تأملات في آيات مختارات(1)

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,318
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
سلسلة أختار فيها آيات من كتاب الله تعالى في مواضيع متفرقة لنقف مع شيئ من معانيها دون الخوض في مسائلها التفصيلية التي يذكرها المفسرون .
كتبتها لما رأيت أكثر مقالات الموقع منصب اهتمامها بما يتعلق بالجوانب العلمية , والتي هي في الأصل , وسيلة لفهم القرآن وطريق إليه , راجياً منكم قبولها بصدر رحب , وبارك الله في جهود الجميع.

اللقاء الأول :تأملات في قول الله تعالى : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاُ وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون "

الإنسان حينما يقدم على أمر يكون حافزه إما :عقله , أو عاطفته ؛ فالعقل والعاطفة يحتاجهما الإنسان دوماً حتى يزن الأمور كثيراً , فلا يصح تقديم العقل على العاطفة مطلقا ً, ولا العاطفة على العقل مطلقاً ولكن يحتاج الإنسان إلى نظر وتروٍٍٍ, حتى يختار , لكن متى ما اتفقت العاطفة مع العقل في اختيار أمر ما فإنه لاشك سيكون عين الصواب , وهذا ما نجده بيناً في هذه الآية .
كيف ذلك : يقرر الله تعالى في الآية أن القتال فرض على المؤمنين مع كراهيتهم له بحسب الطبيعة البشرية , فهو شاق وعظيم ؛ ذلك أن في الجهاد مفارقة الأهل والوطن والتعرض لذهاب النفس وإخراج للمال ؛ لكن هناك وعد من الله تعالى بأن ينقلب المكروه إلى خير حينما قال :" وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" وعسى من الله واجبة أي واقعة حتماً , هكذا قال ابن عباس وغيره من المفسرين , ولا يستثنى على الصحيح من هذا المعنى شيئاً لا آية الإسراء ولا آية التحريم , وإنما أتت "عسى " بهذه الصيغة حتى لا يأمن الإنسان مكر الله , فيبقى دائم التعلق بالله تعالى ولذا فالمجاهد إذا خرج في سبيل الله إما أن يغنم ويظفر بعدوه , وإما أن يقتل ويتخذه الله شهيداً له الحياة الدائمة والتي تمنى أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم أن يقتل , ثم يحيى , ثم يقتل , ثم يحيى , ثم يقتل كما في الحديث الصحيح وهذا الكلام مما يقوي العاطفة ويشحذ الهمة بل يجعل من العقل أن لا يدع الإنسان هذه الفريضة , فهنا تجتمع العاطفة مع العقل في اتخاذ قرار الامتثال لأمر الله في هذه الآية , فيذهب الإنسان قد حمل روحه على كفه يبتغ القتل مظانه , ويتحمل المشاق العظيمة التي لم تأت هذه الآية لتنكر وجودها ولكن لتجعل منها لذة يتعبد الإنسان بها لربه ويهيأ لها النفس فتقبلها راضية محتسبة وفي المقابل هناك من يهمل هذه المعاني التي تجيش العاطفة وبالتالي فإن العقل يقول له : إن الدعة والسلامة لا يعدلها شيء , وهذا في الظاهر لكن في الباطن يكون شراً له فيتقوى عليه العدو فيحل به من الهوان والذلة وتسلط الأعداء , ما هو أشد على النفس من متاعب الجهاد والقتال في سبيل الله ؛ ولذا ختم الله تعالى الاية بقوله " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " أي يعلم مافيه صلاحكم وعزكم وفلاحكم ؛ فخاتمة الآية تترجم عن معناها , فالله حينما كتب عليكم القتال ,وفرضه عليكم رغم مافيه من المشقه الظاهره يعلم عاقبته وثمرته وأنتم لا تعلمون ولم يحدد في الآية ما الذي لا نعلمه ؛ ليعم فلا نعلم متى ولا أين ولا كيف ذلك فحذف المعمول يؤذن بعموم العامل . أسأل الله ان يرزقنا فهم كتابه والعمل بما فيه .
وإلى اللقاء مح حلقة قادمة .
 
بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرتني هذه التأملات بما أورده ابن القيم رحمه الله حول هذه الآية في كتابه الفوائد :

قال : ( فائدة جليلة‏:‏ ‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏‏(‏الآية‏:‏ 216 من سورة البقرة‏.‏‏)‏، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً‏}‏‏(‏الآية‏:‏ 19 من سورة النساء‏.‏‏)‏،
فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية، والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية، فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه، وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده، ويحب الموادعة والمتاركة، وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده، وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها، وله في إمساكها شر كثير لا يعرفه، فالإنسان كما وصفه خالقه‏:‏ ظلوم جهول فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه وميله وحبه، ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه‏.‏

فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه‏.‏ وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له، فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب‏.‏

فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها، فانظر إلى غارس جنة من الجنات، خبير بالفلاحة، غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حتى أثمرت أشجارها فأقبل عليها يفصل أوصالها ويقطع أغصانها؛ لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة، حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك، ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت بل يعطشها وقتاً ويسقيها وقتاً ولا يترك الماء عليها دائماً، وإن كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها، ثم يعمد إلى الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقي عنها كثيراً منها؛ لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد‏.‏ ويلقي عنها كثيراً من زينتها، وذلك عين مصلحتها، فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهمت أن ذلك إفساد لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها‏.‏

وكذلك الأب الشفيق على ولده بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده‏(2)‏ وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد‏.‏ وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه، كل ذلك رحمة به وشفقة عليه، وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته حماية له ومصلحة لا بخلاً عليه، فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيراً لهم من ألا ينزله بهم، نظراً منه لهم وإحساناً إليهم ولطفاً بهم‏.‏ ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علماً وإرادة وعملاً، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته، فلم يتهموه في شيء من أحكامه وخفي ذلك على الجهال به، وبأسمائه وصفاته، فتنازعوا تدبيره وقدحوا في حكمته ولم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حصلوا، والله الموفق‏.‏

ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه نعيمها إلا نعيم جنة الآخرة، فإنه لا يزال راضياً عن ربه والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين، فإنه طيب النفس بما يجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرضا بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً‏.‏

وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك، وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره‏.‏ فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى، فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك ألبتة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور‏:‏ ‏"‏اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك‏.‏ أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي‏.‏ ما قالها أحد قط إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً قالوا‏:‏ أفلا نتعلمهن يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ بلى ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن‏"‏‏.‏

والمقصود‏:‏ قوله ‏"‏عدل في قضاؤك‏"‏ وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم‏.‏ وسبب ذلك فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب، وهو عدل في هذا القضاء، وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن‏"‏‏.‏

قال العلامة ابن القيم‏:‏ فسألت شيخنا‏:‏ هل يدخل في ذلك قضاء الذنب‏؟‏ فقال‏:‏ نعم؛ بشرطه، فأجمل في لفظه ‏"‏بشرطه‏"‏ ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله من التوبة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذلك‏.‏)


وأخيراً أرجو من الشيخ أحمد أن يواصل تأملاته القيمة فكم نحن بحاجة إليها .
 
اللهم ارزقنا فهم كتابك
وجميل خطابك
وحلاوة كلامك
جزاكم الله خيرا على هذه الفوائد
 
عودة
أعلى