تأملات في سورة العاديات

إنضم
15/08/2010
المشاركات
14
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
تأملات في سورة العاديات

سورة تطرق القلوب بسرعة أحداثها ومباغتة آياتها وإيقاعاتها، لتنتفض من غفلتها ونومها قبل أن ينتهي الزمان وينتهي العمر، ولتمسح غبار الوهم وغشاوة المعاصي والذنوب ورينها عن غطاء القلوب، ولتسرع للعمل كفارس مغوار لتستنير بنور الإيمان والعمل الصالح، سورة تُعلمنا كيف نكون على حذر وترقب دائم مع المسابقة والمسارعة في البذل والعطاء والمجاهدة في سبيل الله قبل فوات الأوان وانقطاع الأنفاس الأخيرة بهذه الحياة، سورة فيها تنبيه وتحذير وزجر لسوء العاقبة والمصير وسرعته في المجيء لمن غفل ونام في سبات الشهوات والمعاصي وأنكر على ربه تفضله عليه بالنعم والخير الكثير .

نستعرض أحداث هذه السورة بسرعة إلقائها وجمال تصويرها ورهبة وعيدها وتوعدها لعلنا ننبه القلوب من غفلة الدنيا، ونعود إلى الهدف الحقيقي من وجودنا وهو أن لا تكون أنفاسنا إلا لله وحده .
المقطع الأول :
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
أقسم الله سبحانه بالعاديات وهي التي تعدو في سيرها أي كما قال ابن عاشور " العادية هي الجري السريع والذي يطلق على الخيل والإبل في أغلب الأحيان " .
فالعدو والجري السريع لا بد أن يكون فاعله لأجل تحقيق هدف ما أو غاية يريد أن يصل إليها بأقصر الأوقات وأنسبها، ليفوز دون أن يسبب لنفسه الأضرار التي من المتوقع أن تباغته لو أخر سرعته أو اختار زمنا لا يتناسب مع تلك السرعة. كما أن العدو السريع أحيانا يكون بسبب التنافس والتسابق مع الآخرين لأجل الوصول للفوز والهدف فكما جاء في تعريف الأصفهاني للعدو أنه " التجاوز ويطلق على المشي " .
كما أن العدو السريع يزيد من سرعة التنفس والتهيج لجميع أعضاء البدن لأجل بذل الطاقة الكبيرة التي تعينه لتتناسب مع سرعة الجري للحاق قبل فوات الأوان، حيث لو فقدت الطاقة الداخلية لن يستطيع أن يعدو بسرعة حتى يصل للهدف المطلوب فيكون من المتأخرين في عدوه . فقول الله سبحانه ( ضبحا ) كما قال ابن عاشور " هو اضطراب النفس المتردد في الحنجرة دون أن يخرج من الفم " .

