ إلَّا أَنَّ إِسْحَاقَ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ ، رَخَّصُوا فِي الرَّمْيِ يَوْمَ النَّفْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَلَا يَنْفِرُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ؛ وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ ، وَرَخَّصَ عِكْرِمَةُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ، وَقَالَ طَاوُسٌ : يَرْمِي قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَيَنْفِرُ قَبْلَهُ ( [2] ) . ونحوه في ( الشرح الكبير ) .
وقال ابن مفلح في ( الفروع ) : وَعَنْهُ : يَجُوزُ رَمْيُ مُتَعَجَّلٌ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَيَنْفِرُ بَعْدَهُ . وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ : إنْ رَمَى عِنْدَ طُلُوعِهَا مُتَعَجِّلٌ ثُمَّ نَفَرَ ، كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ دَمًا ... إلى أن قال : وَفِي مَنْسَكِ ابْنِ الزَّاغُونِيِّ : أَوْ يَرْمِي بِهِنَّ كَفِعْلِهِ فِي اللَّوَاتِي قَبْلَهُنَّ ، فَإِنْ غَرَبَتْ شَمْسُهُ بَاتَ وَرَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ ، نَصَّ عَلَيْهِ ، وَعَنْهُ : أَوْ قَبْلَهُ ، وَهُوَ النَّفْرُ الثَّانِي ( [3] ) . وقال المرداوي في ( الإنصاف ) : وَعَنْهُ : يَجُوزُ رَمْيُ مُتَعَجِّلٍ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيَنْفِرُ بَعْدَهُ ، وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ : إنْ رَمَى عِنْدَ طُلُوعِهَا مُتَعَجِّلًا ، ثُمَّ نَفَرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ دَمًا ؛ وَجَزَمَ بِهِ الزَّرْكَشِيّ ( [4] ) .

خلاصة مذهب أحمد رحمه الله :
1 – المنع مطلقا ؛ وهي الرواية الصحيحة عنه والمعتمدة مذهبا .
2 – جوازه لمتعجل ، وينفر بعد الزوال .
3 – جوازه لمتعجل وينفر قبله .
4 – جوازه لمتم .
ولم أجد هذه الروايات - الخاصة بالرمي قبل الزوال يوم النفر - في كتاب ( المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين ) لشيخ المذهب القاضي أبي يعلى الفراء محمد بن الحسين ، ولا لابنه محمد بن محمد بن الحسين في كتابه ( التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام والمختار من الوجهين عن أصحابه العراقيين الكرام ) ، والعلم عند الله تعالى .

خلاصة أقوال الرمي في يومي النفر
1 - المنع مطلقا قبل الزوال ؛ وهو قول الجمهور ، لفعل النبي e بيانا لواجب الحج كما تقدم ، ولم يرد ما يدل على الترخيص مع وجود المقتضي .
2 - جوازه لمن أراد التعجل ، وهو قول أبي حنيفة في غير المشهور حكاه الحاكم الشهيد من رواية الحسن عن أبي حنيفة ، وهو رواية عن أحمد حكاها الزركشي وابن مفلح والمرداوي ؛ وحكاها ابن عبد البر وغيره لطاووس وعكرمة .
3 – جواز الرمي قبل الزوال في يوم النفر الثاني ؛ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، ورواية عن أحمد رحمه الله .

وصفوة القول أن الراجح هو قول الجمهور لما ثبت عن النبي e أنه كان يواظب على الرمي بعد الزوال ، ولم يرخص قبله ، وكان صحابته y على ذلك من بعده لم يصح عن أحدهم غيره كما تقدم ؛ فهذا هو الأصل ، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله ، والمعتمد من مذهب أحمد رحمه الله .
وأما الرمي قبل الزوال يوم النفر فيمكن أن يعمل به في حال الضرورة الملجئة ، التي لا بديل في قدرة صاحبها ، وللضرورة أحكامها وضوابطها ؛ والذي يذهب للحج يلزمه أن يرتب أموره حسب المناسك ، لا أن يرتب المناسك حسب ما يريده هو ؛ فهو يعلم يقينًا أن أعمال الحج تنتهي للمتعجل في يوم الثاني عشر من ذي الحجة ، وأنه بعد الرمي يحتاج إلى طواف الوداع والذي قد يكون في هذا اليوم صعبا لشدة الزحام ، فليس من حسن التدبير أن يرتب حجز عودته في هذا اليوم ، بل يؤخره يوما أو يومين ، ليتم مناسكه ؛ والله المستعان .
أما الرمي قبل الزوال مطلقًا ، فلا أرى له وجها يجيزه ، خاصة بعد التوسعات والتعديلات التي تمت أخيرًا حول الجمرات من تنظيم الطرق وتوسيعها ، وبناء طوابق أخرى لجسر الجمرات ، ومنع الجلوس والنوم تحت الجسر ... وغير ذلك مما كان من أسباب كانت تجعل من الرمي أمرًا صعبًا ؛ ويبقى أن هناك فتاوى خاصة في حالات خاصة لا تعمم ، والعلم عند الله تعالى .
والحمد لله رب العالمين .

[1] - انظر المبسوط : المبسوط : 4 / 68 ، 69 ؛ وهذا الكلام في معظم كتب الأحناف ، وقد نقلنا فيما تقدم كثيرا من ذلك فاكتفينا هنا بما في المبسوط .

[2] - المغني لابن قدامة : 3 / 484 .

[3] - انظر الفروع لابن مفلح : 3 / 518 : 520 .

[4] - الإنصاف : 4 / 45 .
 
عودة
أعلى