د. محي الدين غازي
New member
يقول الإمام عبد الحميد الفراهي رحمه الله في كتابه حجج القرآن:
التأويل حسبما ظهر لي بعد التدبروالتمسك بالقرآن وحده
لابد من تقديم بيان تعيين الأمور التي ضربت لها هذه الأمثال، فإن معرفة المشبه مقدمة على طلب التطابق بينه وبين المشبه به لا سيما إذا كان بينهما مطابقة من جهة التفصيل ودلالة على أمور دقيقة.
فاعلم أن الإيمان بالله تعالى حسبما يلزم مفهوم هذا الاسم، وهو كونه على غاية الرحمة هو الأصل الذي بنى عليه جميع العلوم.
فمن حرم هذا الإيمان أظلم عليه السماء والأرض كما هو مبسوط في موضعه. فبهذا الإيمان يحصل العلم ويصلح العمل، فإن العمل الصالح متفرع على العلم الحق. وبعدم هذا الإيمان يعدم كلاهما، فالكافر يعمل باطلا لأنه لا غاية له إلا هذه الحياة الزائلة وكذلك لا علم له، لا بالأول ولا بالآخر. فإذا حققت أمره وجدته في ظلمة علمية وبطالة عملية وهي ظلمة الأعمال، كمن يمشي ولا يعلم إلى أين يذهب.
وبخلاف ذلك حال من آمن بالله الواحد الرحيم، فإنه يمشي في النور، يعلم ما يعلم باليقين ويعمل ما يعمل لغاية حسنى. كما قال تعالى : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(سورة الأنعام/122). أي من أحيى الله قلبه بالإيمان وجعل له منه نورا فهو يسلك في ضيائه بين الناس بالأعمال الحسنة، فهل يكون هو مثل الكافر الذي يسلك في الظلمة. ومن أسوء ضرر هذه الظلمة أنه لا يشعر بكونه في ظلمة بل من غاية الظلمة يحسب الظلمة نورا فلا يلتمس الخروج منها، فكفره حبب إليه الكفر، ولذلك ظلمة القلب أسوء الظلمات.
وقال تعالى : أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(سورة الملك/22).وهذا وجه آخر لبيان ضلالة الكافر. فإن من أكب على وجهه ومشى لم يمتد بصره، فلم يعلم إلى ماذا تسوقه قدماه ولم يعلم هل صراطه معوج أم مستقيم. ثم لإكبابه كان أولى بالعثرات، فكيف يكون هذا مثل من هو بصير وسوي فاختار الطريق المستقيم واطمأن بأنه يبلغ مطلوبه وأمن العثار.
وتصويرا لكافر بالإكباب في غاية المطابقة بحقيقة أمره فإنه مطلوبه هي هذه الحياة الدنيا. ومثله قوله تعالى: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ(سورة الأعراف/176).وما أحسن موقع لفظ "هوى"، فإنه السقوط إلى الأسفل. وقد أكثر القرآن من ذكر هذين الفريقين: أهل العلم والبصيرة والنور، وأهل الجهل والعمى والظلمة.
وبالجملة فههنا أربعة أمور: (1) العلم الحق، و( 2) العمل الصالح، وخلافهما: (3) الجهل المظلم، و(4) العمل الباطل السيء وبكل من العلم والعمل نهاية، إما الفوز وإما الخسران.
فعلى هذه المناسبة ضرب الله في هذه الآيات ثلاثة أمثال، وإنما اكتفى بالثلاثة دون الأربعة لحكمة سيأتيك ذكرها.
الأول مثل النور، وضربه للإيمان، وأدرج فيه ذكر أعمال المؤمنين. والثاني مثل السراب، وضربه لأعمال الكافرين. والثالث مثل الظلمات، وضربه للكفر. وإنما صرح بالمشبه والمشبه به في المثل الثاني، فجعل الوسط مصرحا ليدل بالمقابلة على ماقبله وبعده من المثلين. فإن التقابل بين العلم والعمل في غاية الوضوح كما هوبين النور والظلمة، وكما هو بين الإيمان والكفر. فجعل في غاية الوضاحة لمن يتأمل ما هوالمراد من هذه الأمثلة. ثم زاد على ذلك قوله في المثل الأول : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ(سورة النور/35).فدل على أن المراد بالنور هو نور الإيمان، وقد كثر في القرآن نظائر هذا المعنى.