ثم لكي يحدث الفوز الأفضل في تحقيق الهدف من العدو لا بد أن يختار الوقت والزمان الأنسب للإغاره، فذكر الله سبحانه وقت الصباح بقوله ( فالمغيرات صبحا ) أي كما قال ابن عاشور أغار أو غزا الجيش وقت الصبح أي بعد الفجر "
حيث يكون ذلك الوقت مع بداية اليوم والناس في غفلة نومهم ولم تبدأ حركة الحياة بعد، ولم ينتبه الناس لما يدور من حولهم، ويكون الهدوء يعم المكان، والرؤية بدأت تتضح أفضل مما كان عليه الليل، كما أن حركة الكون كلها بجمالها وسكونها تعطي للنفس اشراقات جميله من التفاؤل والأمل والإقبال بصفاء فكر وبصيرة أشد لتحقيق الهدف، كما أن لهذا الوقت من الزمان تأثير كبير لتحسين الحالة المزاجية والنفسية للإنسان مما تزيد من قوته وإقباله على تحقيق ما يصبو إليه .
فالإغارة فيها معنى المباغتة والمفاجئة في الحدث والفعل حيث لا تعطي الفرصة لمن أُغير عليه أن يعد نفسه ويتجهز للمواجهة أو يأخذ حذره، فيكون ذلك سرعة في تحقيق الفوز والوصول للهدف لمن أغار .
كما أن مع سرعة العدو الشديد المستهلك لكل طاقة البدن لا بد أن يكون لذلك أثر على ما يَحتك به البدن وخاصه الأقدام من الأشياء حولها، فأكثر ما يحتك به تراب الأرض فهذه السرعة الكبيرة تعمل على إثارة وإهاجة التراب فيخرج منه الغبار ليتناثر في الجو، وهذا الغبار سيعيق الرؤية أو يجعل غشاوة على البصر لا يستطيع أن يرى المغار عليه سرعة ما يقدم عليه أو شدته، فهو ما لبث أن استيقظ من نومته ليفرك عينيه من أثر النوم الطويل فلا يكاد أن ينتهي من ذلك إلا وقد وجد من أغار عليه في وسط داره وقد أحكم قبضته عليه .
قال ابن عاشور «وأثَرنَ به نقعاً» : أصعَدْن الغبار من الأرض من شدة عدْوِهن ، والإِثارة : الإِهاجة ، والنقع : الغبار ".
يقول ابن عاشور حول هذه الأيه :
{ فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً }" فجيء بهما فعلين ماضيين ولم يأتيا على نسق الأوصاف قبلهما بصيغة اسم الفاعل للإِشارة إلى أن الكلام انتقل من القَسَم إلى الحكاية عن حصول ما تَرتَّبَ على تلك الأوصاف الثلاثة ما قُصد منها من الظفَر بالمطلوب الذي لأجله كان العَدو والإِيراء والإِغارة عقبه وهي الحلُول بدار القوم الذين غزَوهم إذَا كان المراد ب { العاديات } الخيل ".
هنا نهاية لمشهد المفاجئة والإغارة بحدوث الهدف المطلوب مع السرعه المتزايده، حيث كان القوم والجمع في بيوتهم آمنين مطمئنين مستبعدين لأي خطر يحيق بهم، فكانت المفاجئة بالصحو متأخرا من نومهم وسباتهم الذي منعهم من الاستعداد لتلك الإغارة فكان ذلك سببا لفقد أمنهم وراحتهم وما تنعموا به في ديارهم من الخير الكثير وطول الأمل بالأمن .
المقطع الثاني :
