بسم الله الرحمن الرحيم
الموازنة بين طريقة حفظ المتون ودراسة شروحها وحواشيها ، وبين طريقة البحث والتنقيب والمطالعة الحرة في الكتب في الفنون المختلفة ، من المسائل التي يبنغي الاعتناء بها بتوسط دون إفراط أو تفريط .ولما كانت مثل هذه المسائل لا تدرك إلا بالاختبار والتجربة ، كان من المفيد الاطلاع على تجارب من سبقت له التجربة ، ولا ينقص من قيمة هذه التجربة ظهور شذوذات من أولئك المجربين في بعض المسائل .
أنقل هنا تجربة للأستاذ عبد المتعال الصعيدي ( توفي سنة 1971م) أوردها في كتابه الحرية الدينية في الإسلام (ص9-11) وميزة هذه التجربة أنها جاءت من رجل مارس هذه الطريقة فترة من الزمان ، بل له بين أيدينا كتاب معروف في علم البلاغة يستفيد منه أصحاب طريقة المتون ، وهو كتاب ( بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح ) .
وكتابه المذكور هو رد على الشيخ عيسى منون الفلسطيني ( توفي سنة 1957 م) ذكرتُ قصته في موضوع سابق .
يقول : " وهذا إلى أن الشيخ عيسى منون إنما يجيد هو وأمثاله فهم العبارات المعقدة في المتون ، لأنهم يجدون شروحا ترشدهم إلى فهمها ، ثم يجدون حواشي لها بعد الشروح ، ثم يجدون لها تقارير بعد الحواشي ، وهي ما يسمونها بالكتب المخدومة ، وقد ألفوا هذه العبارات المعقدة حتى صار المعقد عندهم سهلا ، وصار السهل عندهم معقدا ، لأنه ليس على أسلوب المتون التي ألفوها ، فليس له شرح يرشدهم إلى فهمه ، وليس له حواش ولا تقارير واضحة .
وقد تربيت مثلهم على هذه الطريقة وعانيت منها وأنا طالب أكثر مما يعانيه أشدهم تعلقا بها ، حتى كنت موضع إعجاب شيوخي ، وكنت محل رضاهم وتقديرهم ، وقد أمكنني وأنا طالب أن أؤلف كتاب زبد العقائد النسفية مع شرحها وحواشيه فألخص فيه أحسن تلخيص ما وضع على متن العقائد النسفية من شروح وحواش وتقارير ، مع صعوبة عباراتها ، ودقة علم الكلام الذي ألفت فيه ، وقد استعان بكتابي هذا كثير من طلاب الشهادة العالمية الأزهرية ، واعترفوا لي بفضله عليهم في نيل هذه الشهادة .
ولي غير هذا آثار كثيرة مخطوطة وضعتها مدة الطلب ، لأني كنت أعنى أشد العناية بالكتب الأزهرية من متون وشروح وحواش ، ومنها أني اختصرت تفسير الفخر الرازي على هامش تفسير النسفي ، واختصرت شرح مسلم الثبوت وغيره من كتب أصول الفقه على هامش كتاب المنتهى لابن الحاجب ، إلى غير هذا مما ألفته في وقت الطلب .
ولكن الله تعالى أراد بي خيرًا وأنا طالب صغير في المكتب ، فحبب إلي المطالعة التي شغفت بها ، حتى إني طالعت قصة عنترة أكثر من ثلاث مرات ، وكان أهل قريتي يجتمعون حولي ويلذ لهم سماعها مني وأنا تلميذ صغير في سن العاشرة ولما انتقلت من المكتب إلى المعاهد الدينية زدت في المطالعة شغفا ، ولم أقصر نفسي على الكتب الأزهرية التي كنت أعنى بها تلك العناية السابقة ، بل كنت أطالع الجرائد التي كان يندر بين الطلاب الأزهريين من يطالعها في تلك الأيام ، وأطالع كل ما تخرجه المطبعة من كتب قديمة وحديثة في العلوم على اختلاف أنواعها ، من أدب إلى فلسفة إلى تاريخ إلى اجتماع إلى سياسة إلى غير هذا من العلوم والفنون ، حتى ألفت هذه الكتب أكثر من إلفي للكتب الأزهرية ، وشغفت بها أكثر من شغفي بهذه الكتب ، وعرفت كيف أفهم الصنفين : صنف الكتب ذات المتون والشروح والحواشي والتقارير ، وصنف الكتب المبسوطة العبارة ، وهي التي لا تحتاج إلى ما تحتاج إليه المتون من تعاليق ، ولا تضيع الزمن في فهم ما فيها من تعقيد ، بل عرفت بهذا فساد طريقة المتون ، وأدركت أنها تصرف طلابنا إلى العناية بالقشور ، وتحول بينهم وبين الوصول إلى حقائق العلوم ، وإلى فهم مسائلها على الوجه الذي يربي فيهم ملكة الفهم الصحيح ، ويصل بهم إلى رتبة الاجتهاد التي وصل إليها السلف الصالح ، حين كان لا يدرس العلم في مثل هذه المتون ، ولا يعنى بالقشور في فهمها كما نعنى بها ، فأخذت أدعو إلى الإصلاح بين الأزهريين ، حتى ساء بهذا ما بيني وبين كثير منهم ، وساء ظنهم بي في عقيدتي ، وفي درجة فهمي لكتبهم ، وكانوا يثورون علي المرة بعد المرة ، فأداريهم وأتلطف معهم ، حتى أنجز منهم بحسن التلطف ، ويقيني بالله من شرهم بحسن الإخلاص ، إلى أن ابتلوا بمثل الشيخ خالد محمد خالد ، وبمثل الشيخ عبد الحميد بخيت ، ممن كال لهم الصاع صاعين ، حتى انهزم الحق على أيديهم ، وانتصر الباطل عليهم ، لانهم لا يعرفون الطريق الصحيح لنصر الحق ، بعد أن تقيدوا بطريقة المتون ، ولم يعرفوا إلا ما فيها من قشور ضعيفة ، لا يمكنها أن تنصر حقا ، ولا تقوى أن تقف أمام باطل " .