عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل حمودة
New member
قوله تعالى
{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} الأنبياء: (37)
*قوله ( خُلِقَ الْإِنْسَانُ ):* اسم جنس؛ يشمل كل إنسان؛ بما فيهم آدم - عليه السلام -؛ فقد استعجل، ولم يصبر على أمر ربه، وأكل من الشجرة؛ إلى أن تيب عليه. فالعجلة فيه وفي بنيه.
وهذا بخلاف من خصه بآدم - عليه السلام -.
قال الواحدي في البسيط: والإنسان هاهنا اسم الجنس.
قال ابن جزي الغرناطي في التسهيل لعلوم التنزيل: والإنسان هنا جنس.
قال الثعالبي في الجواهر الحسان: الإنسانالذي هواسم جنس بأنه خلق من عجل، وهذا على جهة المبالغة كما تقول للرجل البطال: أنت من لعب ولهو.
قال النسفي في مدارك التنزيل: والظاهر أن المراد الجنس.
*قوله ( مِنْ عَجَلٍ ):* أي خُلق عجولا؛ لفرط عجلته؛ حتى أنه يستعجل الشر لنفسه، وذويه.
مصداقا لقوله ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ).
فهو ذو عجولة كأنه خلق منها؛ ونظيره قوله تعالى ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ): قال النحاس في معاني القرآن: أي خلقكم في حال ضعف.
قال الزمخشري في الكشاف: قوله(خلقكم من ضعف)كقوله (خلق الإنسان من عجل) يعنى أن أساس أمركم وما عليه جبلتكم وبنيتكم الضعف وخلق الإنسان ضعيفا أى ابتدأناكم في أول الأمرضعافا.
انتهى كلامه.
وقيل: ( مِنْ عَجَل ): من طين.
وقيل: خلقت العجلة منه.
وهو قول أبي عبيدة معمر بن المثنى في المجاز.
وسيأتي الحديث مفصلا؛ من أحسن ما أنت قارىء ( إن شاء الله ) في ثنايا تفسيرنا للآية.
وقيل: أي من تعجيل في خلق الله إياه، خلق على سرعة من الأمر استجابة لأمره تعالى " كُن" فكان بشرا؛ يعنون آدم عليه السلام؛ كما قال تعالى ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ).
قلت (عبدالرحيم): وليس بذاك؛ فكل ما دون الإنسان خلق بهذا الوصف ( كن فيكون ).
فإن قلت: قد خص آدم بذلك ( من عجل ) لأنه أعجب ما خلق الله؛ فقد أقسم به؟
قلت: نعم؛ كذلك هو أعجب ما خلق الله كما قال تعالى ( ووالد وما ولد ): أقسم بآدم وذريته؛ لأنهم أعجب ما خلق، ففيهم النبيون، والشهداء، وفيهم العقل، والنطق إلى غير ذلك مما فضل الله به الإنسان على سائر المخلوقات ( لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا )،
قلت: ولئن كان الإنسان كذلك؛ فثم خلق هو أعظم شأنا من خلقه ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
فهذا الخلق العظيم؛ الذي قال الله عن كرسيّه ( وسع كرسيه السموات والأرض )، ولم يقل وسع كرسيه الإنس _ مثلا_.
فالسموات والأرضون أجدر أن يقال فيهما: خلقت السماوات والأرضون من عجل. - على حد قولهم: خلق على سرعة من الأمر، وتعجيل -. مع أن الله قال ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ).
فالحاصل أن معنى قوله تعالى ( من عجل ): يعني: عجولا. من طبعه، وشأنه العجلة؛ حتى أنه يستعجل الشر، ويرجو لنفسه وخاصته الهلاك.
قال ابن جزي الغرناطي في التسهيل: خلق شديد الاستعجال وجاءت هذه العبارة للمبالغة: كقولهم خلق حاتم من جود.
قال ابن الجوزي في تذكرة الأريب في تفسير الغريب: أي خلق عجولا.
قال الإيجي الشافعي في جامع البيان: لفرط استعجاله كأنه خلق منه.
قال صديق حسن خان في فتح البيان في مقاصد القرآن: والمعنى أن الإنسان من حيث هو مطبوع على العجلة فيستعجل كثيراً من الأشياء وإن كانت تضره.
