تحدي العالم بتعاليم الوحي المحمدي الكاتب : محمد رشيد رضا

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الكاتب : محمد رشيد رضا


ذو الحجة - 1351هـ
أبريل - 1933م

تحدي العالم بتعاليم الوحي المحمدي

تلك عقائد دين محمد ، وقواعد تشريعه ، وأصول إصلاحه الاجتماعي
والسياسي ، مسرودة بالإجمال ، مُؤَيَّدَة بشواهدها من آيات القرآن ، مجردة من حلل
المبالغات الخطابية ، وعاطلة من حلي الخلابة الشعرية ، ونحن المسلمين نتحدى
الفلاسفة والمؤرخين من جميع الأمم ، ولا سيما أحرار الإفرنج ، بأن يأتونا بمثلها أو
بما يقرب منها من تاريخ أعظم الأنبياء ، وأشهر الحكماء ، وأبلغ الأدباء ، وأنبغ
ساسة الأولين والآخرين ، مع صرف النظر عن كونه كان كما شرحنا أميًّا نشأ في
الأميين ، وجاء بذلك كله بعد استكمال سن الأربعين ، وقد بيَّنا الفرق العظيم بينه
وبين موسى وعيسى أعظم أنبياء بني إسرائيل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
( التنفيذ العملي )
وأما تنفيذه صلى الله عليه وسلم لهذه التعاليم فقد تم في عشر سنين من تاريخ
الهجرة الذي كان بدء حياة الحرية ، وقد ظل يدعو إلى أصولها المجملة عشر سنين
أولا بالسر ، ثم بالجهر ، مع احتمال الاضطهاد والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل
والنفي ، الذي اضطر المؤمنين إلى هجرة بعد هجرة ، وبعد الهجرة العامة بالتبع له ،
كانوا في حالة حرب وقتال مع المشركين كافة ، وكذا أهل الكتاب وكان صلى الله
عليه وسلم عقد معهم معاهدة بتأمينهم على دينهم وأنفسهم وأموالهم بشرط ألا
يظاهروا المشركين عليه ، فنقضوا عهده ، وظل المسلمون مدة ست سنين مدافعين
عن أنفسهم في كل قتال دفاع الضعيف المؤيد من الله للأقوياء المخذولين ، وفي
أواخر السادسة عقد معاهدة الحديبية مع المشركين على وضع القتال عشر سنين ،
ثم غدر المشركون ونقضوا العهد ، فعادت حالة الحرب ، وفتح المسلمون مكة
عاصمة قريش الدينية والدنيوية ، ومثابة جميع الأمة العربية في سنة ثمان من
الهجرة ، وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في آخر سنة عشر ، وأنزل
الله تعالى عليه فيها : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً } ( المائدة : 3 ) .
ففي عشر سنين وقع توحيد الأمة العربية التي كانت أعرق أمم الأرض في
الشقاق والتفرق والعداء ، وإنما كان ذلك بتأثير كتاب الله وتأييده عز وجل لرسوله
كما قال : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ( الأنفال :
62-63 ) وبما أعده تعالى له من مكارم الأخلاق وما وفقه وأرشده إليه من حسن
السياسة المبينة في قوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ
القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } ( آل
عمران : 159 ) الآية . وذلك أن العرب كانت أعصى خلق الله على الخضوع
والطاعة والانقياد لعراقتهم في الحرية ، وشدة بأسهم ، وعدم وجود الملوك المستبدين
القاهرين والرؤساء الروحيين المسيطرين فيهم .
