تأملات خاصة في شوارد الأبيات

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,318
مستوى التفاعل
127
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
01.png


هذه تأملات خاصة كنت كتبتها قديماً في موقع آخر ، ثم أشار علي أحد الأصدقاء الأعزاء بأن أنقلها هنا طمعاً في إحياء هذه التأملات وإتمامها إن لقيت قبولاً من القراء .
مر علي زمن اشتغلت فيه بالأدب والشعر ، وحرصت على جمع دواوينه مهما كلفني ذلك من المشقة والمال ، حتى تحصل عندي بفضل الله عدد كبير من دواوين الشعراء في طبعاتها الأصلية الرائقة ، وكنت أقضي ليالي طوالاً أقرأ في هذه الدواوين لا أملُّ ولا أكلُّ ولا سيما دواوين الشعر الجاهلي إذ فيها شواهد اللغة والنحو ، ومنها يتعرف على أساليب العرب ، وكلما مر يوم زادت قناعتي بتفوق شعر الجاهلية على غيره ، وصدق رأي أبي عمرو بن العلاء وابن الأعرابي وغيرهم في تقديم شعر المتقدمين على غيره ، لجزالته وأصالته.
وبالأمس كنت أقرأ في هدأة الليل بعد أن أخذ الكرى بمعاقد أجفان أهل الدار ، في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة ، في طبعته الأولى التي طبعتها دار الكتب المصرية وقام عليها الأديب المحقق أحمد زكي العدوي . فكنت أهتز من بديع ما أقرأ وجماله ، وأعجب كيف اهتدى هذا الشاعر إلى ذاك المعنى الشارد ، وأقول في نفسي : ما ذكر الناس هذا الشاعر إلا لمعرفتهم ببعد غوره في أمثال هذه المعاني التي يقتنصها كما يقتنص الصياد الماهر الصيد النافر. وقلت في نفسي لماذا لا أجعل لي زاوية أكتب فيها بحسب تيسير الله ما يعن من مثل هذه الأبيات ، مع التعليق عليها بما يفتح الله ، ولعلي لا أعدم أخاً أديباً أوأختاً أديبة تستحسن ما استحسنت أو تعارضه فنستفيد جميعاً. وهذا أول الأبيات :

البيت الأول :
يقول الشاعر يصف أخاً له :
[poem=]إذا كان إخوان الرجال حرارةً = فأنت الحلال الحلو ، والبارد العذبُ
لنا جانب منه دميث وجانب=إذا رامه الأعداء مركبه صعبُ
وتأخذُه عندَ المَكارمِ هِزَّةٌ=كما اهتزَّ تحت البَارحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ[/poem]
والأبيات في عيون الأخبار لابن قتيبة رحمه الله 3/5 كتاب الإخوان
والشاهد عندي البيت الثالث ، والأبيات غير منسوبة لشاعر . وأعجبني تصويره لما يعتري أخاه عند المكارم والبذل والندى من الهِزَّة والأريحية للبذل ، ثم أعجبني جداً تشبيهه لهذه الهزة باهتزاز الغصن الرطب عندما يهزه البارح من الهواء. فتخيلت ذلك الغصن الرطب في تلك الشجرة المورقة الخضراء من الهواء العليل ، ثم تخيلت أخاه الكريم الذي يشبه هذا الغصن في أريحيته وهو معنى دقيق لذيذ ذهب بي الفكر عند قراءة البيت كل مذهب ، وأغلقت الكتاب وأخذت أعجب من هذا المعنى الشارد كيف حالف هذا الشاعر المبدع ، وعجبت أكثر من ذلك الأخ الكريم النبيل الجواد الذي استحق أن يقال فيه هذا البيت الرائق وأخذت أكرر الأبيات حتى حفظتها .
وأقول أخيراً : ربما لا يستحسن غيري ما استحسنت ، وربما كنت في حالة شعورية جعلتني أستحسن هذا البيت ، ولو قرأتها في غير هذا الوقت لما كان له ذلك الأثر . أقول : ربما .
ولكن أختم برجاء ممن يقرأ هذا من أحبتي الشعراء أن يتأملوا معاني المتقدمين وعمقها ، ويحاولوا المحاكاة فإن هذا باب شريف من الأدب واللغة ينفع الله به من يسلكه في عقله ولغته وأدبه .
اللهم وفق الجميع لما تحب وترضى ، وارحم ابن قتيبة وجميع علمائنا الأجلاء .
 
البيت الثاني :
قال المهذب بن الزبير :
[poem=]يا ربعُ أين ترى الأحبة يَمَّمُوا = هل أنجدوا من بعدنا أم أتهموا ؟
نزلوا من العينِ السوادَ وإنْ نأوا = ومن الفؤاد مكانَ ما أنا أكتمُ
رحلوا وفي القلبِ المُعنَّى بعدهم=وجدٌ على مَرِّ الزمان مخيمُ
وسروا وقد كتموا المسيرَ وإنما = تسري إذا جنَّ الظلامُ الأنجمُ
وتعوضت بالإنس روحي وحشةً=لا أوحش الله المنازل منهمُ
لولاهم ما قمت بين ديارهم=حيران أستاف الديار وألثمُ
لا تبعثوا لي في النسيم تحيةً = إني أغار من النسيم عليكم
إني امرؤ قد بعت حظي راضياً=من هذه الدنيا بحظي منكم
فسلوت إلا عنكم ، وقنعت = إلا منكم ، وزهدت إلا فيكمُ
ما كان بعد أخي الذي فارقته = ليبوح إلا بالشكاية لي فمُ[/poem]
وهي قصيدة بديعة صادقة ، وخير الشعر أصدقه لا أكذبه. والمهذب شاعر مطبوع ، وأعجب من عدم شهرته بين أهل الأدب في زماننا ، وقد رويت له يوماً بعض قصائده في مجلس من مجالس الأدب ، فلم أجد أحداً يعرفه أو سمع به ، وجلهم من الأدباء والمتأدبين . وسارع بعضهم بعد ذلك إلى ديوانه فابتاعه ، وأخبرني أنه شاعر مغمور على جزالة شعره وقلته . وما اشتهر بعض الشعراء في زماننا وقبل زماننا إلا لكثرة شعرهم ، وإن خف وزنه عند أهل النقد ، وصيارفة الشعر.
وقديماً قال أبو العتاهية - وهو من المكثرين من الشعر - لمسلم بن الوليد صريع الغواني ، قال له يوماً : لو شئت أن أجعل كلامي كله شعراً لفعلت !
فقال له مسلم بن الوليد وهو من الشعراء المتقدمين : والله لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك :
الحمد والنعمة لك * والملك لا شريك لك
لبيك إن الملك لك​
لقلت في اليوم عشرة ألاف بيت ، ولكني أقول :
[poem=]موفٍ على مُهَجٍ في يوم ذي رَهجٍ= كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ
ينالُ بالرفق ما يعيا الرجالُ به=كالموت مستعجلاً يأتي على مَهَلِ
يكسو السيوفَ نفوسَ الناكثينَ به = ويجعلُ الهامَ تيجانَ القنَا الذُبُلِ
لله من هاشمٍ في أرضهِ جبلٌ=وأنت وابنكَ ركنا ذلك الجبلِ[/poem]
قلت : صدق مسلم في قوله ، فإن قوله هذا يرجح بكثير من قصائد أبي العتاهية رحمهما الله وغفر لهما.ومن أراد تنقيح شعره ، والنظر في مبانيه ومعانيه وقوافيه لزمه لذلك وقت طويل ، وقديماً سمي بعض الشعراء بعبيد الشعر لكثرة تنقيحهم للشعر ، كزهير وأضرابه من الفحول الكبار . وقد تكلم العلماء في هذا وأكثروا.
قلت : الشاهد عندي من أبيات المهذب بن الزبير هو البيت الثاني ، حيث أعجبني في بيته ثلاثة معاني :
أولها : قوله نزلوا من العين السواد ، وسواد العين أغلى ما فيها ، فأحلهم فيه .
الثاني : استدراكه على قوله هذا بقوله : وإن نأوا . فقد جاء هذا الاستدراك في غاية المودة والصدق والوفاء ، فحتى وإن ذهبوا فمحلهم سواد العين . ولله ذلك الحب الصاق ، وهو يعني أخاه الوزير فيما يقولون ولعلكم ترجعون إلى قصته وترجمته في مظانها وسأخبركم بها.
الثالث : قوله : ومن الفؤاد مكان ما أنا أكتم .
أي أنه أنزل أحبابه في المكان الذي يستودع فيه أسراره ويكتمها . فهل تعلمون أين هو هذا المكان ؟ وهل يعلم أحدكم مكاناً أخفى من هذا المكان تكون فيه المحبة ؟ أما أنا فلا أعلم أحصن ولا أدق من هذا الموضع ، وقد استحسنت هذا المعنى للمهذب وقادني هذا البيت إلى البحث عن شعره وتتبعه ، ورب بيت قاد إلى ديوان. ورب قصيدة زهدتك في مكان أو زمان أو إنسان !
تجدون ترجمة وافية للمهذب بن الزبير واسمه الحسن بن علي بن الزبير ، توفي سنة 561هـ وقد جمع شعره وحققه الدكتور محمد عبدالحميد سالم وطبعته دار هجر بالقاهرة عام 1409هـ
كما تجدون ترجمة له في معجم الأدباء 9 /47 من طبعة أحمد فريد رفاعي رحمه الله وهي طبعة بديعة مبنية على طبعة مرجليوث ، وهي مشكولة جدير بكل أديب أن تكون في خزانته. وهي عندي خير طبعات معجم الأدباء ولا استثني طبعة إحسان عباس في دار الغرب .