قال المبرد: أي من شأنه العجلة.
حكاه الواحدي في البسيط.
قال الخضيري في السراج في بيان غريب القرآن: لكثرة استعجاله في أحواله، كأنه خلق من عجل.
قال أبو السعود في تفسيره: استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه تنزيلا لما طبع عليه من الأخلاق منزلة ما طبع منه من الأركان إيذانا بغاية لزومه له وعدم انفكاكه عنه ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد.
قال النسفي في مدارك التنزيل: والظاهر أن المراد الجنس وأنه ركب فيه العجلة فكأنه خلق من العجل ولأنه يكثر منه والعرب تقول لمن يكثر منه الكرم خلق من الكرم فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها.
قال قتادة: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} قال: خلق عجولًا.
حكاه عنه يحيى بن سلام في تفسيره، وكذا الواحدي في البسيط.
قال الواحدي عقب ذكره قول قتادة" خلق عجولا".
وهذا القول اختيار جميع أهل اللغة والمعاني.
انتهى كلامه.
قال السمين الحلبي في عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ: تنبيهًا أن طبعه العجلة بمنزلة من خلق من الشيء فكأن العجلة مادته. وأصله: نبه به أنه لا يتعرى من ذلك البتة، فإنها إحدى القوى التي ركب عليها.
قال الجلال المحلي في تفسير الجلالين: أي أنه لكثرة عجله في أحواله كأنه خلق منه.
قال البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: فلذا يكفر، لأنه إذا خولف بادر إلى الانتقام عند القدرة فظن بجهله أن خالقه كذلك، وأن التأخير ما هو إلا عن عجز أو عن رضى.
انتهى كلامه
قلت: وهذا ظاهر في نهاية الآية ( فلا تستعجلون ): أي لا تستعجلون العذاب: قال ابن أبي زمنين في تفسيره: وذلك لما كانوا يستعجلون به النبي عليه السلام من العذاب استهزاء منهم وتكذيبا.
وقال السمرقندي في بحر العلوم" خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ": أي مستعجلا بالعذاب.
انتهى كلامه.
فالإنسان كما وصفه ربه ( وكان الإنسان عجولا ).
قلت: وقد أخبر الله تعالى عن عجلة بني آدم في غير ما آية ؛ كما قال ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) قال ابن قتيبة: أي: لو عجل الله للناس الشر إذا دَعَوْا به على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم وأولادهم، واستعجلوا به كما يستعجلون بالخير فيسألونه الرزق والرحمة: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي: لماتوا.
قال الحسن: ( عجولا) أي: ضعيفا، وضعفه هو أن يضيق صدره ويحرج عند إصابة أدنى شيء، حتى يحمله ضيق صدره على أن يدعو على نفسه وعلى مجيئه بالهلاك لضيق صدره وذلك لضعف فيه.
حكاه أبو منصور الماتريدي في تأويلات أهل السنة. انتهى
حتى أن الله نهى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يعجل بالقرآن؛ كما في قوله {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}: قال ابن قتيبة في غريب القرآن: أي لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ من وحيه إليك. وكان رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله - يبادر بقراءته قبل أن يتمم جبريلُ، خوفًا من النسيان. انتهى.
وقال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ )،
وقال ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا )،
وقال ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ )،
وقال ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )،
وقال ( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ )،
وقال ( قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )،
وقال ( قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ )،
وقال ( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ).
فبهذا توقن أن الإنسان ( عجولا ): لشدة عجلته، وكثرتها؛ كأنه خلق منها.
وأحمد الله الذي لا إله إلا هو؛ أن وفقني، وألهمني هذا قبل أن أطلع على كلام الواحدي - رحمه الله -
حيث قال في البسيط:
" وتأويل الآية: خلق الإنسان عجولًا، ولذلك يستعجل ربه بالعذاب.
ومن قال معنى الآية: إن آدم خلق على عجلة - يقول: إنَّ ذلك أورثه وأولاده العجلة، فاستعجلوا في كل شيء حتى العذاب.
