عبد الله بن حميد الفلاسي
New member
- إنضم
- 17/12/2003
- المشاركات
- 25
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات قرآنية في سورة الكهف
الحلقة الأولى
بقلم
أبي عبد الله فتحي بن عبد الله الموصلى[/align]
التوحيد وأثره في الولاية الشرعية
يقول الله تعالى: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)) [الكهف:13-15].
سياق الآيات يدلّ على شروع في تفصيل قصة الفتية أصحاب الكهف، وأن الله تعالى يقصّها على نبيهّ بالحق والصدق الذي ما فيه من شك ولا شبهة بوجه من الوجوه.
أي: لا تسأل عن خبرهم، نحن نقصّه عليك بالحق المطابق للواقع من كل وجه حتى تظهر لك مقاصده العلمية الموجبة لتحصيل الشرائع العملية.
((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ)) :
((نَحْنُ)) تقديم الضمير المنفصل ضمير القاص مع ما فيه من التجبيل والتعظيم للإخبار عن المفرد بصيغة الجمع، وياله من قاص، وهو الله تعالى فلا بدّ من اليقين والتذكير والتثبيت.
((نَقُصُّ)) استحضار القصص إشارة إلى استمرارها والاتعاظ بها على مرّ الأزمان.
((عَلَيْكَ)) اهتماماً بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو حامل هذا الدين والمبلِّغ له، مع ما في التركيب من معنى الفوقية؛ إشارة إلى الاتعاظ بالقصة والعمل بفحواها وعدم الاستئناس بها فقط، ولهذا لم يقل (لك).
((نَبَأَهُم)) والنبأ فيه معنى الخبر جليل الشأن كما قال تعالى: ((عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)) وخبر هذه حاله موجب لشد الانتباه، ومن ثم التفكير فيه وتأمله، كل ذلك إشعار بأن مصادر التلقي هي من الوحي، فلا حاجة ألبتة للسؤال عن أخبارهم، فقد تولى الله تعالى الإخبار عنهم وحياً مطابقاً للواقع، فليس في قصصهم ولا قصص غيرهم زيادة ولا نقصان، وتلقيه صلى الله عليه وسلم قصص هؤلاء الفتية من الله تعالى موجب لتحصيل اليقين من قصصهم فيترتب على ذلك آثار عملية ودعوية فضلاً عن التذكير والتثبيت، يقول تعالى: ((وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)) [هود:120].
((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)):
تصدير الآية بـ ((إِنَّ)) لتوكيد مضمون الآية، ومعلوم أن كلمة ((الفتية)) من جموع القلة – أي دون العشرة -: إشارة إلى أنهم قلة وهذا الوصف متعلّق بتحقيق الغربة والاغتراب، وهي غربة الحال والعقيدة والمنهج كما كانت هي غربة أوطان بالنسبة لهم.
والفتى: هو الشاب الحديث السنّ، وقد استعمل هذا اللفظ في باب المدح والذمّ بحسب السياق، فقد ورد في آيات أخر كما في قوله تعالى: ((سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)) [الأنبياء:60].
ووصف أصحاب الكهف بالفتوة وارد على سبيل المدح من وجهين:
الأول: إن هؤلاء الفتية لما آمنوا واستجابوا لمنادي الإيمان كانوا في سنّ الشباب والقوة فآثروا الإيمان على الكفر؛ فهم وجهوا فتوّتهم نحو تحصيل الإيمان والثبات عليه، وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3/66): "إنهم الفتية وهم الشباب أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً...".
الوجه الثاني: إن لفظ الفتى وإن كان مشعراً بالاستضعاف إلا أنه استضعاف محمود لا مذموم؛ فاستحقوا بموجبه شمولهم بالنصر والدفع عنهم، وهذه سنة كونية تجري لصالح الرسل والدعاة.