وفق الله الجميع لكل خير . وإلى لقاء مع البيت الثالث هو على طرف الثمام !
 
البيت الثالث :
[poem=]هي رَامةٌ فخُذوا يَمينَ الوادي = وذَروا السيوفَ تَقَرُّ في الأَغمادِ
وحذارِ مِنْ لَحَظاتِ أَعْيُنِ عِيْنِها = فَلَكَمْ صَرَعْنَ بِها مِنْ الآسادِ
مَنْ كان مِنكم واثقاً بِفُؤادهِ = فهناكَ ما أَنا واثقٌ بِفُؤادي ![/poem]
قلتُ : وهنا ما أنا واثق بفؤادي !
هذه الأبيات الثلاثة التي تقدمت للشاعر المطبوع ، جمال الدين بن يحيى بن مطروح (592-649هـ ) ، وهو شاعر رقيق العبارة ، صادق الشعر ، غالب قصائده عيون ، لولا إغراقه في المديح ، ولكن مَنْ يسلمُ من الشعراء من ذلك رَحِمهم الله. وقد اشتهر بأبياته المرقصة التي يحفظها الناس حتى أنا ، وهي قوله في قصة مشهورة عندكم :
[poem=]قُلْ للفرنسيس إذا جئتَهُ = مقالَ صدقٍ من قؤولٍ فصيحْ
آجركَ الله على ما مضى = من قتل عُباد يسوعَ المسيحْ
قد جئتَ مصراً تبتغي أخذها = تحسب أن الزمر يا طبلُ ريحْ
فساقك الحَينْ إلى أدهمٍ = ضاق به عن ناظريك الفسيحْ
وكلُّ أصحابكَ أودعتَهم=بقبح أفعالك بطنَ الضريحْ
خَمسون ألفاً لا يُرى منهم = إلا قتيلٌ أو أسير جريحْ
فردَّكَ اللهُ إلى مثلها = لعلَّ عيسى منكمُ يستريحْ
إِنْ كان باباكم بذا راضياً=فرُبَّ غشٍّ قد أتى من نصيحْ
أوصيكمُ خيراً به إنه = لطفٌ من الله إليكم أُتيحْ
وقل لهم إن اضمروا عودةً = لأخذ ثأرٍ أو لقصدٍ صحيحْ
دارُ ابنِ لُقمانَ على حالِها=والقَيدُ باقٍ والطواشي صَبيحْ ![/poem]
وأشهرها البيت الأخير ، والقصة لا تخفى على أمثالكم .
نعود لأبياته الثلاثة المختارة في أعلى الكلام ، والشاهد عندي منها هو البيت الثالث ، ولي معه الوقفات الآتية:
أولاً : إن العاشقَ الصادقَ ، والمُحبَّ الوامقَ ، لا يُكابرُ في فعلِ الحُبِّ بهِ ، وبقلبهِ ، ففؤادهُ ضعيفٌ لا يقوى على الصبر ، وهو لا يثق بقلبهِ إذا مَر بِـ(المَجالِ المغناطيسي) للمحبوب ، فهو يَخشى لذعةَ الوجدِ ، وصَدمة الغَرامِ ، على حَدِّ قول الشاعر المبدع الآخر صُرَّ دُرٍّ وهو يتحدث عن نَجدٍ ، وعن انتشارِ أمراض الغرام في أجوائها ، واختلاطه بترابِها ، حتى لا يَنْزلها أحدٌ ، ويُمسي إلا وهو مصابٌ بهذا الداء العضال :
[poem=]النَّجاءَ النَّجاءَ مِنْ أرضِ نَجدِ = قبلَ أنْ يعلقَ الفؤادُ بوَجْدِ
إِنَّ هذا الثَّرى لَيُنبتُ وجداً = في حَشا مَيّتِ اللُّباناتِ صَلْدِ
كمْ خَليٍّ أتى إليها وأَمسى = وهو يهذي بِعَلوةٍ أَو بِهِنْدِ ![/poem]
وهذه أبيات جَميلةٌ ، ولكن لا نقطعُ الحديثَ بذكرها هنا.
وكثير من الشعراء يكابر في صنع الحب به وبقلبه ، وهذا إن وجد فهو من باب قول أبي ذؤيب الهذلي :( وتجلدي للشامتين ...) لا من الصدق في الحب. وقد كان الشاب الظريف محقاً ، حينما صاح في العاشقين رحمة بهم ، من الصراع النفسي فقال:
[poem=]لا تُخْفِ ما صنعتْ بكَ الأشواقُ = واشرحْ هَواكَ فكلُّنا عُشَّاقُ
فلقدْ يُعينكَ مَنْ شكوتَ له الهوى = في حَمْلِهِ ، فالعاشقونَ رفاقُ[/poem]

ثانياً : أن الصادقين يتشابهون في مواردهم وتعبيراتهم ومشاعرهم ، فهنا قد وجدت هذه المعاني في شعر الشعراء كثيراً ، وإذا فتشت في شعرهم وجدت لها أخوات من الصور والتعابير ، فتقول : سبحان الله ! تجد تشابهاً في الأفكار بين المبدعين من الشعراء ، الصادقين في نقل مشاعرهم ، ومشاعر الآخرين ، والأديب والشاعر عندما يكتب ويصور عواطفه ومشاعره ، فإنه يصور مشاعر الآخرين وعواطفهم أيضاً ، ولذلك نحب قراءة ما يكتبه الأدباء في أشعارهم وآثارهم لأننا نجد فيها شيئاً منا ، ولولا بطئي في الطباعة ، وضيق الوقت ، لأتيت لكم بأمثلة من شعر الشعراء الذين ذكروا ما ذكره ابن مطروح قبله وبعده ، في عبارات لا تقل جمالاً وإن كانت عبارة ابن مطروح وبحره وقافيته جعلت المعنى يأخذ بُعْداً رائعاً في نفوس الأدباء المتذوقين ممن يملكون أجهزة خاصةً للكشف عن المشاعر والعواطف بين الأبيات والكلمات ، فيرون ما لا أراه وأمثالي مِن الصور والمعاني والله المعطي سبحانه.

ثالثاً : ما رأيكم بقول ابن مطروح : فهناك ما أنا واثق بفؤادي ! يخيل إليَّ أنه مع رفقته التي تنوي السفر ، والمرور على ديار المحبوبة ، وهم يجادلونه في مرافقتهم ، وهو يتأبى عليهم ، تعال ! تعال ! وهو يتمنع ، ولا يجيب ! وهو يقول لهم وهم يسحبونه سحباً للركوب :
[poem=]من كان منكم واثقاً بفؤاده = فهناك ما أنا واثق بفؤادي ![/poem]
ربما أنتم تصبرون ، وأفئدتكم قوية ، أما أنا فلا أثق بفؤادي وقد جربته! اتركوني ، فيذهبون ويتركونه يبكي على شجونه .
وإلى اللقاء مع البيت الرابع .
 
