تحرير العقول ودفاع الإنصاف عن الصحيحين (1) : إطار معرفي , وتقسيم وصفي

خالد الفيل

New member
إنضم
25/09/2012
المشاركات
11
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
العمر
33
الإقامة
الخرطوم
هنالك مقدمات وتنبيهات مهمة تقدّم بين الحديث عن الشبهات لابد من بيانها :
فأولاً : ضرورة معرفة الشبهة وحدودها , وهذا مهم جداَ في تحديد الشبهة الهدامة من الشبهة التي لا تساوي الحبر الذي كتبت به , وفرق بين شبهة الطعن في سند القرآن الكريم وحجيته وأنه يعلو فوق الزمان والمكان و وبين من يطعن في أشخاص بعض الصحابة . كلا الأمرين فاحش وباطل لكن تأثير كل واحد يختلف تماماً عن الآخر.
ثانياً : ضرورة معرفة الوسط الذي تروج فيه الشبهة ومدي تأثيرها ,وهذا مهم جداً في تحديد الموقف المتبع معها سواء بالسكوت عنها حتي تموت , أو بالرد عليها والتشنيع علي قائلها في الملأ . وعمر بن الخطاب الذي قال " اميتوا الباطل بالسكوت عنه ولاتثرثروا فينتبه الشامتون " , هو نفسه عمر الذي ضرب الفتي المبتدع بالدرة المسمي صبيغ وقد أورد القصة شيخ الإسلام في الفتاوي فقال :
" وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن الذاريات ذروا فقال ما اسمك قال عبدالله صبيغ فقال وأنا عبدالله عمر وضربه الضرب الشديد وكان ابن عباس اذا ألح عليه رجل فى مسألة من هذا الجنس يقول ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام كما قال النبى عليه الصلاة والسلام اذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه وكما قال تعالى : " فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " , فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد كالذى يعارض بين آيات القرآن وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فان ذلك يوقع الشك فى قلوبهم ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذى لا يعلمه الا الله فكان مقصودهم مذموما ومطلوبهم متعذرا مثل أغلوطات المسائل التى نهى رسول الله عنها ومما يبين الفرق بين المعنى و التأويل أن صبيغا سأل عمر عن الذاريات وليست من الصفات وقد تكلم الصحابة فى تفسيرها مثل على بن أبى طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها كره سؤاله لما رآه من قصده لكن على كانت رعيته ملتوية عليه لم يكن مطاعا فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه و الذاريات و الحاملات و الجاريات و المقسمات فيها اشتباه لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك اذ ليس فى اللفظ ذكر الموصوف والتأويل الذى لا يعلمه الا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها ومتى تهب وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر وكذلك فى الجاريات و المقسمات فهذا لا يعلمه الا الله ...,,,,,,,,إلخ " .
فعمر ضرب في الموضع الثاني لأن الضرر المتحقق من الشبهة بدأ يزيد وذلك أن الرجل كان يسأل عن المتشابه حتي أشتهر بذلك مما جعل عمر يعرفه من أول مقابلة له وهذا يعني أن الوسط الذي ذاعت فيه البدعة قد أصبح واسعاً والتأثير كبيراً لذلك تصرَّف عمر بن الخطاب بهذه الطريقة , أما في المقولة الأولي فتحمل علي الشبهات التي لا قبول لها , بل إن الإشتغال بالرد عليها يزيدها إنتشارا ً ويخلق لها دعاية إعلامية . فأفهم هذا الأصل _هداني الله وإياك للحق _ فإنه مفيد جداً في بابه .
يتبع إن شاء الله
 
ثالثاً : ضرورة معرفة طريقة الإستدلال والقواعد التي بنيت عليها الشبهة , وهنالك فرق مهم جدا بين الإستدلال وبين القواعد التي تبني عليها الشبهات , وهو مهم جداً في كيفية الرد ,وتحديد مناط الشبهة وأساسها .
فالإستدلال : يتعلق بترابط المقدمات وعلاقتها وصحتها حتي الوصول إلي النتيجة الموافقة للمقدمة , وهو ما يطلق عليه عند المنطقيين " الصواب " , وهو ترابط المقدمات وصحة علاقتها بالنتيجة , وعدم وجود قفزات منطقية وهي مؤسسة علي ضوابط نظرية الترابط
) Coherence(

