المقدمة
الحمد لله القائل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا}[الفرقان: 45-46].. فـ (إِنَّمَا قِيلَ { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } لِأَنَّ الظِّلَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَذْهَبُ كُلُّهُ دُفْعَةً، وَلَا يُقْبِلُ الظَّلَامُ كُلُّهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يُقْبَضُ ذَلِكَ الظِّلُّ قَبْضًا خَفِيًّا،
شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَيَعْقُبُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ يَقْبِضُهُ جُزْءٌ مِنَ الظَّلَامِ)(
[1])..
والحمد لله القائل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء: 164].. (أي: على
التدرج شيئاً فشيئاً)(
[2])..
وصل الله وسلم على نبينا محمد الذي بَعَثَ مُعَاذًا - رضي الله عنه - إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إلَّا اللهُ، وَأنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»(
[3]).. والمعنى: (فإنْ أطاعوا باعتِقاد الصَّلاة فَرْضًا، فاذكُر لهم الزَّكاة، والغرَض بذلك
التدرُّج، حتى لا يَنفِروا من كثْرتها لو جُمِعت)(
[4]).
وبعد..
فقد جرت عادته سبحانه في (الْأَمْرِ الْجَلِيلِ إِذَا قُضِيَ بِإِيصَالِهِ إِلَى الْخَلْقِ أَنْ يَقْدَمَهُ تَرْشِيحٌ وَتَأْسِيسٌ، فَكَانَ مَا يَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ وَمَحَبَّةِ الْخَلْوَةِ وَالتَّعَبُّدِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا فَجِئَهُ الْمَلَكُ فَجِئَهُ بَغْتَةً أَمْرٌ خَالَفَ الْعَادَةَ وَالْمَأْلُوفَ، فَنَفَرَ طَبْعُهُ الْبَشَرِيُّ مِنْهُ، وَهَالَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّأَمُّلِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، لِأَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تُزِيلُ طِبَاعَ الْبَشَرِيَّةِ كُلَّهَا، فَلَا يُتَعَجَّبُ أَنْ يَجْزَعَ مِمَّا لَمْ يَأْلَفْهُ، وَيَنْفِرَ طَبْعُهُ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا
تَدَرَّجَ عَلَيْهِ وَأَلِفَهُ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ.. ثُمَّ كَانَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ تَأْسِيسِ النُّبُوَّةِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ؛
لِيَتَدَرَّجَ فِيهِ وَيَمْرُنَ عَلَيْهِ.. حَتَّى
تَدَرَّجَ عَلَى احْتِمَالِ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَى ثِقَلِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ فَتَحَ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ بِمَا فَتَحَ)
[SUP]([SUP][5][/SUP][/SUP]) ..
ومن أجلِّ الأمور التي ينبغي أن تصل إلى الخلق معاني وحي الله سبحانه وتعالى قرآناً وسنة..
ولا يكون ذلك إلا بسلوك سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ في ذلك..
وقائدهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم: فقد (سلك مع أهل مكة سبيلَ الإيجاز في خطابه، حتى جاءت السور المكية قصيرة الآيات، صغيرة السور؛ لأنهم كانوا أهلَ فصاحة ولسَن، صناعتهم الكلام، وهمتهم البيان، فيناسبهم الإيجاز والإقلال، دون الإسهاب والإطناب، كما أن قانون الحكمة العالية قضى بأن يسلك سبيل
التدرج والارتقاء في تربية الأفراد، وأن يقدِّم الأهم على المهم، ولا ريب أن
العقائد والأخلاق والعادات، أهم من ضروب العبادات ودقائق المعاملات؛
لأن الأُولى كالأصول بالنسبة للثانية، لذلك كثر في القسم المكي التحدث عنها والعناية بها.. جرياً على
سنة التدرج من ناحية،
وتقديماً للأهم على المهم من ناحية أخرى)
[SUP]([SUP][6][/SUP][/SUP]).
واقتداءً بنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم في التعليم
بسنة التدرج سلك العلماء نفسَ المنهج في تعليم الناس أمرَ دينهم..