البيت الرابع :
قال العلاء بن حذيفة الغنوي :
[poem=]يقولونَ : مَنْ هذا الغَريبُ بأَرْضِنا ؟=أَما والهَدايا إِنَّنِى لَغَريبُ
غَريبٌ دعاهُ الشَّوقُ ، واقتادَهُ الهَوَى=كما قِيْدَ عَودٌ بالزمامِ أَديبُ
وماذا عليكمْ إِنْ أَطافَ بِأَرْضِكُمْ = مُطالِبُ دَيْنٍ أَو نَفَتْهُ حُروبُ
أُمَشِّي بأَعْطانِ المِياهِ وأَبْتَغي = قلائصَ منها صَعْبَةٌ ورَكُوبُ[/poem]
لله در الشعر الرقيق العذب ، من الشاعر المطبوع الموهوب ، كيف يضع يدَ الذَّوقِ على موضعِ الإبداع بأيسر طريق ، فلا يزال بالذوق حتى يهذبه أحسن تهذيب ، ويصقله أحسن صقل. وفي الحق إِنَّكَ لا تكادُ تجدُ أبرعَ من شعراء الجاهلية في هذا الأمر ، مع إجلالي لمن بعدهم. والعلاء بن حذيفة الغنوي شاعر جاهلي مقل لم يحفظ لها إلا مقطعات كهذه المقطوعة. وكم في مقطعات شعراء الأعراب وشواعرها من الجمال الثمين، والدر النفيس. وقد صرفت المتذوقين شهرةُ عدد قليل من الشعراء في القديم والحديث ، وأذهلتهم عن التأمل في مقطعات الشعر التي رويت عن أئمة الرواية في كتب الأدب الكبار كالكامل ، والأغاني ، والعقد الفريد ، والأمالي وغيرها ، والتي قالها أولئك الشعراء لوجه الشعر والصدق ، لا يريدون بها مديحاً لأمير ، أو هجاءً لخصيم. وإنما هي سوانح التأمل والشاعرية إذا هبت على خيام الأحباب ، فحركت كامن المشاعر في تلك النفوس الصادقة.
قلت : والشاهد عندي من أبياته البيت الثاني :
[poem=]غَريبٌ دعاهُ الشَّوقُ ، واقتادَهُ الهَوَى=كما قِيْدَ عَودٌ بالزمامِ أَديبُ[/poem]
كيف استطاع في بيت واحد ، أن يذكر صفته وسبب خروجه من بلده ، وقدومه لهذا المكان دون غيره ، ثم تشبيهه لنفسه بالعَوْدِ المؤدب ، ولكلٍّ منها وقفة تأمل:
1- في قوله «غريبٌ» استدعاء لكل ما تدل عليه هذه الكلمة من البعد عن الأهل والوطن ، وما تستدعيه من الشفقة والترفق بالغريب ، فهو لا ينكر غربته ، وإنما يؤكدها طلباً لما يحتاجه الغريب ، بل ويقسم في البيت السابق إنه كذلك (أما والهدايا إِنَّنِي لَغَريبُ».
2- وفي قوله :«دَعاه الشوقُ». إشارة منه إلى أنه قد جاء تلبية لدعوة ملحة لم يستطع مقاومتها ، فكأنه معها كحال الصارخ مع الصريخ لا يملك إلا تلبيته ، والخفوف لإجابة دعوته.
3- وفي قوله :«واقتاده الهوى». إمعان في الإشارة إلى أنه مغلوب على أمره ، فليس مدعواً فحسب بدعوةٍ خَفَّ لتلبيتها ، وإنما قيَّدهُ الهوى الصادقُ المُبَرِّحُ بسلاسلهِ ، فلم يزل يرسف في تلك القيود حتى أحله هذا الموطن. فهو في أول أمره خف تلبية للدعوة ، ولكن داعي الشوق لم يقنعه ذلك حتى أغرى به الهوى فقيده بقيده ، فهل رأيتم كحال هذا الأسير يا سادة !
4- وفي قوله : كما قِيْدَ عَودٌ بالزمامِ أَديبُ .
هل تعلمون ما هو العَوْدُ ، إنه الجَمَلُ المُسِنُّ الذي لا تزال فيه بقيةٌ من نشاط ، وقد صوَّره هنا بأنه قد قِيْدَ بالزمامِ فانقاد لأَدبهِ وطاعتهِ لصاحبه الذي يقوده ، وهو هنا الهوى الذي قاده. وكأَنِّي به وقد شبَّه نفسَه بذلك الجَمَلِ الوقورِ المُسِنِّ المطيعِ ، يرمي إلى أَنَّهُ صادقُ الحُبِّ ، وقورُ الوُدِّ ، لم تأتِ بهِ نَزغةُ حبٍّ كاذبةٍ كما يصنعُ قليلو الحياءِ ، وعديمو الضمير من هتكة أعراض العفائف ، ولصوص الأعراضِ ، وإِنَّما هو ذلك الحبُّ الصادقُ الذي يقتادُ مِثلَهُ في حلمهِ وأناته ، ويمنعه عفافه وحياؤه أن يبين عن حاجته ، أو يصرح بطلبته.
وحسبي هذا من هذه الأبيات الأربعة البديعة ، وتأملها يذهب بك بعيداً إلى تلك الأجواء البدوية التي قيلت فيها ، بعيداً عن جفاف الانترنت وأكوادها ، حيث لا تعرف المشاعرُ إلا الصدق ، وإن حاولت الكذب لم تهتد إليه. ورحم الله ابن النحاس عندما تكلم عن إلحاحِ الشوقِ على المشتاق ، وكيف يصنع الشوق الملح بصاحبه ، حتى يجعله عرضة لألسنة العذال ، وأدعكم في رعاية الله مع أبياته التي تشعر فيها بلفح الشوق ، وسعير الفراق :
[poem=]باتَ ساجي الطرفِ والشوقُ يُلِحُّ = والدُّجى إِنْ يَمْضِ جُنْحٌ يأتِ جُنْحُ
وكأَنَّ الشرقَ بابٌ للدُّجى= مالَهُ خوفَ هُجومِ الصُّبحِ فَتْحُ
لا تَسلْ عَنْ حالِ أَربابِ الهوى = يا ابنَ وُدِّي ، ما لذاكَ الحَالِ شَرْحُ
يوم مِنَّا الرَّكْبُ بالرَّكْبِ التَقَى= وقَضى حاجَتَهُ الشَّوقُ المُلِحُّ ![/poem]
لاحظ قوله:«الشوق الملحُّ». وهو الشوق الذي دعا العلاء بن حذيفة الغنويُّ في الأبيات السابقة إلى زيارة أحبابه ، واسمع إليه وهو يطلب منهم السماح له بالنظر من بعيد ، وتركه وشأنه وهو أدرى بحاجته :
[poem=]وماذا عليكمْ إِنْ أَطافَ بِأَرْضِكُمْ = مُطالِبُ دَيْنٍ ، أَو نَفَتْهُ حُروبُ
أُمَشِّي بأَعْطانِ المِياهِ وأَبْتَغي = قلائصَ منها صَعْبَةٌ ورَكُوبُ[/poem]
خطير !
 
البيت الخامس :
[poem=]تَخيّرتُ مِن نَعمانَ عُودَ أَراكةٍ = لِهِنْدٍ ، فَمَنْ هذا يُبلِّغُهُ هِندا ؟!
خليليَّ عُوجا بارك الله فيكما= وإن لم تَكُنْ هِندٌ لأَرضِكما قَصدا
وقولا لَها : ليسَ الضلالُ أَجارَنا = ولكنَّنا جُرْنَا لِنَلقَاكُمُ عَمْدا[/poem]

هذه الأبيات الثلاثة للشاعر الجاهلي عوف - وقيل عمرو- بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس من بني بكر بن وائل ولقبه الذي اشتهر به المرقش الأكبر ، عشق ابنةَ عَمِّهِ أَسْماءَ ، وقال فيها شِعْراً كثيراً منهُ هذه الأبيات ، وشعره من الطبقة الأولى، ضاع أكثره، ولد باليمن ونشأ بالعراق واتصل مدة بالحارث بن أبي شَمِر الغساني واتخذه الحارث كاتباً له.