فليدلنا علماء التاريخ العام على نبي من الأنبياء ، أو حكيم من الحكماء ، أو
ملك من الملوك الفاتحين والمشترعين ، رَبَّى أمة من الأمم في عشر سنين ، فجعلهم
أهلا لفتح الأمصار ، والسيادة على الأمم الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة ،
وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة ، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة
التي علَّمَها وهذَّبَها ووحَّدها رجل واحد كالأمة الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة ،
وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة ، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة
التي علَّمها وهذبها ووحَّدها رجل واحد كالأمة العربية في أميتها وجاهليتها وتفرقها
وتعاديها ومرور القرون عليها وهي تتوارث هذه الصفات ، فأين الوحدة الجرمانية
والوحدة الطليانية في عصر العلوم والفنون والفلسفة والقوانين ونظم الاجتماع
والحرب ، من الوحدة العربية المحمدية في عهد الأمية والجاهلية ؟ بل أين الوحدة
الإسرائيلية في عهد الآيات والعجائب الكونية من الوحدة العربية الخاصة ، ثم
الوحدة الإسلامية العامة في عهد آيات القرآن وعلومه الإلهية وبيان السنة المحمدية
لها ؟
ثم نفذ ذلك التشريع الأعلى ، والهداية المثلى ، خلفاء محمد الراشدون ، وكثير
من ملوك المسلمين الصالحين ، بما شهد لهم به تاريخهم ، واعترف لهم به
المؤرخون المنصفون من الإفرنج وغيرهم ، بأنهم جدَّدوا بهما الحضارة الإنسانية
ورقوها ، وأحيوا العلوم والفنون الميتة وهذبوها واستثمروها ، وكانوا أساتذة جميع
من جاء بعدهم فيها .
ثم كان من قوة هذا الدين ومتانته أَنْ عَادَتْهُ جميع أمم الإفرنج وحاربته بجميع
قواتها الصليبية ، الهمجية منها والمدنية ، ثم بعلومها وفنونها ونظمها المدهشة ، ولا
تزال تحاربه وتبذل الملايين لتحويل أهله عنه ، بعد زوال قوة دوله ، وغلبة الجهل
على شعوبه ، ولم تستطع أن ترد رجلاً واحدًا عنه قد كان عرفه . أفما آن لها أن
تعقل أنها لو اعترفت له بحقه ، لأمكنها أن تصلح العالم كله به ؟ ؟
((يتبع بمقال تالٍ))
(33/102)
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
النتيجة
المقصود بالذات
قيام الحجة البالغة على ثبوت نبوة محمد العامة

إذا عجز حكماء هذا العصر وعلماء الحياة والاجتماع والأخلاق والمؤرخون
من أحرار الإفرنج وغيرهم عن إخبارنا بوجود رجل مثل محمد فيما علم من تاريخه
المعروف المشهور جاء بمثل هذا القرآن في خصائصه ولا سيما التعاليم التي
لخصنا كلياتها في هذا البحث ، وقدر أن ينفذها ويربي بها أمة كالأمة العربية يكون
لها بها من الأثر الديني والمدني في العالم مثل أثرها وإنهم لعاجزون عن ذلك قطعًا -
أفلا يكون عجزهم هذا برهانًا على أن دين محمد وكتاب محمد وهدي محمد وتربية
محمد للأمة العربية من خوارق العادات .
وإذا كان هذا حقًّا واقعًا ما له من دافع ، فما المانع من عد هذه التعاليم وحيًا
من رب العالمين ، العليم الحكيم ؟ وما معنى كونها وحيًا إلا أنها علم أفاضه الله
تعالى على روح محمد وقلبه ، بطريقة خفية غير طرق العلم الكسبية المعروفة
للبشر عامة ، وفوق الإلهامات القليلة التي تؤثر عن بعض الخاصة ؟ وما معنى
كونها معجزة إلا أنها جاءت على غير المعهود في علم البشر الكسبي ، وخلاف
المقرر في علم النفس والفلسفة العقلية وسنن الاجتماع ، وتواريخ الأمم ، وسير
الحكماء والعلماء والملوك ، وفوق المعروف عن الأنبياء أيضًا ، وإن كانت من
جنسها ، فالأنبياء قد أنبئوا ببعض الغيوب الحاضرة في عصرهم والتي تأتي بعدهم
وأنبأ محمد ( صلوات الله عليه وعليهم ) بمثلها وبغيوب سابقة كانت قبل نبوته
بقرون ، ولكن لم يجئ أحد منهم بمثل ما تقدم إجماله في المقاصد العشرة العالية من
العلم والحكمة والتشريع .
قد بيَّنا لكم أيها العقلاء الأحرار بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم من العلل والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي
الأعلى ، والتشريع المدني الأسمى ، والحكمة الأدبية المثلى من استعداده الشخصي ،
وما اقتبسه من بيئته ومن أسفاره ، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً ،
وعلمتم أن بعض ما قالوه افتراء على التاريخ ، وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما
ادعوه ، وعلمتم أنه في جملته مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر وسنن الاجتماع
ووقائع التاريخ .