" ففي هندسة إقليدس مثلا نجد مثلا نسقا مستمداً بالإستنباط خطوة فخطوة من البديهيات والمصادرات الاصلية , وما أن تؤخذ هذه البديهيات علي أنها صحيحية حتي حتي يلزم منه بقية النسق منطقياً , وعلي نحو يكاد يكون محتوماً فنحن في هذه الحالة ننتقل في سلسلة لا تنقطع , قوامها إستدلال غاية في الدقة , ومن البديهيات الأصلية إلي عبارة وهو المطلوب إثباته التي يختم بها البرهان علي النظرية الهندسية , وبالوصول إلي النتيجة تكون لدينا سلسلة تامة التكامل من التفكير المنطقي , تترابط بدورها مع نسق كامل من الإستدلال " هنتر ميد , من كتاب الفلسفة ومشكلاتها . وفي هذا النوع من الإستدلال تري جليا ً أن الترابط هو معيار الصواب , وفق ما يفترض سابقاً وبمجرد أن يهدم الإفتراض الأول والبديهة حتي ينهار البناء المنطقي للصواب كليا ً .
أما القواعد التي تبني عليها الشبهات : وهي أصل الحجة والمقدمات نفسها , وهو ما يعرف في عرف المنطقيين " بالحقيقة " = مطابقة المقدمة للواقع والحقيقة وهي مؤسسة علي نظرية التطابق
(Correspondence)