والشاهد عندي من هذه الأبيات هو البيت الثالث. وقبل أن أتوقف عنده أشير إلى أن نعمان الذي قصده الشاعر ، هو ما يسمى اليوم بعرفات ، ويسمى نعمان الأراك ، وذلك لكثرة شجر الأراك فيه ، ويؤكد هذا قوله (تَخيرتُ مِنْ نعمانَ عُودَ أَراكةٍ)، وقد يستغربُ مستغربٌ ، كيف تقول في ترجمته أنه كان عاشقاً لابنة عمِّه أسماءَ ، وهو يقول في الأبيات (تَخيّرتُ ... لِهندٍ) ( ومَن هذا يُبلِّغهُ هِندا) ؟ والجواب على ذلك قد صاغه أبو العلاء المعري في رسالته البديعة (رسالة الغفران ص 348 – ط.بنت الشاطي رحمها الله ، وهي أجود الطبعات) فقال : (وبعض النّاس يروي هذا الشّعر لك:
تخيّرت من نعمان عود أراكةٍ... ولم أجدها في ديوانك ، فهل ما حُكي صحيحٌ عنك ؟)
فيجيبه المرقش : لقد قلتُ أشياء كثيرةً ، منها ما نُقل إليكم ومنها ما لم يُنقل، وقد يجوز أن أكون قلتُ هذه الأبياتَ ولكني سَرِفْتُها - أي نسيتها - لِطولِ الأَبد ، ولعلَّك تنكرُ أنّها في هندٍ ، وأنَّ صاحبتي أسماء ، فلا تنفر من ذلك ، فقد ينتقل المُشبِّب من الاسم إلى الاسم، ويكون في بعض عُمره مُستهتراً بشخصٍ من النّاس، ثمّ ينصرف إلى شخصٍ آخر، ألا تسمع إلى قولي:
[poem=]سفهٌ تذكُّره خويلة بعدما = حالت ذُرا نجران دون لقائها)[/poem]
فقد أحسن المعري الاعتذار للمرقش في مخاطبته هند ، وهو يعني أَسْماءَ . وقد ألمح إلى ذلك شاعرٌ مُبدعٌ من شعراء العباسيين في أبيات مختارةٍ لعلنا نأتي عليها يوماً في إحدى هذه التأملات إن شاء الله ، فلا أتعجل بذكرها إذاً ، وإن كانت المناسبة تقتضيها ، ولكن لا بأس من التشويق ، بذكر البيت وهو قوله:
[poem=]نسائلُ عن ثُمامات بُحزَوى = وبانُ الرمل يعلم مَن عَنَينا
ولو أنى أنادي يا سُليَمى = لقالوا ما أردتَ سوى لبُيَنَى[/poem]

فهو ينادي : يا سُليمى ! ، وهو إنما يقصد لبينى .
وأما قوله :
[poem=]وقولا لَها : ليسَ الضلالُ أَجارَنا = ولكنَّنا جُرْنَا لِنَلقَاكُمُ عَمْدا[/poem]
ففيه لطائف منها :
1- كأنه في قوله هذا لصاحبيه يلقنهم الجواب لسؤال يتوقعه منها وهو : ما الذي جار بكما عن الطريق إلى أرضكما ؟ فيكون الجوابُ أَنَّهما لم يضلا ولم يجورا عن الطريق خطأً منهما ، وقِلةَ بَصَرٍ بالطريق إلى أرضهم ، ولكنهما قصدا قصداً إلى هند ليبلغاها هذا (المسواك) من حبيبها عوف .

2- أَنَّ العِبْرةَ في الهديَّةِ هي القيمةُ المعنويةُ لها ، وإلا فعودُ أراكةٍ لا يَعني من حيث القيمةُ الماديةُ شيئاً يُذكر ، ولكنَّ له من المعاني في النفس أَبعادٌ وأبعاد ، ولا سيما حين يكون المُهدي حبيباً إلى القلب. وإنْ كان المرقشُ لم يأخذ أولَ عُودٍ وَجَدَهُ ، ولكنَّهُ تَخَيَّرَهُ واصطفاه ، مِمَّا يوحي بِتَعبهِ في ذلكَ ، وأَنَّهُ بَلَغَ غايةَ جهده في ذلك.

3- أن هذه الهدية من المرقش توحي بتلك الطبيعة الصافية الصادقة في نفوس القدماء ، وفي حبهم وهداياهم ، فالتكلف مفقود في الحياة العربية في الجاهلية ، وكل الصور مأخوذةٌ من البيئةِ ، والهَديَّةُ من عود الأراك ، ولكن الحب صادق ، والمُهدِي وامق ، ولو تأملت حالَ المُحبين في زماننا لهالك ما تراه من التكلف ، والتصنع ، والمبالغة في الهدايا مع ضيق ذات اليد في الغالب ، ولا أعمم هذا ، ولكن الثقافة السائدة هي هذه ، لِمَا جَرَّتهُ وسائلُ الإعلام على الناس من البلاء في هذا الباب ، وتصويرها حال العُشَّاقِ بهذا المنظر الرخيص ، الذي يجري وراء الحرام من اللقاء والكلام وغير ذلك. وأمر الحب الصادق ، والشوق السامي فوق ذلك كله ، ولا تستقر حياة الناس إلا بذلك الحب المتبادل بين المُحبين ، وأنا عندما أقول العشاق والمُحبين ، فإنما أعني الأزواج ومن انعقدت بينهم أسباب الحلال ، وأما غيرها فلا يخطر لي على بال ، وإن ذهب بعض الناس بكلامي هذا المذهب فمعذرة ، وحسبنا الله على من شوه هذه العاطفة الصافية ، وكدرها بأغانيه الساقطة ، ومشاهده الفاضحة ، ونسأل الله لنا ولكم الستر والعفو في الدارين.

وللبيت الأول من هذه الأبيات قصة طريفة ، فقد سمعه الخليفة المأمون ، فقال : اطلبوا لهذا البيت ثانياً فلم يعرف، وسألَ كُلَّ مَن بِحضرته من أهل الأدب والرواة والجلساء عن قائل هذا الشعر فلم يعرفه أحد.
فقال إسحاق بن حميد: لما رأيت ذلك عُنِيتُ بِهذا الشعر، وجهدت في المسألة ، وطلبته ببغداد عند كلِّ مُتأدبٍ ، وذي معرفةٍ فلم يعرفه. وقَلَّدَ المأمونُ أَبا الرازي كُورَ دِجلةَ وأَنا أكتب له ، ثُمَّ نقله إلى اليمامة والبحرين.
قال إسحاق ابن حميد : فلما خرجنا ركبت مع أبي الرازي في بعض الليالي على حِمارةٍ، فابتدأ الحادي يحدو بقصيدةٍ طويلةٍ، وإذا البيت الذي كنت أطلبه ، فسألته عنها فذكر أنها للمرقش الأكبر ... قال: فكتبَ بِها إلى المأمون فاستُحسِنَت ورويت.(انظر : الأغاني للأصفهاني 11/350 ط. دار الكتب المصرية)
وهذه الأبيات الثلاثة الأخيرة للمرقش ، بصوت الأستاذ الجليل أبي فهر محمود محمد شاكر ، اقتطعتها من أحد دروسه التي ألقاها في الرياض عام 1396هـ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. وكانت تلك الدروس عن الشعر الجاهلي. أحببت إضافتها زيادة في إمتاعكم ، وربما لم يسمع أحدكم من قبل صوت محمود شاكر وهو يلقي الشعر ، ولا سيما القديم منه. وهي في أول هذه المحاضرة له .
[align=center][rams]http://www.tafsir.net/audio/sound/Shaker.rm[/rams][/align]
 