ونحن نتحداكم الآن بالإتيان بعِلَل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي
الله تعالى وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه علل يقبلها
ميزان العقل المسمى بعلم المنطق ، وما ثبت عندكم في هذا العهد من علم النفس
وعلم الاجتماع وحوادث التاريخ وفلسفته .
فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول ، وتؤيدها النقول ،
فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، وبكتابه
المنزل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر ، وأن تتولوا الدعوة إلى هذا الإيمان ،
ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به ، بعد أن عجزت علومكم الواسعة ، وفلسفتكم
الدقيقة عن وقف سريان عدوى فساد الإباحة وعبادة الشهوات وفوضى الأفكار في
الأمم ، وعجزت عن منع دول حضارتكم أن تنفق معظم أموالها المنتزعة من
شعوبها ومستعمراتها في الاستعداد لحرب البغي والعدوان المدمرة ، وتأريث
العداوات بين شعوب الأرض كافة ، فقد كان غاية شوط هذه العلوم الواسعة عند هذه
الدول أعظم نكبة على البشر ، وأنتم أيها العلماء لم تقصدوا إلا أن تكون نعمة تتم
بها سعادة البشر .
ألا أنه قد ثبت بالحس والعيان أن العلم البشري وحده لا يُصْلِح أنفس البشر ؛
لأنهم لا يخالفون أهواءهم وشهواتهم الشخصية والقومية باتِّباع آراء أفراد منهم ،
وإنما يدينون بوازع الفطرة ، لما هو فوق معارفهم البشرية وهو ما يأتيهم من ربهم ،
ولا يوجد في الأرض دين عام كامل صحيح ثابت إلا دين الإسلام ، وقد بيَّنا لكم
أصول تشريعه الروحي والسياسي والاجتماعي الصالح لكل زمان ومكان ، وأنه دين
السلام والحق والعدل والمساواة التي تعطي كل شعب وكل فرد حقه ، وبها وحدها
يمكن البرء من الأدواء المالية والسياسية والحربية والاجتماعية كلها .
قد دعا بعض العلماء منكم إلى عقد مؤتمر من كبار علماء الشعوب كلها للبحث
في الوسائل التي يمكن أن تقي حضارة العصر من الدمار ، ولئن عقد هذا المؤتمر
فلن يكون أمثل ولا أرجى من هذه المؤتمرات التي تعقدها الدول في جامعة الأمم
وعواصم السياسة وهي لما تزد الأدواء إلا إعضالا ، والأخطار إلا تفاقمًا ، وإنما
الدواء الواقي المضمون بين أيديهم وهم لا يبصرون ، وحجته البينة تناديهم ولكنهم
لا يسمعون : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ } ( الأنفال : 23 ) .
* * *
سؤال علماء الإفرنج
عن شبهاتهم على الدعوة المحمدية
( بعد تبليغهم لحقيقتها ، ومكان أخبار القرآن منها )
وأما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار ، فالمرجو منكم أن تسمعوا
وتبصروا ، وأن تعلموا فتعملوا ، ولكن دعوة القرآن لم تبلغكم حقيقتها على الوجه
الصحيح الذي يحرك إلى النظر ؛ لأن الإسلام ليس له زعامة ولا جمعيات تبث
دعوته ، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ حضارته ، بل صار المسلمون في جملتهم حجة
على الإسلام وحجابًا دون حقيقته ، وأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في بلوغ
الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا العصر ، فإن ظهر لكم بها الحق فذلك ما
نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها ، وإن عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم
للعلم ، وحرصكم على استبانة الحق ، أن تشرحوها لنا لنعرض عليكم جوابنا عنها ،
والحقيقة بنت البحث كما تعلمون .
ولا أراكم تعدون من الشبهات الصادَّة عنه ( بعد أن ثبتت أصوله بما ذكرنا ،
أن فيه أخبارًا عن عالم الغيب لا دليل عليها عندكم ، فإنما مصدر الدين عالم الغيب )
ولو كان مما يعلمه البشر بكسبهم لما كانوا في حاجة إلى تلقيه من الوحي ، وقد
بيَّنا أن تعاليم الإسلام قد أثبتت أنها وحي من عالم الغيب وقامت برهانًا على وجود
الله وعلمه وحكمته ، فوجب أن تؤخذ أخباره بالتسليم ، وحسبكم أنه ليس في القرآن
منها ما يقوم البرهان على استحالته .