والآية نازلة في أهل مكة حين استعجلوا العذاب. قال ابن عباس -في رواية عطاء-: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} يريد: النَّضْر بن الحارث، وهو الذي قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال: 32] الآية. انتهى
قال ابن ناصر السعدي في تفسيره: أي خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون، يستعجلون عقوبة الله للكافرين، ويتباطئونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب، تكذيبا وعنادا.
انتهى كلامه.
قلت: ولقد قال الناس في ذلك ( من عجل ) أقاويل؛ ولعل من أحسن ما وقفت عليه؛ بعد كلام الواحدي؛ ما قاله الطاهر بن عاشور - رحمه الله - فراجعه بتمامه إن شئت؛ حيث قال في التحرير والتنوير:
والعَجَل : السرعة . وخَلْق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جِبلّة الإنسانية . شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه ، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية . فإذا فَكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة ، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية ، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين ، فلا جرَم كان الإنسان عَجولاً بالطبع فكأنه مخلوق من العَجْلة . ونحوه قوله تعالى : { وكان الإنسان عَجولاً } [ الإسراء : 11 ] وقوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } [ المعارج : 19 ]. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه . وأما من فسر العَجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد .
انتهى كلامه
قال ابن قتيبة في غريب القرآن: خُلقتْ العجلةُ في الإنسان، وهذا من المقدم والمؤخر.
قلت ( عبدالرحيم ): ونظيرتها قوله تعالى ( ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ): فليست المفاتيح هي التي تنوأ؛ بل من يحملها من الرجال الشداد.
قلت: وثم وجه آخر؛ في تأويل قوله تعالى ( من عجل ): أي من طين. لأن من أسماء الطين العجل.
ومنه قول الشاعر:
(والنبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل): أي بين الماء والطين.
والبيت حكاه الماوردي في النكت والعيون.
قال نفطويه: وليس عندي في هذا حكايته عمن يرجع إليه.
قال الواحدي في البسيط عقب ذكره قول نفطويه:
" والعجل بمعنى الطين قد حكي من كلام العرب. رواه أبو عمر، عن أبي العباس، عن ابن الأعرابي. [وهو صحيح ولكنه لا يصح تفسير] هذه الآية به، ولا يليق بالمعنى المراد من الآية ".
انتهى كلام الواحدي.
قال ثعلب: العجل: العجلة، والعجل - أيضا: الطين.
حكاه غلام ثعلب في ياقوتة الصراط.
(لطيفة):
قوله تعالى ( خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَل): ليس معناه أنه مخلوق من العجل؛ إنما المراد أن العجلة خلقت فيه. لان أصل خلقته الطين، ثم ذريته من بعده من ماء.
وهذا مثل الحديث الذي ورد بلفظ " ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين" (1)، (2): فالمراد طبعها؛ لا أن أصل خلقتها من الشياطين.
قال العثيمين - رحمه الله - في حديثه عن علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل؛ عند قول الحجاوي في الزاد " وبول ما يؤكل لحمه، وروثه...":
قال الشارح ( العثيمين) في الشرح الممتع على زاد المستقنع:
وقيل: إنها خلقت ( الإبل ) من الشياطين. كما ورد بذلك الحديث. وليس المعنى أن أصل مادتها ذلك، ولكن المعنى أنها خلقت من الشيطنة، وهذا كقوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37]، وليس المعنى أن مادة الخلق من عجل، لكن هذه طبيعته، كما قال تعالى: {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11].
وقال ابن حبان في صحيحه؛ عقب روايته للحديث: أراد به أن معها الشياطين وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان" ثم قال في خبر صدقة بن يسار عن بن عمر: "فليقاتله فإن معه القرين". انتهى
.............
(1): رواه ابن ماجة في سننه (769) ، وأبو داود الطيالسي في مسنده (955)، علي بن الجَعْد في مسنده(3180 )، واحمد في مسنده(16788)، وابن حبان في صحيحه (1702)؛ من طريق الحسن عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه.
ورواه أبو داود (184) من طريق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب؛ بلفظ" لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين ".
...................
انتهى والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتبه: أبو المنذر عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل حمودة المصري المكي.