فإن قيل إن ابتداء الكلام يصرح بأن المثل الأول إنما هو لله تعالى، قلنا ليس الأمر كما زعمت فإن مبدء الكلام هو قبل المثل، وإنما يبتدأ المثل بقوله : مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ(سورة النور/35).وهذا صريح في أن المثل إنما ضرب لنوره تعالى لا لنفسه. ثم ذكر المكان في المشبه به، وهو قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ(سورة النور/36) صريح في كون المراد بالمصباح هو مصباح المساجد التي فيها رجال مسبحون ولا معنى لجعل هذا المصباح مثلا لذات الله تعالى. فإن قيل فما معنى قوله تعالى: الله نور السماوات والأرض (الآية:35)، قلنا هذا يتضح بعد فهم المثل الذي ضرب لنوره، وسنرجع إلى تأويله. فهذا مثل النور الذي في قلوب المؤمنين، وهكذا فهمه الصحابة كما روى ……...
وكذلك لابد من إحضار تفاصيل المشبه به قبل التأمل في تطبيقها بتفاصيل المشبه الذي ضرب له المثل. وهذا في المثل الأول في غاية الإيجاز، فإنه جامع لوجوه كثيرة من وصف المشبه به. وأما في الثاني والثالث فواضح، فاقتصرنا على ذكر تفاصيل المثل الأول فقط.
فانظر كيف ضرب الله مثلا لنور الإيمان حيث شبهه الله تعالى 1- بمصباح في 2-زجاجة يوقد من 3-شجرة مباركة زيتونة لاشرقية ولاغربية يكاد 4-زيتها يضيئ من غير نار. ووصف الزجاجة بقوله كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، وذكر موضع المصباح فى 5-مشكاة، وموضع المشكاة فى 6-بيوت رفعت لذكر الله. فإن فيها رجالا 1-مسبحين لله 2-المعرضين عن غفلات الدنيا 3-الدائمين في ذكر الله 4-المقيمين الصلاة و5-الموتون الزكوة 6-الخائفين يوم القيامة. فانظر كيف جمع الأنوار من وجوه ظاهرة وباطنة. فإن في الزيتونة البركة وطيب المنبت، وفي الزيت غاية اللطافة والمناسبة بالنور، وفي المصباح أول ظهور النور، وفي الزجاجة اتحاد بالمصباح كأنها هو. ولذلك قيل لها كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ. وفي المشكاة انعكاس النور من القريب. وأما أنوار موضع المشكاة وأصحابه فلا تخفى مما سبق.
وههنا أمور أخر يجب التنبيه عليها لكونها مما يعين على فهم هذه الأمثال:
(الف) لا يخفى في المثل الأول أن أصل النور فيه واحد ولكن كلما استضاء به سمي نورا، ولذلك سُمي القمر نورا حيث قال تعالى : وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا(سورة نوح/16). فلذلك قال: نور على نور(سورة النور: 35). فدل على تكثر أنواعه. وهكذا في مثل الظلمات أيضا قال : ظلمات بعضها فوق بعض (سورة النور: 40) فصرح بتكثر أنواع الظلمة. وأما كونها أيضا من أصل واحد فنذكره في حرف (ب).
(ب) في مثل الظلمات ربما يخفى كونها أيضا من أصل واحد ولكنه إنما يظهر بتأمل يسير. أما الأمواج المتتابعة فكونها من البحر اللجي الذي هو أصل الظلمات ظاهر جدا. وأما السحاب فأهل العلم به يعلمون أن أصله أيضا من البحر. فانظر إلى حسن تطابق المثلين المتقابلين. فكما أن أصل النور المشبه به واحد فكذلك أصل الظلمة المشبه بها واحد، وكما أن للأول شعبا فكذلك للثاني. ثم انظر إلى حسن تطابقهما بالمشبه، فإن نور الإيمان هو منبع الخيرات كلها، وكذلك الكفر أم السيآت كلها.
