ناصر عبد الغفور
Member
بسم1
تأويل صلاح الدين بن إبراهيم لاسم الله الرحمن:2/2
يقول أبو عرفة:" يقولون أن الرحمن كثير الرحمة، لا إنما هذا الرحيم، انظروا إلى مواقع اسم الرحمن في الكتاب تجد الله يخوفنا بالرحمن وتجد الأنبياء يخوفون أقوامهم بالرحمن"اهـــ.
وواو الجمع في قوله:"يقولون" تعود على العلماء بل ربما تعود على كل من كان له ذرة فهم لكتاب الله سبحانه، فاسم "الرحمن" دال على رحمة الله الواسعة، بل هو مشتق منها كاسم الرحيم إلا أن الرحمن أوسع دلالة عليها.
وهذه بعض أقوال أهل العلم في تفسير اسم الرحمن:
- يقول علامة الحجاز السعدي رحمه الله تعالى:" { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيب منها.
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات.
فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها، أثر من آثار رحمته..."([1]).
- قال إمام المفسرين أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى:" وأما "الرحمن"، فهو فَعلان، من رَحم، و "الرحيم" فعيل منه. والعرب كثيرًا ما تبني الأسماء من "فَعِل يفْعَل" على "فعلان"، كقولهم من غَضِب: غَضبان، ومن سَكر: سكران، ومن عَطش: عطشان. فكذلك قولهم "رَحمن" من رَحِمَ، لأن "فعِلَ" منه: رَحم يرْحم... وذلك أنّ المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم: هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميعَ خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعضَ خلقه... فربُّنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والآخرة([2])، ورحيمُ المؤمنين خاصةً في الدنيا والآخرة. فأما الذي عمّ جميعَهم به في الدنيا من رحمته فكان رَحمانًا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه:(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا)...."([3]).
- قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:"وذهب الجمهور من الناس إلى أن "الرحمن" مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ؛ ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها ، فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى "الرحيم" ويجمع.
قال ابن الحصار : ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : "قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته". وهذا نص من الاشتقاق ، فلا معنى للمخالفة والشقاق ، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له."([4]).
- قال ابن عطية رحمه الله تعالى في محرره:" والرحمن صفة مبالغة من الرحمة ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر وهي أبلغ من فعيل وفعيل أبلغ من فاعل لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك والرحمن النهاية في الرحمة."([5]).
والملاحظ أن هناك إجماع أو شبه إجماع منهم على أن "الرحمن" مشتق من الرحمة-وهو قول الجمهور- على وجه المبالغة أي أنه كثير الرحمة.
فالرحمن هو الذي وسعت رحمته كل الخلائق كما قال جل وعلا: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، وقال تعالى على لسان ملائكته: "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً"، فرحمته سبحانه وسعت الإنس والجن والدواب بل وسعت أهل الأرض والسموات.
"وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات حتى الكفار، لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكل ما بلغه علم الله -وعلم الله بالغ لكل شيء- فقد بلغته رحمته.."[SUP]([6])[/SUP].
ومن الأدلة كذلك قوله تعالى: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى"، وقوله: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ"، فذكر الاستواء باسمه "الرحمن" ليعم جميع خلقه برحمته.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى: "ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا-ثم ذكر الآيتين- وقال: فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء.."[SUP]([7])[/SUP].
فما بال هذا الشيخ الدعي يخالف جماهير العلماء والمفسرين ليهرف بما لا يعرف ويهذي بما لا يدري زاعما أن الرحمن اسم دال على التخويف لا على الرحمة.
حيث يقول وليته لم يقل:" انظروا إلى مواقع اسم الرحمن في الكتاب تجد الله يخوفنا بالرحمن وتجد الأنبياء يخوفون أقوامهم بالرحمن"اهـــ.
فتتبع هذه المواقع في زعمه ليقف على حقيقة اسم الرحمن بعقله، ويصل إلى هذا المعنى الغريب الذي لم يقل به بعيد ولا قريب.