للاشتراك ( واتساب ) - للإبلاغ عن خطأ: 00966509006424
{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} الأنبياء: (37)
*قوله ( خُلِقَ الْإِنْسَانُ ):* اسم جنس؛ يشمل كل إنسان؛ بما فيهم آدم - عليه السلام -؛ فقد استعجل، ولم يصبر على أمر ربه، وأكل من الشجرة؛ إلى أن تيب عليه. فالعجلة فيه وفي بنيه.
وهذا بخلاف من خصه بآدم - عليه السلام -.
قال الواحدي في البسيط: والإنسان هاهنا اسم الجنس.
قال ابن جزي الغرناطي في التسهيل لعلوم التنزيل: والإنسان هنا جنس.
قال الثعالبي في الجواهر الحسان: الإنسانالذي هواسم جنس بأنه خلق من عجل، وهذا على جهة المبالغة كما تقول للرجل البطال: أنت من لعب ولهو.
قال النسفي في مدارك التنزيل: والظاهر أن المراد الجنس.
*قوله ( مِنْ عَجَلٍ ):* أي خُلق عجولا؛ لفرط عجلته؛ حتى أنه يستعجل الشر لنفسه، وذويه.
مصداقا لقوله ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ).
فهو ذو عجولة كأنه خلق منها؛ ونظيره قوله تعالى ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ): قال النحاس في معاني القرآن: أي خلقكم في حال ضعف.
قال الزمخشري في الكشاف: قوله(خلقكم من ضعف)كقوله (خلق الإنسان من عجل) يعنى أن أساس أمركم وما عليه جبلتكم وبنيتكم الضعف وخلق الإنسان ضعيفا أى ابتدأناكم في أول الأمرضعافا.
انتهى كلامه.
وقيل: ( مِنْ عَجَل ): من طين.
وقيل: خلقت العجلة منه.
وهو قول أبي عبيدة معمر بن المثنى في المجاز.
وسيأتي الحديث مفصلا؛ من أحسن ما أنت قارىء ( إن شاء الله ) في ثنايا تفسيرنا للآية.
وقيل: أي من تعجيل في خلق الله إياه، خلق على سرعة من الأمر استجابة لأمره تعالى " كُن" فكان بشرا؛ يعنون آدم عليه السلام؛ كما قال تعالى ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ).
قلت (عبدالرحيم): وليس بذاك؛ فكل ما دون الإنسان خلق بهذا الوصف ( كن فيكون ).
فإن قلت: قد خص آدم بذلك ( من عجل ) لأنه أعجب ما خلق الله؛ فقد أقسم به؟
قلت: نعم؛ كذلك هو أعجب ما خلق الله كما قال تعالى ( ووالد وما ولد ): أقسم بآدم وذريته؛ لأنهم أعجب ما خلق، ففيهم النبيون، والشهداء، وفيهم العقل، والنطق إلى غير ذلك مما فضل الله به الإنسان على سائر المخلوقات ( لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا )،
قلت: ولئن كان الإنسان كذلك؛ فثم خلق هو أعظم شأنا من خلقه ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ).
فهذا الخلق العظيم؛ الذي قال الله عن كرسيّه ( وسع كرسيه السموات والأرض )، ولم يقل وسع كرسيه الإنس _ مثلا_.
فالسموات والأرضون أجدر أن يقال فيهما: خلقت السماوات والأرضون من عجل. - على حد قولهم: خلق على سرعة من الأمر، وتعجيل -. مع أن الله قال ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ).
فالحاصل أن معنى قوله تعالى ( من عجل ): يعني: عجولا. من طبعه، وشأنه العجلة؛ حتى أنه يستعجل الشر، ويرجو لنفسه وخاصته الهلاك.
قال ابن جزي الغرناطي في التسهيل: خلق شديد الاستعجال وجاءت هذه العبارة للمبالغة: كقولهم خلق حاتم من جود.
قال ابن الجوزي في تذكرة الأريب في تفسير الغريب: أي خلق عجولا.
قال الإيجي الشافعي في جامع البيان: لفرط استعجاله كأنه خلق منه.
قال صديق حسن خان في فتح البيان في مقاصد القرآن: والمعنى أن الإنسان من حيث هو مطبوع على العجلة فيستعجل كثيراً من الأشياء وإن كانت تضره.