وأما أخبار القرآن عن عالم الغيب والشهادة من تكوين وتاريخ فمن معجزاته
الإيجابية أنه جاء فيه كثير من التعبيرات التي كشف العلم والتاريخ في القرون
الأخيرة من معانيها ما لم يكن يخطر في بال أحد من أهل العصر الذي نزل فيه كما
أنه لم يثبت على توالي القرون بعد نزوله شيء قطعي ينقض شيئًا من أخباره
القطعية ، على أن أخباره هذه إنما جاءت لأجل الموعظة والعبرة والتهذيب ، ويكفي
في هذا أن تكون الأخبار على المألوف عند الناس ، ولا ينتقد عليها إذا لم تشرح
الحقائق الفنية والوقائع ؛ لأنها ليست مما يبعث الرسل لبيانه ، ولا يمكن الوقوف
عليها إلا بالتعمق في العلم أو الاستعانة بالآلات التي لم تكن معروفة عند المخاطبين
الأولين بالكتاب ، بل لا يصح أن يأتي فيها ما يجزمون بإنكاره بحسب حالتهم
العلمية لئلا يكون فتنة لهم ، وقد قال نبي الإنسانية العام : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم )
رواه مسلم في صحيحه .
ومن دقائق تعبير القرآن في النوع الأول أن مادة الخلق ( دخان ) وهو عين
ما يسمى السديم ، وأن السموات والأرض كانتا رتقًا ، أي مادة واحدة متصلة ففتقهما
الله وجعل كلا منهما خلقًا مستقلا ، وأنه جعل من الماء كل شيء حي ، وأنه خلق
جميع الأحياء النباتية والحيوانية أزواجًا فجعل في كل منها ذكرًا وأنثى ، وأنه جعل
كل نبات موزونًا ، وأنه أرسل الرياح لواقح وأمثال ذلك كثير .
وأعجب منه بيان كثير من سنن الاجتماع البشري التي لم يهتد البشر إليها
بالبحث العلمي التدريجي إلا عدة قرون فمن المناسب لهذا وما سبقه من عجائب
القرآن أن أختم هذا البحث كله بقوله عز وجل :
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ
بَعِيدٍ } ( فصلت : 52 ) * { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ
رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } ( فصلت : 53-54 ) ( صدق الله العظيم ، وبلَّغ
رسوله الكريم ، والحمد لله رب العالمين )
* * *
الشبهات على القرآن
ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام
كنت عازمًا على إتباع هذا البحث ببيان ما لعلماء هذا العصر من الشبهات
على القرآن العظيم ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأجوبة عنها ، وكتبت من
ذلك شبهة موسيو درمنغام صاحب كتاب ( حياة محمد ) على مسألة الصلب والفداء .
ثم بدا لي أن أكتب في هذا رسالة مستقلة ألخص فيها ما سبق لي نشره في مجلة
المنار وتفسيرها ، ومنه ما طبع مستقلا كرسالة ( عقيدة الصلب والفداء ) وأزيد
عليه ما أقف عليه بعد نشر هذا البحث ، والله الموفق وهو المستعان .
(33/104
 
الكاتب : محمد رشيد رضا

ذو الحجة - 1351هـ
أبريل - 1933م

جمال الإسلام المهجور أو المجهول
( مسامرة فيه )

( ذكرني اهتمام الصحف بعزم جلالة الملك المعظم على زيارة كليات الأزهر
في هذا الشهر ، وانتقادها لإدارة المشيخة الحاضرة لهذه الجامعة ، وسيرة رئيسها
فيها بمسامرة في هذا الموضوع قامت بها الحجة على هذا الرئيس بأن تعليم التوحيد
وغيره في الأزهر والمعاهد التابعة له غير مفيد للخواص ولا للعوام ، فرأيت أن
أنشرها كما وقعت وها هي ذه ) .
أدب الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين مأدبة نفيسة
لصاحبي السمو شقيق سلطان لحج ونجله ؛ إذ كانا من ضيوف مصر في العام
الماضي ، دعا إليها جماعة من كبار أهل العلم الديني والدنيوي والمكانة ، في
مقدمتهم أصحاب الفضيلة والسعادة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمد
صادق المجددي وزير دولة الأفغان المفوض بمصر والشيخ محمد الخضر وعثمان
مرتضى باشا وأحمد زكي باشا والدكتور عبد الرحمن شهبندر وكذا كاتب هذه
المسامرة صاحب المنار .
