عبدالرحمن الشهري
المشرف العام
- إنضم
- 29/03/2003
- المشاركات
- 19,331
- مستوى التفاعل
- 138
- النقاط
- 63
- الإقامة
- الرياض
- الموقع الالكتروني
- www.amshehri.com
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
هذا بحث للصديق الأستاذ عبدالرحمن الحاج وفقه الله ونفع به ، نشره في العدد 37-38 من مجلة إسلامية المعرفة . أحببت نقله هنا للفائدة والمدارسة ، مع الشكر والتقدير للأستاذ عبدالرحمن .
[align=center]تأسيس أصول التفسير وصلته بمنظور البحث الأصولي[/align]
لعبدالرحمن الحاج
[align=center]مقدمة[/align]
لا يكتسب البحث في أصول التفسير أهميته من منظور علمي وحسب، حيث إنهّ لا يزال علماً غير مكتمل أو غير واضح المعالم، بل يكتسب أهميته فوق ذلك من التفكير في مشروع النهضة والإصلاح الإسلامي، وكون موضوعه (فهم القرآن الكريم) المصدر الأول لكل تفكير في هذا المشروع، والعودة إلى هذا المصدر هو حاجة معرفية وتاريخية لتجاوز ثقل الثقافة التاريخية وفهومها التي تفصل بيننا وبين النص الكريم؛ ثم هو "تقليد" سارت عليه كل حركات الإصلاح الديني والسياسي في تاريخ الحضارة الإسلامية، فكل تفكير بالنهضة لا بد أن يتخذ موقفاً تجاه النص الكريم وفهماً يسوِّغ رؤيته، ولكن الحقيقة المؤسفة أن البحث في أصول التفسير ما زال حتى اليوم في بدايته.
وعلى الرغم من أن التفسير أول العلوم الإسلامية وجوداً إلاّ أنه كان آخرها بلورةً على مستوى التأسيس النظري والتقعيد؛ إذ لم يتم بحث «قواعد كلية للتفسير» بشكل مستقل حتى مطلع القرن الخامس -والمفارقة أن فهم القرآن كان السبب الرئيس لنشأة العلوم العربية برمَّتها، والتي تبلورت معظمها في القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الهجريين- عندما ألف أبو النصر الحدادي (توفي مطلع القرن الخامس) كتابه «المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى» محاولاً ضبط التفسير بقواعد النحو، ثم لا نعثر على محاولة أخرى حتى مطلع القرن السابع الهجري عندما ألَّف عبد الرحمن الحرالي (ت638ﻫ) كتابه «مفتاح اللُّبِّ المقفل لفهم القرآن المنـزّل» في «قوانين تتنـزّل في علم التفسير منـزلة أصول الفقه من الأحكام» ، ثم ابن تيميه في «مقدمته» الشهيرة في أصول التفسير، ثم ألف نجم الدين أبو سليمان الطوفي الحنبلي (ت710ﻫ) كتابه «الإكسير في قواعد التفسير» ، ثم جاء ابن الأكفاني (ت 748ﻫ) ليدرس في كتابه «نغب الطائر من البحر الزاخر» ما قال إنه «قانون عام يعوّل في التفسير عليه، وترجع في التأويل [للقرآن] إليه، ومسبار تامٌّ يميّز ذلك، وتتضح به المسالك» ، ثم كان علينا أن ننتظر حتى مجيء العلامة بدر الدين الزركشي (ت794ﻫ) ليحدد تعريف علم التفسير بأنه «علم كشف معاني القرآن» ، ثم جاء جلال الدين البلقيني (ت824ﻫ) فألّف في أصول علم التفسير كتابه «مواقع العلوم من مواقع النجوم» متناولاً «ما حواه القرآن الشريف من أنواع علمه المنيف» ، وهو أميل إلى أن يكون في علوم القرآن منه إلى علم أصول التفسير، ويؤلف الكافيجي (ت 879ﻫ) أول كتاب مستقل يدرس علم التفسير بوصفه علماً له موضوعاته وأدواته وشروطه باسم «التيسير في قواعد علم التفسير» ، وأخيراً أتى جلال الدين السيوطي (ت911ﻫ) بكتابه «التحبير في علم التفسير» ، وقد نسخ فيه ما جاء في كتاب البلقيني وزاد عليه قليلاً، مما جعله كسلفه؛ أقرب إلى علوم القرآن منه إلى أصول التفسير.
أولاً: ملابسات التاريخية :
إن ثمة ما يقارب ثلاثة قرون تفصل بين تأسيس علم أصول التفسير، وبين تأسيس العلوم العربية الإسلامية الأخرى، وهي مسافة زمنية كبيرة جداً، تثير السؤال عن سبب تأخر بلورة هذا العلم وتدوينه نسبة إلى العلوم الأخرى؟ وإذا كان جواب السيوطي هو «إهمال المتقدمين» ، فإن هذا الجواب السهل لا نجده كافياً، إذ لابد من مبررات علمية كانت تحفُّ بالإطار التاريخي طيلة هذه القرون الخمسة، وعلى ما يبدو فإن تاريخ نشأة العلوم العربية والإسلامية الأخرى تكشف بحد ذاتها عن السبب الحقيقي الكامن خلف هذه الظاهرة، فقد كانت أولى القضايا التي واجهت المجتمع الإسلامي بعد الفتوحات مسألة «العجمة»، و«إعجاز القرآن»، و«عربية القرآن» في سياق الجدل الكلامي مع الفرق.
فأما مسألة العجمة فقد أفرزت ما سمي بـ«علم النحو»، الذي تبلَّر على يد العلامة سيبويه (ت187ﻫ) في كتابه الشهير «الكتاب» ؛ إذ يُرجع الباحثون نشأة هذا العلم إلى انتشار «اللّحن» بدخول الشعوب غير العربية في الإسلام، ولأن اللحن يحول دون التواصل مع الكتاب الكريم، بل ويعرضه لخطأ وسوء الفهم، فقد كان الدرس النحوي لتقويم اللسان حفظاً لفهم القرآن الكريم وحسن أدائه .
وأما قضية «إعجاز القرآن» فقد كانت الشغل الشاغل للمتكلمين، وقد أوصل البحث فيها إلى ولادة «علم البلاغة»، وليس غريباً أن يكون ذلك على يد متكلمين ) مثل المعتزلة، وتحديداً الجاحظ الذي ابتكر أهم مصطلحاته خصوصاً مصطلح «المجاز»، وأدى أيضاً البحث في إعجاز القرآن إلى إنشاء علم «مشكل القرآن» على يد ابن قتيبة (ت276ﻫ) في كتابه «تأويل مشكل القرآن» ، الذي يبحث في انسجام القرآن وتماسك نظمه.
هذا فيما أدّت قضية «عربية القرآن» إلى جمع اللغة وتدوين المعجم، فولَّد «علم المعاجم» أو المعجمة العربية مع الخليل الفراهيدي (ت170ﻫ) في معجمه النفيس «العين».
كما أن توسُّع ديار المسلمين بالفتوحات فرض تغيّرات في أنماط الحياة وفي مستجدات فتحت باب الاجتهاد الفقهي على مصراعيه، بما يعني ذلك من تأويل للنصوص وبحث في دلالتها، أدّت هذه الأحداث بعمومها إلى محاولة ضبط الفوضى الفقهية، بعدما كثر المجتهدون بتأسيس «علم أصول الفقه» على يد الإمام الشافعي (ت 204ﻫ) -رحمه الله- في كتابه «الرسالة».
وقد فتحت ظاهرة الفرق الوضع في الحديث النبوي الشريف، مما استدعى تدوين الحديث، وابتكار شروطه، ولأن التدوين كان الشاغل الرئيسي فإن البلورة النظرية لعلم المصطلح بدأت مبكّرة جداً (سنجدها لدى الإمام مالك (ت179ﻫ) والبخاري (ت256ﻫ) ومسلم (ت261ﻫ)..الخ)، لكن تدوينها كان متأخراً؛ إذ لم يأتِ حتى تأليف الحسن الرامهرمزي (ت360ﻫ) كتابه «المحدِّث الفاضل بين الراوي والواعي،» ثم ابن الصلاح (ت643ﻫ) في مقدمته الشهيرة في علوم الحديث ، وإن كان أصول علم الحديث نجدها عند الشافعي في رسالته بمفاهيمه ومصطلحاته، و قد تطورت لاحقاً بشكل كبير في باب رئيس من أبواب أصول الفقه هو «السنة» .
وما أن تأسست هذه العلوم حتى استقلت وتغيّرت وظيفتها، وأصبحت مسألة فهم عموم القرآن تحظى باهتمامٍ ثانويٍ، فقد انتقل النحو مثلاً من مهمة «ضوابط يسيرة يقيم بها المعربون ألسنتهم بعد أن ضاعت السليقة العربية إلى علم دقيق معقّد ومتطور يُدرس لذاته، فلم [يعد] يقتصر على كونه أداةً لصون العربية من اللحن والزلل» بينما انتقلت البلاغة لدراسة «الفصاحة»، وأسست المعجميّة بحوث اللغة (الصرف، المعجم)، وأصبحت دراسة غريب القرآن جزءاً من الدراسة اللغوية تستثمر في التفسير. لكن هذا الانفصال الطبيعي يشير إلى أن هذه العلوم قد أنجزت المهمة الرئيسية التي قامت لأجلها، وهي مهمة محصلتها صيانة العربية لصيانة التواصل مع القرآن وفهمه، وبالتالي حلّت هذه العلوم بالاشتراك مع الخبر والرواية (النبوية والآثار) مقام علم مستقل للتفسير؛ ولذلك كان منطقياً أن يحيل المفسّر دوماً على علوم اللغة، وأحياناً قليلة على علم الأصول (خصوصاً فيما يتعلق بآيات الأحكام)؛ ولذلك أيضاً احتل السلف الصالح -رضي الله عنهم- موقع المرجعيّة في التفسير، فقد نظر إليهم باستمرار على أنهم «أعرف باللغة»، و«أعلم» بها وبأساليب العرب في التعبير والبيان، فضلاً عن شهادتهم عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وفي حدود هذا الإطار كان يتم التركيز على دور اللغة في التفسير؛ فقد اعتبرت هذه العلوم أدوات ناجزة لتفسير القرآن الكريم، حتى قيل إن كتاب الله «لا يتفسّر إلاّ بتصريف جميع العلوم فيه» ، والعلوم اللغوية هي أهم هذه العلوم، وبذلك فقد استغني عن تأسيس «علم أصول التفسير» بوصفه علماً مستقلاً، واكتُفي بالإشارة إلى «شروط التفسير» و«شروط المفسّر» بشكل موجز في مقدمات التفاسير.
وهذا يكشف لنا عن سبب بروز أداتين رئيسيتين في التفسير: «علوم اللغة» التي غالباً ما يشار إليها بوصفها أساس منهج «التفسير بالرأي»، و«الرواية» التي غالباً ما يشار بوصفها أساس منهج «التفسير بالنقل»، بحيث بقي علم الأصول هامشياً في المناهج التي سادت كتب التفسير حتى اليوم.