وسأذكر الآيات التي اعتبرها مواقع للمعنى المزعوم، وأرد عليها بمشيئة الله تعالى:
1- " قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)"-مريم-:
ووجه الدلالة –عنده- على أن اسم الرحمن اسم تخويف أن مريم لم تكن لتستعيذ إلا بما يخوف لا بما يفتح باب الرجاء والرحمة، وهذا استدلال باطل، فمريم إنما استعاذت باسم الله"الرحمن" لأن رحمته شملتها وشملت كل العالمين، فلا ملجأ لها إلا لمن كان كذلك، فبرحمته سبحانه سيجيرها من كل أذى، والمخاطب ستحمله تقواه وعلمه برحمة الله تعالى على عدم إلحاق أدنى ضرر بها.
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:" { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ } أي ألتجئ به وأعتصم برحمته أن تنالني بسوء { إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي إن كنت تخاف الله وتعمل بتقواه فاترك التعرض لي فجمعت بين الاعتصام بربها وبين تخويفه وترهيبه وأمره بلزوم التقوى."([8]).
يقول العلامة الألوسي رحمه الله تعالى:" وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابا لآثار الرحمة الخاصة([9]) التي هي العصمة مما دهمها."([10]).
2- "يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)"-مريم-:
ووجه الدلالة عند هذا المتأول المتعسف أن المقام مقام تخويف وليس مقام رجاء فابراهيم عليه السلام خوف أباه باسم "الرحمن" فدل على أنه اسم تخويف ولو كان على المعنى المشهور –أي أن الرحمن ذو الرحمة الواسعة- لكان إبراهيم عليه السلام ملقنا أباه حجته، كأنه يقول له: يا أبتي إنك مقبل على رب وسعت رحمته كل شيء فلا تبالي.
وهذا فهم سقيم واستدلال عقيم، فإن إبراهيم الخليل إنما استعمل اسم "الرحمن" في خطابه لأبيه لأنه أشد وقعا وتأثيرا من غيره، كأنه يقول لأبيه آزر:لا تغتر برحمة الله فإنه سبحانه لا تمنعه رحمته من الانتقام من أعدائه، وأعظم أخذ أخذ من اطمأن الإنسان لرحمته واستكان لها فاغتر بذلك وتمادى في الكفر والعصيان والظلم والعدوان، فلا تسل عن شدة أخذه وفجائة نقمته سبحانه.
يقول ابن عجيبة في تفسيره المسمى البحر المديد: "وإظهار {الرحمن} ؛ للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب ، كما في قوله تعالى : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار : 6]"([11]).
وقال العلامة التونسي ابن عاشور عليه رحمة الغفور:" لا جرم أنه لما قرر له أن عبادته الأصنام اتّباع لأمر الشيطان عصيّ الرحمن انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحلّ به عذاب من الله ، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم ، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمآل حالهم .
وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحلّ به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة ؛ عبر عن الجلالة بوصف الرحمن للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنُه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته مَن شأنه سعة الرحمة ."([12]).
يقول العلامة الألوسي رحمه الله تعالى:" وإضافة العذاب إلى الرحمن ...لأن العقوبة من الكريم الحليم أشد."([13]).
3- قال تعالى:"قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا"-مريم:75-:
ووجه الدلالة في زعمه أن المقام مقام تهديد، فمن تمادى في الضلالة فالرحمن لا يبالي به، فليهلكن بضلالته، بل يمد له الرحمن في ضلالته، وهذا مما يدل على أن الرحمن اسم تخويف خلافا لما يعتقده الناس.
لكن ليس في الآية ما يدل على المعنى الذي فهمه هذا المتأول–عن قصد أو سوء قصد- لاسم الله الرحمن، بل ورود هذا الاسم في هذا المقام للدلالة على أن رحمة الله تعالى لا تمنعه سبحانه من استدراج من يستحق الاستدراج، بل إن نزول نعمه - بمقتضى اسمه الرحمن- على المتمادي في الضلال والعصيان هو عين الاستدراج لأهل الظلم والطغيان.
يقول الإمام البيضاوي رحمه الله تعالى:"{ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } فيمده ويمهله بطول العمر والتمتع به، وإنما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا بأن إمهاله مما ينبغي أن يفعله استدراجا وقطعا لمعاذيره."([14]).
4- " إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)"-مريم-:
وهذه كذلك من الآيات التي استدل بها صلاح الدين بن إبراهيم على أن اسم "الرحمن" اسم تخويف لا اسم رحمة، ووجه الاستدلال عنده أن الآية وردت في معرض العزة والإباء من الله تعالى للشرك.
فالآية فيها إجبار لا تشريف، واسم الرحمن في هذا الموقع يشبه اسم العزيز والعلي والكبير.
فكل الخلق آت عبدا، لمن؟ للرحمن: العزيز الجبار العلي." اهـــــــ.
وليس للمسكين أدنى دليل يحتج به في فهمه هذا أو يكون عليه التعويل، بل كلامه مجرد كلام لا حجة عليه ولا برهان، وكيف يكون تفسيره معتبر وليس عليه أدنى بينة أو أثر.
والآية وإن كانت في مقام التخويف بذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين فيأتونه سبحانه فرادا للعرض والحساب والسؤال عما سطر في الكتاب، لكن ذكر اسم الرحمن في هذا المقام العظيم لم يكن لما توهمه أبو عرفة وإنما لأمر آخر وهو بيان رحمة الله تعالى في ذلك الموقف الجلل، فرحمته سبحانه سبقت غضبه واذخر من الرحمة لذاك اليوم أضعاف أضعاف ما أنزله في هذه الدار، كما صحت بذلك الأخبار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه:" إن الله حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه : إن رحمتي تغلب غضبي"([15])، وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة و تسعين جزءا و أنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه."-متفق عليه-.
وظهر لي وجه آخر من ذكر اسم الرحمن في قوله تعالى:"إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)"-مريم-، وهو أن الخلائق ستأتي بين يدي الرب الذي خلقها وأمدها بالنعم التي لا تعد ولا تحصى وكل ذلك من آثار رحمته، ستأتي يوم القيامة للوقوف بين يديه، بين يدي من أسبغ عليها بالنعم بحكم رحمته بها، ستأتي لتسأل عن تحقيق شكر تلك النعم. هل قابلتها بالشكر فوحدته سبحانه وأفردته بالعبودية كما أفردها بالنعم أم كفرت فأشركت وعصت وتجبرت وطغت وعن أمره أعرضت.
فالخلائق كلها مفتقرة إلى رحمته وربوبيته، وهذا يلزمها أن تقر بألوهيته حتى لا تستحق العذاب، ففي الآية" استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها-سبحانه-"([16]). وهذا يلزمها أن تحقق الألوهية والعبودية له سبحانه.
والله تعالى أعلى وأحكم.
([1] ) تيسير الرحمن:39.
([2] ) هذا الكلام فيه نظر، فرحمة الله تشمل كل الخلائق فقط في الدنيا، أما في الآخرة فتضل رحمة الله متصلة بأهل الإيمان دون أهل الكفر الذين لا يلحقهم إلا العدل.
([3] ) جامع البيان في تأويل آي القرآن:1/126-129.
([4] ) الجامع لأحكام القرآن:1/104.
([5] ) المحرر الوجيز:1/57.
([6] ) شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيميين رحمه الله تعالى.
([7] ) إغاثة اللهفان.
([8] ) تيسير الرحمن:491.
([9] ) لكن لو أرادت الرحمة الخاصة لذكّرته باسم الرحيم لا الرحمن، والله تعالى أعلم وأحكم.
([10] ) روح المعاني:16/76.
([11] ) البحر المديد:4/326.
([12] ) التحرير والتنوير:16/117-118.
([13] ) روح المعاني:16/98.
([14] ) تفسير البيضاوي:1/30.
([15] ) رواه الترمذي وغيره وهو في الصحيحة تحت رقم:1629.
([16] ) التحرير والتنوير:16/173.
تأويل صلاح الدين بن إبراهيم لاسم الله الرحمن:2/2
يقول أبو عرفة:" يقولون أن الرحمن كثير الرحمة، لا إنما هذا الرحيم، انظروا إلى مواقع اسم الرحمن في الكتاب تجد الله يخوفنا بالرحمن وتجد الأنبياء يخوفون أقوامهم بالرحمن"اهـــ.