قال المبرد: أي من شأنه العجلة.
حكاه الواحدي في البسيط.
قال الخضيري في السراج في بيان غريب القرآن: لكثرة استعجاله في أحواله، كأنه خلق من عجل.
قال أبو السعود في تفسيره: استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه تنزيلا لما طبع عليه من الأخلاق منزلة ما طبع منه من الأركان إيذانا بغاية لزومه له وعدم انفكاكه عنه ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد.
قال النسفي في مدارك التنزيل: والظاهر أن المراد الجنس وأنه ركب فيه العجلة فكأنه خلق من العجل ولأنه يكثر منه والعرب تقول لمن يكثر منه الكرم خلق من الكرم فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها.
قال قتادة: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} قال: خلق عجولًا.
حكاه عنه يحيى بن سلام في تفسيره، وكذا الواحدي في البسيط.
قال الواحدي عقب ذكره قول قتادة" خلق عجولا".
وهذا القول اختيار جميع أهل اللغة والمعاني.
انتهى كلامه.
قال السمين الحلبي في عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ: تنبيهًا أن طبعه العجلة بمنزلة من خلق من الشيء فكأن العجلة مادته. وأصله: نبه به أنه لا يتعرى من ذلك البتة، فإنها إحدى القوى التي ركب عليها.
قال الجلال المحلي في تفسير الجلالين: أي أنه لكثرة عجله في أحواله كأنه خلق منه.
قال البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: فلذا يكفر، لأنه إذا خولف بادر إلى الانتقام عند القدرة فظن بجهله أن خالقه كذلك، وأن التأخير ما هو إلا عن عجز أو عن رضى.
انتهى كلامه
قلت: وهذا ظاهر في نهاية الآية ( فلا تستعجلون ): أي لا تستعجلون العذاب: قال ابن أبي زمنين في تفسيره: وذلك لما كانوا يستعجلون به النبي عليه السلام من العذاب استهزاء منهم وتكذيبا.
وقال السمرقندي في بحر العلوم" خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ": أي مستعجلا بالعذاب.
انتهى كلامه.
فالإنسان كما وصفه ربه ( وكان الإنسان عجولا ).
قلت: وقد أخبر الله تعالى عن عجلة بني آدم في غير ما آية ؛ كما قال ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) قال ابن قتيبة: أي: لو عجل الله للناس الشر إذا دَعَوْا به على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم وأولادهم، واستعجلوا به كما يستعجلون بالخير فيسألونه الرزق والرحمة: {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي: لماتوا.
قال الحسن: ( عجولا) أي: ضعيفا، وضعفه هو أن يضيق صدره ويحرج عند إصابة أدنى شيء، حتى يحمله ضيق صدره على أن يدعو على نفسه وعلى مجيئه بالهلاك لضيق صدره وذلك لضعف فيه.
حكاه أبو منصور الماتريدي في تأويلات أهل السنة. انتهى
حتى أن الله نهى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يعجل بالقرآن؛ كما في قوله {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}: قال ابن قتيبة في غريب القرآن: أي لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ من وحيه إليك. وكان رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله - يبادر بقراءته قبل أن يتمم جبريلُ، خوفًا من النسيان. انتهى.
وقال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ )،
وقال ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا )،
وقال ( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ )،
وقال ( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )،
وقال ( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ )،
وقال ( قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )،
وقال ( قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ )،
وقال ( ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ).
فبهذا توقن أن الإنسان ( عجولا ): لشدة عجلته، وكثرتها؛ كأنه خلق منها.
وأحمد الله الذي لا إله إلا هو؛ أن وفقني، وألهمني هذا قبل أن أطلع على كلام الواحدي - رحمه الله -
حيث قال في البسيط:
" وتأويل الآية: خلق الإنسان عجولًا، ولذلك يستعجل ربه بالعذاب.
ومن قال معنى الآية: إن آدم خلق على عجلة - يقول: إنَّ ذلك أورثه وأولاده العجلة، فاستعجلوا في كل شيء حتى العذاب.