ماأروع هذه التأملات الراقية وما أعذبها!!
ولقد أتيتُ اليوم على ثلاثة أبيات منها ثم توقفتُ مرغمة؛ لا لانشغال أخذني عنها؛ ولا لقلة اهتمام بها؛ وإنما بسب حالة من الاكتفاء والارتواء التي دفعتني لأوقف رحلتي؛ وعلى ربوة بين الثالث والرابع نصبتُ هناك خيمتي, ثم جعلتُ السهل البديع الذي قطعته للتو قبلتي, ورحتُ أطيل النظر في ظاهر محاسنه وما خفي منها في بواطنه. وأظن أن الذي حدا بي لفعل فعلتي هذه هو ذاته الذي حدا بكم ـ في البيت الأول ـ لطي الكتاب دون إتمام قراءته.
البيت الأول:
وتأخـذُه عنـدَ المَكـارمِ هِــزَّةٌ .... كما اهتزَّ تحت البَارحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ
أوافقك الرأي فالمعنى حقا رائع بديع, غير أنني أرى أن العبارات قد قصرت عن إيصال روعته, وحقُّه أن يُصاغ له عبارات أكثر جزالة وروعة, ومن وجهة نظري أنه كمثل عروس رائعة الجمال لكنها أُلبست ثوبا عاديا... قد يكون جميلا لكنه غير ملفتٍ للأنظار.
البيت الثاني:
ياربع أين ترى الأحبة يممـوا ... هل أنجدوا من بعدنا أم أتهموا
نزلوا من العين السواد وإن نأوا ... ومن الفؤاد مكان ما أكتـم
رحلوا وفي القلب المعنّى بعدهم ... وجد على مر الزمان مخيـم
لا تبعثوا لي في النسيم تحيــة ... إني أغار من النسيم عليكـم
إني امرؤ قد بعت حظي راضيا ... من هذه الدنيا بحظي منكم
أبيات صادقة وغاية في الروعة والرقة!
ولا عجب أن يدفعك البيتَ الرائع الذي أشدتَ به إلى التنقيب عن شعر قائله, وحقا:
رب بيت قاد إلى ديوان. ورب قصيدة زهدتك في مكان أو زمان أو إنسان !
أما الأبيات الثالثة فهي القاضية, وأظنها هي الأروع بين الثلاث شواهد:
هي رامة فخذوا يمين الوادي ... وذروا السيوف تقر في الأغماد
وحذار من لحظات أعين عينها ... فلكم صرعن بها من الآسـاد
من كان منكم واثقا بفؤاده ... فهناك ما أنا واثـق بفؤادي!!
وياليتك يا دكتور إذ نشرتَ أولى مشاركاتك في هذا الموضوع الرائع أمسكتَ بالأخريات فحبستَهنَّ عنا؛ حتى نطرب بأبياتك المختارة بيتا بيتا على مهل, فلا يتداخل نغم على نغم؛ فتُنْسِي روعة إيقاع آخره روعة إيقاع أوله. ولا يتداخل لون على لون؛ فتَبْهتُ ألوان اللوحة الإبداعية الأولى بجمال ألوان اللوحة الأخيرة. ولو أنك أتحفتنا بمشاركة من هذه المشاركات العذبة المنمقة في أول الأسبوع لبقيتْ حلاوتها تُسكر مسامعنا حتى آخره. فاحبس ما استطعتَ عنّا حتى نفرغ من هضم أطايب المائدة الشهية التي مددتها بين أيدينا اليوم, لكن نرجو ونلحّ في الطلب أن تظلَّ تتعاهدنا بموائد أدبية ـ مثلها ـ من وقت لآخر.
وفقكم الله يا شيخ وبارك فيكم.
 
البيت السادس

قال الشاعر مُحاربُ بن دِثارٍ يرثي الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه :
[poem=]كَمْ مِن شريعةِ حَقٍّ قد أقمتَ لَهُم = كانت أُمِيْتَتْ وأُخرى منكَ تُنْتَظرُ
يا لَهْفَ نفسيْ ، ولهفَ الواجدينَ مَعيْ = على النُّجُومِ التي تَغتالُها الحُفَرُ
ثلاثةٌ ما رأَتْ عَينٌ لهم شَبهاً = يَضمُّ أَعْظُمَهُمْ في المسجدِ المَدَرُ
فأَنتَ تتبعهمْ لمْ تَأَلُ مُجتِهِداً = سُقياً لهَا سُنناً بالحقِّ تُقْتَفَرُ
لو كنتُ أَملكُ - والأَقدارُ غالبةٌ = تأتي صَباحاً وتبياتاً وتبتكرُ
صرفتُ عَن عُمرَ الخيراتِ مَصْرَعَهُ =بِدَيْرِ سَمعانَ لكنْ يغلبُ القَدَرُ[/poem]

والشاهد عندي في هذه القطعة البديعة هو البيت الثاني ، وهو قول محارب بن دثار :
[poem=]يا لَهْفَ نفسيْ ، ولهفَ الواجدينَ مَعيْ = على النُّجُومِ التي تَغتالُها الحُفَرُ[/poem]

أولاً : الشاعر القائل هو محارب بن دثار الذهلي السدوسي الشيباني ، من الطبقة الثالثة من التابعين من أهل الكوفة ، كان قاضياً شاعراً ، من أقواله : لما أكرهت على القضاء بكيت وبكى عيالي، فلما عزلت عن القضاء بكيتُ وبكى عيالي.
وقد رأيتُ ياقوت الحموي ينسب البيتين الأولين للفرزدق ، حيث قال :(وحدث أبو بكر بن عياش قال: الفرزدق بالكوفة ينعي عمر بن عبد العزيز، - رضي الله عنه -، فقال:..) ثم أورد البيتين . ونفسي تميل لنسبتها لمحارب لعدم وجودها في ديوان الفرزدق ، واختلاف أسلوبها عن أسلوب الفرزدق والله أعلم.

ثانياً : هل سمعتم شاعراً سبقه إلى هذا المعنى ، وهو اغتيال الحفر والقبور للنجوم ؟
أنا كتبتُ هذا بعد قراءتي للأبيات مباشرة ، ولم أرجع إلى كثير من الأبيات التي تناولت هذا الموضوع ، وهو تشبيه الميت بالنجم ، وكيف غار في القبر . وقد سمعتُ من الشعراء مَن شبَّه الميتَ بالجبل العظيم ، وبالنجم الذي غار في القبر ، وسمعتُ مَنْ تَعجَّبَ كيف اتسع القبرُ على ضيقه للميت على جلالته وفضله وجوده .
لكن لم أقرأ لمن فَطِنَ للمعنى الذي ذكره مُحاربُ بن دثار ، وهو اتهام القبور باغتيال النجوم ! ياله من معنى مطربٍ لشاعر قاضٍ .
ومن تلك الأبيات التي أتذكرها الآن قول المتنبي وإن كان متأخراً عن محارب بسنين يرثي أحدهم :
[poem=]ما كُنتُ أَحسَبُ قَبلَ دَفنِكَ في الثَرى = أَنَّ الكَواكِبَ في التُرابِ تَغورُ[/poem]
والبيت بديعٌ ، والقصيدة التي منها البيت من روائع مراثي المتنبي ، لكن معنى مُحارب بن دثار عندي أكثر تَميزاً وإبداعاً .

ثالثاً : أن الشاعر ليس الوحيد الذي يشعر بهذا الشعور في فقد الخليفة عمر بن عبدالعزيز ، ولكن معه نفر كثير يَجِدُ مِن أَلَمِ فَقدِ الخليفة الصالح ما يَجدهُ ، (ولهف الواجدين معي).

رابعاً :تأملوا تسميته للقبور بالحفر ، وكأني بالشاعر يرمي من وراء تسميته للقبور بالحفر التهوين من شأنها وأنها رغم ذلك استطاعت احتواء هذه النجوم . ثم تأملوا وصفه لدفن الميت في القبر بالاغتيال ، فكأن هذه القبور قد اغتالت هؤلاء الموتى ، والاغتيال له معانٍ تنثال على الذهن بمجرد سماع كلمة الاغتيال .

خامساً: من يقرأ في دواوين الشعراء يجد المديح غالباً عليها ، وفي غالبه مديح مبالغ فيه في حق من لا يستحق ، ولكن في هذه المرثية التي قالها محارب رحمه الله في حق الخليفة عمر بن عبدالعزيز تجد الصدق في كل عبارة منها ، وأنها قيلت فيمن يستحقها تماماً رضي الله عنه وغفر له ، وجمعنا به في جنات النعيم ، فهو والله ما علمنا من الخلفاء الكبار الذين خلفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالخير والعدل من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وقد أجاد محارب عندما أشار إلى قبر قدوات عمر بن عبدالعزيز الذين سار على هديهم وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر بقوله :
[poem=]ثلاثةٌ ما رأَتْ عَينٌ لهم شَبهاً = يَضمُّ أَعْظُمَهُمْ في المسجدِ المَدَرُ[/poem]
رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم ، وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى .

المصدر الذي نقلتُ منه الأبيات : ذيل الأمالي والنوادر لأبي علي القالي ص 1
وإلى البيت السابع إن شاء الله
كتبت يوم الجمعة 17 ذو القعدة 1427هـ ، وأعدت نشرها اليوم الخميس 25 صفر 1433هـ .
 