(ج) قد شبه الكفر بالبحر اللجي. فانظر حسن موقع هاتين اللفظتين عند أفهام العرب، فإنهم كانوا يسمون البحر كافرا لأن الكفر هوالستر كما قال لبيد:
حـتى إذا ألقـت يـدا في كافــر
وأجـن عـورات الثغـور ظلامـها
أي إذا غربت الشمس في البحر. وكذلك قوله :
وفي ليلـة كفـر النجـوم غمامهـا
ومثل ذلك حسن موقع لفظة اللجي، فإن الكفر هو أصل اللجاج، وقد ذكر القرآن كثيرا لجاج الكفار بالباطل.
(د) قوله تعالى لا شرقية ولا غربية يبين منبت الزيتونة، وذلك هو الأرض المقدسة- أرض الأنبياء والرسل، وهي أجود منابت هذه الشجرة المباركة. قال تعالى: مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (سورة المؤمنون/20). وهذه الأرض في وسط المسكونة كما هو ظاهر، فليست شرقية ولا غربية.
(ه) إنما ضُرب للمؤمنين مثل واحد وذكر أعمالهم من التسبيح ودوام ذكرهم الله وإعراضهم عن همزات الدنيا وغير ذلك تبعا لإيمانهم، ليدل على غاية الاتصال بين إخلاص الإيمان وإصلاح العمل، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (سورة الأنفال/2-4). فأعمال المؤمنين هي مظاهر عين إيمانهم، فهما في غاية الاتصال. وأما الكفر وأعمال الكافرين مع بطلان كليهما لا وفاق بينهما.
وبيان ذلك أن المؤمن له غاية واحدة وهي التقرب إلى الرب الذي آمن به، فكل عمله لهذه الغاية. فهو يمشي على صراط مستقيم، وحينئذ لا مخالفة بين علمه وعمله. وأما الكافر فعمله لدنياه وآلهه في أعماله هو هواه، فإنه إنما يعمل لاقتناء حاجاته الدنياوية فمطلوبه في الدنيا فقط. وهو قلما يخطئ في ذلك، فإن عقله يهديه إلى مصالحه الحاضرة. وأما اعتقاده فظنون وأوهام يتبع فيه ما وجد عليه آباءه، وليس له من دينه سبيل مستقيم. ولذلك ربما يفعل ما فيه خلاف لمصالحه الدنياوية بل خلاف عقله الفطري، فلم يحصل له من دينه ومعتقداته طريق يطابق مصالحه. ومن علامة الباطل التناقض والتخالف، فإنه أخذ الدين تقليداً ويعمل للدنيا تحقيقا حسب مصالحه الظاهرة إلا فيما اضطره دينه الباطل، فلا يطابقان أبدا. فهو لابد على صراط معوج.
(و) في مثل المؤمنين قدم الإيمان وأدرج الأعمال تحته، وهذا هو ترتيب سوي وبيان صراط مستقيم. وفي مثل الكافرين ترى الأعمال متقدمة على العقائد. ولا شك أن الكفر خلاف الفطرة فلا ينشأ إلا من الأعمال السيئة، بل الكفر هو أصل العمل السيئ. فمن تغافل وتولى عن ذكر الرب تردى في الظلمات، فأضله عمل قلبه وإرادته. ثم يزداد أثره بالانهماك في شهوات الدنيا فتكون ظلمة على ظلمة. فلذلك قدم العمل وبين بطلانه، ثم ترقى فبين آثاره على عقله. وإلى هذا يهدي قوله تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(سورة المطففين/14). بارتكاب المعاصي أفسدوا قلوبهم وأعموا عقولهم. (مقتبس من حجج القرآن للإمام الفراهي)
التأويل حسبما ظهر لي بعد التدبروالتمسك بالقرآن وحده
لابد من تقديم بيان تعيين الأمور التي ضربت لها هذه الأمثال، فإن معرفة المشبه مقدمة على طلب التطابق بينه وبين المشبه به لا سيما إذا كان بينهما مطابقة من جهة التفصيل ودلالة على أمور دقيقة.