والآية نازلة في أهل مكة حين استعجلوا العذاب. قال ابن عباس -في رواية عطاء-: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} يريد: النَّضْر بن الحارث، وهو الذي قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال: 32] الآية. انتهى
قال ابن ناصر السعدي في تفسيره: أي خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون، يستعجلون عقوبة الله للكافرين، ويتباطئونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب، تكذيبا وعنادا.
انتهى كلامه.
قلت: ولقد قال الناس في ذلك ( من عجل ) أقاويل؛ ولعل من أحسن ما وقفت عليه؛ بعد كلام الواحدي؛ ما قاله الطاهر بن عاشور - رحمه الله - فراجعه بتمامه إن شئت؛ حيث قال في التحرير والتنوير:
والعَجَل : السرعة . وخَلْق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جِبلّة الإنسانية . شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه ، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية . فإذا فَكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة ، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية ، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين ، فلا جرَم كان الإنسان عَجولاً بالطبع فكأنه مخلوق من العَجْلة . ونحوه قوله تعالى : { وكان الإنسان عَجولاً } [ الإسراء : 11 ] وقوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } [ المعارج : 19 ]. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه . وأما من فسر العَجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد .
انتهى كلامه
قال ابن قتيبة في غريب القرآن: خُلقتْ العجلةُ في الإنسان، وهذا من المقدم والمؤخر.
قلت ( عبدالرحيم ): ونظيرتها قوله تعالى ( ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ): فليست المفاتيح هي التي تنوأ؛ بل من يحملها من الرجال الشداد.
قلت: وثم وجه آخر؛ في تأويل قوله تعالى ( من عجل ): أي من طين. لأن من أسماء الطين العجل.
ومنه قول الشاعر:
(والنبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل): أي بين الماء والطين.
والبيت حكاه الماوردي في النكت والعيون.
قال نفطويه: وليس عندي في هذا حكايته عمن يرجع إليه.
قال الواحدي في البسيط عقب ذكره قول نفطويه:
" والعجل بمعنى الطين قد حكي من كلام العرب. رواه أبو عمر، عن أبي العباس، عن ابن الأعرابي. [وهو صحيح ولكنه لا يصح تفسير] هذه الآية به، ولا يليق بالمعنى المراد من الآية ".
انتهى كلام الواحدي.
قال ثعلب: العجل: العجلة، والعجل - أيضا: الطين.
حكاه غلام ثعلب في ياقوتة الصراط.
(لطيفة):
قوله تعالى ( خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَل): ليس معناه أنه مخلوق من العجل؛ إنما المراد أن العجلة خلقت فيه. لان أصل خلقته الطين، ثم ذريته من بعده من ماء.
وهذا مثل الحديث الذي ورد بلفظ " ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين" (1)، (2): فالمراد طبعها؛ لا أن أصل خلقتها من الشياطين.
قال العثيمين - رحمه الله - في حديثه عن علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل؛ عند قول الحجاوي في الزاد " وبول ما يؤكل لحمه، وروثه...":
قال الشارح ( العثيمين) في الشرح الممتع على زاد المستقنع:
وقيل: إنها خلقت ( الإبل ) من الشياطين. كما ورد بذلك الحديث. وليس المعنى أن أصل مادتها ذلك، ولكن المعنى أنها خلقت من الشيطنة، وهذا كقوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37]، وليس المعنى أن مادة الخلق من عجل، لكن هذه طبيعته، كما قال تعالى: {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11].
وقال ابن حبان في صحيحه؛ عقب روايته للحديث: أراد به أن معها الشياطين وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "فليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان" ثم قال في خبر صدقة بن يسار عن بن عمر: "فليقاتله فإن معه القرين". انتهى
.............
(1): رواه ابن ماجة في سننه (769) ، وأبو داود الطيالسي في مسنده (955)، علي بن الجَعْد في مسنده(3180 )، واحمد في مسنده(16788)، وابن حبان في صحيحه (1702)؛ من طريق الحسن عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه.
ورواه أبو داود (184) من طريق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب؛ بلفظ" لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين ".
...................
انتهى والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتبه: أبو المنذر عبدالرحيم بن عبدالرحمن آل حمودة المصري المكي.
للاشتراك ( واتساب ) - للإبلاغ عن خطأ: 00966509006424