تأملات في قصة سحرة فرعون مع موسى عليه السلام

الإسحاقي

New member
إنضم
2 فبراير 2009
المشاركات
20
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الأدب والعدل الإنصاف من أعظم أسباب الهداية إلى الحق
تأملات في قصة سحرة فرعون مع موسى عليه السلام

مشهد تفصيلي متكرر يذكره الله -تعالى- لنا في حديثه عن قصة موسى -عليه السلام- أثناء مناظرة الكليم للسحرة، وكثيرا ما يمر بعضنا على هذا السياق من القرآن بإغفال وعجلة، وقلة تمعن، وضعف استبصار، والله المستعان.
فلماذا يكرر الله هذا المشهد الذي قد يعتبره بعضنا مشهدا سريعا وحدثا تكميلا وموقفا ثانويا في أحداث قصة موسى -عليه السلام- الكثيرة العظيمة، خاصة وأن ما بعده من الأحداث المبهرة المتلاحقة التي ينتظرها المستمع والقارئ قد تغطي على ما يحتويه ذلك الموقف.
إن هذا المشهد الإيماني العظيم وهو مشهد تخيير السحرة لموسى -عليه السلام- في الابتداء، وإعطائه الفرصة لإبداء رأيه، وتمكينه من اختيار الحال التي تناسبه، ذكره الله بالتفصيل في سورتي الأعراف وطه، ففي الأعرف قال تعالى: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم}[الأعراف: 115-116]، وذكره في سورة طه فقال تعالى: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى}[طه:65].
وذكره باختصار في سورتي يونس والشعراء، فحذف التخيير وذكر نتيجته، فقال تعالى في سورة يونس: {فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون}[يونس:80]، وقال تعالى في سورة الشعراء: {قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون}[الشعراء:43].
وهذا المشهد من أعظم مشاهد قصة موسى -عليه السلام- فإن السحرة كانوا في مقام السطوة والسلطة والقوة والمنعة، فالدولة والقوة في صفهم، والإعلام والمال في خدمتهم فحدث ما شئت من:
تقريب فرعون لهم كما حكى الله قوله لهم: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الشعراء: 42].
واعتزازهم به كما قالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء: 44].
ووعده لهم الأجر لما قالوا: {أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ * قالَ نَعَمْ} [الأعراف:41].
وتمنيه غلبتهم وانتصارهم على موسى -عليه السلام- كما قال: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 39]
ومن جهة أخرى فإن موسى -عليه السلام- هو خصمهم الأول وعدوهم الأكبر الذي دُعوا إلى مناظرته ومصاولته، ومعلوم أن مقام الخصومة فيه ما يدعو النفس إلى الفجور في الخصومة والتعدي والبغي على الخصم، وإزدرائه وتهميشه والضغط عليه. كما أن موسى -عليه السلام- من بني إسرائيل فليس البلد بلده ولا القوم قومه، مع قلة عدد وعدة، فيالها من غربة فهو كما قال المتنبي:
غريب الوجه واليد واللسان
ومع هذا كله كان موقف السحرة منه الإنصاف والأدب والعدل، ولذلك خيّروا موسى -عليه السلام- في التقدم والتأخر، وشاوره في أولية البدء، وهذا والله من أعظم الإنصاف والعدل والأدب، ولعله من أعظم أسباب توفيقهم إلى اتباع الحق والثبات عليه، وهذا ما اختارهم أكثر المفسرين، وتفننوا في التعبير عنه وإليك جملا من كلامهم:
قال الزمخشري: "تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين، قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع"[الكشاف: 2/140]
وقال -أيضا-: "وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم، وكأن الله -عز وعلا- ألهمهم ذلك، وعلم موسى -صلوات الله عليه- اختيار إلقائهم أو لا، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب"[الكشاف: 3/73]
وقال القرطبي: "تأدبوا مع موسى -عليه السلام- فكان ذلك سبب إيمانهم"[تفسير القرطبي: 7/259]
وقال البيضاوي: "مراعاة للأدب" [تفسير البيضاوي: 4/32]
وقال الجاوي: " وهذا التخيير حسن أدب منهم، وتواضع لموسى -عليه السلام-، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع، لم يضر، بل نفعهم، ولذلك رزقهم الله -تعالى- الإيمان ببركته. ثم إن موسى -عليه السلام- قابل أدبهم بأدب أحسن من أدبهم، حيث بتّ القول بإلقائهم"[مراح لبيد(2/30)]
وقال الأمين الشنقيطي: "ذكر -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة: أن السحرة لما جمعهم فرعون واجتمعوا مع موسى للمغالبة قالوا له متأدبين معه: {إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى} وقد بين تعالى مقالتهم هذه في غير هذا الموضع. كقوله في الأعراف: {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين}" [أضواء البيان:4/33]
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده وأعان الله على جمعه، فنسأل الله التوفيق والسداد والإخلاص والقبول، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على النبي الأمين وأهله وصحبه وأتباعه أجمعين
 
عودة
أعلى