تأملات وعبر من قصة موسى في القرآن(6) المواجهة مع الطغيان

إنضم
04/03/2006
المشاركات
179
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
العمر
58
الإقامة
جمهورية مصر العر
انتهينا في الحلقة السابقة أن الله في هذا اللقاء المقدس أعطى موسى آيتين آية العصا لما ألقاها فإذا هي حية تسعي وآية اليد يدخلها في جيبه تخرج بيضاء من غير سوء وقد بينا أنها بنص القران آيات كبري " لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى (23) طه , وفي سورة النمل أن هاتين الآيتين هي من تسع آيات أخرى سيمده الله بها " وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْن وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12 ) النمل
وسيأتي تفصيل هذه الآيات التسع أثناء الحديث عن جولة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه .
و الآن يصدر التكليف الإلهي المباشر لموسى عليه السلام لمواجهة قوى الطغيان والاستكبار العالمي " اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى " (24) طه انه فرعون وما أدراك ما فرعون ؟ فرعون ذو الأوتاد الذي طغى في البلاد فاكثر فيها الفساد وما أدراك ما فرعون ؟ انه فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم , إن موسى عليه السلام ليس غريبا علي هذا الوسط لقد ولد على أرضه وترعرع صبيا في قصره وظل فيه حتى استوى وبلغ أشده انه يعي إذا ما هو فرعون ومن ثم فهو يطلب من ربه فور هذا التكليف معينات على هذه المواجهة " قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) طه .
وقد نقلت سورة الشعراء هذا المشهد بأسلوب آخر قد يكون مفسرا لما ورد في سورة طه قال تعالى " قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14) الشعراء
وما نحب التنويه عنه في بداية الحديث عن هذا المشهد الذي نقلته لنا سورة طه وسورة الشعراء هو أننا لن نلقي بالا للروايات الإسرائيلية و التي تنتقص من شان موسى عليه السلام فتفسر العقدة من اللسان بأنها لثغة قديمة في لسانه لم يكن يستطيع معها النطق الفصيح لانه فضلا عن عدم صحة هذه الروايات وهي قادمة من الروايات الإسرائيلية الملوثة بالإساءة إلى سمعة الأنبياء فإنها تخالف عقيدتنا المنبثقة من القران بشان نظرتنا الى الأنبياء والرسل والتي تمثل لنا مرجعية حاكمة في هذا الموضوع اليها نرد كل ما ورد عن صفات الأنبياء فنحن نعتقد أن الرسل والأنبياء جميعا عليهم الصلاة والسلام ما قصهم الله علينا في القران وما لم يقصص نعتقد انهم جميعهم عليهم الصلاة والسلام هم فئة من البشر وقع عليها الاصطفاء الإلهي لكي يبلغون رسالات الله وهديه إلى عباده و وقد تكفل الله بحفظهم ورعايتهم" ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا المُسْرِفِينَ (9) الأنبياء . " وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ"(171) إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) الصافات , وهم متصفون بكل صفات الكمال الإنساني التي تحقق المقصود من مهمتهم العظيمة في توجيه الناس إلى الله تعالى وهدايتهم سواء السبيل وإخراجهم من الظلمات إلى النور فهم يمثلون الكمال الإنساني والسمو البشري في أرقى صوره فهم أطهر البشر قلوبا وأزكاهم أخلاقا وأقواهم قريحة وعقلا وأحسنهم خلقة وصورة مبرؤون من كل العيوب الخلقية منزهون عن النقائص البشرية التي يتأفف منها البشر وينفر منها العامة وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام تحديدا بقوله : (( ليلة أسري بي رأيت موسى عليه السلام وإذا هو رجل ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة )) وقبيلة أزد شنوءة هي قبيلة عربية اشتهرت بحسن وكمال الخلقة البشرية قال ابن حجر العسقلاني في الفتح " أن الأنبياء في خَلقهم وخُلُقهم، على غاية الكمال، وأن من نسب نبيّاً إلى نقص في خلقته فقد آذاه، ويخشى على فاعله الكفر"
ومن هنا ينبغي علينا فهم قول موسى عليه السلام " واحلل عقدة من لساني " في ضوء نزاهة الأنبياء عن العيوب الخلقية وفي ضوء سياقها من المعينات التي طلبها موسى عليه السلام في سورتي طه والشعراء وهي شرح الصدر وتيسير الأمر وتعيين الوزير من الأهل وهذه كلها إذا نظرنا اليها مجتمعة من السهل أن نستوعبها في ضوء المهام الصعبة التي أوكلت إلى موسى عليه السلام ومعرفته بالمجتمع الفرعوني وطبيعته ونظمه وعاداته وما يمثله هذا المجتمع من تحديات لموسى عليه السلام يتطلب منه أن يسال الله أن يشرح له صدره لان صدره سيضيق فعلا بتصرفاتهم ومن ثم قال في طه رب اشرح لي صدري وقال في الشعراء السبب في هذا الطلب وهو" يضيق صدري" وقال في طه " واحلل عقدة من لساني " وقال بعدها الهدف " يفقهوا قولي " والفقه المعرفة مع الفهم وفي الشعراء "ولا ينطلق لساني" أي احلل عقدة من لساني كي ينطلق هذا اللسان ببيان الحجة إلى قوم موغلون في الجدل .