إيثار أصل الإيمان ثم السعي لتكميله:
(آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) والإيمان ها هنا ذكر مطلقاً دون قرنه بالعمل الصالح – وإن كان العمل داخلاً فيه دخول الشيء في مسماه – لإيثار الأصل الإيماني الذي هو التوحيد؛ أي بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح (1).
ذلك أن الإيمان وكما هو معلوم متضمن للمجمل والمفصل، فهم آمنوا بمجمله وأصله الذي هو التوحيد؛ فشكر الله تعالى إيمانهم فزادهم من مفصله الذي هو الهدى المتضمن للعلم النافع والعمل الصالح.
بين تحصيل الإيمان وزيادة الهدى:
إن فعل الإيمان نسب إليهم فهو صادر منهم تحصيلاً وسعياً لا إلهاماً وكشفاً. والذي معهم – ابتداءً – هو أصل الإيمان وهو التوحيد بقرينة إطلاقه وذكر الهدى المتضمن للعمل الصالح في سياقه؛ فالإيمان في الآية متوجه إلى التوحيد بقرينة السياق، فثمة عموم وخصوص بين الإيمان والهدى عند الجمع بينهم والإفراد، فإذا أفرد أحدهما بالذكر يكون متضمناً للآخر، والعكس صحيح، وثمة قرينة أخرى، وهي أن اسم الرب تعالى أضيف إليهم ((آمَنُوا بِرَبِّهِمْ))، وذكر الربوبية مع الإيمان هو من باب قرن الإلهية بالربوبية، كما هو المعتاد في السياقات القرآنية لمن تأمل.
وإضافة اسم الرب إليهم تشريفاً وتربية لهم، فقد خصّهم الله تعالى بتربيتهم على التوحيد.
أما بالنسبة لزيادة الهدى، فثمة فائدة أخرى، ذلكم أن المزاد عليهم من الله تعالى وارد في لفظ الهدى لا بلفظ الإيمان، فلم يقل الله تعالى زدناهم إيماناً بل ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) مع أن ما عندهم هو من جنس الإيمان، والسبب في هذا التقديم والإيثار يرجع إلى:
أولاً: إنما المقصود تكميل الإيمان بمجمله ومفصله، بأصله وفروعه، بعلمه وعمله، بأساسه وبنيانه ... فالفتية لما آمنوا إيماناً مجملاً زادهم الله تعالى الإيمان المفصل الذي جاء ذكره في الآية بلفظ الهدى، لئلا يتوهم أحد أن الزيادة هي في جنس الأصل فقط، بل أن المزاد عليهم وإن كان من جنس ما عندهم لكن هو زائد على قدر ذلك في الإجمال والتفصيل.
ثانياً: وهم سعوا إلى سبيل الرشاد هداية واستجابة فزادهم الله تعالى ووفقهم إلى هداية أخرى أكمل وأتّم من الأولى فاجتمعت عندهم الهدايتان: هداية الإرشاد وهداية التوفيق.
ثالثاً: ولما كان غالب تعلق الهدى إنما يحصل بتكميل القوة العملية المتفرعة على تكميل القوة العلمية، كان إيثار الهدى في هذا السياق من باب تكميل وتهذيب القوة العملية، والاعتناء بالتزكية.
رابعاً: ولعل ثمة فائدة أخرى:
هؤلاء الفتية لما آثروا الإيمان على الكفر، والتوحيد على الشرك فقد جاهدوا في الله توحيداً وإيماناً، فلا بدّ من هدايتهم إلى أكمل سبل الهداية كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) فكل من يجاهد في الله توحيداً لا بدّ وأن يهدى إلى كل سبل الهداية لا إلى سبيل واحدة؛ أي إلى كل شرائع الإيمان وشبعه ولوازمه وثماره...
وقرينة هذا التوجيه ظاهرة في تنكير الهدى في الآية، إذن هي للتعميم ولتعظيم النعمة المزادة عليهم وتفخيمها، فتأمّل.