وواو الجمع في قوله:"يقولون" تعود على العلماء بل ربما تعود على كل من كان له ذرة فهم لكتاب الله سبحانه، فاسم "الرحمن" دال على رحمة الله الواسعة، بل هو مشتق منها كاسم الرحيم إلا أن الرحمن أوسع دلالة عليها.
وهذه بعض أقوال أهل العلم في تفسير اسم الرحمن:
- يقول علامة الحجاز السعدي رحمه الله تعالى:" { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيب منها.
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات.
فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها، أثر من آثار رحمته..."([1]).
- قال إمام المفسرين أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى:" وأما "الرحمن"، فهو فَعلان، من رَحم، و "الرحيم" فعيل منه. والعرب كثيرًا ما تبني الأسماء من "فَعِل يفْعَل" على "فعلان"، كقولهم من غَضِب: غَضبان، ومن سَكر: سكران، ومن عَطش: عطشان. فكذلك قولهم "رَحمن" من رَحِمَ، لأن "فعِلَ" منه: رَحم يرْحم... وذلك أنّ المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم: هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميعَ خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعضَ خلقه... فربُّنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والآخرة([2])، ورحيمُ المؤمنين خاصةً في الدنيا والآخرة. فأما الذي عمّ جميعَهم به في الدنيا من رحمته فكان رَحمانًا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه:(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا)...."([3]).
- قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:"وذهب الجمهور من الناس إلى أن "الرحمن" مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ؛ ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها ، فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى "الرحيم" ويجمع.
قال ابن الحصار : ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول : "قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته". وهذا نص من الاشتقاق ، فلا معنى للمخالفة والشقاق ، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له."([4]).
- قال ابن عطية رحمه الله تعالى في محرره:" والرحمن صفة مبالغة من الرحمة ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر وهي أبلغ من فعيل وفعيل أبلغ من فاعل لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك والرحمن النهاية في الرحمة."([5]).
والملاحظ أن هناك إجماع أو شبه إجماع منهم على أن "الرحمن" مشتق من الرحمة-وهو قول الجمهور- على وجه المبالغة أي أنه كثير الرحمة.
فالرحمن هو الذي وسعت رحمته كل الخلائق كما قال جل وعلا: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، وقال تعالى على لسان ملائكته: "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً"، فرحمته سبحانه وسعت الإنس والجن والدواب بل وسعت أهل الأرض والسموات.
"وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات حتى الكفار، لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكل ما بلغه علم الله -وعلم الله بالغ لكل شيء- فقد بلغته رحمته.."[SUP]([6])[/SUP].
ومن الأدلة كذلك قوله تعالى: "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى"، وقوله: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ"، فذكر الاستواء باسمه "الرحمن" ليعم جميع خلقه برحمته.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا المعنى: "ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرا-ثم ذكر الآيتين- وقال: فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء.."[SUP]([7])[/SUP].
فما بال هذا الشيخ الدعي يخالف جماهير العلماء والمفسرين ليهرف بما لا يعرف ويهذي بما لا يدري زاعما أن الرحمن اسم دال على التخويف لا على الرحمة.
حيث يقول وليته لم يقل:" انظروا إلى مواقع اسم الرحمن في الكتاب تجد الله يخوفنا بالرحمن وتجد الأنبياء يخوفون أقوامهم بالرحمن"اهـــ.
فتتبع هذه المواقع في زعمه ليقف على حقيقة اسم الرحمن بعقله، ويصل إلى هذا المعنى الغريب الذي لم يقل به بعيد ولا قريب.