وقفه على البيت الأول ( شاعرٌ يصف أخاً له)

وقفه على البيت الأول ( شاعرٌ يصف أخاً له)


[align=justify]جزاكم البر الكريم الرحيم كل الخير على ما تبذلونه ورفعكم به درجاتٌ في الدنيا ولآخرة.
وأود التعليق على الأبيات الثلاثة الأول وهي:

يقول الشاعر يصف أخاً له :
إذا كان إخوان الرجال حرارةً = فأنت الحلال الحلو ، والبارد العذبُ
لنا جانب منه دميث وجانب=إذا رامه الأعداء مركبه صعبُ
وتأخذُه عندَ المَكارمِ هِزَّةٌ=كما اهتزَّ تحت البَارحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ
والأبيات في عيون الأخبار لابن قتيبة رحمه الله 3/5 كتاب الإخوان


إن الناظر في السياق العام لهذه الأبيات ليلحظ طغيان ظاهرة بلاغية من علم البديع كان لها أثر في إبراز مدح الشاعر لأخاه وهي المقابلة وإن شئتم الطباق فكلهما واحد؛ فأنا أميل إلى رأي الدكتور فضل حسن عباس في ما ذهب إليه من عدم الضرورة إلى الفصل بين مصطلحي المقابلة والطباق فكلاهما واحد (1 )
وقبل الخوض في أبيات الشاعر أود التنويه إلى ما لفن الطباق أو المقابلة في إضفاء مسحة جمال وملوحة على النصوص الشعرية أو النثرية، يقول الدكتور بوشعيب الساوري في مقالة له بعنوان بلاغة التقابل:
التقابل أو المقابلة أسلوب تعبيري يقوم على مبدأ التضاد بين المعاني والألفاظ والأفكار والصور من أجل غايات بلاغية وفكرية وهي طريقة في أداء المعاني وإبراز تضادها وتناقضها. ( 2) وكما قالوا بضدها تتميز الأشياء.
ولنعود الآن مرة أخرى إلى الأبيات فمنذ الوهلة الأولى قابل الشاعر بين أخوة الرجال لأصحابهم فوصفها بالحرارة في حين وصف أخوة أخاه له بالبارد العذب الحلال الحلو- فكأنه والله أعلم – يريد أن يقول إن كانت صحبة الرجال (المتسمين بصفات الرجولة والنخوة) لبعضهم صحبة تشع بحرارة الصدق والوفاء، فقد زدت عليهم يا أخي في أخوتك لي بقلب محب صادق الود رائق الخلال سمح الوداد كالماء العذب البارد الحلو الزلال . وأكد هذا المعني في البيت الثاني حينما قابل بين لين جانب أخاه له ودماثته في معاملته بالرغم من شخصية قوية لا ترومها الأعداء، فقد وصفه بالرحمة في محبته لأحبابه وشدته وبأسه على أعدائه.
وهنا أتوقف قليلا​
.... لقد هاج في ذاكرتي بل بين جنبات روحي، ذلك المدح العظيم ووسام الشرف الذي نعت به ربنا العظيم، الرحمن الرحيم، ذو المجد والكرم، ذو الجلال والجمال والكمال سبحانه وتقدست أسماؤه، حينما مدح حبيبنا ونبينا وصحبه الكرام في آخر آية من سورة الفتح بذلك المدح الذي لا يضاهيه مدح بل بتلك الكلمات النورانية التي يشع منها وداد الودود سبحانه على أحبابه وأصفيائه من خلقه - اللهم احشرنا في زمرتهم- قال الغفور الودود ذو العرش المجيد جل جلاله: {محمد رسول الله والذين آمنوا أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} نعم هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء أصحابه الغر الميامين رضي الله عنهم، حينما سكن حب الرحمن الرحيم البر الودود قلوبهم، وحينا شع نور القرآن العظيم وسنة نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في أرواحهم، تحولوا من أعداء فألف بين قلوبهم فكانوا كالجسد الواحد. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره للآية:
(رحماء بينهم) أي: متحابون، متراحمون، متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق. أما معاملتهم مع الخالق فإنك (تراهم ركعا سجدا) (3 ) انتهى كلامه رحمه الله.
فأين هذا الحب من حب ذاك الأول؟ بل أين وداد العبيد من وداد رب العباد؟ أين وداد المخلوقين من وداد من ينادي الفارين منه بقوله جل وعلا: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} ينسبهم إليه (يا عبادي) ويناديهم سبحانه وتعالى نداء الرحمة والتودد وهم المسرفون على أنفسهم، يرأف بهم يعلم ضعفهم وخوفهم وآلامهم يوم أن صدوا عن وداده، يوم أن استجدوا العطف والرحمة والحب من غيره فأوصدت الأبواب دونهم، فرأى حيرتهم وحسراتهم وضعفهم وانكسارهم، فبادرهم وعاجلهم ونادهم: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}
سبحان ذي الفضل والنعم، سبحان ذي المجد والكرم، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلا له. سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
[line]-[/line]
1 - د عباس، فضل حس، البلاغة فنونها وأفنانها علم البديع، ص282.
2 - بوشعيب الساوري ، بلاغة التقابل ، موقع ديوان العرب منبر حر للثقافة والأدب، ديوان العرب
3- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ص 739
[/align]HT
 
تابع: وقفه على البيت الأول ( شاعرٌ يصف أخاً له)

تابع: وقفه على البيت الأول ( شاعرٌ يصف أخاً له)



أتابع ظاهرة المقابلة في البيت الأول:
أما في قول الشاعر مادح أخاه في بيته الثالث:
وتأخـذُه عنـدَ المَكـارمِ هِــزَّةٌ كما اهتزَّ تحت البَارحِ الغُصُنُ الرَّطْبُ
فالبرغم من عدم ظهور الطباق أو المقابلة على المستوى البديعي في ألفاظ البيت إلا أننا نلمح بارق تضاد بين صفة الرجولة والنخوة والقوة والشجاعة والبسالة التي نلمحها من وصف أخاه (وتأخـذُه عنـدَ المَكـارمِ هِــزَّةٌ ) وبين تشبيه تلك الهزة بهزة (الغُصُنُ الرَّطْبُ) وكما لا يخفى على متذوقي الشعر أن الغصن الرطيب أو المياس أوالمهتز، هو من نعوت الأنوثة، ومن محاسن المرأة في الشعر العربي.
فيا ترى لماذا شبه الشاعر هزة أخاه المليئة بنخوة المكارم والمروءة والنجدة التي يمتدح بها العربي نفسه في حله وترحاله، والتي ألصق ما تكون بالرجل، لماذا أشبهها بهزة (الغُصُنُ الرَّطْبُ تحت البَارحِ ) والبارح هو هي الريح الحارة في الصيف؟!! ألستم معي أن هنا مفارقة الغربية ؟؟
إن في المشبه به ما فيه من صفات أنثوية، وهزة أخاه الكريم الجواد تحتاج أن تشبه بهزة تتناسب والبأس والشدة التي تتسق مع شجاعة الكرام، فكان الأجدر بالشاعر – على مقتضى هذا المعني- أن يصف هذه الهزة بهزة السيف اللامع مثلا في وسط المعارك.
غير أني أوافق الشاعر في تصويره لهزة مكارم أخاه بهزة (الغُصُنُ الرَّطْبُ تحت البَارحِ) قد يعجب البعض من ذلك، لكن دققوا النظر في السياق العام للأبيات ستلمحون معي أن سياق الود والحب والرحمة والرفق، هو السياق المسيطر على الأبيات، فهذه الهزة ليست ناتجة من أفعال وجوارح أخاه بل هي هزة قلب أخاه المليئ بالرحمة والعطف على كل ضعيف مستكين يهتز قلبه بالحنان والعطف قبل أن تهتز يده بالكرم والجود.
إن علاقة الود والحب التي تربط بين الشاعر وأخاه، طغت على المستوى العام لألفاظ النص، لذا نجده لم يشأ أن يصفها في البيت الأول بالحرارة كما وصف أخوة الرجال حوله، بل وصفها بالحلال الحلو ، والبارد العذبُ) ولم يجد أنسب من نعوت الرحمة والعاطفة الجياشة الملائمة لعاطفة قلوب النساء لينعت قلب أخاه الحنون على الضعفاء المحتاجين.
هذا ما أحسست به من معان حينما تأملت هذه الأبيات ولا أدعي صوابها فقد تكون مجافية لمراد الشاعر بل قد لا تدل عليها ألفاظ الأبيات. والله أعلم
سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم​
 
شكراً جزيلاً للأختين الكريمتين بنت اسكندراني وأم تيمية على تعقيباتهما الثرية المميزة ، والصفحة تزداد قيمتها بمثل هذه الإضافات الأدبية والعلمية والنقدية فجزاكم الله خيراً . والأدب ميدان واسع لتفاوت الأذواق ، والتفضيل بين الصور والأخيلة والعبارات ، وكلام البشر فيه من نقص البشر ما فيه .
 