تـنبيهـات:
1- الآية دلت بمنطوقها على أن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، يزيد بالأسباب الموجبة لزيادة الإيمان وسعي العباد لتحصيله، وينقص بتركها وعدم إرادة الانتفاع بها، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة.
2- إن إيمان الفتية تحصل عندهم بطريقة الاستجابة إلى منادي الرسل وواعظ الإيمان في القلب، فضلاً عن حصوله بمقتضى العلوم الفطرية التي سلمها الله تعالى من التلوث بدفع المعارض لها، في حين ذهب البعض إلى أن إيمان هؤلاء حصل بمقتضى الإلهام (!)
وهذا خلاف معهود تحصيل الإيمان، إذ لو كان هو المقصود لنوّه السياق له من قريب أو بعيد وما تقدم من إيضاح كافٍ لرده.
أثر تجريد التوحيد على الأعمال القلبية:
هؤلاء الفتية الممدوحة صفتهم قد اجتمعت فيهم خصال تفرقت في غيرهم، فكانوا علماء بين قوم جهال، وكانو مؤمنين وسط قوم كفار، وكانوا موحِّدين وسط قوم مشركين، وهذه الحال والوصف من موجبه إعلان العداء لهم، فما كان منهم إلا الثبات.
فبإيمانهم هذا آثروا محبة الله على محبة سواه، وآثروا الفرار إليه على مصاحبة الأصحاب والأهل والأحباب، فتحققت خصلة إيثار المحبوب في عمل القلب، فكرهوا الردة، وكرهوا ما كان عليه قومهم، لذا قال الله على لسان بعضهم: ((إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)).
ومن كانت هذه خصاله ذاق حلاوة الإيمان؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه.
فهؤلاء الفتية لما وجدوا أثر حلاوة الإيمان قاموا لله في ذاته قومة التوحيد والدعوة إلى سبيله تعالى، والتعريف به رباً ومعبوداً، وبأسمائه وصفاته.
وفي هذا المعنى الدقيق يقول ابن القيم الجوزية في "المدارج" (3/67-68):
" فإن هؤلاء – أي الفتية – كانوا بين قومهم الكفار في خدمة ملكهم الكافر، فما هو إلا أن وجدوا حقيقة الإيمان والتوفيق وذاقوا حلاوته وباشر قلوبهم فقاموا من بين قومهم، وقالوا: ((رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً))، والربط على قلوبهم يتضمّن الشدّ عليها بالصبر والتثبيت وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيض وفرّوا بدينهم إلى الكهف.
((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا)) :
والربط على قلوبهم يتضمّن الشد عليها بالصبر والتثبيت وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان وهو عكس الخذلان، فالخذلان حلّه من رباط التوفيق فيغفل عن ذكر ربه، ويتبع هواه، ويصير أمره فرطاً". ويقول الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (4/29):
"أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام.
ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من كان في طاعة ربه جل وعلا يقوى قلبه، ويثبته على تحمل الشدائد، والصبر الجميل".
و ((إِذْ)) هنا ظرفية والربط متعلق بوقت قومتهم؛ أي حين قاموا، وقد حصل بثمرة تحصيلهم للإيمان، فربط على قلب كل واحد منهم برباط التوفيق حتى يتصل بذكر ربه، ويتبع مرضاته، ويجتمع عليه شمله فلا يخذل، ذلكم أن أخذل الخذلان خذلان القلب، فلا يسلّم لحكم الله الشرعي والكوني تسليماً؛ فيبقى هذا القلب دائراً بين الشبهة والشهوة ومن كانت هذه حاله فهو فارغ القلب مخذول الحال لا يتمكن من النزول في منازل الصبر أو القيام في مقام الدعوة، وقلوب هؤلاء الفتية لم تكن فارغة من الإيمان أصلاً أو كمالاً لما ربط الله على قلوبهم، كما ربط الله تعالى على قلب أم موسى لما فرغ، يقول تعالى: ((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) [القصص:10].