تنتقل السورة لمقطع فني جديد لا بد منه أن يتسلسل ويرتبط بالمشهد الأول ، حيث التخصيص هنا للإنسان المكلف الذي أراد الله سبحانه أن يعلمه ويوصل إليه العبرة من خلال المثل الواقعي الملموس في واقع الحياة .
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
بدأ الحديث في هذا المقطع عن الصفات السلبية في طبيعة الإنسان والتي لا يمكن أن يُعدلها ويُحسنها إلا الإيمان والمسارعه في مجاهدة النفس والتخلص من أمراضها واضطراباتها فقال الله سبحانه وتعالى واصفا للإنسان ( إن الإنسان لربه لكنود ) التأكيد على هذه الصفه في الإنسان فالكنود هو حسب قول ابن عاشور في تفسيره (وصف من أمثلة المبالغة من كَند ولغات العرب مختلفة في معناه فهو في لغة مضر وربيعةَ : الكفور بالنعمة ، وبلغة كنانة : البخيل ، وفي لغة كِندة وحضرموت : العاصي . والمعنى : لشديد الكفران للنعم ).
ويقول الإمام الرازي" أن معنى الكنود لا يخرج عن أن يكون كفراً أو فسقاً ، وكيفما كان فلا يمكن حمله على كل الناس ، فلا بد من صرفه إلى كافر معين ، أو إن حملناه على الكل كان المعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقيه من ذلك . "
وجاء معنى كنود في كتاب الأصفهاني " أصلها من كند أي كفور لنعمته كقولهم أرض كنود إذا لم تنبت شيئا "
فبعض الناس يكفر بنعم ربه بعد أن أعطاه الكثير منها ويزيده بعطائه كل يوم، فهذا الإنسان شاهد على نعم ربه عليه فهو المتكفل بالربوبية والإنعام والرزق لكل خلقه، لكن صنف من الناس لا يؤدي حق ربه بشكره على تفضله وإنعامه، بل في كثير من الأحيان يستخدمها في معصيته والنكران عليه والإساءة لخلقه، فهذا الإنسان الذي فُقد من قلبه طعم الشكر لنعم الله، فلا بد أن يكون من صفاته البخل وحب المال الشديد، فوصف الحب هنا بالشده دلاله على مدى تعلق القلب بالنعم والشهوات حتى أشغلته عن نفسه وعن الانتباه لسلوكه إتجاه ربه، فأغفلته عن حقيقة الدنيا التي تسير بخطواتها السريعه فتعدو مسرعه بأوقاتها كما يعدو الراكب أو الغازي ليفوز بهدفه، فحركة هذا الإنسان في سرعتة لم تكن مع الحركة التي أرادها الله ، بل وجهها للركض واللهث وراء شهوات الدنيا والإنشغال بمتاعها الزائل حتى أنسته الهدف من وجوده في هذه الحياة، فباغته الموت في لحظة غفلة سباته مغطى بغبار الغشاوة التي أطلقتها سرعة حركته بالعدو وراء شهوات الدنيا فمنعت عنه التدبر والتفكر والاحتراز وأخذ الحذر من تلك اللحظة المفاجئة التي لا يعلم موعدها إلا الله .
فقول الله سبحانه ( إن الإنسان لربه لكنود* وإنه على ذلك لشهيد* وإنه لحب الخير لشديد )
التأكيد في كل آية على نوازع الإنسان السلبية في الميل للحب الشديد في التعلق بالأمور الدنيوية والتي تؤدي به إلى نسيان ربه وآخرته، ولا يمكن أن يخف ذلك التعلق والحب الشديد إلا من خلال ضوابط الدين والإيمان والتعلق بحب الله ورسوله .