وأياً ما يكن تفسيرنا لغياب أو تأخُّر تأسيس (علم أصول التفسير) فإن هذا لا يلغي أن المسألة تستحق الدرس والبحث، ويجب القول: إن تأخر تأسيس علم أصول التفسير (على الرغم من أنه مازال حتى هذه اللحظة في بداياته) لا يعني عدم وجود قضايا أساسية تتعلق بهذا العلم تم درسها بشكل مستقل، أطلق عليها في بعض الأحيان أسماء العلوم: مثل: قراءات القرآن، الناسخ والمنسوخ، المكي والمدني، أسباب النزول، التناسب بين الآيات والسور... الخ ، وبسبب تراكم البحث في هذه القضايا نشأ على يد الإمام الزركشي ما سُميّ بـ«علوم القرآن» ، وعلوم القرآن كما عرضها الزركشي في برهانه أوسع من علم أصول التفسير، فقد جَعل هو نفسه علم التفسير نوعاً من هذه العلوم.
على أن تطور البحث البلاغي وتأثيره في دراسة القرآن أفرز مناهج لدراسة القرآن الكريم لم تتقّدم كثيراً على المستوى النظري، ولكن يمكن استكشافها عبر تطبيقات العلماء، وبشكل خاص «تفسير القرآن بالقرآن» أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255ﻫ) في بحثه «النار في القرآن»، ضمن كتابه «الحيوان» ، ثم ابن تيميه في رسالته «لفظة السنة في القرآن»، والذي اتبعه فيه تلميذه ابن كثير في كتابه «تفسير القرآن العظيم»، والذي كان قد أسهم بنشر أساس التفسير الموضوعي أو إرهاصات التفسير الموضوعي. ولأنَّ تأسيس علم أصول التفسير لم يكن قد تم بعد، فقد بقيت هذه المناهج (على الأقل حتى ما قبل ابن تيميه) مجرّد معالم في المناهج التفسيرية لم تتبلور أو تتطور وتستثمر حتى القرن العشرين، حيث تبلور ما يسمى بـ«التفسير الموضوعي».
ثانياً: أصول التفسير بوصفه عِلْماً .
كانت النقلة المهمة في إنشاء علم لأصول التفسير كامنة في تحديد مهمة للعلم الجديد، الثاوية في «البحث في أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته بقدر الطاقة الإنسانية،» لكن هذا التعريف -على الرغم من أنه حرض على العمل في تقعيد هذا العلم- ملتبس بمفهوم التفسير نفسه؛ فلم يحدد موضوعه بإنشاء «القواعد الكلية» كما يفترض في هذا العلم، وقد أدى هذا الالتباس في مصطلح علم التفسير (بمعنى التفسير نفسه) مع مصطلح علم التفسير (بمعنى القواعد الكلية للتفسير) إلى تحديد غير دقيق في موضوعاته، ولهذا عندما أراد السيوطي مثلاً تحديد فروعه وموضوعاته لم تكن إلاّ بعض علوم القرآن التي تعتبر معظمها -على أهميتها- ثانوية بالنسبة لـ «القواعد الكلية».
لقد دعا هذا الالتباس العلامة الفنَّاري ليناقش التعريفات التي تحدد مفهوم «علم التفسير»، معتبراً أن كلمة علم يفترض أنها دالّة على «الأصول والقواعد أو مَلَكَتَهَا»، وأن هذا لا يصحُّ بالنسبة لعلم التفسير؛ لأنه «ليس لعلم التفسير [بعد] قواعد يتفرع عليها الجزئيات إلاّ في المواضع النادرة.»
وفيما عدا الحرَّالي الذي «نظَّر» إلى حدٍّ ما لعلم أصول التفسير على أنه بمنزلة أصول الفقه بالنسبة لعلم «الفقه»، كما مرّ، وابن تيميه الذي سعى لوضع «قواعد كلية»، فإننا لا نعثر على مساهمات حقيقية في إطار تحديد موضوع «علم أصول التفسير»، إلا عند ابن الأكفاني (ت748ﻫ) الذي يعتبر موضوع علم التفسير هو تأسيس «قانون عام يعوّل في التفسير عليه، وترجع في التأويل [للقرآن] إليه» ؛ ولهذا فإن ثمة ضرورة ما تزال قائمة لضبط صارم لعلم أصول التفسير وموضوعاته.
والظن أنه بالإمكان تحديده من خلال وظيفته، بوصفه «العلم بالقواعد الكلية المتعلقة بالكشف عن أحوال كتاب الله تعالى (القرآن) من حيث دلالته على المعنى»، وبذلك تنحصر موضوعات علم أصول التفسير بـ«الكليات» من القواعد، كما تتحدد مهمته بـ«بالكشف عن الدلالة» .
لاشك أن هذين العنصرين سيفرضان عدداً من الموضوعات، تبدأ بتحديد مفهوم الدلالة وتعددها في القرآن الكريم، ثم خصائص القرآن المؤثرة في التأويل، وشروط التأويل، ودور المفسّر، وتصنيف الوحدات الدلالية (المفردة، الجملة،..الخ)، والسياق التاريخي (أسباب النزول، والظروف العامة لنزول القرآن... الخ)، وسوف تستلزم هذه الأقسام -بدون شك- بحثاً في المناهج، والأدوات اللازمة لها، والطرق الممكن اتباعها لتطبيقها. وشأنُ كل علم يتداخل مع العلوم فإنه في إنشائه سوف يقتبس من العلوم الأخرى ويعتمد عليها ضمن إطاره الوظيفي، ثم يتطور ليبلور أدواته ومناهجه الخاصة التي سوف تتطور بدورها وتنضج بالجهود اللاحقة.
إن الإطار الوظيفي لعلم أصول التفسير هو إذاً «استقبال» وتحليل الدلاّلة لنصٍّ ناجز، واستعارته من العلوم تبقى في حدود مهمته: «تحليل النّص» واستكشاف الدلالة واستنباطها، وبناء على ذلك نقول (مستعيرين تعبير الشاطبي في تحديد موضوعات أصول الفقه) : كل مسألةٍ مرسومةٍ في أصول التفسير لا ينبني عليها تفسير أو تأويل، أو لا تكون عوناً مباشراً في ذلك، فوضعها في أصول التفسير عاريَّة.. فليس كل ما يفتقر إليه التفسير من العلوم يعدُّ من أصوله.
وإنه لمن بدهيات البحث التفسيري أن الثقل الرئيسي للدلالة يتركَّز على الدرس اللغوي؛ ذلك أن القرآن ينتمي في لفظه المادي إلى نسق اللغة العربية، ولا سبيل إلى دلالته خارج إطار الوسيط اللغوي، فما ورد من الوحي على لسان الرسول تفسيراً للقرآن الكريم يعتبر نادراً ؛ ولذلك كان الشرط الرئيس للتفسير هو العلم باللغة العربية وقواعدها بوصفه شرطاً دائماً أمراً لا مفر منه في كل الأحوال.
إنه لمن المحزن حقاً أن الخطوات التأسيسية هذه لم تستكمل أو تستثمر بشكل جيد فيما بعد، فوجدنا أنفسنا لا محالة أمام فراغ كبير ما يزال ينتظر الكثير من الجهد.
ثالثاً: المنظور الأصولي أساساً لأصول التفسير :
وما دام التفسير متعلقاً أولاًَ وقبل كل شيء بالدلالة اللغوية، فإن ملاحظة علاقة العلوم اللغوية ووظيفتها بالنسبة للدلالة أمر قد يساعدنا على كشف المصادر التي بإمكانها مدّ أصول التفسير بالمادة الأساسية للتقعيد؛ وذلك أن أي علم من العلوم يقف دوماً على تقاطعات العلوم، ويؤسس قواعده وأدواته عبر تداخلها والاستعارة من أدواتها ومناهجها، إذ ليس هناك علم خالص من أي نوع من أنواع العلاقات المذكورة، وهو أمر شديد الوضوح فيما يخص البحث اللغوي العربي.
لقد قامت أهم علوم العربية (النحو والبلاغة) على وظيفة تحديد قواعد الأداء والتركيب فيما قام أصول الفقه على وظيفة تحليل النص وتلقِّيه، ومن هنا فإنه يمكن ملاحظة الصلة بين المنظور الأصولي (أصول الفقه) والوظيفة الاستقبالية لعلم التفسير، فإذا كنا نميّز بين الوحدات اللغوية (الكلمات)، والأنظمة اللغوية -على النحو الذي ميّز فيه العلماء الأقدمون بين «علم اللغة» بمفهومه العام الذي يشمل كل الدرس اللغوي ومباحثه، وبين علم اللغة بمفهومه الخاص الذي يبحث في (الكلمات) فيما يسمى الآن بـ«المعجمية»- إذا كنا نميّز موضوعات اللغة على هذا النحو، فإن كلاً منهما يسهم في صياغة علم التفسير، والواقع أن «المعجم» العربي يعتمد على النقل أساساً وأحياناً على القياس ، فهو في المحصلة علمٌ نقلي «وصفي» الطابع إجمالاً، فيما العلوم التي تدرس أنظمة اللغة هي علوم تسعى نحو التوصل إلى «معيارية»؛ بمعنى أنها تسعى لإقامة قواعد تحكم الأداء والتلقي للكلام، ولكنها قواعد تقوم على الاستقراء والتحليل للنصوص المنجزة في اللغة، وبهذا المعنى فإن «المعيارية» ليست إلاّ حصيلة الوصف والتحليل.
ولأن علم التفسير هو علمٌ لتلقِّي النص القرآني فإن ما يعني علم أصول التفسير من اللغة والعلوم هي تلك المتعلقة بـ«استنباط الدلالة» من الكلام الناجز، ولا نتكلف عناء لنلاحظ أن أهم العلوم التي قامت على أساس الدلالة اللغوية هي: «أصول الفقه» و«النحو»، ولكن بينما يشتغل أصول الفقه في الكلام بعد إنتاجه، فإنه في النحو يكون الاشتغال في الدلالة قبل إنتاج الكلام، فقد عُرِّف الأصول على أنه «العلم بالقواعد الكلية لاستنباط الأحكام [الدلالة] الشرعية من أدلتها التفصيلية،» وهذا يعني أن «نظر الأصولي [كائن] في وجوه دلالة الأدلة السمعية» على حد تعبير الإمام الغزالي، مما يقودنا للقول بأن وظيفة علم الأصول هي الوظيفة المقابلة تماماً لوظيفة علم النحو؛ فقد عرّف النحو بأنه «معرفة كيفية التركيب فيما بين الكلم لتأدية أصل المعنى مطلقاً» ،والمقصود بالمعنى: المعنى الذي يريده المتكلم، وهو ما يُطلق عليه البعض «المعنى النحوي» ، فالنحو أساساً متعلق بالمتكلم ومنشئ النص، فهو معنيٌ بالدلالة قبل أن تضمّن تركيباً، أي قبل لحظة الأداء، أداء المعنى بالتركيب.