وليس بالضرورة أن يفرغ القلب من أصل الإيمان؛ لأن ذلك من قبيل الكفر، بل قد يفرغ من قبيل الإنابة والخشية والخوف والتصدع واليقين ما يوجب انتقاص إيمان العبد بحسبه.
الربط بالتأييد والنصر في مقام الدعوة:
قال القرطبي في "تفسيره" (10/365-366): ((إِذْ قَامُوا فَقَالُوا))؛ يحتمل ثلاث معان:
1- أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر.
2- أنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا وراء تلك المدينة ... فقاموا جميعاً فقالوا...
3- أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد..".
والأقوال الثلاثة وإن كانت محتملة المعنى لكن المعنى الثالث أظهر.
أي نهضوا بهمة ونشاط وقصد وعزم لاتّباع المقصود ... فهم بهذا الوصف نزلوا في مقام الدعوة إلى الله تعالى وصارت حالاً لهم لا تنفك عنهم؛ فقولهم التوحيد، وعملهم التوحيد، وجهادهم التوحيد؛ فحققوه قولاً وعملاً ودعوةً وجهاداً ومقاماً وحالاً ... "وإذا تعلقت همة العبد في الله تعالى طلباً صادقاً خالصاً محضاًَ فتلك هي الهمة العالية، فمن كان كذلك فلا يقدر على التمهل بل تلزمه بطلب المقصود. وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق.." (2).
فهؤلاء الفتية في قومتهم للصدق بالحق كانت همتهم عالية.
همة اتصلت بالله تعالى طلباً وقصداً.
وهمة اتصلت بخلقه دعوة ونصحاً، فوجدت مطلوبها ومقصودها بالإخلاص، وطلبها بالصدق، وطريقها بالمتابعة قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33].
تحقيق التوحيد قولاً وعملاً، والاستدلال على المطلوب بجنس استدلال الرسل
فقاموا قومة في ذات الله تعالى توحيداً، فشرعوا بادئ بدء بأجل مقصد من مقاصد الرسل الضرورية ألا وهو مقصد التعريف بالله ربّاً ومعبوداً وبأسمائه لتبنى على هذا المقصد مطالب الرسالة الأخرى.
شرعوا بالتعريف بالتوحيد مستدلين بجنس استدلال الرسل قالوا: ((رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) ولم يقولوا: (رب السماوات والأرض ربنا) وفي إيثار تقديم الرب مضافاً إليهم على تقدميه مضافاً إلى السماوات والأرض مع ما فيه من إظهار اعترافهم بأنهم مربوبون لله تعالى وإقرارهم بما في أنفسهم على ما حولهم من العوالم؛ فإنه يدل أيضاً على أنهم استدلوا بالله تعالى على معرفة الأشياء، لا بالأشياء والخلق على معرفة الله، وإن كان الثاني يتحصل به المطلوب، لكن استدلال الرسل هو الأكمل والأحكم، وبهذا قال تعالى في تقرير استدلالهم: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) فالرسل صلوات الله عليهم استدلوا بالله تعالى على الأشياء وهذا استدلال تام، فكان استدلال أصحاب الكهف من جنس هذا الاستدلال بهذا، قال تعالى: ((إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)).
فكان إيمانهم توحيداً، وقومتهم توحيداً، وقولهم توحيداً، واستدلالهم إلى التوحيد فطرياً، فاستحقوا بموجب ذلك وصف الولاية الشرعية؛ لهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى في "المجموع" (17/22): "وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة " أ.هـ
وسيأتي – إن شاء الله تعالى – في الحلقة القادمة الكلام على المقصود من قومتهم، وتحقيق أن المراد بها توحيد الإلهية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
للمراسلة: [email protected]
* الهوامش:
1) "تيسير الكريم الرحمن (5/14).
2) من كلام ابن القيم في "المدراج" (3/3-4).
