تأملاتٌ في توجيه القرآن للعصاة والمجرمين , شارك بما تصل إليه.!

إنضم
20/01/2006
المشاركات
1,245
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
المدينة المنورة
الحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سينا وقدوتنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه, وبـعـد:
فإن القرآن سلك مع العصاة مسلكاً بديعاً في التبصرة والتذكير وسلك مع كل صنف منهم مسلكاً رفيعاً في التوجيه والإرشاد, وسأوجز الحديث عن كل أسلوب استطعت تمييزه بما يتضح معه مرادي وإن كان صواباً فلا فضل فيه ولا حول ولا قوة إلا لله ,وإن كان غير ذلك فلا حظ فيه لغير نفسي والشيطان, واللهُ ورسوله منه بـَراء.
1-ولاية الإنسان للشيطان وعاقبتها السيئة عليه:
لقد اتخذ القرآن في ثنايا الحديث عن المعاصي والذنوب طريقاً يجعل النفس السليمة التي تتأثر وتتدبر تحمل تصوراً عن المعصية أنها تبعية مقيتة لعدوٍّ متربصٍ لا يريد لتابعه خيراً, بل يريد أن يُضله ويغويه ليكون شريكاً له في عذاب جهنم والمقام فيها كما قال الله (إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) وهذا التعبير الدقيق الذي حصر الله فيه مقصد إبليس من غواية الخلق يدل على غدر الشيطان الرجيم ومكره فلا مقصد له إلا شراكة من يغويهم معه في عذاب السعير, ولذلك نجد آيات كثيرة في القرآن تجعل متولي كبر الأوزار هو إبليس باعتباره الباعث والموسوس والموحي للبشرية بتزيين التمرد على أوامر الله , واقتحام زواجره ومناهيه,وهذا الأسلوب فيه إيحاءٌ للعاصي بأنه ضحيةٌ ولو كان آثماً ومرتكباً لما يوجب له العقوبة فلا يتعاظمْ ذنبه أمام عفو الله, ولا يقارن نفسه بمن غرَّر به فهذا الموسوس لا فكاك له من عذاب الله خلافاً لك أيها الضحية فلا زال الباب مفتوحاً أمامك لإصلاح الحال واستقامته, وهذا في الحقيقة أدعى إلى الأوبة والرجوع مما لو كان العاصي هو المدبر والمزين والفاعل والآثم وحده , ومن موارد ذلك قوله تعالى (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) وقوله تعالى (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) وقوله تعالى(إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) وقوله تعالى (ويريد الشطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً) وقوله تعالى (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) وقوله تعالى حكايةً عن إبليس (لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلاً) وقوله تعالى (لأغوينهم أجمعين) وقوله تعالى (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) وقوله تعالى (وكان الشيطان للإنسان خذولاً) وقوله تعالى (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) وقوله تعالى (ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً) وقوله تعالى (إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدواً) وقوله (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين), وقوله تعالى(وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) قال ابن عاشور في تفسير الغرور: إظهار الشيء المكروه في صورة المحبوب الحسن. انتـهى , وهذا إخبار من الله لعباده العاصين المتبعين خطوات الشيطان بأن موعوداته التي يعدهم إياها ليست إلا ضرباً من الأباطيل والأكاذيب , وهذا لو تأملناه اليوم لوجدناه سبباً رئيساً في بعد الكثيرين عن الله وتنكبهم طريق الهداية والرشاد , فلو علم الزاني يقيناً أن الزنا إلى جنب ما فيه من سخط الله وانتهاك محارمه ليس إلا حسرةً ومرضاً يجده الزاني في نفسه وربما في بدنه بعد انقضاء شهوته لما عاد إليه, لكن لعدم اليقين بأن وعد الشيطان بحصول لذة لا تتهيأ بغير الزنى محض غرور وزور يعود الزاني إلى جرمه ترقباً لموعود الشيطان بحصول اللذة ونيلها وأنى له, وكذلك حال شارب المخدرات فهو في هم وغم وذهاب عقل ومرض وفقر ومع ذلك يركض ويضحي بكل شيء ترقباً لحصول موعود الشطيان بنسيان الهموم والمشاكل وأنى لذلك الوعد أن يتحقق وقس على ذلك كل المعاصي, وغير ذلك من عشرات الآيات التي لا يمكن حصر جميعها.