1. العلوم اللغوية ووظيفة التلقي أو الاستقبال
إن أصول الفقه وعلم النحو يقفان على طريق واحدة ولكنهما ينظران باتجاهين متعاكسين، فالدلالة بالنسبة لعلم النحو تلاحظ أولاً وقبل الكلام (المبنى)، وهي بالنسبة للأصولي بعد الكلام، والمخاطب بعلم النحو هو «المتكلم» والمؤدِّي، أما المخاطب بأصول الفقه فهو «المتلقي»؛ ولأجل ذلك فإن النحو علمٌ معياري، «قائم على ما يجب أن يكون،» فهو معني بـ«التركيب» والتشكيل، فيما الأصول علم وصفي،
معنيٌّ «بالتحليل» والاستنباط :
المتكلم الكلام المتلقي
الدلالة النحوية الدلالة الأصولية :
على أن النحو لم يمضِ لإتمام وظيفته التي وجد لأجلها بشكل كامل بعد تأسيسه على يد سيبويه في «الكتاب»، فقد درس النحاة الجملةَ -كما يرى بعض الباحثين- «من النقطة الخطأ، من المبنى إلى المعنى، أي في اتجاه معاكسٍ لما تجري عليه عملية الاتصال اللغوي» عند الإرسال، مما أدى إلى جعل درسهم لبناء الجملة «تحليلاً لا تركيباً» ، فأفضى ذلك إلى انكماش التنظير، وفقدان نظرية تركيبية شاملة للكلام العربي عموماً ، ويتمثل هذا المنهج الذي اتبعه النحاة في استنباط أحكام النحو من استقراء كلام العرب ، فقد عُرِّف النحو أيضاً بأنه «العلم بأحكام مستنبطة من استقراء كلام العرب (...) أحكام الكَلِم في ذواتها، أو فيما يَعرضُ لها بالتركيب، لتأدية أصل المعاني (...) ليحترز عن الخطأ في فهم معاني كلامهم، وفي الحذو عليه،» وفي هذا التعريف واضح أن النحو أصبح قلقلاً بين دور «فهم المعاني» و«أدائها.»
لقد كان لهذا القلق في الوظيفة النحوية أن يجر علم النحو للتأثُّر البالغ بعلم الأصول، خصوصاً في تشخيص الأدلة وأوجه دلالتها، وهو أخطر مباحث الأصول والنحو معاً، وقد علل ابن الأنباري ذلك بالقول: «النحو معقول منقول» كما أن الفقه «معقول من منقول» ؛ ولذلك نشهد في تشخيصهم لأدلة النحو نفس ما وجدناه عند الأصوليين من النص (السماع) والقياس والإجماع والاستحسان والاستصحاب وغيرها ، وقد كان لذلك التقليد والمحاكاة لأصول الفقه أن يولِّد علماً جديداً هو «أصول النحو»، و«يعنون بما يسمونه «أصول النحو» ما عناه الأصوليون من «أصول الفقه» بشقيه الأدلة والمصادر التي ينبني عليها النحو والقواعد الممهدة للاستنباط،» ثم كان أصوليو النحو حريصين كل الحرص على بيان اتِّباعهم لأصول الفقه من أمثال: ابن جني وابن الأنباري والسيوطي .
وفي السياق نفسه -أعني التقليد لأصول الفقه- ابتكر النحاة ما سمي بـ «التأويل النحوي» ليجبروا به كل صدعٍ في «بناء الجملة» إذا لم يكن متوافقاً مع البنية الأساسية، وذلك بأن يحمل الكلام على معناه لا على لفظه، وسموا هذه الوسيلة: «الحمل على المعنى»، وقالوا: «والحمل على المعنى كثير في كلامهم؛» ولهذا السبب تركَّز البحث النحوي حول «العلامة الإعرابية»، التي بقدر ما هي مهمة في «التركيب» هي مهمةٌ أيضاً في الاستقبال و«التلقي» للنص، والفهم له، وهي في الواقع جزء -وإن كان أساسياً- من موضوعات علم النحو، وليست كل موضوعاته، كما يحصل في الواقع في مؤلفات هذا العلم.
لقد جرت محاولات عديدة لإصلاح النحو، بدءاً من الجرجاني (ت471ﻫ) في كتابه «دلائل الإعجاز» اعتماداً على مفهوم المعنى النحوي وصلته بالنظم «التركيب»، والذي قدم بحق أهم نقد للنحويين مبتكراً «نظرية النظم» أو«التعليق» ، وهي نظرية النحو العربي المتعلقة بإنتاج الكلام وأداء المعنى ، وثانيها محاولة ابن مضاء الأندلسي (513-592ﻫ) في كتابه الشهير: «الرد على النحاة» الذين «التزموا [في النحو] ما لا يلزمهم، وتجاوزوا فيها [صناعة النحو] القدر الكافي فيما أرادوه منها» ، وصولاً إلى العصر الحديث حيث قدم إبراهيم مصطفى في كتابه «إحياء النحو» نقداً للنحويين الذين حصروا غايته في بيان الإعراب وتفصيل أحكامه، في ذهلٍ عن الوظيفة الرئيسية للنحو «قوانين تأليف الكلام» ، ومحاولة حميدة مصطفى في كتابه: «نظرية الربط والارتباط في اللغة العربية»؛ إذ قام بتطوير نظرية الجرجاني من خلال علم اللغة الحديث (اللسانيات) ، والخروج بنظرية «الربط والارتباط»، وغيرهم .
وتبقى الإشكالية الرئيسية في المعنى النحوي لعلم النحو كما هو عليه اليوم في الإعراب؛ إذ اتخذ وسيلةً للإبانة عن المعنى، في وقت يحتاج الإعراب ذاته إلى المعنى، فلا يمكن التوصل إلى الإعراب إلا عن طريق الفهم العام للجملة، متمثلاً في فهم العلاقات المعنوية بين الألفاظ، «وقد اضطرهم هذا إلى قولهم الشهير: «الإعراب فرعُ المعنى»، وتوسلوا إلى ذلك بفكرة «العامل النحوي»...» ، وهو ما يدخلهم في نوع من الدور المنطقي.
ما يعنينا من كل هذا في علم التفسير هو البحث الدلالي النحوي، وتحديداً الإعراب و«العلامة» الإعرابية، فقد كان مسار الدرس النحوي على ما وصفنا من موقعه القلق بين مؤدي الكلام ومتلقيه قد أدى إلى حصر النحو في العلامة الإعرابية، التي تتضمن ذاتها هذا الموقف القلق بين الأداء والتلقي، ونحن نعتبرها موضوعاً مشتركاً بين علمي النحو والأصول، وإن لم يكن قد اشتغل بها الأصوليون ، إذ هي تصلح للموقفين معاً: (التلقي والأداء)، وعلى هذا فاستثمارها في علم التفسير ضرورة لتلقي القرآن بصفته «كلاماً ناجزاً» لله سبحانه وتعالى، وعلم التفسير معني بدراسة الدلالة الإعرابية بنفس الدرجة التي تعني علم الأصول.
2. أصول الفقه وتقعيد أصول التفسير
و يقودنا هذا كله للقول بأن منظور أصول الفقه الدلالي يتقاطع إلى حد كبير مع علم أصول التفسير، والمثير في الأمر أن تأسيس أصول الفقه برسالة الشافعي قام -فيما يبدو- بوصفه قواعد لدراسة «أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً» بشكل رئيس، لكن تطوراته فيما بعد وتوسعه بوصفه علماً متخصصاً باستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية دون غيرها، وبقيت آيات الأحكام من موضوعاتها الرئيسة.
لقد كانت الدلالة القاسم المشترك بين العلوم الإسلامية، ومن غير الممكن القول إن واحداً من تلك العلوم يستأثر بالبحث الدلالي منفرداً، لكننا مع ذلك نجد أنفسنا أمام «علم أصول الفقه» باعتباره العلم الوحيد المؤسس «لتلقي» النصّ القرآني المنزل، ولكن المشكلة الرئيسية أن أصول الفقه تطّور فيما بعد من مهمة رئيسية هي تأسيس «قواعد تفسير آيات الأحكام» عند الإمام الشافعي إلى قواعد «استنباط القفه» عموماً والاجتهاد الفقهي، وهو تطورّ لا يلغي المهمة التي ابتدأها أساساً الشافعي بقدر ما يزيد عليها ويعتبرها إحدى مهماته الرئيسية.
المشكلة في الأصول هي في ضيق الدائرة التي يُشغَّل ويشتغل فيها، ورغم ذلك فهو العلم الوحيد الناضج الذي نهض لدراسة الدلالة من موقع التلقي، وهو أكثر العلوم قابلية للاستثمار والاستعارة لعلم أصول التفسير، إلاّ أن استثماراً من هذا النوع يستدعي تعديلات ونقد لتمكينه من توسيع دائرة عمله في النص القرآني.
إن انحصار «أصول الفقه» في مسائل الأحكام الشرعية جعل العلماء ينظرون إلى أصول الفقه على أنه إحدى الأدوات الثانوية بالنسبة إلى العلوم اللغوية في الأهمية، ذلك أنه يستخدم في الدائرة المتعلقة بالأحكام المستنبطة من الآيات ، وربما كان المثال على ذلك أبو حيان الأندلسي في كتابه البحر المحيط، الذي يصرح باستثمار الأصول إلاّ أنه يؤخره إلى آخر درجة فعلياً ، وهذا شأن التفاسير التي صرّحت في بعض الأحيان باعتبار علم الأصول أداة. وبسبب هذا الارتباط بين علم الأصول والأحكام الفقهية يرى بعض العلماء أن «نقل المنهج الأصولي ليصبح منهجاً للتعامل مع النص القرآني في المجالات والمحاور كلّها (...) غير صحيح،» بافتراض أن «لكل مجال آلات لفهمه» ، فيما يرى بعض الباحثين أن علم أصول التفسير يرتكز بشكل كبير على أصول الفقه .
لقد أصبحت إذاً الحاجة إلى «قانون عام يعوّل في تفسيره [القرآن] عليه، ويرجع في تفسيره إليه: من معرفة مفرداته، ومركباتها، وسياقه، وظاهره وباطنه، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوهم، ويدقَّ عنه الفهم» أمراً «لا يستغنى عنه.» ولا يبدو أن ثمَّة علماً مرشحاً لذلك أكثر من أصول الفقه، مع ملاحظة أنه يحتاج إلى بعض التعديل ليناسب فضاء النص القرآني بشموله، ولا يقتصر على الأحكام الفقهية وقواعدها الواردة في القرآن.
محاولات قليلة جرت لاعتماد أصول الفقه أصولاً للتفسير، أما تعديل الأصول لتأهيله لدور التفسير المتعلق بكامل القرآن وليس آيات الأحكام فحسب فهو أكثر ندرة، فقد كانت المحاولة الأولى للمعلم عبد الحميد الفراهي (1280-1349ﻫ) في النصف الأول من القرن الثالث الهجري في كتابه «التكميل في أصول التأويل»، حيث أفرده «لتمهيد أصول راسخة لتأويل القرآن إلى صحيح معناه، وهو علم مستقل عظيم المحل في التفسير، فإنه يدلك على المعنى المراد من كتاب الله، ومع ذلك هو فن عام؛ فإن قواعد التأويل تجري في كل كلام،» غير أن هذه الأصول «لم يحتج إلى تأسيس هذا الفن بالكلية؛ فإنك تجد طرفاً منه في أصول الفقه، ولكنه غير تمام،» وعلى هذا الأساس يلقي الفراهي على عاتقة مسؤولية «تكميل هذا الفن [الذي أسس الأصوليون طرفاً منه]، حتى يكون هو المعتمد في فهم كتاب الله وكل كلام حكيم،» ومن هنا جاء اسم كتابه.
في الواقع لم يكتف الفراهي بتأسيس قواعد لتأويل القرآن مشتقة من أصول الفقه، بل إنه طبقها في تفسيره «نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان،» فقد اعتبر كتابه مقدمة لهذا التفسير . ونلاحظ اعتماده على قواعد الأصوليين في كتابه «مفردات القرآن» وكتابه النفيس «دلائل النظام» .