إن سبر أغوار الخلفية الثقافية للمجتمع الفرعوني التي تشبع بها كل من عاش بين أحضانه، بما فيهم بنو إسرائيل، والمتأمل في الفترة الماضية من حياة موسى عليه السلام كما قصها القران علينا يجعلنا نتفهم استشعار موسى عليه السلام خطورة الموقف الذي سيواجهه مع فرعون وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه. فهو مقبل على دعوة قوم يعتمدون خصائص ثقافية معينة أهمها: أن بشرا مخلوقا نصب نفسه إلها على قومه فقال لهم "ما علمت لكم من اله غيري" وقال لهم أنا ربكم الأعلى وقد وجد قوما استطاع أن يستخف بعقولهم فصدقوه وأطاعوه وسايروه في هذا الانحراف فأصبح بالنسبة لهم هو الإله في الأرض، وأن جميع السلطات متمركزة في يده، وهم راضون به مصدقون إياه فنجاح موسى في مهمته الدعوية مرهون باستيعابه هذه الآلياتِ الثقافيةَ وبإدراكه أهميتَها والصبر على استفزازها والتي تستنفذ صبر الصبور وحلم الحليم فمما لاشك فيه أن تصرفات الطاغية وحاشيته تكون دائما مستفزة لأصحاب الفطر السوية والذين لم يقعوا تحت استخفافه" فاراد أن يستفزهم من الأرض " إن موسى يحتاج قدرة على خلق تواصل مع المتلقي (فرعون، قوم فرعون، بني إسرائيل) وتجاوب معه. حتى يتحقق له السير بهم نحو آفاق أكثر نضجا نحو عقيدة التوحيد ، حيث ألوهية الله الواحد القهار . نعم لبث موسى عليه السلام في هذا الوسط من عمره سنين عددا ويعرف تحدياته لكنه في نفس الوقت ظل بعيد عنهم ما يقارب العشر سنوات في ارض مدين حيث روى ان موسي عليه السلام قضى اتم الاجلين واوفاها وديارمدين وسط مختلف تماما عن الوسط المصري مما يجعل العودة إلي فهم النسق الثقافي والإعلامي الفرعوني يحتاج إلى مجهود في البيان والي من يعاونه ويساعده ممن كان موجودا لديهم وقدرأى ان اخيخ هارون يصلح له وزيرا ومعينا وقد استعان بربه في أن يحلل له عقدة من لسانه وان يشرح له في صدره وان يجعل له أخاه هارون وزيرا .
لقد بعث محمد صلي الله عليه وسلم إلى قوم اقل في القوة والعتاد والطغيان من قوم فرعون " أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ" (43) القمر , ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بأقوالهم وافعالهم " وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) الحجر "فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) هود ,فكيف بموسى عليه السلام ؟
لقد ترجح لي في معنى عقدة اللسان والله اعلم أنها شعور موسى عليه السلام بضعف في لغة الخطاب التي يجب عليه مخاطبة فرعون من خلالها، وهى لغة المصريين في ذلك الوقت، وقد ترك التخاطب بهذه اللغة لمدة عشر سنوات أثناء بقائه في ارض مدين وهي تختلف في لغتها عن لغة المصريين فهويحتاج الى لغة في البيان اكثر قوة واكثر فصاحة ,والله اعلم
وعموما فقد بين القران أن الله قد استجاب لموسى كل ما طلبه " قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) طه , ومعنى هذا أن الله قد شرح له صدره وأطلق لسانه ولقنه حجته وسنرى ذلك في تصرفات موسى عليه السلام مع فرعون وأرسل معه أخاه هارون وزيرا ووجه لهارون مع موسى خطاب التكليف بالذهاب إلى فرعون " اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) طه ثم ذكره بالفترة الماضية من حياته منذ الولادة وحتى خرج من مصر خائفا يترقب وذكره بنعمة الله عليه فيها وهذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة
 
عودة
أعلى