تأملات قرآنية في سورة الكهف
الحلقة الأولى
بقلم
أبي عبد الله فتحي بن عبد الله الموصلى[/align]
التوحيد وأثره في الولاية الشرعية
يقول الله تعالى: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً)) [الكهف:13-15].
سياق الآيات يدلّ على شروع في تفصيل قصة الفتية أصحاب الكهف، وأن الله تعالى يقصّها على نبيهّ بالحق والصدق الذي ما فيه من شك ولا شبهة بوجه من الوجوه.
أي: لا تسأل عن خبرهم، نحن نقصّه عليك بالحق المطابق للواقع من كل وجه حتى تظهر لك مقاصده العلمية الموجبة لتحصيل الشرائع العملية.
((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ)) :
((نَحْنُ)) تقديم الضمير المنفصل ضمير القاص مع ما فيه من التجبيل والتعظيم للإخبار عن المفرد بصيغة الجمع، وياله من قاص، وهو الله تعالى فلا بدّ من اليقين والتذكير والتثبيت.
((نَقُصُّ)) استحضار القصص إشارة إلى استمرارها والاتعاظ بها على مرّ الأزمان.
((عَلَيْكَ)) اهتماماً بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو حامل هذا الدين والمبلِّغ له، مع ما في التركيب من معنى الفوقية؛ إشارة إلى الاتعاظ بالقصة والعمل بفحواها وعدم الاستئناس بها فقط، ولهذا لم يقل (لك).
((نَبَأَهُم)) والنبأ فيه معنى الخبر جليل الشأن كما قال تعالى: ((عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)) وخبر هذه حاله موجب لشد الانتباه، ومن ثم التفكير فيه وتأمله، كل ذلك إشعار بأن مصادر التلقي هي من الوحي، فلا حاجة ألبتة للسؤال عن أخبارهم، فقد تولى الله تعالى الإخبار عنهم وحياً مطابقاً للواقع، فليس في قصصهم ولا قصص غيرهم زيادة ولا نقصان، وتلقيه صلى الله عليه وسلم قصص هؤلاء الفتية من الله تعالى موجب لتحصيل اليقين من قصصهم فيترتب على ذلك آثار عملية ودعوية فضلاً عن التذكير والتثبيت، يقول تعالى: ((وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)) [هود:120].
((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)):
تصدير الآية بـ ((إِنَّ)) لتوكيد مضمون الآية، ومعلوم أن كلمة ((الفتية)) من جموع القلة – أي دون العشرة -: إشارة إلى أنهم قلة وهذا الوصف متعلّق بتحقيق الغربة والاغتراب، وهي غربة الحال والعقيدة والمنهج كما كانت هي غربة أوطان بالنسبة لهم.
والفتى: هو الشاب الحديث السنّ، وقد استعمل هذا اللفظ في باب المدح والذمّ بحسب السياق، فقد ورد في آيات أخر كما في قوله تعالى: ((سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)) [الأنبياء:60].
ووصف أصحاب الكهف بالفتوة وارد على سبيل المدح من وجهين:
الأول: إن هؤلاء الفتية لما آمنوا واستجابوا لمنادي الإيمان كانوا في سنّ الشباب والقوة فآثروا الإيمان على الكفر؛ فهم وجهوا فتوّتهم نحو تحصيل الإيمان والثبات عليه، وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3/66): "إنهم الفتية وهم الشباب أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً...".
الوجه الثاني: إن لفظ الفتى وإن كان مشعراً بالاستضعاف إلا أنه استضعاف محمود لا مذموم؛ فاستحقوا بموجبه شمولهم بالنصر والدفع عنهم، وهذه سنة كونية تجري لصالح الرسل والدعاة.
إيثار أصل الإيمان ثم السعي لتكميله:
(آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) والإيمان ها هنا ذكر مطلقاً دون قرنه بالعمل الصالح – وإن كان العمل داخلاً فيه دخول الشيء في مسماه – لإيثار الأصل الإيماني الذي هو التوحيد؛ أي بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح (1).