2-بيان أن تبعة المعصية وضررها يكون على العاصي وعلى المجتمع أيضاً:
ومن هنا يجب التذكير بما تورثه المعصية من أخطار وأضرار على الفرد والمجتمع والأمة والحيوانات والبراري والبحار , ولو استشعر الناس اليوم حقيقة هذا التهديد الفظيع - كاستشعارهم لمشاكل ثقب الأوزون والتلوث البيئي وغيرها من الكوارث التي الله أعلم بصحتها– لانمحت من العالم اليوم كثيرٌ من الأوبئة الحسية والمعنوية التي تنهش جسد الأمة وتنتشر فيه انتشار النار في الهشيم بسبب الذنوب, ومن موارد ذلك في القرآن حكايته عن العاقبة التي باء بها المذنبون المداومون على المعاصي والذين لم يتوبوا أو يستغفروا ويقلعوا, بل أصرُّوا على الإقامة على المعصية والذنب, فمن خطرها على الفرد:

أ- الطبع على القلب إذا أشرب حب المعصية والتعلق بها فلا ينفد إليه الحق:كقول الله تعالى (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً) وقوله(كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) وقوله (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) وقوله (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) ومن السنة ما يدل على أن الذنب تلو الذنب يؤثر في القلب حتى يفسده ويختَم عليه قال صلى الله عليه وسلم (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والاخر أسود مرباد كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا)

ب- الحجب عن التوبة وعدم التوفيق لها,كقول الله على لسان آدم (وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين) وقوله تعالى (فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) قال الألوسي رحمه الله: (الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها) انتـهى.
فمعنى ذلك أم من لم يوفق للتوبة بعد المعصية بصدق اللجإ والإقبال فسيخسر خسراناً مبيناً, ويكتب له الله عدم الإعانة على التوبة وتطهير قلبه من أدران الخطيئة كما قال تعالى (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم)

ج- الإمعان في الضلال , مصداقا لقول الله (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) قال الإمام البغوي رحمنا الله وإياه:(ذهب عن الطريق وحرم الخير كله)1/287 ويؤكد هذا المعنى قول الله أيضاً(ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً بعيداً) قال أبو السعود رحما الله وإياه(بعيدا عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه)2/243وهذا أشد ما يكون الخسران والعياذ بالله تعالى.

د- حرمان البركة وزوالها وفي ذلك يقول الله (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) قال الإمام القرطبي رحمه الله (وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلة إما لفنائه وعدم ثباته, وإما لكونه حراما لأن الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله)2/11
وقوله تعالى (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) قال القرطبي رحمه الله (وقيل : إن الفساد القحط وقلة النبات وذهاب البركة ونحوه قال ابن عباس قال : هو نقصان البركة بأعمال العباد كي يتربوا قال النحاس : وهو أحسن ما قيل في الآية وعنه أيضا : أن الفساد في البحر انقطاع صيده بذنوب بني آدم وقال عطية : فإذا قل المطر قل الغوص عنده وأخفق الصيادون وعميت دواب البحر وقال ابن عباس : إذا أمطرت السماء تفتحت الأصداف في البحر فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ وقيل : الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش وقيل : الفساد المعاصي وقطع السبيل والظلم أي صار هذا العمل مانعا من الزرع والعمارات والتجارات والمعنى كله متقارب)14/38

هـ- تعرضه للجزاء الدنيوي بالحد فيما ترتب على فعله حد كالسرقة والزنا وشرب الخمر وقتل النفس وإتلاف بعض أعضاء الغير كالسن والأنف والأذن , أو التعزير من قبل القاضي وهو قد يصل به للقتل, أو العقاب الأخروي المترتب على معاصيه كالنميمة والكذب والنوم عن الصلاة وأكل الربا وغير ذلك من القبائح.

3- ومن ضررها على المجتمع:
أ- تبدل أحوال المم إذا كثرت فيها المعاصي:
ومن ذلك أن الله أهبط آدم إلى الأرض وأخرجه من الجنة بسبب المعصية والانقياد لوساوس الشيطان وقصَّ الله علينا خبر ذلك في القرآن ليكون زاجراً فعالاً في النفوس ومحذراً لها من المصير إلى الشدة بعد الرخاء ومن الأمن إلى الخوف ومن الاجتماع إلى الفرقة ومن الأنس إلى الوحشة, وهكذا..