ولما كنا على المائدة اعتذر شيخ الأزهر بالحِمْيَة عن مشاركة الجماعة بالطعام
المغذي ، ولكنه أحب أن يجمع لهم بينه وبين الغذاء العقلي ، فطفق يشكو من
إعراض المسلمين عن هداية الإسلام افتتانًا بالدنيا وتقاليد الحضارة الإفرنجية ، فقال
عثمان باشا : إن حب الجمال طبيعي في البشر ، وإن الإسلام كله جمال ، وإن
تهذيب الحضارة والعلوم الراقية تزيد العاقل حبًّا للجمال فهي تقوي الإسلام بما
تظهره من جمال المحبوب أو ما هذا خلاصته .
قال الشيخ : ولكننا نرى الجمال في عرف أكثر أهل عصرنا هو ما يسمونه
( الموضة ) في الأزياء والعادات واللهو وسائر نواحي الحياة ، أي وإن كان من
الفسق والفجور الذي لا يخفى قبحه على عاقل ، وتساءل كيف السبيل إلى تلافيه ؟
هذه صفوة عبارته .
ثم دار الكلام في جمال الإسلام وكماله وما امتاز به على سائر الأديان وما
اعترف له بعض حكماء الإفرنج ومؤرخيهم المنصفين ، ولا سيما أساسه الأعظم
وهو توحيد الله تعالى وكون المرشد الأعظم للناس من لدنه عز وجل هو عبد الله
ورسوله لا مخلوق مشارك له ( أو وكيل ينوب عنه ) سبحانه في تدبير أمور الخلق
في الدنيا ، وينجيهم في الآخرة بنفوذه وجاهه كديانة النصارى .
وذكر الدكتور شهبندر أن بعض علماء أوربة قد صرَّحوا بأن بساطة العقيدة
الإسلامية وموافقتها للعقل والفطرة وسهولة فهمها وتعقلها هو السبب في انتشار
الإسلام في جميع طبقات البشر بالسرعة المعروفة في التاريخ وانهزام النصرانية لما
رأى خذلان النصارى باتخاذ نبيهم إلهًا وربًّا لهم لم يكتفِ بتلقين أتباعه أنه نبي
ورسول ، بل أمرهم بأن يقولوا : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبده ورسوله .
حتى إذا فرغ الجمع من الطعام ، وأخذوا مقاعدهم من حجرة القهوة والكلام ،
تصدى كاتب هذا المقال للموضوع فقال : إن ما قاله الأستاذ شيخ الأزهر من
إعراض المسلمين في هذه البلاد وأمثالها عن هداية الإسلام وعن تشريعه أيضًا ولا
سيما الذين يتلقون التعليم العصري حقٌّ مشاهَدٌ لا ريب فيه ، وإن ما قاله الأستاذان
مرتضى باشا وشهبندر حق لا ريب فيه أيضًا ، وما كان حديث المائدة ليتسع لبسط
القول الفصل الجامع بين القولين ،
نعم إن كل ما قيل على المائدة صحيح ، وإن كان فيه ما يوهم التعارض ، ولا ينبغي
لنا أن نترك هذا الموضوع المهم بدون تمحيص وتحقيق ، فأرجو السماح لي بذلك .
إن الإسلام ظهر على لسان نبي أمي بعث في قوم أميين حملوه إلى أمم كثيرة
من أهل الحضارات والعلوم والفنون السابقة فقبلوه كما قبلته قبائل البداوة ، وآثروه
على أديانهم وشرائعهم ولغاتهم ؛ لما تجلى لهم في كتابه وسنة نبيه وسيرة دعاته من
الجمال المعنوي في عقائده المعقولة ، وشريعته العادلة ، وآدابه العالية ، الموافقات
للفطرة الإنسانية ، والجمع بين مصالح الدين والدنيا .
فما السبب الذي صرف الكثيرين من المسلمين أنفسهم بعد ذلك عن هدايته
وعن تشريعه وعن آدابه وفضائله على جمالها وكمالها ، وزين لبعضهم استبدال
غيرها بها ، وكيف السبيل إلى عطفهم عليها ؟ وجذب غيرهم إليها ؟ هذا ما تساءل
عنه مولانا الأستاذ شيخ الأزهر ، ويمكنني الجواب عنه على قاعدة الأستاذ عثمان
مرتضى باشا في جماله ، وقاعدة الدكتور شهبندر في سهولته وموافقته للفطرة .