ذلك أن الإيمان وكما هو معلوم متضمن للمجمل والمفصل، فهم آمنوا بمجمله وأصله الذي هو التوحيد؛ فشكر الله تعالى إيمانهم فزادهم من مفصله الذي هو الهدى المتضمن للعلم النافع والعمل الصالح.
بين تحصيل الإيمان وزيادة الهدى:
إن فعل الإيمان نسب إليهم فهو صادر منهم تحصيلاً وسعياً لا إلهاماً وكشفاً. والذي معهم – ابتداءً – هو أصل الإيمان وهو التوحيد بقرينة إطلاقه وذكر الهدى المتضمن للعمل الصالح في سياقه؛ فالإيمان في الآية متوجه إلى التوحيد بقرينة السياق، فثمة عموم وخصوص بين الإيمان والهدى عند الجمع بينهم والإفراد، فإذا أفرد أحدهما بالذكر يكون متضمناً للآخر، والعكس صحيح، وثمة قرينة أخرى، وهي أن اسم الرب تعالى أضيف إليهم ((آمَنُوا بِرَبِّهِمْ))، وذكر الربوبية مع الإيمان هو من باب قرن الإلهية بالربوبية، كما هو المعتاد في السياقات القرآنية لمن تأمل.
وإضافة اسم الرب إليهم تشريفاً وتربية لهم، فقد خصّهم الله تعالى بتربيتهم على التوحيد.
أما بالنسبة لزيادة الهدى، فثمة فائدة أخرى، ذلكم أن المزاد عليهم من الله تعالى وارد في لفظ الهدى لا بلفظ الإيمان، فلم يقل الله تعالى زدناهم إيماناً بل ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) مع أن ما عندهم هو من جنس الإيمان، والسبب في هذا التقديم والإيثار يرجع إلى:
أولاً: إنما المقصود تكميل الإيمان بمجمله ومفصله، بأصله وفروعه، بعلمه وعمله، بأساسه وبنيانه ... فالفتية لما آمنوا إيماناً مجملاً زادهم الله تعالى الإيمان المفصل الذي جاء ذكره في الآية بلفظ الهدى، لئلا يتوهم أحد أن الزيادة هي في جنس الأصل فقط، بل أن المزاد عليهم وإن كان من جنس ما عندهم لكن هو زائد على قدر ذلك في الإجمال والتفصيل.
ثانياً: وهم سعوا إلى سبيل الرشاد هداية واستجابة فزادهم الله تعالى ووفقهم إلى هداية أخرى أكمل وأتّم من الأولى فاجتمعت عندهم الهدايتان: هداية الإرشاد وهداية التوفيق.
ثالثاً: ولما كان غالب تعلق الهدى إنما يحصل بتكميل القوة العملية المتفرعة على تكميل القوة العلمية، كان إيثار الهدى في هذا السياق من باب تكميل وتهذيب القوة العملية، والاعتناء بالتزكية.
رابعاً: ولعل ثمة فائدة أخرى:
هؤلاء الفتية لما آثروا الإيمان على الكفر، والتوحيد على الشرك فقد جاهدوا في الله توحيداً وإيماناً، فلا بدّ من هدايتهم إلى أكمل سبل الهداية كما قال تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) فكل من يجاهد في الله توحيداً لا بدّ وأن يهدى إلى كل سبل الهداية لا إلى سبيل واحدة؛ أي إلى كل شرائع الإيمان وشبعه ولوازمه وثماره...
وقرينة هذا التوجيه ظاهرة في تنكير الهدى في الآية، إذن هي للتعميم ولتعظيم النعمة المزادة عليهم وتفخيمها، فتأمّل.
تـنبيهـات:
1- الآية دلت بمنطوقها على أن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، يزيد بالأسباب الموجبة لزيادة الإيمان وسعي العباد لتحصيله، وينقص بتركها وعدم إرادة الانتفاع بها، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة.