البيت السابع :
[poem=]مَنْ كانَ يَزعمُ أَنْ سَيكتُمُ حُبَّهُ= حتى يشككَ فيهِ فهو كذُوبُ
الحبُّ أغلبُ للفؤادِ بقَهرهِ= مِن أَن يُرى للسترِ فيه نصيبُ
وإذا بدا سرُّ اللبيبِ فإِنَّهُ= لم يَبدُ إلا والفتى مغلوبُ
إِنِّي لأُبغضُ عاشقاً مُتستراً= لم تتهمهُ أعينٌ وقُلوبُ[/poem]

هذه الأبيات الطريفة لشاعر القلوب المتيمة العباس بن الأحنف، وهذا الشاعر حسن الوصف لمشاعر القلوب، وكأني به قد ذاقها ثم وصفها فوقع في وصفها على دقائق لم تتهيأ لغيره. وهذه الأبيات قد نُسبت لأبي العتاهية أيضاً، غير أنه ليس فيها روح أبي العتاهية الزاهدة، وهي أليق بالعباس منها بأبي العتاهية والله أعلم .
والعباس بن الأحنف في هذه الأبيات يصف حالة الحب إذا طغت على صاحبها حتى يقرأها الناظر في نظراته وعبراته، وأَنَّ مُبالغةَ العاشق في التستر والتهرب ليست من صدق المحبة في شيء، بل عدها العباس بن الأحنف من قلة الوفاء، وبرودة الطبع حتى إنه يبغض هذا النوع من العاشقين (إِنِّي لأُبغضُ عاشقاً مُتستراً) . ولم يكتف بهذا التستر بالهوى حتى اشترط له أن يكون ذائعاً تتهمه الأعين والقلوبُ بهذا الحب لما ترى عليه من علاماتها . وهذه العلامات تظهر عند ذكر المحبوب أو رؤيته أو غير ذلك على حد قول سلم الخاسر :
[poem=]ولي عندَ رُؤيتهِ رَوعةٌ = تُحقِّقُ ما ظَنَّهُ المُتَّهِمْ[/poem]
وهذا المعنى الذي أشار إليه العباس بن الأحنف تجده كثيراً في شعر أهل النسيب. ولعلكم تذكرون ما مر معنا في هذه التأملات من قول جمال الدين بن مطروح :
[poem=]مَنْ كان مِنكم واثقاً بِفُـؤادهِ = فهناكَ ما أَنا واثقٌ بِفُـؤادي ![/poem]
فهو اعترافٌ بالضعف عن ملاقاة الأعين النجل وأنه لا قبل له بالصبر على غرامها ووجدها .
والشاهد عندي منها هو البيت الرابع ، وهذه المعاني العفيفة الصادقة في مشاعر الحب جدير بالأزواج أن يتذاكروها فيما بينهم، وأدبُنا العربي مليءٌ بها. وأذكر حديث أم زرع وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها فلا أجده يبتعد كثيراً عن مثل هذه المعاني البديعة، وكيف كانت عائشة تسأل النبي صلى الله وعليه وسلم عن مدى حبه لها وبقائه على حاله .
أيها الأدباء ! لقد أساء الإعلامُ إلى كلمة (الحب) أيما إساءة وشوهها أيما تشويهٍ، فهل من عودةٍ لصفاء تلك الكلمة مع أمثال هذه المقطعات الأدبية !
أرجو ذلك .
 
السلام عليكم
القطعة الأولى حماسية، وسياقها هناك أنه يمدح ابنا له، وقد نُسبت إلى أبي الشغْب العبسي، أو إلى الأقرع بن معاذ القشيري:
رأيت رباطًا حين تم شبابه * وولى شبابي ليس في بره عتب
إذا كان أولاد الرجال حزازة * فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
... إلخ.
 
لبيت الثامن :
قال الشاعر:
[poem=]لو كانَ يُوجَدُ عَرْفُ مَجْدٍ قَبْلَهُمْ = لَوَجَدْتَهُ مِنهُم على أَميالِ
إِنْ جئتَهُم أَبصرتَ بينَ بُيوتِهمْ =كَرَماً يَقيكَ مَواقفَ التسآلِ
نُورُ النُّبوةِ والمكارمِ فيهمُ= مُتوقِّدٌ في الشِّيبِ والأَطْفالِ[/poem]
هذه الأبيات الثلاثة تمثل بها الشاعر مسلم بن بلال العبدي في مديح بني هاشم رهط النبي عليه الصلاة والسلام ، وهي أبيات رائعة في المديح لم أتتبع كتب الأدب لمعرفة قائلها، وكنت حفظتها قديماً من كتاب زهر الآداب للحصري القيرواني عند حديثه في أول الجزء الأول عن بلاغة أهل البيت وكرمهم ولم يظهر لي حينها من سياق كلام مسلم بن بلال أنها من قوله هو.