ب- إفساد الأرض ومحق البركات وذلك معنى قول الله (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) قال مجاهد عليه رحمة الله فيما أورده عنه الطبري عند قوله تعالى (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) قال : إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم فيحبس الله بذلك القطر فيهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد قال : ثم قرأ مجاهد : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } قال : ثم قال : أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر). وأضف إلى ذلك قول الله تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) فمفهوم المخالفة لذلك أن التنكب للشريعة والصد عنها وترك الإلزام والالتزام بها مجلبة للآفات وتعرض للفاقات, وإلا لما وعد الله على الطاعة انتشار الخير وعموم الرخاء وبركة الأرزاق في غير آية من القرآن منها:( ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب) (وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا) وهذا وإن لم يكن مطرداً لاحتمال استدراج الله أقواماً يعصونه ويحاربونه بالنعم لينسيهم الشكر والتوبة ثم يأخذهم على حين غرة فلا يفلتون كما قال الله (ثم بدلنا مكان السيئة حسنةً حتى إذا عفوا وقالوا قد مس آبائنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) , كما أن امتحان الله لأوليائه وأصفيائه بضيق العيش لاستخراج الرضى عنه والتسليم له منهم كثير الوقوع ولا أدل على ذلك من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومن حال أبأس أهل الدنيا الذي جاء في الصحيح أنه (يؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط)

ج- تعريض المجتمعات للمصائب والبلايا مؤاخذة لها ببعض ما كسبت ولو آخذها الله بجميع سيئاتها لما بقي على الأرض مخلوق طرفة عين, وهذا من أعز وأندر ما يتناوله الناس بالحديث والاهتمام اليوم بل إن كل عقوبة وبلاء تحصل في الأرض إنما هي بسبب معصية, قال تعالى(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) قال شيخ الإسلام رحمه الله: (و القرآن يبين فى غير موضع أن الله لم يهلك أحدا و لم يعذبه إلا بذنب)14/424
ومن المؤسف اليوم أن ترجع أسباب كل ذلك إلى الطبيعة والأسباب الحسية المشاهدة المبنية على التخمين وينسى فيها جانب العظة والتذكير والتخويف بالله , ومن ثمار هذا التناسي رصد المواقع لمتابعة الكسوف ومشاهدته والاجتماع لذلك مع أن النص الشرعي أثبت أنه آية يخوف الله بها عباده فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده) رواه البخاري, فلا حول ولا قوة إلا بالله ,واللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا, قال الله تعالى (وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) قال قتادة رحمه الله (إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الايات لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال : يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه, وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات فقال عمر : أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن) ابن كثير3/67 , ومن موارد حصول الكوارث بسبب العصيان قوله تعالى عن أهل سبأ الذين كفروا بالنعمة وتجرأوا على الله , فقلب حالهم وبين سبب تغير أحوالهم من الرغد والرخاء والشبع ودنو الأسفار إلى الشدة والفاقة والجفاف وانقطاع الأرض بهم, بقوله تعالى (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) وقوله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)وقوله (و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قربيا من دارهم) وقوله (فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم)وقوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) وقوله (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)وقوله (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) وقوله (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور)وهذه الآيات تعم جميع المعاصي وجميعَ العقوبات العاجلة عليها سواءاً كانت في المعائش أو الأبدان أو الذراري أو غير ذلك قال بان كثير رحمه الله تعالى (وقوله عز وجل { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم { ويعفو عن كثير } أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة })4/147 والناس اليوم أحوج ما يكونون إلى استدامة النعم واستدفاع الآفات والنقم بالتوبة إلى الله وهذا واجب المربين والمعلمين والخطباء ومن المؤسف كما أسلفت إغراقنا في السبب الحسي المشاهد وغفلتنا عن هذه الأسباب الخفية,وهذا ربما يجعل الحديث عنها ضرباً من الجنون أحياناً, كما لو قام الآن واعظ وذكر أن من أسباب انهيار الأسهم تقصير الناس في أداء حقوق الخدم والسائقين وأكل أموال العمالة بالباطل فجعل الله جزاء عاملي ذلك من جنس أعمالهم لرُمي بالغفلة والسذاجة والجنون أما لو جاء محلل اقتصادي وأعاد سبب ذلك إلى الازدحام الالكتروني واضطراب القيمة الفعلية للسهم والشائعات الكيدية والتنافس المحموم بين المستثمرين وتوجهات الهوامير للاستغلال لاسترسل الناس معه في حديثه وربما كان كله باطلا ً, ومن أدلة السنة في حصول الهلاك بسبب المعاصي قول زينب بنت جحش رضي الله عنها حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث) والتعبير في السؤال هنا بلفظ (الصالحون) يدل على أن وجود الصالح في نفسه لا تستدفع به نقم الله وإهلاكه بل لا بد من القيام لله بالإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهذا مصداق قول الله (وما كان ربك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون) كما اشار بعض المفسرين كأبي السعود والألوسي رحمهما الله إلى أن المراد منها وجود من يعظ ويبين المنكرَ وينهى عنه.
وما أحوجنا إلى استيقان أن انتشار الأوبئة والأمراض المستعصية الفتاكة كالإيدز والسل والكبد الوبائي وغيرها من الأدواء المستعصية المستجدة قد يكون نتيجة طبيعية لتفشي المعصية والتعود عليها بحيث لم تعد أمراً مستنكراً عند البعض,ومجرد اليقين الصادق بأن تجدد ظهور الأمراض الغريبة القاتلة من موروثات المعصية أمرٌ لا يلقاه إلا ذو حظ عظيم كيف لا وبه يتم التصديق بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت تصرَف فيه الأنظار إلى الحس والمشاهدة فقط,قال صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة رضي الله عنها عند أحمد رحمه الله في المسند:(لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب) قال ابن حجر: وسنده جيد,ولفظ (عقاب) جاء هنا نكرة وهي تفيد العموم ولنا أن نتأمل كم من المصائب التي حلت بالناس اليوم يمكن أن تكون المعاصي والآثام سبباً مباشراً لها