وحتي يتضح الفرق بين الحقيقة والصواب نضرب لذلك مثالاً يخص سلسلتنا هذه :
مثال الأول : الدكتور محمد المجذوب , سوداني الجنسية أشتهر بنقده للحديث ومنهجية المحدثين في النقل يقول في مقال له : " قاعدة الضبط في نقل الرواية " منشور علي صفحة الدكتور في الفيسبوك يتحدث فيه عن نقد شرط الرواية الثاني ألا وهو الضبط , غير أن الرجل أعتمد في جل نقده علي أن المحدثين إنما كانوا يروون بالمعني حيث قال : " خاصة وان الأحاديث بعد طول الزمن أصبحت تروي بالمعني وليس باللفظ, فشاعت في الكتب المجموعة أحاديث ذات مستويات متدنية من الوجهة الفكرية " , وقال أيضاً في مقاله : " أُثِر عن سفيان الثوري قولته : " إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى". والمقصود أن رواة الحديث كانوا يروونه بما استقر في أذهانهم من معنى، وليس كما تلقوه لفظا, هنا مكمن الخطورة في الرواية بين مختلف الفرق السياسية والمذهبية, إذ من المعروف أن تغيير حرف، أو إضافته أو حذفه يغير المبنى والمعنى معا للكلام، فما بالك بتغيير جملة أو فقرة كاملة ,,,,إلخ " , ثم علي هذه المقدمة أسس بنيان مترابطاً من المعلومات في نقد قاعدة الضبط خطوة بخطوة حتي أتي عليها من أصلها , وأنتهاء إلي أن هذا الشرط فيه خلل كبير جداً ولا يستقيم ولا يعتبر شرط للنقل عن رسول لله صلي الله عليه وسلم , وهدم بذلك جلًّ السنة النبوية !!!.
إذا أردنا أن نطبق قاعدة الصواب والحقيقة فيمكن أن تري أن الرجل استدل استدلالاً يتسم بالصواب ألا وهو الترابط وفوق البديهة التي بناء عليها ألا وهي " أن علماء الحديث يروون بالمعني " . فإذا أردنا أن نرد هذه الشبهة فإننا سنتحدث هنا عن نقض الحقيقة التي بني عليها الصواب ألا وهي : " أن علماء الحديث يروون بالمعني " فننقض هذا الأصل بالأتي :
1-سرد أقوال أهل الحديث في الرواية بالمعني وتشنيعهم لمن لا يضبط اللفظ , وإيراد أمثلة من ضبطهم للفظ وتحري الكلمة بعينها والأمثلة في هذا الباب كثيرة جداً في الصحيحين وغيره .
2- الدكتور نقد شرط الضبط برواية منقولة عن سفيان الثوري , وهذه عين المغالطة المنطقية , إذ علي منهجه أن هذه الرواية لا يمكن الجزم بصحة نسبتها إلي الثوري !!! , وهذا ما يسمي عند المناطقة مغالطة " الدور "
3- الإستدلال بأن السنة محفظوة كما القرآن , وأن المنهج الصحيح في نقلها هو قواعد المحدثين المشهورة .
مثال ثاني : أن يستدل صديق لك يتفق معك علي حجية السنة أن فعل معين من أفعال الرسول صلي الله عليه وسلم خاص به , إستناداً إلي أن النبي صلي الله عليه وسلم فعله مثل الشرب واقفاً وأن الأصل العام تحريم الشرب واقفاً , فيكون ردك : " لماذا جعلت هذا الفعل دليل علي الخصوصية ولم تجعله دليل علي نقل الفعل من التحريم إلي الكراهة ؟!! " فأنت تري هنا أن صديقك إتفق معك علي الحقيقة (وهي حجية السنة هنا ) , وأخطأ في الإستدلال بالحقيقة (الصواب ) .
وبتعبير هنتد ميد : " والخطر الأساسي أن الذهن غير النقدي قد يعجب بالبناء علي صورته النهائية وبنتائجه ( لاسيما إذا كانت ترضي رغبته في الإطمئنان العاطفي أو التبرير الأخلاقي ) إلي حد يؤدي به إلي إغفال ملاحظة الأسس التي شيد عليها بناءه بأكمله , وكثيرا ما يحدث عندما يقوم مفكر تحليلي بكشف هذه الأسس, أن يتغير موقف الذهن الذي كان قبل ذلك يقبل النسق بأكمله فيتحول إلي رفض الكل لأنه لم يعد يقبل المقدمات الأصلية . ولكن الأكثر من ذلك حدوثا أن ينقب هذا الذهن من حوله ويحاول أن يضع أسس خاصة به تتألف من مقدمات مقبولة أكثر من الأولي ثم ينقل البناء الفكري بأكمله سليما فوق الأساس الجديد . وقد يحدث أحيانا أن يدرك ذهن أن المقدمات الأصلية مسلمات غير مقبولة , ويعترف بأنها غير مرضية وربما ممتنعة ولكنه يظل يؤكد في عناد أن أي نسق يبلغ هذا الحد من الروعة ويصل إلي مثل هذه النتائج البديعة التي تطرب لها النفس لابد أن يكون صحيحا بغض النظر عن اسسه . ومن الواضح أنه عندما يكون لأي شخص أرادة أعتقاد كهذه فأغلب الظن أننا نكون مضيعيين لوقتنا لو قمنا حتي بمناقشة مشكلة الحقيقة معه , وعندما يكون البناء الفكري الذي يصر علي الإحتماء في داخله قد ظل صامدا قرونا طويلة فعندئذ يكون من الأكثر عقما أن نحاول إقناع المؤمن غير النقدي بأن هذا البناء ليس مشيدا علي أسس واقعية موضوعية يمكنها أن تصمد للأختبار الذي يتخذ من التطابق معيارا للحقيقة "
 