والمحاولة الثانية نجدها في دراسة خالد عبد الرحمن العك: «أصول التفسير وقواعده» ، منطلقاً من أنه «على التحقيق فإن كل العلوم بكثرتها وبتعدد أقساها هي وسيلة لهذا العلم» ، وقد استند إلى أصول الفقه الذي «لم يكونوا يعدُّونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم، وهي من أصول الفقه، فيحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير» ، معتمداً في ذلك على ما كتبه الطاهر ابن عاشور في مقدمة تفسيره «التحرير والتنوير» .
وقد حاول فعلياً التقعيد لأصول التفسير بالاعتماد على أصول الفقه، فجاءت نصف قواعده مستمدة من أهم أبواب الأصول في الدلالة: «اللغات» و«البيان» ، غير أن ما جاءت به القواعد كانت هي القواعد الأصولية ذاتها دون تطوير لها بعد إدماجها في أصول التفسير، ولهذا لم تتغير حتى الأمثلة عن أمثلة الأصوليين، وفي أحد الأقسام (القسم الخامس) اعتبرت وكأنها متخصصة بالأحكام الشرعية، في الوقت الذي تصلح فيه للعموم. ومع ذلك فالمحاولة هذه تستحق التقدير، إذ تمثل خطوة أخرى تضاف إلى إدماج القواعد الأصولية في أصول التفسير.
ومن المحاولات في هذا المجال دراسة «الدلالات وآثرها في تفسير القرآن الكريم،» ولكن هذه الدراسة فعلياً لم تفعل أكثر من اقتطاع مبحث الدلالات اللغوية الأصولي ونقله إلى «مجالات تطبيقية في تفسير القرآن الكريم،» دون أي تطوير أو تعديل، إذ وجد الباحث أنه «غير منتفع بها في علوم القرآن و التفسير بالقدر الكافي» ، منطلقاً من الاعتقاد بأن «كثيراً من مفاهيم أصول الفقه صالحة لأن تكون قواعد وفكراً في علوم القرآن، فأصول الفقه وعلوم القرآن يخرجان من مشكلة واحدة،» ولكن ما قام به عملياً ليس سوى تكرار ما كتبه الأصوليون حرفياً حتى بأمثلتهم ذاتها، مما يعني أنه لم يقدم دراسة تطبيقية فعلاً، ولا قدّم أي تطوير أو نقد للقواعد الأصولية ولا لكيفية استثمارها في النص القرآني.
في سياق هذه المحاولات أيضاً جاءت دراسة بعنوان «التفسير بالرأي: قواعده و ضوابطه و أعلامه،» وهي لا تختلف كثيراً عن المحاولة السابقة في اقتصارها على مبحث الدلالات الأصولي، سوى في أنه اعتبرها قواعد للتفسير بالرأي.
كما نجد في هذه المحاولات أيضاً دراسة بعنوان: «أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص: دراسة مقارنة بين أصول التفسير وأصول الفقه» ، وهي لا تقصد بالمقارنةِ المقارنةَ بين العِلمين، بل الاقتراب واستثمار مادتهما لتفسير القرآن. وتركز الدراسة على أن «البحث الدلالي الأصولي -[ويطلق عليه المؤلف اسم «علم الدلالة»]- يتيح للعالم أن يصل إلى فهم كتاب الله عز وجل،» معتبراً أنه «ليس من المرضي بعد ذلك أن يقبل أي تفسير للنص لا يمر بهذا الغربال الدقيق؛» فالصلة بين علم الأصول وأصول التفسير ليست بعيدة أو ضعيفة ، مما يجعل بحث البيان الأصولي يتوقف عليه فهم كتاب الله عز وجل. وانطلاقاً من ذلك وجد الباحث ضرورة لربط «علم أصول الفقه بعلم أصول التفسير» من خلال أحد مباحثه الرئيسية وهو علم «علم أسباب النزول» ، والدراسة تسعى إلى تطوير العدة الأصولية واستثمارها في علم أصول التفسير؛ إذ يقدم منهجية لاستخدام البحث الدلالي تقوم على«الإحصاء والاختبار» المعروف بعملية «السبر» في مباحث القياس الأصولي. فالدراسة إذاً تستثمر عدداً من البحوث الأصولية في مبحث واحد لمدِّه على مستوى النص القرآني الكريم كله، وفي أهم القضايا خطورةً: تاريخية النصوص القرآنية، وعبر دراسة أثر أسباب النـزول في البيان. لكن لا يبدو أن الدراسة استطاعت تحقيق تطوير ملموس لقواعد الأصول في دراسة القرآن، فكانت نزعتها تقليدية بعض الشيء.
لقد تداخلت في تركيب علم الأصول علوم عديدة، تضايفت «لتكوِّن رؤية شمولية صار البحث الدلالي نتاجاً لها،» وبناءً على ذلك فقد تناولوا «ظواهر لغوية على مستوى التركيب الجملي وعلى مستوى جداول الاختيار كالترادف والمشترك اللفظي والتضاد والغموض والدلالة حول المفاهيم؛ كالخاص والعام، كما كانت هناك أشياء أخرى صوتية وصرفية ونحوية وسيميولوجية إشارية غطّت معالجتهم لها حقولاً من البحث تسعى الدلالية الحديثة اليوم إلى تغطيتها.» وقد درس علم الأصول فضلاً عن ذلك دلالة الخطاب تفسيراً للنص أو تأويلاً له، ودرس بحوثاً يشترك فيها مع العلوم الدينية الأخرى، وإن كان من زاويته الخاصة. هذا كلّه بالإضافة إلى أن علم أصول الفقه درس بحوثاً لم يتناولها علم غيره؛ ذلك أن الدلالة في مؤلفات الأصوليين تدرك مستوىً عجيباً من الإحاطة والشمول، وقدرةً فائقةً على الإشراف من على الدلالة إشراف المسيطر على المادة، الواعي بتفصيلاتها وهياكلها، المنظّر لها تنظيراً واعياً، كل هذا يبرر لنا اعتماد منظور «علم الأصول» ومباحثه منطلقاً لدراسة القرآن وتطوير أدوات ومناهج البحث فيه.
خاتمة:
استهدفت هذه الدراسة الموجزة الكشف عن الفراغ في تقعيد علم أصول التفسير، عبر دراسة تاريخ التقعيد، وحاولت تفهم المبررات التاريخية التي أدت إلى حصول هذا الفراغ، وتأسيساً على منظور التلقي (استقبال الدلالة) الذي تفترض الدراسة أنه يحكم العملية التفسيرية، وجد الباحث أن علم أصول الفقه باعتباره العلم العربي الوحيد القائم على تلقي الدلالة اللغوية وتأويلها، فهو بالتالي أكثر العلوم أهليةً ليكون أساساً لتكوين علم أصول التفسير، وذلك على الرغم من تحفُّظ بعض المعنيين بالدراسات القرآنية من استثمار علم الأصول -ذي النزعة الفقهية- على المجال القرآني الرحب. ويدرك الباحث أيضاً أن تحرير الأصول من الدائرة الفقهية وتوسيع أفقه ليشمل كل موضوعات القرآن وأشكال خطابه أمر ممكن، وإن كان ذلك لا يعني أن بنية أصول الفقه نفسها خالصة من الإشكالات وبعيدة عن النقد، إلا أن كل ذلك لا يعني إهدار الثروة اللسانية الثاوية في علم الأصول والتي لا يقدرها حق قدرها اليوم إلا من عرف الدراسات اللسانية الحديثة (Linguistics)، كما أن استثمارها في تقعيد أصول التفسير جزء من البناء على إنجازات التراث العلمية.
وقد استعرضت الدراسة منظور أصول الفقه مقارناً بمنظور علم النحو، لتصل عبر هذه المقارنة إلى تأكيد أهمية أصول الفقه بالنسبة لتأسيس أصول التفسير، وتتبعت الدراسة -تأسيساً على ذلك- تلك الدراسات التي حاولت اعتماد أصول الفقه أساساً لعلم التفسير، وتبين أنها عموماً لم تستثمر عِلْمَ أصول الفقه على نحو يوسع أفقه، ليكون بإمكانه شمول النص القرآني، بل تعاملت مع قواعده بوصفها مسلمات، وإن كنا نستثني أحداً فنحن نستثني المعلِّم عبد الحميد الفراهي الذي حاول تطوير قواعد أصولية، بل الإضافة عليها لتكون قواعد للتأويل.
وقد أماطت الدراسة اللثام الفراغ التقعيدي في أصول التفسير ولم تنظر إلى أصول الفقه على أنه كاف (ولو مع التطوير والتحوير) وحده لتأسيس هذا العلم، بل إن الدراسة حاولت فقط التوجيه إلى نقطة يمكن بها إحداث تراكم في عملية التقعيد هذه، ويؤمن الباحث بضرورة استثمار كل مباحث التأويل والدلالة في الدراسات العربية الحديثة وعلومها التقليدية، كما يؤمن بشكل خاص بأهمية الدرس اللساني الغربي الحديث ومناهج النقد الأدبي واستراتيجيات القراءة المتأثرة به في تطوير البحث الدلالي التفسيري، ولكن مع ملاحظة دائمة لخصائص النص القرآني بوصفه نصاً ذا وظيفة دينية وتنـزيل إلهي؛ إذ بدون هذه الملاحظة قد ندخل في متاهات لا تحمد عقباها.
ولا شك أن جهوداً جديدة بدأت تبذل لإتمام -إن لم نقل إنشاء- علم أصول التفسير، وإذا كنا أشرنا إلى أصول الفقه، فإنه ليس الجانب الوحيد الذي جرت المحاولات الجديدة عبره لتطوير أصول التفسير، فهناك الآن ما يشبه الثورة البحثية في مناهج التفسير، وقد شهدنا مناهج عديدة في التفسير الموضوعي تستحق كل الاهتمام والتقدير، وكثير منها يعدّ خطوات حقيقية في أصول التفسير، غير أن مناهج التفسير ذاتها تنبني على قاعدة أكبر في أصول التفسير، نرى أنها المادة الأصولية في الأساس، وإن كانت ذاتها تحتاج إلى التطوير والتعديل، ولو أننا استطعنا أن نستثمر معها -وبشكل علمي- الدرسَ اللساني الحديث فسوف نتقدم خطوات كبيرة بكل تأكيد.
ملخص البحث
تأخر التفكير في تأسيس علم أصول الفقه، وذلك بالرغم من أن فهم القرآن الكريم هو كان أهم ما واجه المسلمين بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، الذي لم يخلف إرثاً تفسيرياً مباشراً للقرآن، وبالرغم من أن علم التفسير كان أول العلوم وجوداً إلا أنه كان آخر العلوم في التأسيس النظري والتقعيد له، و السؤال التاريخي كبير عن سبب تأخر التفكير في أصول التفسير حتى القرن الخامس، والمثير حقاً أن هذا العلم لم يلق عناية واهتماماً حقيقياً حتى وقت متأخر (حتى منتصف القرن العشرين تقريباً)!
إن تحديد علم أصول التفسير بوصفه قواعد كلية تدرس القرآن من موقع التلقي ليجعل منظور علم أصول الفقه أكثر المنظورات العلمية أهليةً ليكون أساساً له، ولقد جرت محاولات قليلة ـ بعضها غاية في الأهمية ـ لاستثمار علم أصول الفقه في تشكيل أصول التفسير، لكنها ما تزال في بدايتها، ويرى الباحث أن في ما يتيحه الدرس اللساني الحديث، فضلاً عن التطورات الأخيرة في مناهج التفسير الموضوعي ما يفسح المجال لحدوث نقلة نوعية في تقعيد التفسير، وتطوير أصوله.