إن جمال الإسلام ظهر للعالم كله في القرون الأولى بعلم دعاته وناشريه
وبيانهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبحكم خلفائه وأمرائه بين
الناس بعدل شريعته ومساواتها بينهم بالحق ، ثم صار هذا الجمال يخفى ويتوارى
رويدًا رويدًا بهجر العلماء لتعاليم القرآن وبيان السنة له ، واعتمادهم على تقليد
العلماء المصنفين ، ولا سيما المتكلمين ، وبظلم الملوك والأمراء ، وتعاون الفريقين
على ظلم الناس والاستبداد فيهم ، وطغيان الرياسة عليهم ، ونكتفي بضرب المثل
في العلماء .
ضرب الإمام الغزالي مثلاً لما وضعه علماء التقليد من الحجب بين الناس
وبين جمال الإسلام ونوره - وهي طبقات العلماء الخمس التي يذكرونها في رسم
المفتي - فشبه نور الشريعة من كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالشمس أشرقت بها الآفاق ، ودخل نورها من كوة في حجرة فوقعت على مرآة في
الجدار المقابل لها ، فانعكس النور عنها إلى الجدار الذي تجاهها ، وانعكس نور هذا
الجدار إلى جدار يقابله في حجرة أخرى مظلمة فكان أضعف مما قبله ، وتكرر
الانعكاس حتى إذا كان الأخير على جدار الحجرة الخامسة كان أهلها في ظلمة لا
يدركون فيها إلا أشباحًا وشخوصًا لا يدركون صفاتها ولا معارفها التي تتميز بها .
فهذا مثل من يزعم أن نور الله المشرق من سماء كتابه وسنة رسوله لا يدركه
كما هو إلا المجتهد المطلق ، وأن من دونه المجتهد المنتسب يدرك شيئًا كثيرًا من
مرآته لا يستقل باقتباسه من شمسه نفسها ، ومن دونه مجتهد المذهب ، وتحته المقلد
الذي يميز بين صحيح الروايات وسقيمها في المذهب ، ووراءه الذي يقدر على
ترجيح بعض الروايات والأقوال على بعض . وأما سائر الناس فهم أسرى وعيال
على هذه الطبقة السفلى ، فالواجب عليهم تقليدها في نقلها ، لا في فهمها ورأيها ،
ويقول بعض محققي المتأخرين من فقهاء الحنفية المؤلفين : وهذه طبقة أمثالنا .
فأنى لمن أقام من وراء هذه الحجب كلها أن يدرك نور الإسلام فيرى فيه
جماله وكماله وجمال كل شيء به ؟ وإذا كان لفقهاء الفتوى في النوازل العلمية
وقضايا المحاكم عذر في مراعاة هذه الرسوم لعجزهم عن الدليل ، فهل لأحد
عذر أن يضربها أمام عقائد الدين ، وقد قال السنوسي وغيره : إن التقليد فيها غير
جائز ، أو يضربها أمام فضائله وآدابه وأحكامه القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها ؟
لقد كان علو الإسلام جميع الأديان قائمًا على قاعدة الاستقلال في فهم حقيقته
وإدراك جماله ، وما ضعف إلا بترك هذه القاعدة . ولكن تعليم المدارس العصرية
قائم على هذه القاعدة ، ولا يمكن تثبيت المسلمين على دينهم في هذا العصر إلا
بجعل تعليمه قائمًا عليها أيضًا ؛ لأن من يتعلم كل علم مستقلا في فهمه يأبى أن يقلد
في دينه من يعترفون أن بينهم وبين كتاب الله وسنة رسوله أربعة حجب ، وهم
الحجاب الخامس دونه .
ذكر لنا الدكتور شهبندر عن بعض حكماء الإفرنج اعترافهم بامتياز عقيدة
التوحيد الإسلامية على عقيدة التثليث النصرانية ، وأن التوحيد يمكن أن يفهمه
ويقبله كل أحد من عوام الناس وخواصهم وبدوهم وحضرهم بخلاف التثليث ، أليس
من البلاء أن يكون فساد التعليم الإسلامي قد أفضى بالمسلمين إلى خفاء عقيدة
التوحيد بالإعراض في بيانها عن آيات القرآن النيرة الواضحة إلى اصطلاحات
علماء الكلام المعقدة ؟

 
عودة
أعلى