فاعلم أن الإيمان بالله تعالى حسبما يلزم مفهوم هذا الاسم، وهو كونه على غاية الرحمة هو الأصل الذي بنى عليه جميع العلوم.
فمن حرم هذا الإيمان أظلم عليه السماء والأرض كما هو مبسوط في موضعه. فبهذا الإيمان يحصل العلم ويصلح العمل، فإن العمل الصالح متفرع على العلم الحق. وبعدم هذا الإيمان يعدم كلاهما، فالكافر يعمل باطلا لأنه لا غاية له إلا هذه الحياة الزائلة وكذلك لا علم له، لا بالأول ولا بالآخر. فإذا حققت أمره وجدته في ظلمة علمية وبطالة عملية وهي ظلمة الأعمال، كمن يمشي ولا يعلم إلى أين يذهب.
وبخلاف ذلك حال من آمن بالله الواحد الرحيم، فإنه يمشي في النور، يعلم ما يعلم باليقين ويعمل ما يعمل لغاية حسنى. كما قال تعالى : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(سورة الأنعام/122). أي من أحيى الله قلبه بالإيمان وجعل له منه نورا فهو يسلك في ضيائه بين الناس بالأعمال الحسنة، فهل يكون هو مثل الكافر الذي يسلك في الظلمة. ومن أسوء ضرر هذه الظلمة أنه لا يشعر بكونه في ظلمة بل من غاية الظلمة يحسب الظلمة نورا فلا يلتمس الخروج منها، فكفره حبب إليه الكفر، ولذلك ظلمة القلب أسوء الظلمات.
وقال تعالى : أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(سورة الملك/22).وهذا وجه آخر لبيان ضلالة الكافر. فإن من أكب على وجهه ومشى لم يمتد بصره، فلم يعلم إلى ماذا تسوقه قدماه ولم يعلم هل صراطه معوج أم مستقيم. ثم لإكبابه كان أولى بالعثرات، فكيف يكون هذا مثل من هو بصير وسوي فاختار الطريق المستقيم واطمأن بأنه يبلغ مطلوبه وأمن العثار.
وتصويرا لكافر بالإكباب في غاية المطابقة بحقيقة أمره فإنه مطلوبه هي هذه الحياة الدنيا. ومثله قوله تعالى: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ(سورة الأعراف/176).وما أحسن موقع لفظ "هوى"، فإنه السقوط إلى الأسفل. وقد أكثر القرآن من ذكر هذين الفريقين: أهل العلم والبصيرة والنور، وأهل الجهل والعمى والظلمة.
وبالجملة فههنا أربعة أمور: (1) العلم الحق، و( 2) العمل الصالح، وخلافهما: (3) الجهل المظلم، و(4) العمل الباطل السيء وبكل من العلم والعمل نهاية، إما الفوز وإما الخسران.
فعلى هذه المناسبة ضرب الله في هذه الآيات ثلاثة أمثال، وإنما اكتفى بالثلاثة دون الأربعة لحكمة سيأتيك ذكرها.
الأول مثل النور، وضربه للإيمان، وأدرج فيه ذكر أعمال المؤمنين. والثاني مثل السراب، وضربه لأعمال الكافرين. والثالث مثل الظلمات، وضربه للكفر. وإنما صرح بالمشبه والمشبه به في المثل الثاني، فجعل الوسط مصرحا ليدل بالمقابلة على ماقبله وبعده من المثلين. فإن التقابل بين العلم والعمل في غاية الوضوح كما هوبين النور والظلمة، وكما هو بين الإيمان والكفر. فجعل في غاية الوضاحة لمن يتأمل ما هوالمراد من هذه الأمثلة. ثم زاد على ذلك قوله في المثل الأول : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ(سورة النور/35).فدل على أن المراد بالنور هو نور الإيمان، وقد كثر في القرآن نظائر هذا المعنى.