المصدر
هذا بحث للصديق الأستاذ عبدالرحمن الحاج وفقه الله ونفع به ، نشره في العدد 37-38 من مجلة إسلامية المعرفة . أحببت نقله هنا للفائدة والمدارسة ، مع الشكر والتقدير للأستاذ عبدالرحمن .
[align=center]تأسيس أصول التفسير وصلته بمنظور البحث الأصولي[/align]
لعبدالرحمن الحاج
[align=center]مقدمة[/align]
لا يكتسب البحث في أصول التفسير أهميته من منظور علمي وحسب، حيث إنهّ لا يزال علماً غير مكتمل أو غير واضح المعالم، بل يكتسب أهميته فوق ذلك من التفكير في مشروع النهضة والإصلاح الإسلامي، وكون موضوعه (فهم القرآن الكريم) المصدر الأول لكل تفكير في هذا المشروع، والعودة إلى هذا المصدر هو حاجة معرفية وتاريخية لتجاوز ثقل الثقافة التاريخية وفهومها التي تفصل بيننا وبين النص الكريم؛ ثم هو "تقليد" سارت عليه كل حركات الإصلاح الديني والسياسي في تاريخ الحضارة الإسلامية، فكل تفكير بالنهضة لا بد أن يتخذ موقفاً تجاه النص الكريم وفهماً يسوِّغ رؤيته، ولكن الحقيقة المؤسفة أن البحث في أصول التفسير ما زال حتى اليوم في بدايته.
وعلى الرغم من أن التفسير أول العلوم الإسلامية وجوداً إلاّ أنه كان آخرها بلورةً على مستوى التأسيس النظري والتقعيد؛ إذ لم يتم بحث «قواعد كلية للتفسير» بشكل مستقل حتى مطلع القرن الخامس -والمفارقة أن فهم القرآن كان السبب الرئيس لنشأة العلوم العربية برمَّتها، والتي تبلورت معظمها في القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الهجريين- عندما ألف أبو النصر الحدادي (توفي مطلع القرن الخامس) كتابه «المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى» محاولاً ضبط التفسير بقواعد النحو، ثم لا نعثر على محاولة أخرى حتى مطلع القرن السابع الهجري عندما ألَّف عبد الرحمن الحرالي (ت638ﻫ) كتابه «مفتاح اللُّبِّ المقفل لفهم القرآن المنـزّل» في «قوانين تتنـزّل في علم التفسير منـزلة أصول الفقه من الأحكام» ، ثم ابن تيميه في «مقدمته» الشهيرة في أصول التفسير، ثم ألف نجم الدين أبو سليمان الطوفي الحنبلي (ت710ﻫ) كتابه «الإكسير في قواعد التفسير» ، ثم جاء ابن الأكفاني (ت 748ﻫ) ليدرس في كتابه «نغب الطائر من البحر الزاخر» ما قال إنه «قانون عام يعوّل في التفسير عليه، وترجع في التأويل [للقرآن] إليه، ومسبار تامٌّ يميّز ذلك، وتتضح به المسالك» ، ثم كان علينا أن ننتظر حتى مجيء العلامة بدر الدين الزركشي (ت794ﻫ) ليحدد تعريف علم التفسير بأنه «علم كشف معاني القرآن» ، ثم جاء جلال الدين البلقيني (ت824ﻫ) فألّف في أصول علم التفسير كتابه «مواقع العلوم من مواقع النجوم» متناولاً «ما حواه القرآن الشريف من أنواع علمه المنيف» ، وهو أميل إلى أن يكون في علوم القرآن منه إلى علم أصول التفسير، ويؤلف الكافيجي (ت 879ﻫ) أول كتاب مستقل يدرس علم التفسير بوصفه علماً له موضوعاته وأدواته وشروطه باسم «التيسير في قواعد علم التفسير» ، وأخيراً أتى جلال الدين السيوطي (ت911ﻫ) بكتابه «التحبير في علم التفسير» ، وقد نسخ فيه ما جاء في كتاب البلقيني وزاد عليه قليلاً، مما جعله كسلفه؛ أقرب إلى علوم القرآن منه إلى أصول التفسير.
أولاً: ملابسات التاريخية :
إن ثمة ما يقارب ثلاثة قرون تفصل بين تأسيس علم أصول التفسير، وبين تأسيس العلوم العربية الإسلامية الأخرى، وهي مسافة زمنية كبيرة جداً، تثير السؤال عن سبب تأخر بلورة هذا العلم وتدوينه نسبة إلى العلوم الأخرى؟ وإذا كان جواب السيوطي هو «إهمال المتقدمين» ، فإن هذا الجواب السهل لا نجده كافياً، إذ لابد من مبررات علمية كانت تحفُّ بالإطار التاريخي طيلة هذه القرون الخمسة، وعلى ما يبدو فإن تاريخ نشأة العلوم العربية والإسلامية الأخرى تكشف بحد ذاتها عن السبب الحقيقي الكامن خلف هذه الظاهرة، فقد كانت أولى القضايا التي واجهت المجتمع الإسلامي بعد الفتوحات مسألة «العجمة»، و«إعجاز القرآن»، و«عربية القرآن» في سياق الجدل الكلامي مع الفرق.
فأما مسألة العجمة فقد أفرزت ما سمي بـ«علم النحو»، الذي تبلَّر على يد العلامة سيبويه (ت187ﻫ) في كتابه الشهير «الكتاب» ؛ إذ يُرجع الباحثون نشأة هذا العلم إلى انتشار «اللّحن» بدخول الشعوب غير العربية في الإسلام، ولأن اللحن يحول دون التواصل مع الكتاب الكريم، بل ويعرضه لخطأ وسوء الفهم، فقد كان الدرس النحوي لتقويم اللسان حفظاً لفهم القرآن الكريم وحسن أدائه .
وأما قضية «إعجاز القرآن» فقد كانت الشغل الشاغل للمتكلمين، وقد أوصل البحث فيها إلى ولادة «علم البلاغة»، وليس غريباً أن يكون ذلك على يد متكلمين ) مثل المعتزلة، وتحديداً الجاحظ الذي ابتكر أهم مصطلحاته خصوصاً مصطلح «المجاز»، وأدى أيضاً البحث في إعجاز القرآن إلى إنشاء علم «مشكل القرآن» على يد ابن قتيبة (ت276ﻫ) في كتابه «تأويل مشكل القرآن» ، الذي يبحث في انسجام القرآن وتماسك نظمه.
هذا فيما أدّت قضية «عربية القرآن» إلى جمع اللغة وتدوين المعجم، فولَّد «علم المعاجم» أو المعجمة العربية مع الخليل الفراهيدي (ت170ﻫ) في معجمه النفيس «العين».
كما أن توسُّع ديار المسلمين بالفتوحات فرض تغيّرات في أنماط الحياة وفي مستجدات فتحت باب الاجتهاد الفقهي على مصراعيه، بما يعني ذلك من تأويل للنصوص وبحث في دلالتها، أدّت هذه الأحداث بعمومها إلى محاولة ضبط الفوضى الفقهية، بعدما كثر المجتهدون بتأسيس «علم أصول الفقه» على يد الإمام الشافعي (ت 204ﻫ) -رحمه الله- في كتابه «الرسالة».
وقد فتحت ظاهرة الفرق الوضع في الحديث النبوي الشريف، مما استدعى تدوين الحديث، وابتكار شروطه، ولأن التدوين كان الشاغل الرئيسي فإن البلورة النظرية لعلم المصطلح بدأت مبكّرة جداً (سنجدها لدى الإمام مالك (ت179ﻫ) والبخاري (ت256ﻫ) ومسلم (ت261ﻫ)..الخ)، لكن تدوينها كان متأخراً؛ إذ لم يأتِ حتى تأليف الحسن الرامهرمزي (ت360ﻫ) كتابه «المحدِّث الفاضل بين الراوي والواعي،» ثم ابن الصلاح (ت643ﻫ) في مقدمته الشهيرة في علوم الحديث ، وإن كان أصول علم الحديث نجدها عند الشافعي في رسالته بمفاهيمه ومصطلحاته، و قد تطورت لاحقاً بشكل كبير في باب رئيس من أبواب أصول الفقه هو «السنة» .
وما أن تأسست هذه العلوم حتى استقلت وتغيّرت وظيفتها، وأصبحت مسألة فهم عموم القرآن تحظى باهتمامٍ ثانويٍ، فقد انتقل النحو مثلاً من مهمة «ضوابط يسيرة يقيم بها المعربون ألسنتهم بعد أن ضاعت السليقة العربية إلى علم دقيق معقّد ومتطور يُدرس لذاته، فلم [يعد] يقتصر على كونه أداةً لصون العربية من اللحن والزلل» بينما انتقلت البلاغة لدراسة «الفصاحة»، وأسست المعجميّة بحوث اللغة (الصرف، المعجم)، وأصبحت دراسة غريب القرآن جزءاً من الدراسة اللغوية تستثمر في التفسير. لكن هذا الانفصال الطبيعي يشير إلى أن هذه العلوم قد أنجزت المهمة الرئيسية التي قامت لأجلها، وهي مهمة محصلتها صيانة العربية لصيانة التواصل مع القرآن وفهمه، وبالتالي حلّت هذه العلوم بالاشتراك مع الخبر والرواية (النبوية والآثار) مقام علم مستقل للتفسير؛ ولذلك كان منطقياً أن يحيل المفسّر دوماً على علوم اللغة، وأحياناً قليلة على علم الأصول (خصوصاً فيما يتعلق بآيات الأحكام)؛ ولذلك أيضاً احتل السلف الصالح -رضي الله عنهم- موقع المرجعيّة في التفسير، فقد نظر إليهم باستمرار على أنهم «أعرف باللغة»، و«أعلم» بها وبأساليب العرب في التعبير والبيان، فضلاً عن شهادتهم عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وفي حدود هذا الإطار كان يتم التركيز على دور اللغة في التفسير؛ فقد اعتبرت هذه العلوم أدوات ناجزة لتفسير القرآن الكريم، حتى قيل إن كتاب الله «لا يتفسّر إلاّ بتصريف جميع العلوم فيه» ، والعلوم اللغوية هي أهم هذه العلوم، وبذلك فقد استغني عن تأسيس «علم أصول التفسير» بوصفه علماً مستقلاً، واكتُفي بالإشارة إلى «شروط التفسير» و«شروط المفسّر» بشكل موجز في مقدمات التفاسير.
وهذا يكشف لنا عن سبب بروز أداتين رئيسيتين في التفسير: «علوم اللغة» التي غالباً ما يشار إليها بوصفها أساس منهج «التفسير بالرأي»، و«الرواية» التي غالباً ما يشار بوصفها أساس منهج «التفسير بالنقل»، بحيث بقي علم الأصول هامشياً في المناهج التي سادت كتب التفسير حتى اليوم.
وأياً ما يكن تفسيرنا لغياب أو تأخُّر تأسيس (علم أصول التفسير) فإن هذا لا يلغي أن المسألة تستحق الدرس والبحث، ويجب القول: إن تأخر تأسيس علم أصول التفسير (على الرغم من أنه مازال حتى هذه اللحظة في بداياته) لا يعني عدم وجود قضايا أساسية تتعلق بهذا العلم تم درسها بشكل مستقل، أطلق عليها في بعض الأحيان أسماء العلوم: مثل: قراءات القرآن، الناسخ والمنسوخ، المكي والمدني، أسباب النزول، التناسب بين الآيات والسور... الخ ، وبسبب تراكم البحث في هذه القضايا نشأ على يد الإمام الزركشي ما سُميّ بـ«علوم القرآن» ، وعلوم القرآن كما عرضها الزركشي في برهانه أوسع من علم أصول التفسير، فقد جَعل هو نفسه علم التفسير نوعاً من هذه العلوم.