2- إن إيمان الفتية تحصل عندهم بطريقة الاستجابة إلى منادي الرسل وواعظ الإيمان في القلب، فضلاً عن حصوله بمقتضى العلوم الفطرية التي سلمها الله تعالى من التلوث بدفع المعارض لها، في حين ذهب البعض إلى أن إيمان هؤلاء حصل بمقتضى الإلهام (!)
وهذا خلاف معهود تحصيل الإيمان، إذ لو كان هو المقصود لنوّه السياق له من قريب أو بعيد وما تقدم من إيضاح كافٍ لرده.
أثر تجريد التوحيد على الأعمال القلبية:
هؤلاء الفتية الممدوحة صفتهم قد اجتمعت فيهم خصال تفرقت في غيرهم، فكانوا علماء بين قوم جهال، وكانو مؤمنين وسط قوم كفار، وكانوا موحِّدين وسط قوم مشركين، وهذه الحال والوصف من موجبه إعلان العداء لهم، فما كان منهم إلا الثبات.
فبإيمانهم هذا آثروا محبة الله على محبة سواه، وآثروا الفرار إليه على مصاحبة الأصحاب والأهل والأحباب، فتحققت خصلة إيثار المحبوب في عمل القلب، فكرهوا الردة، وكرهوا ما كان عليه قومهم، لذا قال الله على لسان بعضهم: ((إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)).
ومن كانت هذه خصاله ذاق حلاوة الإيمان؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه.
فهؤلاء الفتية لما وجدوا أثر حلاوة الإيمان قاموا لله في ذاته قومة التوحيد والدعوة إلى سبيله تعالى، والتعريف به رباً ومعبوداً، وبأسمائه وصفاته.
وفي هذا المعنى الدقيق يقول ابن القيم الجوزية في "المدارج" (3/67-68):
" فإن هؤلاء – أي الفتية – كانوا بين قومهم الكفار في خدمة ملكهم الكافر، فما هو إلا أن وجدوا حقيقة الإيمان والتوفيق وذاقوا حلاوته وباشر قلوبهم فقاموا من بين قومهم، وقالوا: ((رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً))، والربط على قلوبهم يتضمّن الشدّ عليها بالصبر والتثبيت وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيض وفرّوا بدينهم إلى الكهف.
((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا)) :
والربط على قلوبهم يتضمّن الشد عليها بالصبر والتثبيت وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان وهو عكس الخذلان، فالخذلان حلّه من رباط التوفيق فيغفل عن ذكر ربه، ويتبع هواه، ويصير أمره فرطاً". ويقول الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (4/29):
"أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به، ولا ماء ولا طعام.
ويفهم من هذه الآية الكريمة: أن من كان في طاعة ربه جل وعلا يقوى قلبه، ويثبته على تحمل الشدائد، والصبر الجميل".
و ((إِذْ)) هنا ظرفية والربط متعلق بوقت قومتهم؛ أي حين قاموا، وقد حصل بثمرة تحصيلهم للإيمان، فربط على قلب كل واحد منهم برباط التوفيق حتى يتصل بذكر ربه، ويتبع مرضاته، ويجتمع عليه شمله فلا يخذل، ذلكم أن أخذل الخذلان خذلان القلب، فلا يسلّم لحكم الله الشرعي والكوني تسليماً؛ فيبقى هذا القلب دائراً بين الشبهة والشهوة ومن كانت هذه حاله فهو فارغ القلب مخذول الحال لا يتمكن من النزول في منازل الصبر أو القيام في مقام الدعوة، وقلوب هؤلاء الفتية لم تكن فارغة من الإيمان أصلاً أو كمالاً لما ربط الله على قلوبهم، كما ربط الله تعالى على قلب أم موسى لما فرغ، يقول تعالى: ((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) [القصص:10].