د- وقوع التناحر والبغضاء بين أفراد المجتمع:
وفي ذلك يقول الله (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة)

هـ- انعدام الثقة والطمأنينة بين الناس.

و- تسليط الأعداء ونزع المهابة, قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى (إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا من التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم كما قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم }قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا..
قلت : ويدل عليه [ قوله عليه السلام في حديث ثوبان حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ] وذلك أن حتى غاية فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض وسبي بعضهم لبعض وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا قلة فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه ) 5/396



• توجيه القرآن لمن وقع في المعاصي:
1- الترهيب من المعصية والعقاب المترتب عليها, ومخاطبة المشتغلين بها لعلهم أن يحدثوا توبةً تمنع عنهم عاقبة السوء التي باء بها من سلف.
ومنه قول الله تعالى (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذابمن حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم) قال ابن كثير رحمه الله في تفسير ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين({ فإن ربكم لرؤوف رحيم } أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة كما ثبت في الصحيحين [ لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم ]) .
وقوله تعالى (أءمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير ) وقوله( أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) قال القرطبي رحمه الله تعالى: والتقدير : ما أغنى عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه وعن الزهري : إن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ : { أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ثم يبكي ويقول :
نهــارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم ... ولا أنت في النوام ناج فسالم
تـسر بما يـفـنى وتفرح بالمنى ... كما سر باللذات في النوم حالم
وتسعى إلى ما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهـائم
قال ابن الجوزي في تذكرة الأريب عند قول الله (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض): ولولا دفع الله الناس يدفع بمن اطاعه عمن عصاه كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن اطاعه لهلك العصاة بسرعة العقوبه.

2- مسلك الترغيب في الإقلاع وفتح أبواب التوبة واستقامة الحال.