على أن تطور البحث البلاغي وتأثيره في دراسة القرآن أفرز مناهج لدراسة القرآن الكريم لم تتقّدم كثيراً على المستوى النظري، ولكن يمكن استكشافها عبر تطبيقات العلماء، وبشكل خاص «تفسير القرآن بالقرآن» أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255ﻫ) في بحثه «النار في القرآن»، ضمن كتابه «الحيوان» ، ثم ابن تيميه في رسالته «لفظة السنة في القرآن»، والذي اتبعه فيه تلميذه ابن كثير في كتابه «تفسير القرآن العظيم»، والذي كان قد أسهم بنشر أساس التفسير الموضوعي أو إرهاصات التفسير الموضوعي. ولأنَّ تأسيس علم أصول التفسير لم يكن قد تم بعد، فقد بقيت هذه المناهج (على الأقل حتى ما قبل ابن تيميه) مجرّد معالم في المناهج التفسيرية لم تتبلور أو تتطور وتستثمر حتى القرن العشرين، حيث تبلور ما يسمى بـ«التفسير الموضوعي».
ثانياً: أصول التفسير بوصفه عِلْماً .
كانت النقلة المهمة في إنشاء علم لأصول التفسير كامنة في تحديد مهمة للعلم الجديد، الثاوية في «البحث في أحوال القرآن الكريم من حيث دلالته بقدر الطاقة الإنسانية،» لكن هذا التعريف -على الرغم من أنه حرض على العمل في تقعيد هذا العلم- ملتبس بمفهوم التفسير نفسه؛ فلم يحدد موضوعه بإنشاء «القواعد الكلية» كما يفترض في هذا العلم، وقد أدى هذا الالتباس في مصطلح علم التفسير (بمعنى التفسير نفسه) مع مصطلح علم التفسير (بمعنى القواعد الكلية للتفسير) إلى تحديد غير دقيق في موضوعاته، ولهذا عندما أراد السيوطي مثلاً تحديد فروعه وموضوعاته لم تكن إلاّ بعض علوم القرآن التي تعتبر معظمها -على أهميتها- ثانوية بالنسبة لـ «القواعد الكلية».
لقد دعا هذا الالتباس العلامة الفنَّاري ليناقش التعريفات التي تحدد مفهوم «علم التفسير»، معتبراً أن كلمة علم يفترض أنها دالّة على «الأصول والقواعد أو مَلَكَتَهَا»، وأن هذا لا يصحُّ بالنسبة لعلم التفسير؛ لأنه «ليس لعلم التفسير [بعد] قواعد يتفرع عليها الجزئيات إلاّ في المواضع النادرة.»
وفيما عدا الحرَّالي الذي «نظَّر» إلى حدٍّ ما لعلم أصول التفسير على أنه بمنزلة أصول الفقه بالنسبة لعلم «الفقه»، كما مرّ، وابن تيميه الذي سعى لوضع «قواعد كلية»، فإننا لا نعثر على مساهمات حقيقية في إطار تحديد موضوع «علم أصول التفسير»، إلا عند ابن الأكفاني (ت748ﻫ) الذي يعتبر موضوع علم التفسير هو تأسيس «قانون عام يعوّل في التفسير عليه، وترجع في التأويل [للقرآن] إليه» ؛ ولهذا فإن ثمة ضرورة ما تزال قائمة لضبط صارم لعلم أصول التفسير وموضوعاته.
والظن أنه بالإمكان تحديده من خلال وظيفته، بوصفه «العلم بالقواعد الكلية المتعلقة بالكشف عن أحوال كتاب الله تعالى (القرآن) من حيث دلالته على المعنى»، وبذلك تنحصر موضوعات علم أصول التفسير بـ«الكليات» من القواعد، كما تتحدد مهمته بـ«بالكشف عن الدلالة» .
لاشك أن هذين العنصرين سيفرضان عدداً من الموضوعات، تبدأ بتحديد مفهوم الدلالة وتعددها في القرآن الكريم، ثم خصائص القرآن المؤثرة في التأويل، وشروط التأويل، ودور المفسّر، وتصنيف الوحدات الدلالية (المفردة، الجملة،..الخ)، والسياق التاريخي (أسباب النزول، والظروف العامة لنزول القرآن... الخ)، وسوف تستلزم هذه الأقسام -بدون شك- بحثاً في المناهج، والأدوات اللازمة لها، والطرق الممكن اتباعها لتطبيقها. وشأنُ كل علم يتداخل مع العلوم فإنه في إنشائه سوف يقتبس من العلوم الأخرى ويعتمد عليها ضمن إطاره الوظيفي، ثم يتطور ليبلور أدواته ومناهجه الخاصة التي سوف تتطور بدورها وتنضج بالجهود اللاحقة.
إن الإطار الوظيفي لعلم أصول التفسير هو إذاً «استقبال» وتحليل الدلاّلة لنصٍّ ناجز، واستعارته من العلوم تبقى في حدود مهمته: «تحليل النّص» واستكشاف الدلالة واستنباطها، وبناء على ذلك نقول (مستعيرين تعبير الشاطبي في تحديد موضوعات أصول الفقه) : كل مسألةٍ مرسومةٍ في أصول التفسير لا ينبني عليها تفسير أو تأويل، أو لا تكون عوناً مباشراً في ذلك، فوضعها في أصول التفسير عاريَّة.. فليس كل ما يفتقر إليه التفسير من العلوم يعدُّ من أصوله.
وإنه لمن بدهيات البحث التفسيري أن الثقل الرئيسي للدلالة يتركَّز على الدرس اللغوي؛ ذلك أن القرآن ينتمي في لفظه المادي إلى نسق اللغة العربية، ولا سبيل إلى دلالته خارج إطار الوسيط اللغوي، فما ورد من الوحي على لسان الرسول تفسيراً للقرآن الكريم يعتبر نادراً ؛ ولذلك كان الشرط الرئيس للتفسير هو العلم باللغة العربية وقواعدها بوصفه شرطاً دائماً أمراً لا مفر منه في كل الأحوال.
إنه لمن المحزن حقاً أن الخطوات التأسيسية هذه لم تستكمل أو تستثمر بشكل جيد فيما بعد، فوجدنا أنفسنا لا محالة أمام فراغ كبير ما يزال ينتظر الكثير من الجهد.
ثالثاً: المنظور الأصولي أساساً لأصول التفسير :
وما دام التفسير متعلقاً أولاًَ وقبل كل شيء بالدلالة اللغوية، فإن ملاحظة علاقة العلوم اللغوية ووظيفتها بالنسبة للدلالة أمر قد يساعدنا على كشف المصادر التي بإمكانها مدّ أصول التفسير بالمادة الأساسية للتقعيد؛ وذلك أن أي علم من العلوم يقف دوماً على تقاطعات العلوم، ويؤسس قواعده وأدواته عبر تداخلها والاستعارة من أدواتها ومناهجها، إذ ليس هناك علم خالص من أي نوع من أنواع العلاقات المذكورة، وهو أمر شديد الوضوح فيما يخص البحث اللغوي العربي.
لقد قامت أهم علوم العربية (النحو والبلاغة) على وظيفة تحديد قواعد الأداء والتركيب فيما قام أصول الفقه على وظيفة تحليل النص وتلقِّيه، ومن هنا فإنه يمكن ملاحظة الصلة بين المنظور الأصولي (أصول الفقه) والوظيفة الاستقبالية لعلم التفسير، فإذا كنا نميّز بين الوحدات اللغوية (الكلمات)، والأنظمة اللغوية -على النحو الذي ميّز فيه العلماء الأقدمون بين «علم اللغة» بمفهومه العام الذي يشمل كل الدرس اللغوي ومباحثه، وبين علم اللغة بمفهومه الخاص الذي يبحث في (الكلمات) فيما يسمى الآن بـ«المعجمية»- إذا كنا نميّز موضوعات اللغة على هذا النحو، فإن كلاً منهما يسهم في صياغة علم التفسير، والواقع أن «المعجم» العربي يعتمد على النقل أساساً وأحياناً على القياس ، فهو في المحصلة علمٌ نقلي «وصفي» الطابع إجمالاً، فيما العلوم التي تدرس أنظمة اللغة هي علوم تسعى نحو التوصل إلى «معيارية»؛ بمعنى أنها تسعى لإقامة قواعد تحكم الأداء والتلقي للكلام، ولكنها قواعد تقوم على الاستقراء والتحليل للنصوص المنجزة في اللغة، وبهذا المعنى فإن «المعيارية» ليست إلاّ حصيلة الوصف والتحليل.
ولأن علم التفسير هو علمٌ لتلقِّي النص القرآني فإن ما يعني علم أصول التفسير من اللغة والعلوم هي تلك المتعلقة بـ«استنباط الدلالة» من الكلام الناجز، ولا نتكلف عناء لنلاحظ أن أهم العلوم التي قامت على أساس الدلالة اللغوية هي: «أصول الفقه» و«النحو»، ولكن بينما يشتغل أصول الفقه في الكلام بعد إنتاجه، فإنه في النحو يكون الاشتغال في الدلالة قبل إنتاج الكلام، فقد عُرِّف الأصول على أنه «العلم بالقواعد الكلية لاستنباط الأحكام [الدلالة] الشرعية من أدلتها التفصيلية،» وهذا يعني أن «نظر الأصولي [كائن] في وجوه دلالة الأدلة السمعية» على حد تعبير الإمام الغزالي، مما يقودنا للقول بأن وظيفة علم الأصول هي الوظيفة المقابلة تماماً لوظيفة علم النحو؛ فقد عرّف النحو بأنه «معرفة كيفية التركيب فيما بين الكلم لتأدية أصل المعنى مطلقاً» ،والمقصود بالمعنى: المعنى الذي يريده المتكلم، وهو ما يُطلق عليه البعض «المعنى النحوي» ، فالنحو أساساً متعلق بالمتكلم ومنشئ النص، فهو معنيٌ بالدلالة قبل أن تضمّن تركيباً، أي قبل لحظة الأداء، أداء المعنى بالتركيب.