وسأذكر الآيات التي اعتبرها مواقع للمعنى المزعوم، وأرد عليها بمشيئة الله تعالى:
1- " قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)"-مريم-:
ووجه الدلالة –عنده- على أن اسم الرحمن اسم تخويف أن مريم لم تكن لتستعيذ إلا بما يخوف لا بما يفتح باب الرجاء والرحمة، وهذا استدلال باطل، فمريم إنما استعاذت باسم الله"الرحمن" لأن رحمته شملتها وشملت كل العالمين، فلا ملجأ لها إلا لمن كان كذلك، فبرحمته سبحانه سيجيرها من كل أذى، والمخاطب ستحمله تقواه وعلمه برحمة الله تعالى على عدم إلحاق أدنى ضرر بها.
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:" { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ } أي ألتجئ به وأعتصم برحمته أن تنالني بسوء { إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي إن كنت تخاف الله وتعمل بتقواه فاترك التعرض لي فجمعت بين الاعتصام بربها وبين تخويفه وترهيبه وأمره بلزوم التقوى."([8]).
يقول العلامة الألوسي رحمه الله تعالى:" وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابا لآثار الرحمة الخاصة([9]) التي هي العصمة مما دهمها."([10]).
2- "يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)"-مريم-:
ووجه الدلالة عند هذا المتأول المتعسف أن المقام مقام تخويف وليس مقام رجاء فابراهيم عليه السلام خوف أباه باسم "الرحمن" فدل على أنه اسم تخويف ولو كان على المعنى المشهور –أي أن الرحمن ذو الرحمة الواسعة- لكان إبراهيم عليه السلام ملقنا أباه حجته، كأنه يقول له: يا أبتي إنك مقبل على رب وسعت رحمته كل شيء فلا تبالي.
وهذا فهم سقيم واستدلال عقيم، فإن إبراهيم الخليل إنما استعمل اسم "الرحمن" في خطابه لأبيه لأنه أشد وقعا وتأثيرا من غيره، كأنه يقول لأبيه آزر:لا تغتر برحمة الله فإنه سبحانه لا تمنعه رحمته من الانتقام من أعدائه، وأعظم أخذ أخذ من اطمأن الإنسان لرحمته واستكان لها فاغتر بذلك وتمادى في الكفر والعصيان والظلم والعدوان، فلا تسل عن شدة أخذه وفجائة نقمته سبحانه.
يقول ابن عجيبة في تفسيره المسمى البحر المديد: "وإظهار {الرحمن} ؛ للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب ، كما في قوله تعالى : {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار : 6]"([11]).
وقال العلامة التونسي ابن عاشور عليه رحمة الغفور:" لا جرم أنه لما قرر له أن عبادته الأصنام اتّباع لأمر الشيطان عصيّ الرحمن انتقل إلى توقع حرمانه من رحمة الله بأن يحلّ به عذاب من الله ، فحذره من عاقبة أن يصير من أولياء الشيطان الذين لا يختلف البشر في مذمتهم وسوء عاقبتهم ، ولكنهم يندمجون فيهم عن ضلال بمآل حالهم .
وللإشارة إلى أن أصل حلول العذاب بمن يحلّ به هو الحرمان من الرحمة في تلك الحالة ؛ عبر عن الجلالة بوصف الرحمن للإشارة إلى أن حلول العذاب ممن شأنُه أن يرحم إنما يكون لفظاعة جرمه إلى حد أن يحرمه من رحمته مَن شأنه سعة الرحمة ."([12]).
يقول العلامة الألوسي رحمه الله تعالى:" وإضافة العذاب إلى الرحمن ...لأن العقوبة من الكريم الحليم أشد."([13]).
3- قال تعالى:"قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا"-مريم:75-:
ووجه الدلالة في زعمه أن المقام مقام تهديد، فمن تمادى في الضلالة فالرحمن لا يبالي به، فليهلكن بضلالته، بل يمد له الرحمن في ضلالته، وهذا مما يدل على أن الرحمن اسم تخويف خلافا لما يعتقده الناس.
لكن ليس في الآية ما يدل على المعنى الذي فهمه هذا المتأول–عن قصد أو سوء قصد- لاسم الله الرحمن، بل ورود هذا الاسم في هذا المقام للدلالة على أن رحمة الله تعالى لا تمنعه سبحانه من استدراج من يستحق الاستدراج، بل إن نزول نعمه - بمقتضى اسمه الرحمن- على المتمادي في الضلال والعصيان هو عين الاستدراج لأهل الظلم والطغيان.