المقطع الثالث :
ثم تأتي نهاية الصورة لتنهي المشهد الأخير منها بالحدث المفاجئ للناس على هذه الأرض وهو يوم البعث، وبعثرت أجساد الناس التي في قبورها .
فيقول الله سبحانه
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
يقول ابن عاشور في معنى { بُعثِر } : معناه قُلب من سفل إلى علوّ ، والمراد به إحياء ما في القبور من الأموات الكاملة الأجساد أو أجزائها .
وجاء في كتاب المفردات للأصفهاني في تعريف لكلمة بعثر " أي قلب ترابها وأثير ما فيها "

وقال الإمام الرازي حول هذه الأية " لما قال { بُعْثِرَ مَا فِى القبور } ولم يقل : بعثر من في القبور؟ ثم إنه لما قال : { ما في القبور } ، فلم قال : { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ } ولم يقل : إن ربها بها يومئذ لخبير؟ الجواب عن السؤال الأول : هو أن ما في الأرض من غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب ، أو يقال : إنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل بعد البعث يصيرون كذلك ، فلا جرم كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء ، والضمير الثاني ضمير العقلاء " .
ويقول ابن عاشور في معنى :
" { حُصِّل } : جُمع وأُحصي . و { ما في الصدور } : هو ما في النفوس من ضمائر وأخلاق ، أي جُمع عَدُّه والحسابُ عليه " .
عرفها الأصفاني في كتاب المفردات " حصُل : التحصيل إخراج اللب من القشور كإخراج الذهب من حجر المعدن فقوله ( حصل ما في الصدور ) أي أظهر ما فيها وجمع كإظهار اللب من القشر وجمعه " .
السرعة في البعثرة للأجساد، ثم سرعه ومباغته في جمع ما في صدور الخلائق من البشر بعد البعث، وما في نفوسهم وصدورهم من نوزاع الخير والشر والتي تبنى عليها تصرفات وسلوكيات جوارح القلب والعقل، فكانت سببا أن أخرجت شخصية الإنسان وطبيعته في التعامل مع الآخرين في حياته الدنيا، وتعامله مع ربه ومدى التزامه بأوامره ونواهيه، فما يضمر الإنسان في نفسه لا يعلمه إلا الله، فالبشر لا يشاهدون إلا ظواهر الأمور من الإنسان أما نوازعه الداخلية فالله هو المطلع عليها، وفي ذلك اليوم يتم إظهار كل إنسان على ما كان عليه من طبيعته في داخل نفسه وحقيقة ما في قلبه وصدره، وبناء على ذلك يكتب للإنسان مصيره عند الله، فالله هو الرب الذي خلقهم وهو الذي يوميتهم ثم يحيهم، وهو الخبير بكل نفس بما كسبت من نوازع الخير والشر، فيعلم من كان من فعله الخير والصلاح وكان مسارعا إليه في الدنيا، وهو يعلم من كان من نفسه الميل للشر والفساد والمسارعة إليه لنشر فساده والانشغال به عن آخرته، فاليوم يوم للجزاء والحساب، والله أمهلهم ولم يغفل عنهم ، فالإنسان الذي أشغل نفسه بالعدو وراء الفوز بالآخرة والنجاة من نارها، فكان يسارع في فعل الخيرات، ويسابق غيره كي يفوز ويفلح عند ربه، فاستغل كل لحظة من عمره ووجوده في الحياة الدنيا، فهو بعلمه بما عند الله قويُ ببصيرته ونور قلبه فزاد الخوف والرجاء في قلبه ومراقبته لنفسه أمام ربه، فعاش متفكرا بحقيقة الحياة وسرعة زوال نعيمها وأن ما عند الله خير وأبقى، كان متوقعا لموته وانتهاء أجله في كل لحظة، عاش مسابقا للزمن ولحظة وجود أنفاسه ساعيا وراء هدفه وهو النجاة من الدنيا والفوز بالآخرة، فكانت حركته لا تكون إلا مع الله، فهو متنقل من زاوية إلى أخرى ليعمر فيها أثرا إيمانيا يتركه لينبت نورا وسعادة للآخرين، أما الآخر فقد اشغل عمره بالعدو وراء الشهوات والتعلق بطول الأمل وبُعد قدوم الموت والساعة، أو لعله نسيها ولم يدع لعقله التفكر والتدبر أو الإيمان حتى بإمكانية وجودها، فعاش في أمن مع نفسه بجوار دنياه وجعل حركته لا تكون إلا بعيدا عما يرضي الله، بل لإرضاء شهواته، فاطمئن قلبه طمأنينة زائفه، فالنعيم من حوله في كل شئ، ولن يزول عنه بهذه السرعه كما ظن في نفسه، ولم يترقب مكر الله ولم يشغل قلبه في لحظة لقائه، فسارع وسابق لأجل أن يجمع ما يقدر من شهوات الدنيا وخيراتها، وأصبح من حرصه وحبه الشديد لا يلقي بالا للحقوق الآخرين من حوله وحق الله فيما اكتسبه، فملئ قلبه بخلا وجشعا وحبا للذات والشهوات، فقيدته تلك النفس بنوازعها عن رؤية الحق والعلم به، وانتشر غبار الجهل من حوله فحرم من نور البصيرة والمراقبة للنفس والحذر من مباغتة الموت، فيوم بعثه ستتكشف له الحقائق وتمسح غشاوة غبار الجهل والشهوات، فيبصر ما أنكره ويجده حقا،عندها لن ينفعه ماله ولا خيره الذي تنعم به وتأمل أن سيكون له حفظا من كل سوء ومكروه فزاد من طول أمله في الدنيا وبعده عند تذكر زوالها في أي لحظة، هذا الإنسان يعتبر في قمة الجهل والظلم لنفسه، فهو من سبب لنفسه الحرمان من النعيم وما أعده الله له لو أحسن في دنياه وأدى حق ربه، ولعله عاش حياته الدنيا مع نعيمه القصير وسريع الزوال في غم وهم ونكد ولم يستطعم حلاوته بسب نسيان ربه، فالآن هو محروم من متعة نعيم الدنيا بتذوقه مع الطاعة، ومحروم من حلاوة النعيم الدائم عند الله .

من أهم الفوائد في هذه السورة لتربية النفس الإنسانية على قوة الإيمان والثبات هو :
- المسارعة والمسابقة لكسب الوقت ( تنظيم الوقت ) .
- الحذر الدائم والترقب للأخطار الخارجية والداخلية .
- الاستعداد بالعلم للقدرة على بذل الطاقة واللحاق بالسبق .
- مراقبة النفس وتعديل سلوكها السلبي .
- عدم الأمن الدائم ونسيان مكر الله .
- التدبر في نعم الله وشكره عليها .
- الهمة العالية وعدم التكاسل والتغافل .
- عدم الركون للدنيا والاعتماد عليها .
- البذل والكرم في العطاء في سبيل الله .
 
عودة
أعلى