1. العلوم اللغوية ووظيفة التلقي أو الاستقبال
إن أصول الفقه وعلم النحو يقفان على طريق واحدة ولكنهما ينظران باتجاهين متعاكسين، فالدلالة بالنسبة لعلم النحو تلاحظ أولاً وقبل الكلام (المبنى)، وهي بالنسبة للأصولي بعد الكلام، والمخاطب بعلم النحو هو «المتكلم» والمؤدِّي، أما المخاطب بأصول الفقه فهو «المتلقي»؛ ولأجل ذلك فإن النحو علمٌ معياري، «قائم على ما يجب أن يكون،» فهو معني بـ«التركيب» والتشكيل، فيما الأصول علم وصفي،
معنيٌّ «بالتحليل» والاستنباط :
المتكلم الكلام المتلقي
الدلالة النحوية الدلالة الأصولية :
على أن النحو لم يمضِ لإتمام وظيفته التي وجد لأجلها بشكل كامل بعد تأسيسه على يد سيبويه في «الكتاب»، فقد درس النحاة الجملةَ -كما يرى بعض الباحثين- «من النقطة الخطأ، من المبنى إلى المعنى، أي في اتجاه معاكسٍ لما تجري عليه عملية الاتصال اللغوي» عند الإرسال، مما أدى إلى جعل درسهم لبناء الجملة «تحليلاً لا تركيباً» ، فأفضى ذلك إلى انكماش التنظير، وفقدان نظرية تركيبية شاملة للكلام العربي عموماً ، ويتمثل هذا المنهج الذي اتبعه النحاة في استنباط أحكام النحو من استقراء كلام العرب ، فقد عُرِّف النحو أيضاً بأنه «العلم بأحكام مستنبطة من استقراء كلام العرب (...) أحكام الكَلِم في ذواتها، أو فيما يَعرضُ لها بالتركيب، لتأدية أصل المعاني (...) ليحترز عن الخطأ في فهم معاني كلامهم، وفي الحذو عليه،» وفي هذا التعريف واضح أن النحو أصبح قلقلاً بين دور «فهم المعاني» و«أدائها.»
لقد كان لهذا القلق في الوظيفة النحوية أن يجر علم النحو للتأثُّر البالغ بعلم الأصول، خصوصاً في تشخيص الأدلة وأوجه دلالتها، وهو أخطر مباحث الأصول والنحو معاً، وقد علل ابن الأنباري ذلك بالقول: «النحو معقول منقول» كما أن الفقه «معقول من منقول» ؛ ولذلك نشهد في تشخيصهم لأدلة النحو نفس ما وجدناه عند الأصوليين من النص (السماع) والقياس والإجماع والاستحسان والاستصحاب وغيرها ، وقد كان لذلك التقليد والمحاكاة لأصول الفقه أن يولِّد علماً جديداً هو «أصول النحو»، و«يعنون بما يسمونه «أصول النحو» ما عناه الأصوليون من «أصول الفقه» بشقيه الأدلة والمصادر التي ينبني عليها النحو والقواعد الممهدة للاستنباط،» ثم كان أصوليو النحو حريصين كل الحرص على بيان اتِّباعهم لأصول الفقه من أمثال: ابن جني وابن الأنباري والسيوطي .
وفي السياق نفسه -أعني التقليد لأصول الفقه- ابتكر النحاة ما سمي بـ «التأويل النحوي» ليجبروا به كل صدعٍ في «بناء الجملة» إذا لم يكن متوافقاً مع البنية الأساسية، وذلك بأن يحمل الكلام على معناه لا على لفظه، وسموا هذه الوسيلة: «الحمل على المعنى»، وقالوا: «والحمل على المعنى كثير في كلامهم؛» ولهذا السبب تركَّز البحث النحوي حول «العلامة الإعرابية»، التي بقدر ما هي مهمة في «التركيب» هي مهمةٌ أيضاً في الاستقبال و«التلقي» للنص، والفهم له، وهي في الواقع جزء -وإن كان أساسياً- من موضوعات علم النحو، وليست كل موضوعاته، كما يحصل في الواقع في مؤلفات هذا العلم.
لقد جرت محاولات عديدة لإصلاح النحو، بدءاً من الجرجاني (ت471ﻫ) في كتابه «دلائل الإعجاز» اعتماداً على مفهوم المعنى النحوي وصلته بالنظم «التركيب»، والذي قدم بحق أهم نقد للنحويين مبتكراً «نظرية النظم» أو«التعليق» ، وهي نظرية النحو العربي المتعلقة بإنتاج الكلام وأداء المعنى ، وثانيها محاولة ابن مضاء الأندلسي (513-592ﻫ) في كتابه الشهير: «الرد على النحاة» الذين «التزموا [في النحو] ما لا يلزمهم، وتجاوزوا فيها [صناعة النحو] القدر الكافي فيما أرادوه منها» ، وصولاً إلى العصر الحديث حيث قدم إبراهيم مصطفى في كتابه «إحياء النحو» نقداً للنحويين الذين حصروا غايته في بيان الإعراب وتفصيل أحكامه، في ذهلٍ عن الوظيفة الرئيسية للنحو «قوانين تأليف الكلام» ، ومحاولة حميدة مصطفى في كتابه: «نظرية الربط والارتباط في اللغة العربية»؛ إذ قام بتطوير نظرية الجرجاني من خلال علم اللغة الحديث (اللسانيات) ، والخروج بنظرية «الربط والارتباط»، وغيرهم .
وتبقى الإشكالية الرئيسية في المعنى النحوي لعلم النحو كما هو عليه اليوم في الإعراب؛ إذ اتخذ وسيلةً للإبانة عن المعنى، في وقت يحتاج الإعراب ذاته إلى المعنى، فلا يمكن التوصل إلى الإعراب إلا عن طريق الفهم العام للجملة، متمثلاً في فهم العلاقات المعنوية بين الألفاظ، «وقد اضطرهم هذا إلى قولهم الشهير: «الإعراب فرعُ المعنى»، وتوسلوا إلى ذلك بفكرة «العامل النحوي»...» ، وهو ما يدخلهم في نوع من الدور المنطقي.
ما يعنينا من كل هذا في علم التفسير هو البحث الدلالي النحوي، وتحديداً الإعراب و«العلامة» الإعرابية، فقد كان مسار الدرس النحوي على ما وصفنا من موقعه القلق بين مؤدي الكلام ومتلقيه قد أدى إلى حصر النحو في العلامة الإعرابية، التي تتضمن ذاتها هذا الموقف القلق بين الأداء والتلقي، ونحن نعتبرها موضوعاً مشتركاً بين علمي النحو والأصول، وإن لم يكن قد اشتغل بها الأصوليون ، إذ هي تصلح للموقفين معاً: (التلقي والأداء)، وعلى هذا فاستثمارها في علم التفسير ضرورة لتلقي القرآن بصفته «كلاماً ناجزاً» لله سبحانه وتعالى، وعلم التفسير معني بدراسة الدلالة الإعرابية بنفس الدرجة التي تعني علم الأصول.
2. أصول الفقه وتقعيد أصول التفسير
و يقودنا هذا كله للقول بأن منظور أصول الفقه الدلالي يتقاطع إلى حد كبير مع علم أصول التفسير، والمثير في الأمر أن تأسيس أصول الفقه برسالة الشافعي قام -فيما يبدو- بوصفه قواعد لدراسة «أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً» بشكل رئيس، لكن تطوراته فيما بعد وتوسعه بوصفه علماً متخصصاً باستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية دون غيرها، وبقيت آيات الأحكام من موضوعاتها الرئيسة.
لقد كانت الدلالة القاسم المشترك بين العلوم الإسلامية، ومن غير الممكن القول إن واحداً من تلك العلوم يستأثر بالبحث الدلالي منفرداً، لكننا مع ذلك نجد أنفسنا أمام «علم أصول الفقه» باعتباره العلم الوحيد المؤسس «لتلقي» النصّ القرآني المنزل، ولكن المشكلة الرئيسية أن أصول الفقه تطّور فيما بعد من مهمة رئيسية هي تأسيس «قواعد تفسير آيات الأحكام» عند الإمام الشافعي إلى قواعد «استنباط القفه» عموماً والاجتهاد الفقهي، وهو تطورّ لا يلغي المهمة التي ابتدأها أساساً الشافعي بقدر ما يزيد عليها ويعتبرها إحدى مهماته الرئيسية.
المشكلة في الأصول هي في ضيق الدائرة التي يُشغَّل ويشتغل فيها، ورغم ذلك فهو العلم الوحيد الناضج الذي نهض لدراسة الدلالة من موقع التلقي، وهو أكثر العلوم قابلية للاستثمار والاستعارة لعلم أصول التفسير، إلاّ أن استثماراً من هذا النوع يستدعي تعديلات ونقد لتمكينه من توسيع دائرة عمله في النص القرآني.
إن انحصار «أصول الفقه» في مسائل الأحكام الشرعية جعل العلماء ينظرون إلى أصول الفقه على أنه إحدى الأدوات الثانوية بالنسبة إلى العلوم اللغوية في الأهمية، ذلك أنه يستخدم في الدائرة المتعلقة بالأحكام المستنبطة من الآيات ، وربما كان المثال على ذلك أبو حيان الأندلسي في كتابه البحر المحيط، الذي يصرح باستثمار الأصول إلاّ أنه يؤخره إلى آخر درجة فعلياً ، وهذا شأن التفاسير التي صرّحت في بعض الأحيان باعتبار علم الأصول أداة. وبسبب هذا الارتباط بين علم الأصول والأحكام الفقهية يرى بعض العلماء أن «نقل المنهج الأصولي ليصبح منهجاً للتعامل مع النص القرآني في المجالات والمحاور كلّها (...) غير صحيح،» بافتراض أن «لكل مجال آلات لفهمه» ، فيما يرى بعض الباحثين أن علم أصول التفسير يرتكز بشكل كبير على أصول الفقه .
لقد أصبحت إذاً الحاجة إلى «قانون عام يعوّل في تفسيره [القرآن] عليه، ويرجع في تفسيره إليه: من معرفة مفرداته، ومركباتها، وسياقه، وظاهره وباطنه، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوهم، ويدقَّ عنه الفهم» أمراً «لا يستغنى عنه.» ولا يبدو أن ثمَّة علماً مرشحاً لذلك أكثر من أصول الفقه، مع ملاحظة أنه يحتاج إلى بعض التعديل ليناسب فضاء النص القرآني بشموله، ولا يقتصر على الأحكام الفقهية وقواعدها الواردة في القرآن.
محاولات قليلة جرت لاعتماد أصول الفقه أصولاً للتفسير، أما تعديل الأصول لتأهيله لدور التفسير المتعلق بكامل القرآن وليس آيات الأحكام فحسب فهو أكثر ندرة، فقد كانت المحاولة الأولى للمعلم عبد الحميد الفراهي (1280-1349ﻫ) في النصف الأول من القرن الثالث الهجري في كتابه «التكميل في أصول التأويل»، حيث أفرده «لتمهيد أصول راسخة لتأويل القرآن إلى صحيح معناه، وهو علم مستقل عظيم المحل في التفسير، فإنه يدلك على المعنى المراد من كتاب الله، ومع ذلك هو فن عام؛ فإن قواعد التأويل تجري في كل كلام،» غير أن هذه الأصول «لم يحتج إلى تأسيس هذا الفن بالكلية؛ فإنك تجد طرفاً منه في أصول الفقه، ولكنه غير تمام،» وعلى هذا الأساس يلقي الفراهي على عاتقة مسؤولية «تكميل هذا الفن [الذي أسس الأصوليون طرفاً منه]، حتى يكون هو المعتمد في فهم كتاب الله وكل كلام حكيم،» ومن هنا جاء اسم كتابه.
في الواقع لم يكتف الفراهي بتأسيس قواعد لتأويل القرآن مشتقة من أصول الفقه، بل إنه طبقها في تفسيره «نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان،» فقد اعتبر كتابه مقدمة لهذا التفسير . ونلاحظ اعتماده على قواعد الأصوليين في كتابه «مفردات القرآن» وكتابه النفيس «دلائل النظام» .