يقول الإمام البيضاوي رحمه الله تعالى:"{ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } فيمده ويمهله بطول العمر والتمتع به، وإنما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا بأن إمهاله مما ينبغي أن يفعله استدراجا وقطعا لمعاذيره."([14]).
4- " إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)"-مريم-:
وهذه كذلك من الآيات التي استدل بها صلاح الدين بن إبراهيم على أن اسم "الرحمن" اسم تخويف لا اسم رحمة، ووجه الاستدلال عنده أن الآية وردت في معرض العزة والإباء من الله تعالى للشرك.
فالآية فيها إجبار لا تشريف، واسم الرحمن في هذا الموقع يشبه اسم العزيز والعلي والكبير.
فكل الخلق آت عبدا، لمن؟ للرحمن: العزيز الجبار العلي." اهـــــــ.
وليس للمسكين أدنى دليل يحتج به في فهمه هذا أو يكون عليه التعويل، بل كلامه مجرد كلام لا حجة عليه ولا برهان، وكيف يكون تفسيره معتبر وليس عليه أدنى بينة أو أثر.
والآية وإن كانت في مقام التخويف بذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين فيأتونه سبحانه فرادا للعرض والحساب والسؤال عما سطر في الكتاب، لكن ذكر اسم الرحمن في هذا المقام العظيم لم يكن لما توهمه أبو عرفة وإنما لأمر آخر وهو بيان رحمة الله تعالى في ذلك الموقف الجلل، فرحمته سبحانه سبقت غضبه واذخر من الرحمة لذاك اليوم أضعاف أضعاف ما أنزله في هذه الدار، كما صحت بذلك الأخبار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه:" إن الله حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه : إن رحمتي تغلب غضبي"([15])، وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة و تسعين جزءا و أنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه."-متفق عليه-.
وظهر لي وجه آخر من ذكر اسم الرحمن في قوله تعالى:"إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)"-مريم-، وهو أن الخلائق ستأتي بين يدي الرب الذي خلقها وأمدها بالنعم التي لا تعد ولا تحصى وكل ذلك من آثار رحمته، ستأتي يوم القيامة للوقوف بين يديه، بين يدي من أسبغ عليها بالنعم بحكم رحمته بها، ستأتي لتسأل عن تحقيق شكر تلك النعم. هل قابلتها بالشكر فوحدته سبحانه وأفردته بالعبودية كما أفردها بالنعم أم كفرت فأشركت وعصت وتجبرت وطغت وعن أمره أعرضت.
فالخلائق كلها مفتقرة إلى رحمته وربوبيته، وهذا يلزمها أن تقر بألوهيته حتى لا تستحق العذاب، ففي الآية" استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها-سبحانه-"([16]). وهذا يلزمها أن تحقق الألوهية والعبودية له سبحانه.
والله تعالى أعلى وأحكم.
([1] ) تيسير الرحمن:39.
([2] ) هذا الكلام فيه نظر، فرحمة الله تشمل كل الخلائق فقط في الدنيا، أما في الآخرة فتضل رحمة الله متصلة بأهل الإيمان دون أهل الكفر الذين لا يلحقهم إلا العدل.
([3] ) جامع البيان في تأويل آي القرآن:1/126-129.
([4] ) الجامع لأحكام القرآن:1/104.
([5] ) المحرر الوجيز:1/57.
([6] ) شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيميين رحمه الله تعالى.
([7] ) إغاثة اللهفان.
([8] ) تيسير الرحمن:491.
([9] ) لكن لو أرادت الرحمة الخاصة لذكّرته باسم الرحيم لا الرحمن، والله تعالى أعلم وأحكم.
([10] ) روح المعاني:16/76.
([11] ) البحر المديد:4/326.
([12] ) التحرير والتنوير:16/117-118.
([13] ) روح المعاني:16/98.
([14] ) تفسير البيضاوي:1/30.
([15] ) رواه الترمذي وغيره وهو في الصحيحة تحت رقم:1629.
([16] ) التحرير والتنوير:16/173.