رابعاً : ينبغي الصدق والتجرد في قبول الشبهة والتعامل مع وفق القواعد المنطقية والنهجية العلمية دون تلبيس أو تحيزات مسبقة . وكم من رجل ظن مخالفه أنه يقول بدعة وشبهة وكان معه الحق والصواب , ولك في تشنيع السبّكي علي شيخ الإسلام ابن تيمية أسوة , ولك فيما فعل المالكيون وأنصار المذاهب بالإمام ابن حزم في الإندلس ( طردوه , وشردوه وألبوا عليه الناس ) مثال آخر . وفي هذا المعني ج يقول إمام الحديث الشريف العوني : " من السهل أن تتهم خصمك بالتناقض والكيل بمكيالين ، وقد تكون محقاً . ولكن ستجد غالباً أنه من الصعب عليك أن تقنعه بذلك ؛ لأنك في الحقيقة لم تحاول يوما أن تفهمه ، وأن تنظر من وجهة نظره "
ومن أجمل إستنباطات الشريف العوني _حفظه الله ورعاه _ ما سماه قاعدة تصًديق ظن إبليس في الناس !!!
يقول حفظه الله : " مهارة تصديق ظن إبليس في الخصوم :
مأخوذة من قوله تعالى { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } . والمعنى : أن الشيطان كان يظن أن الكفار والعصاة سوف يتبعونه إذا أغواهم ، فلما فعلوا ذلك ، فكفروا وعصوا ، صدَق عليهم ظنُّ إبليس ، أي : كان ظناً في محله ، فصدّق عليهم ظنَّه ، أي : حققوا ظنونه فيهم ( بتخفيف الدال وتشديدها ) ، فصار بذلك كل من غوى ,فقد صدق فيه ظن إبليس وبعض جماعات الصف الإسلامي إذا خالفهم شخص في بعض آرائهم ، افتروا عليه بكل تهمة : فهذا زنديق ، وهذا ملحد ، وهذا ليبرالي ، وهذا علماني ، وهذا قبوري ، وهذا مبتدع .... إلى آخر هذه التهم الكثيرة !!!
ثم لا يجدون دليلاً على شيء من ذلك ؛ لأن من نابذوه الخصومة لم يصل هذا الحد من المخالفة . فيستمرون في ظلمه والإفتراء عليه ، ويتكالبون عليه تكالب قطيع مسعور ، ينهشون عرضه ، ويشتمونه ، ويضيقون عليه ، حتى ربما فصلوه من عمله ، وسعوا في قطع رزقه ، وربما خببوا عليه زوجه ، فطلقوها منه ، ومنعوه أولاده !! نعم .. كل هذا وقع ، ويقع ، وليس خيالات ولا إفتراضات !!!!
فتجد هذا الشخص وكان لا يخالفهم إلا في مسألة أو مسألتين ، أصبح جراء هذا البغي والعدوان لا يكاد يوافقهم إلا في مسألة أو مسألتين !!! إذ من يمكن أن يحتمل كل ذلك العدوان !!
فيقولون عن هذا البائس حينئذ ، وبعد أن عادى مذهبهم أشد معاداة ، وبعد أن صار عدوا بصناعتهم : ألم تروا أننا كنا نعرف حقيقته ؟! وقد كذبوا ، فهم من صنع هذه الحقيقة فيه !!!
فصدّقوا فيه ظنَّ إبليس , وإنها خدمة يقدمونها لإبليس مجانا ، باعتدائهم
وسيجدون هذه الخدمة يوم الحساب ، لا في صحيفة ذلك البائس المسكين، الذي أحرقه ظلمهم ، بل سيجدونها في صحائفهم ! فمن أولى ممن صدّق ظنون إبليس في إخوانه المسلمين من أن يكون قرين إبليس في جرم ذلك التصديق ؟ " !!!!
 
ختاماً : عندي أن أقسام الشبهات من ناحية التقسيم الوصفي أربعة أقسام , وهذا التقسيم لا ينبني عليه أي حكم , ولا تتصف أي شبه تصنف تحت أي قسم بصفات معينة وإنما هي وسيلة للفهم وتسهيل التعامل لا أكثر :
الأولي : شبهات غيبية , وهي تشمل الإلحاد وإنكار وجود الله وما يتبع ذلك , وتشمل كذلك الشبهات في صفات الله من جهمية ومعتزلة وغيرهم .
الثانية : شبه في العقليات : وهي تشمل المغالطات المنطقية من مصادرة ودور وغيره , وتشمل منكرة الحقائق , والسفسطائين .
الثالثة : شبهات في الرسالات : وتشمل الحديث عن صدق النبؤات , وعن صحة سند ما ينسب للأنبياء ومن ذلك الطعن في الصحيحين وهو موضوع هذه السلسلة إن شاء الله .
الرابعة : شبه في المحسوسات : تشمل اقوال المثالين المتطرفين ( أمثال باركلي ممن يقولون الكون ليس إلافكرتي ) عن الواقع , وتشمل إيضا شبهات شرعية من التوسل بالقبور وغيره .
ولنا عودة إن شاء الله......
 
عودة
أعلى