والمحاولة الثانية نجدها في دراسة خالد عبد الرحمن العك: «أصول التفسير وقواعده» ، منطلقاً من أنه «على التحقيق فإن كل العلوم بكثرتها وبتعدد أقساها هي وسيلة لهذا العلم» ، وقد استند إلى أصول الفقه الذي «لم يكونوا يعدُّونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم، وهي من أصول الفقه، فيحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير» ، معتمداً في ذلك على ما كتبه الطاهر ابن عاشور في مقدمة تفسيره «التحرير والتنوير» .
وقد حاول فعلياً التقعيد لأصول التفسير بالاعتماد على أصول الفقه، فجاءت نصف قواعده مستمدة من أهم أبواب الأصول في الدلالة: «اللغات» و«البيان» ، غير أن ما جاءت به القواعد كانت هي القواعد الأصولية ذاتها دون تطوير لها بعد إدماجها في أصول التفسير، ولهذا لم تتغير حتى الأمثلة عن أمثلة الأصوليين، وفي أحد الأقسام (القسم الخامس) اعتبرت وكأنها متخصصة بالأحكام الشرعية، في الوقت الذي تصلح فيه للعموم. ومع ذلك فالمحاولة هذه تستحق التقدير، إذ تمثل خطوة أخرى تضاف إلى إدماج القواعد الأصولية في أصول التفسير.
ومن المحاولات في هذا المجال دراسة «الدلالات وآثرها في تفسير القرآن الكريم،» ولكن هذه الدراسة فعلياً لم تفعل أكثر من اقتطاع مبحث الدلالات اللغوية الأصولي ونقله إلى «مجالات تطبيقية في تفسير القرآن الكريم،» دون أي تطوير أو تعديل، إذ وجد الباحث أنه «غير منتفع بها في علوم القرآن و التفسير بالقدر الكافي» ، منطلقاً من الاعتقاد بأن «كثيراً من مفاهيم أصول الفقه صالحة لأن تكون قواعد وفكراً في علوم القرآن، فأصول الفقه وعلوم القرآن يخرجان من مشكلة واحدة،» ولكن ما قام به عملياً ليس سوى تكرار ما كتبه الأصوليون حرفياً حتى بأمثلتهم ذاتها، مما يعني أنه لم يقدم دراسة تطبيقية فعلاً، ولا قدّم أي تطوير أو نقد للقواعد الأصولية ولا لكيفية استثمارها في النص القرآني.
في سياق هذه المحاولات أيضاً جاءت دراسة بعنوان «التفسير بالرأي: قواعده و ضوابطه و أعلامه،» وهي لا تختلف كثيراً عن المحاولة السابقة في اقتصارها على مبحث الدلالات الأصولي، سوى في أنه اعتبرها قواعد للتفسير بالرأي.
كما نجد في هذه المحاولات أيضاً دراسة بعنوان: «أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص: دراسة مقارنة بين أصول التفسير وأصول الفقه» ، وهي لا تقصد بالمقارنةِ المقارنةَ بين العِلمين، بل الاقتراب واستثمار مادتهما لتفسير القرآن. وتركز الدراسة على أن «البحث الدلالي الأصولي -[ويطلق عليه المؤلف اسم «علم الدلالة»]- يتيح للعالم أن يصل إلى فهم كتاب الله عز وجل،» معتبراً أنه «ليس من المرضي بعد ذلك أن يقبل أي تفسير للنص لا يمر بهذا الغربال الدقيق؛» فالصلة بين علم الأصول وأصول التفسير ليست بعيدة أو ضعيفة ، مما يجعل بحث البيان الأصولي يتوقف عليه فهم كتاب الله عز وجل. وانطلاقاً من ذلك وجد الباحث ضرورة لربط «علم أصول الفقه بعلم أصول التفسير» من خلال أحد مباحثه الرئيسية وهو علم «علم أسباب النزول» ، والدراسة تسعى إلى تطوير العدة الأصولية واستثمارها في علم أصول التفسير؛ إذ يقدم منهجية لاستخدام البحث الدلالي تقوم على«الإحصاء والاختبار» المعروف بعملية «السبر» في مباحث القياس الأصولي. فالدراسة إذاً تستثمر عدداً من البحوث الأصولية في مبحث واحد لمدِّه على مستوى النص القرآني الكريم كله، وفي أهم القضايا خطورةً: تاريخية النصوص القرآنية، وعبر دراسة أثر أسباب النـزول في البيان. لكن لا يبدو أن الدراسة استطاعت تحقيق تطوير ملموس لقواعد الأصول في دراسة القرآن، فكانت نزعتها تقليدية بعض الشيء.
لقد تداخلت في تركيب علم الأصول علوم عديدة، تضايفت «لتكوِّن رؤية شمولية صار البحث الدلالي نتاجاً لها،» وبناءً على ذلك فقد تناولوا «ظواهر لغوية على مستوى التركيب الجملي وعلى مستوى جداول الاختيار كالترادف والمشترك اللفظي والتضاد والغموض والدلالة حول المفاهيم؛ كالخاص والعام، كما كانت هناك أشياء أخرى صوتية وصرفية ونحوية وسيميولوجية إشارية غطّت معالجتهم لها حقولاً من البحث تسعى الدلالية الحديثة اليوم إلى تغطيتها.» وقد درس علم الأصول فضلاً عن ذلك دلالة الخطاب تفسيراً للنص أو تأويلاً له، ودرس بحوثاً يشترك فيها مع العلوم الدينية الأخرى، وإن كان من زاويته الخاصة. هذا كلّه بالإضافة إلى أن علم أصول الفقه درس بحوثاً لم يتناولها علم غيره؛ ذلك أن الدلالة في مؤلفات الأصوليين تدرك مستوىً عجيباً من الإحاطة والشمول، وقدرةً فائقةً على الإشراف من على الدلالة إشراف المسيطر على المادة، الواعي بتفصيلاتها وهياكلها، المنظّر لها تنظيراً واعياً، كل هذا يبرر لنا اعتماد منظور «علم الأصول» ومباحثه منطلقاً لدراسة القرآن وتطوير أدوات ومناهج البحث فيه.
خاتمة:
استهدفت هذه الدراسة الموجزة الكشف عن الفراغ في تقعيد علم أصول التفسير، عبر دراسة تاريخ التقعيد، وحاولت تفهم المبررات التاريخية التي أدت إلى حصول هذا الفراغ، وتأسيساً على منظور التلقي (استقبال الدلالة) الذي تفترض الدراسة أنه يحكم العملية التفسيرية، وجد الباحث أن علم أصول الفقه باعتباره العلم العربي الوحيد القائم على تلقي الدلالة اللغوية وتأويلها، فهو بالتالي أكثر العلوم أهليةً ليكون أساساً لتكوين علم أصول التفسير، وذلك على الرغم من تحفُّظ بعض المعنيين بالدراسات القرآنية من استثمار علم الأصول -ذي النزعة الفقهية- على المجال القرآني الرحب. ويدرك الباحث أيضاً أن تحرير الأصول من الدائرة الفقهية وتوسيع أفقه ليشمل كل موضوعات القرآن وأشكال خطابه أمر ممكن، وإن كان ذلك لا يعني أن بنية أصول الفقه نفسها خالصة من الإشكالات وبعيدة عن النقد، إلا أن كل ذلك لا يعني إهدار الثروة اللسانية الثاوية في علم الأصول والتي لا يقدرها حق قدرها اليوم إلا من عرف الدراسات اللسانية الحديثة (Linguistics)، كما أن استثمارها في تقعيد أصول التفسير جزء من البناء على إنجازات التراث العلمية.
وقد استعرضت الدراسة منظور أصول الفقه مقارناً بمنظور علم النحو، لتصل عبر هذه المقارنة إلى تأكيد أهمية أصول الفقه بالنسبة لتأسيس أصول التفسير، وتتبعت الدراسة -تأسيساً على ذلك- تلك الدراسات التي حاولت اعتماد أصول الفقه أساساً لعلم التفسير، وتبين أنها عموماً لم تستثمر عِلْمَ أصول الفقه على نحو يوسع أفقه، ليكون بإمكانه شمول النص القرآني، بل تعاملت مع قواعده بوصفها مسلمات، وإن كنا نستثني أحداً فنحن نستثني المعلِّم عبد الحميد الفراهي الذي حاول تطوير قواعد أصولية، بل الإضافة عليها لتكون قواعد للتأويل.
وقد أماطت الدراسة اللثام الفراغ التقعيدي في أصول التفسير ولم تنظر إلى أصول الفقه على أنه كاف (ولو مع التطوير والتحوير) وحده لتأسيس هذا العلم، بل إن الدراسة حاولت فقط التوجيه إلى نقطة يمكن بها إحداث تراكم في عملية التقعيد هذه، ويؤمن الباحث بضرورة استثمار كل مباحث التأويل والدلالة في الدراسات العربية الحديثة وعلومها التقليدية، كما يؤمن بشكل خاص بأهمية الدرس اللساني الغربي الحديث ومناهج النقد الأدبي واستراتيجيات القراءة المتأثرة به في تطوير البحث الدلالي التفسيري، ولكن مع ملاحظة دائمة لخصائص النص القرآني بوصفه نصاً ذا وظيفة دينية وتنـزيل إلهي؛ إذ بدون هذه الملاحظة قد ندخل في متاهات لا تحمد عقباها.
ولا شك أن جهوداً جديدة بدأت تبذل لإتمام -إن لم نقل إنشاء- علم أصول التفسير، وإذا كنا أشرنا إلى أصول الفقه، فإنه ليس الجانب الوحيد الذي جرت المحاولات الجديدة عبره لتطوير أصول التفسير، فهناك الآن ما يشبه الثورة البحثية في مناهج التفسير، وقد شهدنا مناهج عديدة في التفسير الموضوعي تستحق كل الاهتمام والتقدير، وكثير منها يعدّ خطوات حقيقية في أصول التفسير، غير أن مناهج التفسير ذاتها تنبني على قاعدة أكبر في أصول التفسير، نرى أنها المادة الأصولية في الأساس، وإن كانت ذاتها تحتاج إلى التطوير والتعديل، ولو أننا استطعنا أن نستثمر معها -وبشكل علمي- الدرسَ اللساني الحديث فسوف نتقدم خطوات كبيرة بكل تأكيد.
ملخص البحث
تأخر التفكير في تأسيس علم أصول الفقه، وذلك بالرغم من أن فهم القرآن الكريم هو كان أهم ما واجه المسلمين بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، الذي لم يخلف إرثاً تفسيرياً مباشراً للقرآن، وبالرغم من أن علم التفسير كان أول العلوم وجوداً إلا أنه كان آخر العلوم في التأسيس النظري والتقعيد له، و السؤال التاريخي كبير عن سبب تأخر التفكير في أصول التفسير حتى القرن الخامس، والمثير حقاً أن هذا العلم لم يلق عناية واهتماماً حقيقياً حتى وقت متأخر (حتى منتصف القرن العشرين تقريباً)!
إن تحديد علم أصول التفسير بوصفه قواعد كلية تدرس القرآن من موقع التلقي ليجعل منظور علم أصول الفقه أكثر المنظورات العلمية أهليةً ليكون أساساً له، ولقد جرت محاولات قليلة ـ بعضها غاية في الأهمية ـ لاستثمار علم أصول الفقه في تشكيل أصول التفسير، لكنها ما تزال في بدايتها، ويرى الباحث أن في ما يتيحه الدرس اللساني الحديث، فضلاً عن التطورات الأخيرة في مناهج التفسير الموضوعي ما يفسح المجال لحدوث نقلة نوعية في تقعيد التفسير، وتطوير أصوله.
المصدر