ولن أختار منها بيتاً مفرداً شارداً ففيها كلها معانٍ بديعة وتأملوا معي هذه المعاني .
1- في البيت الأول يقول الشاعر إنه لو كان للمجد عَرْفٌ ورائحةٌ زكيةٌ يشمها الناسُ لكنتَ تجدُ رائحة مجدهم الزكية تشم على بعد أميالٍ، وهذا معنى بديع وكأنَّه يشير فيه الشاعر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي يذكر فيها رائحة الجنة وعَرْفِها وطِيبِها وأنه يوجدُ من مسيرة أربعين خريفاً. وموضوع أخذِ الشعراء من معاني القرآن والسنَّةِ كثيرةٌ ، وصورها مختلفة لو تفطن لها أديبٌ لمَّاحٌ لعثر على كثيرٍ من ملامحها بطرق ظاهرةٍ وخفيةٍ بعيدةٍ أحياناً لا يكاد يفطن لها إلا القليل .
وتأملوا مدح هؤلاء القوم بكرمهم وسؤددهم ومجدهم المؤثل بهذه الصورة الجميلة التي استعار لها الرائحة الزكية النفَّاذة، التي تجدها على بعد أميال فتستدلُّ بها على أمجادهم .
[poem=]لو كانَ يُوجَدُ عَرْفُ مَجْدٍ قَبْلَهُمْ = لَوَجَدْتَهُ مِنهُم على أَميالِ [/poem]
وتأملوا قوله : لو كان يُوجَدُ ..
فهو لن يوجد ، ولكنه قد بلغ بمديحهم مبلغاً عظيماً بقوله ذاك ، وإن كان في واقع الناس لا يكون ، فأدركَ بلفظهِ القَريبِ غاية المُرادِ البَعيدِ - كما يقول البحتري . وهذا من سعة لغتنا العربية وحسن بيانها عن المعاني .
ويشبهه قول زهير بن أبي سلمى يمدح بني عبدالله بن غطفان :
[poem=]لو كان يَقْعدُ فوقَ الشمسِ مِنْ كَرمٍ=قومٌ بأولهم ، أو مجدِهِم قَعَدُوا[/poem]
فقد بلغ بمدحهم ما شاء أن يبلغ، وإن لم يكن هذا واقعاً ممكناً.
ومثله قول الآخر:
[poem=]لو كان يَقْعُدُ فوقَ الشَّمسِ مِنْ كَـرمٍ = قومٌ لقيلَ اقعُـدوا يا آَلَ عبَّـاسِ[/poem]
وهكذا تجد هذا الأسلوب شائعاً في لغة المديح عند الشعراء لما له من المعاني البعيدة في حسن المديح .
2- قوله :
[poem=]إِنْ جئتَهُم أَبصرتَ بينَ بُيوتِهمْ =كَرَماً يَقيكَ مَواقفَ التسآلِ [/poem]
هل وقفتَ يوماً تسأل الناس؟ هل شعرتَ بتلك المرارة التي تتملكك وأنت تسأل الناس ثم يعرضون عنك ولا يلتفتون إليك ؟
أما أنا فلم أقف هذا الموقف ولله الحمد وأسأل الله ألا أقفه ولا أحد منكم . لكنني رأيتُ كثيراً عن قربٍ من يقف هذا الموقف ، يقوم بعد الصلاة فيسأل الناس المساعدة، فمنهم من يتصدق عليه بالقليل، ومنهم من يَعْبُرُه ولا يلتفت إليه. يا له من موقف ثقيل على النفوس الأبيَّة ! وأنا لا أتحدث إلا عن النفوس الأبية التي تأنف الوقوف مثل هذا الموقف ، أما بعض الذين استمرأوا السؤال فلم يعد لوجوههم ماء يراق فلا شأن لنا بهم .
وأذكر رجلاً مسناً قام يوماً بعد الصلاة، ثم أراد الكلام فخنقته العبرة فلم يقدر على الكلام فجلس، فلما كلمه بعضهم بعد ذلك ، قال : لم أقف هذا الموقف في حياتي، فلما وقفتُ لم أستطع سؤال الناس، فأنا طيلة حياتي لم أحتج للناس، واليوم دفعني الفقر والحاجة أن أحاول سؤال الناس فلم أقدر على ذلك !
وأذكر من الكلمات الجميلة يوماً وأنا أستمع في سيارتي لبرنامج (نور على الدرب) وإذا بسائلٍ يسأل المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ وفقه الله : هل نعطي من يقوم بعد الصلاة يسأل الناس ولو كان كاذباً ؟ فقال : نعم أعطه، فلم يكلفنا الله التقصي عن كل مسكين يسأل الصدقة . فقال : ولكنه قد يأخذ مالاً كثيراً بهذه الطريقة ؟ فقال له كلمة أعجبتي حيث قال : مهما أعطيته فلن يكون ثمناً لما أراقه من ماء وجهه أمام الناس ! وصدق وفقه الله.
وهذا في السؤال الذي لا ينوي صاحبه الرد ، وقد حدثني أحد أصدقائي يوماً أنه ذهب إلى أحد من كان يتوسم فيه مد يد العون له في ضائقة مرت به، فقصده طالباً قرضاً حسناً إلى أجلٍ مسمى، فأعرض عنه ولم يجبه بشيء ، قال صاحبي : والله إن مرارة ذلك السؤال لا تزال تتردد في نفسي كلما تذكرت الموقف أو رأيت ذلك الرجل .
الشاعر يمدحهم بأن السائل الذي يأتيهم لا يتكلف مرارة موقف السؤال بين أيديهم، وإنما يكفى هم السؤال بقضاء حاجته بين البيوت قبل بلوغها . فهو يجد من خدمهم ومواليهم من العطاء والكرم ما يقيه موقف السؤال وذلته . وقد جعل الكرم مجسداً حتى أنك تبصره وتراه بين بيوتهم، فكيف بالبيوت نفسها التي يسكنها هؤلاء الكرام .
ومعنى كفاية مرارة موقف السؤال معنى بديع تناوله بعض الشعراء في شعرهم ، ويحضرني منهم قول الشاعر أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جدعان :
[poem=]أأذكر حاجتي أم قد كفاني = حياؤكَ إِنَّ شيمتَك الحياءُ
إذا أثنى عليكَ المرءُ يوماً= كفاهُ مِنْ تعرُّضِهِ الثناءُ[/poem]
وقول المتنبي :
[poem=]وفي النفس حاجات وفيك فطانةٌ = سكوتي بيانٌ عندها وخطابُ[/poem]
وهذا من فطنة أهل الكرم ونبلهم ، ومن أنفة أهل الحاجات وكرم نفوسهم .
3- أما البيت الثالث :
[poem=]نُورُ النُّبوةِ والمكارمِ فيهمُ= مُتوقِّدٌ في الشِّيبِ والأَطْفالِ[/poem]
فهو مديح رائع بأن هذه الصفات من المجد والكرم ليس حكراً على أفراد منهم، أو الكبار منهم فقط أو الموسرين منهم فقط . وإنما هو صفة مشتركة بين الصغير والكبير فيهم، وقد أحسن الشاعرُ أيما إحسان عندما ربط هذه المعاني الرائعة من الكرم والمجد والسؤدد بنور النبوة في سيدنا ونبينا محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام . فإن بني هاشم على فضلهم وعلو نسبهم ، ما كان لهم أن يبلغوا هذه المكانة في نفوسنا إلا لشرف النبوة الذي خص الله به نبينا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم عليه الصلاة والسلام . وهذا والله الشرف الحقيقي والمجد المؤثل ، وحق لآل بيت نبينا محمد بن عبدالله الحب والتقدير والموالاة في الله ولله ولقرابتهم من المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وهذا حق فرَّطنا فيه كثيراً في زماننا هذا عفا الله عنا ، حتى ذهب بدعوى محبة آل البيت هؤلاء الرافضة الكاذبون ونحن أهل الإسلام أولى بآل البيت منهم والله الموعد .
 
شكر الله لك ياشيخ نتابع بأهتمام نفحاتك الادبيه .....اذا مر علينا مفرده في البيت لم نفهم معناها خصوصا في الشعر الجاهلي ماالحل؟؟؟
 
موضوع خزانة الأدب3 شوق وحنين جد ممتع ولايخلو من الطرافة في موضع وصفك للحاله التي تنتابك عند كتابة قصيده شكر الله لك
 
شكر الله لك ياشيخ نتابع بأهتمام نفحاتك الادبيه .....اذا مر علينا مفرده في البيت لم نفهم معناها خصوصا في الشعر الجاهلي ماالحل؟؟؟
مراجعة شروح هذه الأشعار ، ومراجعة معاجم اللغة مثل (لسان العرب) وغيره توضح معاني هذه الألفاظ الغريبة .
 
البيت التاسع :
[poem=]
وعوراء جاءت من أخٍ فنبذتُها = ورائي وعندي لو أشاءُ نكيرُ
صبرتُ لها والصبرُ مني سجيةٌ = وإِنِّي على ما نابني لَصبورُ
وما أنا مِمَّنْ يَقْسِمُ الهَمُّ أَمْرَهُ = ويسألُ مَنْ يلقاهُ كيفَ يسيرُ
ولكنَّني كالدهرِ أَشْفِي وأَشْتَفِي = وأَقْضِي ولا يَقْضِي عليَّ أميرُ
[/poem]

لا يكاد يسلم أحدنا من خلاف بينه وبين أحد أحبابه أو أصحابه ، وربما سمع منه ما يكرهه في موقف عابر غلب فيه الغضبُ الحلمَ وفاضل الأخلاق ، والكمال عزيزٌ ، ولا يسلم لك لو أردتَ السلامة من العيوب أحدٌ من الناس بعيداً كان أو قريباً . وقد تداول هذا المعنى الشعراءُ في أشعارهم وحكمهم . ومنه هذه الأبيات التي عثرت عليه في لباب الآداب لأسامة بن منقذ رحمه الله فاستحسنتها، وأردت أن أشارككم في جمالها وحسن معناها .
وقد أعجبني تعبير الشاعر عن هذه اللفظة النابية بوصفها بأنها عوراء ، وهذا تعبير ذائع للكلمة النابية يطلقها اللسان لا يلقي لها بالاً، فوصفتها العرب بالعوراء كناية عن سوئها وقبحها . ثم أعجبني أكثر تصرف الشاعر مع هذه العوراء وهو قوله (فنبذتها ورائي) وكيف عبر بالنبذ وهو الطرح والإلقاء للشي الذي لا شأن له ولا قيمة . وهذا شأن غير المبالي بها ولا بما تحمله من ألمٍ وضيم ، وهذا لا يفعله إلا أصحاب النفوس السامية التي تتسامى على سوء تصرف الآخرين ، وتتناسى أخطاءهم . ولا سيما إذا كان قادراً على الرد (وعندي لو أشاء نكيرُ) ولكنه تركها إكراما لحق الأخوة والمحبة ، وأعرض عن تسجيل الانتصارات الزائفة للنفس في مثل هذه المواقف ، وما أكثر من ينتصر لنفسه بالرد على مثل هذه العبارات الجارحة في ملأ من الناس ، ثم يلوم نفسه إذا خلا ولات ساعة مندم .
إن الصبر على مثل هذه اللفظة العوراء يحتاج إلى مجاهدة ، وقد أبدع الشاعر بقوله (والصبر مني سجية) لكي يعلمنا أنه يصبر دوماً على مثل هذه الأخطاء العابرة ، وأن الصبر فيه سجية لا يتكلفه في مثل هذه المواقف ، والإبداع في مثل هذه الجمل الاعتراضية كثير في شعر المبدعين من الشعراء .
 
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم، على هذه الاختيارات النفيسة.

وكنت أسائل نفسي يا شيخنا الفاضل: كيف عرفتم أن هذا الشاعر جاهلي ؟
 
عودة
أعلى