وهذا المسلك لمخاطبة المتسخين بأدران الذنوب المخالطين لها الذين ربما دبَّ اليأس والقنوط في نفس أحدهم حتى يسول له الشيطان عدم قبول توبته عند الله تعالى, وهذه من مصائد ومكائد الشيطان التي يعمر بها القلوب ليحول بينها وبين التضرع والرجوع إلى الله وأوْلى آيات القرآن بالذكر في هذا الموضوع هي أرجى آيات القرآن كما حكاه غير واحد من أئمة السلف وهي قوله تعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) وقال عنها علي بن أبي طالب : ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية,كما حكاه القرطبي, وهذه الآية لا تستثني أحداً من الخليقة فالكل عبيد لله ولاتستثني ذنباً ولا معصية فكل ما خرج بالعبد عن جادة الطاعة والامتثال فهو إسراف على النفس وتحميل لها لما لا تطيقه من الأوزار, وإن كان يختلف الجرم باختلاف الخطيئة, والعجيب في هذه الآية تودد الله لعباده العاصين وتحببهم إليه بإضافتهم إلى نفسه رغم إسرافهم على أنفسهم وتحميلهم لها ما لا تطيقه من الأوزار, وهذا أبلغ ما يكون التودد والترغيب في التوبة والإقلاع عن زواجر الله ومناهيه.

(وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب) هذه الجملة من الآية متضمنة معنى الدعوة إلى التوبة ومتضمنة الإرشاد إلى عدم القنوط من رحمة الله تعالى مهما جنى العبد واقترف, ومتضمنة خطورة الملازمة والبقاء على حال المعصية لئلا تحل بصاحبها العقوبة من الله سواءاً كانت حسيةً أو معنويةً بأن يبلغ مبلغاً من الجحود يحجبه الله به عن التوبة إليه.
وقوله (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) قال الحافظ ابن كثير (أي كل من تاب إلي تبت عليه من أي ذنب كان ,حتى أنه تاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل)
وقوله تعالى (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله) وهذه الآية جاءت خطاباً للمشركين الذين عبدوا آلهة غير الله كما حكاه الطبري والقرطبي,ودخول جميع العصاة فيها أمرٌ لا شك فيه لأن الشرك بالله أقبح المعاصي وأفظعها وأشنعها ومع ذلك وعد الله التائبين منه بالمتاع الحسن وطيب العيش كما قال نوح لقومه (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم باموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) وهذا من أنفع أساليب الدعوة بالترغيب ,كما أن قوله تعالى (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً) بعد الوعيد في قوله (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً) فيه ترغيب وحث على تجديد العهد مع الله والإقلاع عما سلف من ارتكاب الآثام واجتراح السيئات لتكون هذ التوبة نجاةً من الغي والخسران, ومن أعظم آيات الترغيب التي وردت في القرآن إن لم تكن أعظمها قول الله في سورة الفرقان (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً) فما الذي يريده العبد غير عفو الله عنه وتجاوزه عن دنوبه لكن الله لبالغ كرمه وجمال جوده وإحسانه يزيده على العفو والمغفرة تيديل كل سيئة بحسنة , وأحسبُ أن من لم ترغبه هذه الآية في التوبة فهو أصمُّ أبكمُ أعمى بل ميتٌ وإن كان حيا في الظاهر للناس , قال شيخ الإسلم رحمه الله (وقد ثبت فى الصحيح حديث الذي يعرض الله صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها وهو مشفق من كبارها أن تظهر فيقول الله له إني قد غفرتها لك وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة فيقول أي رب إن لي سيئات لم أرها إذا رأى تبديل السيئآت بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التى كان مشفقا منها أن تظهر ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل أعظم من حاله لو لم تقع السيئات ولا التبديل)10/294