وليس بالضرورة أن يفرغ القلب من أصل الإيمان؛ لأن ذلك من قبيل الكفر، بل قد يفرغ من قبيل الإنابة والخشية والخوف والتصدع واليقين ما يوجب انتقاص إيمان العبد بحسبه.
الربط بالتأييد والنصر في مقام الدعوة:
قال القرطبي في "تفسيره" (10/365-366): ((إِذْ قَامُوا فَقَالُوا))؛ يحتمل ثلاث معان:
1- أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر.
2- أنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا وراء تلك المدينة ... فقاموا جميعاً فقالوا...
3- أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس، كما تقول قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد..".
والأقوال الثلاثة وإن كانت محتملة المعنى لكن المعنى الثالث أظهر.
أي نهضوا بهمة ونشاط وقصد وعزم لاتّباع المقصود ... فهم بهذا الوصف نزلوا في مقام الدعوة إلى الله تعالى وصارت حالاً لهم لا تنفك عنهم؛ فقولهم التوحيد، وعملهم التوحيد، وجهادهم التوحيد؛ فحققوه قولاً وعملاً ودعوةً وجهاداً ومقاماً وحالاً ... "وإذا تعلقت همة العبد في الله تعالى طلباً صادقاً خالصاً محضاًَ فتلك هي الهمة العالية، فمن كان كذلك فلا يقدر على التمهل بل تلزمه بطلب المقصود. وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق.." (2).
فهؤلاء الفتية في قومتهم للصدق بالحق كانت همتهم عالية.
همة اتصلت بالله تعالى طلباً وقصداً.
وهمة اتصلت بخلقه دعوة ونصحاً، فوجدت مطلوبها ومقصودها بالإخلاص، وطلبها بالصدق، وطريقها بالمتابعة قال تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [فصلت:33].
تحقيق التوحيد قولاً وعملاً، والاستدلال على المطلوب بجنس استدلال الرسل
فقاموا قومة في ذات الله تعالى توحيداً، فشرعوا بادئ بدء بأجل مقصد من مقاصد الرسل الضرورية ألا وهو مقصد التعريف بالله ربّاً ومعبوداً وبأسمائه لتبنى على هذا المقصد مطالب الرسالة الأخرى.
شرعوا بالتعريف بالتوحيد مستدلين بجنس استدلال الرسل قالوا: ((رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) ولم يقولوا: (رب السماوات والأرض ربنا) وفي إيثار تقديم الرب مضافاً إليهم على تقدميه مضافاً إلى السماوات والأرض مع ما فيه من إظهار اعترافهم بأنهم مربوبون لله تعالى وإقرارهم بما في أنفسهم على ما حولهم من العوالم؛ فإنه يدل أيضاً على أنهم استدلوا بالله تعالى على معرفة الأشياء، لا بالأشياء والخلق على معرفة الله، وإن كان الثاني يتحصل به المطلوب، لكن استدلال الرسل هو الأكمل والأحكم، وبهذا قال تعالى في تقرير استدلالهم: ((قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) فالرسل صلوات الله عليهم استدلوا بالله تعالى على الأشياء وهذا استدلال تام، فكان استدلال أصحاب الكهف من جنس هذا الاستدلال بهذا، قال تعالى: ((إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)).
فكان إيمانهم توحيداً، وقومتهم توحيداً، وقولهم توحيداً، واستدلالهم إلى التوحيد فطرياً، فاستحقوا بموجب ذلك وصف الولاية الشرعية؛ لهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى في "المجموع" (17/22): "وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة " أ.هـ
وسيأتي – إن شاء الله تعالى – في الحلقة القادمة الكلام على المقصود من قومتهم، وتحقيق أن المراد بها توحيد الإلهية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
للمراسلة: [email protected]
* الهوامش:
1) "تيسير الكريم الرحمن (5/14).
2) من كلام ابن القيم في "المدراج" (3/3-4).