فإن قيل إن ابتداء الكلام يصرح بأن المثل الأول إنما هو لله تعالى، قلنا ليس الأمر كما زعمت فإن مبدء الكلام هو قبل المثل، وإنما يبتدأ المثل بقوله : مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ(سورة النور/35).وهذا صريح في أن المثل إنما ضرب لنوره تعالى لا لنفسه. ثم ذكر المكان في المشبه به، وهو قوله : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ(سورة النور/36) صريح في كون المراد بالمصباح هو مصباح المساجد التي فيها رجال مسبحون ولا معنى لجعل هذا المصباح مثلا لذات الله تعالى. فإن قيل فما معنى قوله تعالى: الله نور السماوات والأرض (الآية:35)، قلنا هذا يتضح بعد فهم المثل الذي ضرب لنوره، وسنرجع إلى تأويله. فهذا مثل النور الذي في قلوب المؤمنين، وهكذا فهمه الصحابة كما روى ……...
وكذلك لابد من إحضار تفاصيل المشبه به قبل التأمل في تطبيقها بتفاصيل المشبه الذي ضرب له المثل. وهذا في المثل الأول في غاية الإيجاز، فإنه جامع لوجوه كثيرة من وصف المشبه به. وأما في الثاني والثالث فواضح، فاقتصرنا على ذكر تفاصيل المثل الأول فقط.
فانظر كيف ضرب الله مثلا لنور الإيمان حيث شبهه الله تعالى 1- بمصباح في 2-زجاجة يوقد من 3-شجرة مباركة زيتونة لاشرقية ولاغربية يكاد 4-زيتها يضيئ من غير نار. ووصف الزجاجة بقوله كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، وذكر موضع المصباح فى 5-مشكاة، وموضع المشكاة فى 6-بيوت رفعت لذكر الله. فإن فيها رجالا 1-مسبحين لله 2-المعرضين عن غفلات الدنيا 3-الدائمين في ذكر الله 4-المقيمين الصلاة و5-الموتون الزكوة 6-الخائفين يوم القيامة. فانظر كيف جمع الأنوار من وجوه ظاهرة وباطنة. فإن في الزيتونة البركة وطيب المنبت، وفي الزيت غاية اللطافة والمناسبة بالنور، وفي المصباح أول ظهور النور، وفي الزجاجة اتحاد بالمصباح كأنها هو. ولذلك قيل لها كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ. وفي المشكاة انعكاس النور من القريب. وأما أنوار موضع المشكاة وأصحابه فلا تخفى مما سبق.
وههنا أمور أخر يجب التنبيه عليها لكونها مما يعين على فهم هذه الأمثال:
(الف) لا يخفى في المثل الأول أن أصل النور فيه واحد ولكن كلما استضاء به سمي نورا، ولذلك سُمي القمر نورا حيث قال تعالى : وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا(سورة نوح/16). فلذلك قال: نور على نور(سورة النور: 35). فدل على تكثر أنواعه. وهكذا في مثل الظلمات أيضا قال : ظلمات بعضها فوق بعض (سورة النور: 40) فصرح بتكثر أنواع الظلمة. وأما كونها أيضا من أصل واحد فنذكره في حرف (ب).
(ب) في مثل الظلمات ربما يخفى كونها أيضا من أصل واحد ولكنه إنما يظهر بتأمل يسير. أما الأمواج المتتابعة فكونها من البحر اللجي الذي هو أصل الظلمات ظاهر جدا. وأما السحاب فأهل العلم به يعلمون أن أصله أيضا من البحر. فانظر إلى حسن تطابق المثلين المتقابلين. فكما أن أصل النور المشبه به واحد فكذلك أصل الظلمة المشبه بها واحد، وكما أن للأول شعبا فكذلك للثاني. ثم انظر إلى حسن تطابقهما بالمشبه، فإن نور الإيمان هو منبع الخيرات كلها، وكذلك الكفر أم السيآت كلها.