ومن أسلوب القرآن في توجيه العصاة حكايته لهم أحوال المشركين وما احتجوا به من حجج وما رد به الله عليهم لئلا يكون منهم الاحتجاج بما احتج به المشركون, ومن ذلك قول الله تعالى (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) وقوله تعالى (وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) قال ابن عاشور رحمه الله: لأن هذه حقيقة كاشفة عن الواقع لا تصلح عذرا لمن طلب منهم أن لا يكونوا في عداد الذين لم يشأ الله أن يرشدهم.انتـهى
وإشارة ذلك تدل العاصي إلى أن التشبث بمشيئة الله لا تصلح له عذراً على ما هو مقيمٌ عليه من المعصية, لأن الله جعل له مشيئةً تابعةً لمشيئة الله يهتدي بها لأيِّ الطريقين شاء , وله اختيارٌ في ذلك كما قال الله تعالى(إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه فموبقها أو معتقها) إلى غير ذلك من النصوص المشيرة إلى أن لِضلال العبد وهدايته بعد قدر الله تعلقاً بمشيئة العبد واختياره, ولا أدل على ذلك من قوله تعالى (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً وما تشاؤون إلا أن يشاء) وقوله تعالى(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً) فهذا التخيير فيه نوع من التحذير والنهي عن الكفر وطرقه فتهديد الله لمن اختار الكفر , وذكره للوعيد المترتب على هذه المشيئة, وتسميته لمختار الكفر ظالماً , وإظهار عدم المبالاة بمآلهم إلى جهنم وعذابها, قال الألوسي رحمه الله في تفسيره: وقال مكي : المراد به التوفيق والخذلان أي قل التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إلى من ذلك شيء وليس بشيئ كما لا يخفى وجوز أن يكون قوله سبحانه فمن شاء فليؤمن الخ تهديدا من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر أي قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء فليكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير وهو ظاهر وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخليه بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ووجه الشبه في عدم المبالاة والاعتناء هذا كقول كثير : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلت) وإلى هذا المعنى ذاته أشار الطاهر بن عاشور بقوله(وقوله ( ولو شاء الله ما أشركوا ) عطف على جملة ( وأعرض عن المشركين ) . وهذا تلطف مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإزالة لما يلقاه من الكدر من استمرارهم على الشرك وقلة إغناء آيات القرآن ونذره في قلوبهم فذكره الله بأن الله قادر على أن يحول قلوبهم فتقبل الإسلام بتكوين آخر ولكن الله أراد أن يحصل الإيمان ممن يؤمن بالأسباب المعتادة في الإرشاد والاهتداء ليميز الله الخبيث من الطيب وتظهر مراتب النفوس في ميادين التلقي فأراد الله أن تختلف النفوس في الخير والشر اختلافا ناشئا عن اختلاف كيفيات الخلقة والخلق والنشأة والقبول وعن مراتب اتصال العباد بخالقهم ورجائهم منه)

ومن أسلوب القرآن في توجيه العصاة تبيان أن تحصيل الهداية لا يكون مصادفة ولا عفويا بل له سنن تتمثل في محاربة شهوات النفس ومصارعة نزواتها والاستعانة في ثنايا ذلك برب الخلائق وإصلاح الباطن الذي هو محل نظره سبحانه حتى إذا اطلع الله على صدق الرغبة في الهدى وجدِّ الإنسان في تحصيلها سهل له طرائق الهداية والرشاد قال تعالى :(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وشاهد ذلك من واقعنا قول بعض الناس لمن يدعوه وينصحه أو لمن يظن به الصلاح اسأل الله لي الهداية ولا يبذل في تحصيلها شيئاً ويظن أنها تتنزل عفواً بدون طلب منه ومجاهدة لتحصيلها, فعلى تفسير من قال بنزول هذه الآية قبل فرض القتال وأن المراد بها الجهاد للنفس والقيامَ بأمر الطاعة يلزم من التوفيق للهداية أن يسعى لها الإنسان ويطلبها ويبذل جهده وسعته في الوصول لطرقها ليتحقق له وعد الله الذي أكده في هذه الآية باللام ونون التوكيد الثقيلة لإرشاد الخلق وطمأنتهم مع أنه لا أحد أصدق من الله قيلاً ولا أوفي بعهده منه إلى أن من جاهد نفسه واطلع الله منه على صدق المجاهدة لن يخيب سعيه بل لا بد له أن ينال من توفيق الله ما طلبه.

هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
 
كلام جميل، وحديث مناسب للوقت، فكم من البلايا والرزايا التي تئن الأمة اليوم تحت وطأتها، على مستوى الداخل والخارج ..
إنها هي رسالة رب العالمين إلى عبيد أجمعين، فأين المعتبرون؟
 
وفقك الله يالغالي
ويسر أمرك ونفع بعلمك
وهذا مصداق لقوله تعالى (أفلم يدبروا القول أم على قلوب أقفالها)
فالمحروم من حرم الاهتداء بهذا النور المبين
 
جزاكم الله خيرا على هذا الموضوع المهم وتصحيحاً لنص الآيتين اللتين أوردهما الأخ محمد العواجي وهما قوله تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) سورة محمد آية 24 . والآية الثانية التي أورد جزءاً منها وهي قوله تعالى ( أفلم يدبراو القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) سورة المؤمنين آية 68 .
 
عودة
أعلى