فقرروا أنَّ (من حسن طرق التعليم والتفهيم التدرج، بالانتقال من الأقرب منالاً إلى أصعب منه، وهكذا صعدا)
[SUP]([SUP][7][/SUP][/SUP]).
وكتب المعاني والشروح لنصوص الوحيين كثيرة، منها المطولات بعيدة المنال على أكثر الناس
[SUP]([SUP][8][/SUP][/SUP])، ومنها المختصرات المتوسطة المنال على الكثير منهم، ومنها المقتصَرة على بعض المعاني التي هي كالأصول لغيرها، ، وهي قريبة المنال على أكثرهم
[SUP]([SUP][9][/SUP][/SUP])..
وقد رأيت تقريب البعيد في كل العلوم الشرعية باختصارها وتقريبها؛ ليسهل على الكثير من عموم الأمة وطلابها..
واستشرت في ذلك سماحة الشيخ المحدِّث الجليل (عبد الله بن عبد الرحمن السعد)، ففرح بالفكرة كثيراً، ورغَّب بالعمل عليها.. وكان ذلك أثناء العمل على (مختصر تفسر الطبري)
[SUP]([SUP][10][/SUP][/SUP])..
وقد أشرت في مقدمتي لـ (مختصر تفسير الطبري) إلى هذا الكتاب الموسوم بـ (نوادر الفوائد من تفسير الطبري)..
وهذا الكتاب هو مختصر للمختصر..
اقتصرت فيه على أصول معان ينبغي معرفتها من معاني القرآن التي ذكرها الطبري في تفسيره..
فهذا الكتاب بمثابة المدخل والتمهيد للمختصر، والمختصر تمهيد ومدخل لأصل الكتاب
[SUP]([SUP][11][/SUP][/SUP])..
وهذا الكتاب هو الثالث لي في خدمة (تفسير الطبري)..
أنصح أن يُبدأ به قبل المختصر، ثم يكون الكتاب الأصل في النهاية
[SUP]([SUP][12][/SUP][/SUP])، كما أشرت إلى ذلك في مقدمة (مختصر تفسير الطبري)..
وكما أن المختصر كان له منهج واضح دقيق عند العمل عليه وتأليفه، فكذلك هذا الكتاب.
([1]) بنصه من [تفسير الطبري/19/276- التركي].
([2]) بنصه من [نظم الدرر، للبقاعي/5/507- الكتاب الإسلامي].
([3]) أخرجه البخاري في [صحيحه/1395]، ومسلم في [صحيحه/19] من حديث ابن عباس.
([4]) بنصه من [اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح، للبرماوي/5/327/1396-النوادر].
([5]) بنصه من [فتح الباري لابن حجر /12/367].
([6]) بنصه من [مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني (ت1367)/1/203-الحلبي].
([7]) بنصه من [تفسير المراغي(ت1371) /16/41-الحلبي].
([8]) وليست كل المطولات بعيدة المنال، بل قد يكون التطويل فيه من الشرح والتوضيح بما يجعله أسهل من بعض المختصرات المستغلقة.
([9]) ولا يدخل في هذا المتون المستغلقة، التي لا تفهم إلا بالشرح.
([10]) تقوم الآن دار التدمرية بالرياض على نشره وتوزيعه.
([11]) وقد عزمت سلوك هذه الطريقة في المطولات الأمهات، فأصنع لها مختصراً كمرحلة متوسطة قبل المطول، ثم أصنع مختصراً للمختصر.. وهذا هو ما فعله كثيرٌ من الراسخين في العلم، ومن أشهرهم ابن قدامة المقدسي صاحب المغني (ت620)، فألف في الفقه (العمدة) مقتصراً فيه على قول واحد، ثم (المقنع) وسطاً بين القصير والطويل، ثم (المغني) شرح فيه المذهب، وذكر فيه مذاهب الأئمة الآخرين بأدلتهم، مع الترجيح والمناقشة.
([12]) وقد قمت بتخريج آثار تفسير الطبري كلها وحكمتُ عليها صحةً وضعفاً، وقد نشرته دار الحديث بالقاهرة في 12 مجلد.