(ج) قد شبه الكفر بالبحر اللجي. فانظر حسن موقع هاتين اللفظتين عند أفهام العرب، فإنهم كانوا يسمون البحر كافرا لأن الكفر هوالستر كما قال لبيد:
حـتى إذا ألقـت يـدا في كافــر
وأجـن عـورات الثغـور ظلامـها
أي إذا غربت الشمس في البحر. وكذلك قوله :
وفي ليلـة كفـر النجـوم غمامهـا
ومثل ذلك حسن موقع لفظة اللجي، فإن الكفر هو أصل اللجاج، وقد ذكر القرآن كثيرا لجاج الكفار بالباطل.
(د) قوله تعالى لا شرقية ولا غربية يبين منبت الزيتونة، وذلك هو الأرض المقدسة- أرض الأنبياء والرسل، وهي أجود منابت هذه الشجرة المباركة. قال تعالى: مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (سورة المؤمنون/20). وهذه الأرض في وسط المسكونة كما هو ظاهر، فليست شرقية ولا غربية.
(ه) إنما ضُرب للمؤمنين مثل واحد وذكر أعمالهم من التسبيح ودوام ذكرهم الله وإعراضهم عن همزات الدنيا وغير ذلك تبعا لإيمانهم، ليدل على غاية الاتصال بين إخلاص الإيمان وإصلاح العمل، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (سورة الأنفال/2-4). فأعمال المؤمنين هي مظاهر عين إيمانهم، فهما في غاية الاتصال. وأما الكفر وأعمال الكافرين مع بطلان كليهما لا وفاق بينهما.
وبيان ذلك أن المؤمن له غاية واحدة وهي التقرب إلى الرب الذي آمن به، فكل عمله لهذه الغاية. فهو يمشي على صراط مستقيم، وحينئذ لا مخالفة بين علمه وعمله. وأما الكافر فعمله لدنياه وآلهه في أعماله هو هواه، فإنه إنما يعمل لاقتناء حاجاته الدنياوية فمطلوبه في الدنيا فقط. وهو قلما يخطئ في ذلك، فإن عقله يهديه إلى مصالحه الحاضرة. وأما اعتقاده فظنون وأوهام يتبع فيه ما وجد عليه آباءه، وليس له من دينه سبيل مستقيم. ولذلك ربما يفعل ما فيه خلاف لمصالحه الدنياوية بل خلاف عقله الفطري، فلم يحصل له من دينه ومعتقداته طريق يطابق مصالحه. ومن علامة الباطل التناقض والتخالف، فإنه أخذ الدين تقليداً ويعمل للدنيا تحقيقا حسب مصالحه الظاهرة إلا فيما اضطره دينه الباطل، فلا يطابقان أبدا. فهو لابد على صراط معوج.
(و) في مثل المؤمنين قدم الإيمان وأدرج الأعمال تحته، وهذا هو ترتيب سوي وبيان صراط مستقيم. وفي مثل الكافرين ترى الأعمال متقدمة على العقائد. ولا شك أن الكفر خلاف الفطرة فلا ينشأ إلا من الأعمال السيئة، بل الكفر هو أصل العمل السيئ. فمن تغافل وتولى عن ذكر الرب تردى في الظلمات، فأضله عمل قلبه وإرادته. ثم يزداد أثره بالانهماك في شهوات الدنيا فتكون ظلمة على ظلمة. فلذلك قدم العمل وبين بطلانه، ثم ترقى فبين آثاره على عقله. وإلى هذا يهدي قوله تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(سورة المطففين/14). بارتكاب المعاصي أفسدوا قلوبهم وأعموا عقولهم. (مقتبس من حجج القرآن للإمام الفراهي)