بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
كانت علاقة المحضرة الشنقيطية بالمدارس المشرقية علاقة تفاعل عبر التاريخ؛ فما أكثر من رحل من الشناقطة وتلقى العلم في المدارس المشرقية، وكذلك كان لرواد المحضرة الذين رحلوا إلى المشرق بعد أن رسخوا في العلم على ظهور العيس، دور في إغناء المناهج التعليمية المشرقية بخصوصيات المحاضر الشنقيطية. وسيقتصر هذا المقال على دراسة علمين من هؤلاء الأعلام، كان لهما تأثير على مناهج الأزهر، هما: العلامة الشيخ محمد محمود بن التلاميذ التركزي الشنقيطي (ت: 1322هـ/1904م)، والعلامة الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي (ت: 1331هـ/1913م).
1 - العلامة الشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي والتأثير الفعلي:
أقام العلامة الشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي في مصر في أواخر أيامه؛ فبهر المصريين بحفظه وعلمه، وأحس بعض المثقفين بضرورة الاستفادة من المنهج الذي يمثله الشيخ التركزي، وهو المنهج المحضري القائم على الاهتمام بالحفظ، وبتدريس علوم اللغة العربية، فكتب الشيخ محمد رشيد رضا في مجلته المنار يقترح على إدارة الأزهر أن تستفيد من علم الشيخ التركزي وتقرره مدرسا لعلوم اللغة العربية، وهي الفنون التي كانت تعيش عصر ازدهار في المحضرة الشنقيطية، يوازيه عصر ضعف في المشرق، كما يقول الشيخ محمد رشيد رضا (مجلة المنار – المجلد: 4، ص: 441، العدد الصادر بتاريخ: 16/5/1319هـ / 31/8/1901م.): "وُجد في مصر عالم من علماء اللغة يُعَدُّ في طبقة الأئمة الحفاظ الذين وضعوا لها المعاجم، ودوَّنوا الدواوين وهو الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فلم يعرف له فضله أحد من علماء الأزهر ويرشد الناس إلى الانتفاع بعلمه إلا مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده. وكان ينبغي لشيخ الأزهر أن يندبه لقراءة أشعار العرب وأراجيزهم في الأزهر، وقراءة بعض الكتب النافعة ككتاب سيبويه، وكتاب الكامل للمبرد، ويأمر العلماء ونجباء المجاورين بالتلقي عنه إذا كانوا يودون إحياء اللغة، ولا يحيا الدين إلا بحياة لغته".
وبعد أن تولى الشيخ محمد عبده الإشراف على شؤون الأزهر، استطاع أن ينفذ هذا المشروع؛ فعين الشيخ التركزي مدرسا لعلوم اللغة العربية في الأزهر، كما يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات [مجلة الأزهر – العدد: 22 – الصادر بتاريخ: 1381هـ / 1961م.]: "وكان الأزهر قد درج طويلا على إغفال اللغة والأدب من مناهجه، حتى أدخلها الأستاذ الإمام [يعني: الشيخ محمد عبده] في الدراسة الحرة، وجعل دراسة اللغة للشيخ الشنقيطي"، ويحدثنا الأستاذ أحمد حسن الزيات عن منهج الشيخ التركزي في التدريس: "ثم لزمته بعد ذلك إلى أن فارقنا إلى لقاء ربه، لزمته أنا وأربعة أو خمسة من الرفاق؛ فكنا نصلي معه الجمعة من كل أسبوع، ثم نجلس أمامه بالجانب الأيمن من المنبر، فنقرأ عليه ساعة أو بعض الساعة، ثم ينصرف إلى داره، قرأنا عليه كتابه الحماسة ثم ديوان المعلقات، وكانت طريقته في التلقين أن يعنى بدقة الضبط وصحة الرواية، ولا يشرح لفظا ولا يفسر معنى إلا إذا سألناه". ويقول عميد الأدب العربي الدكتور طهحسين: [الأيام لطه حسين: 2/154 – 156- ط دار المعارف - مصر.] "لم يكد الصبي يبلغ القاهرة ويستقر فيها حتى سمع ذكر الأدب والأدباء، كما سمع ذكر العلم والعلماء، سمع حديث الأدب بين هؤلاء الطلاب الكبار حين كانوا يذكرون الشيخ الشنقيطي رحمه الله وحماية الأستاذ الإمام [يعني: الشيخ محمد عبده] له وبره به، (...) كان أولئك الطلبة الكبار يتحدثون بأنهم لم يرواضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب (...) وكان الشيخ يقرأ لبعض الطلاب هذه القصائد التي تعرف بالمعلقات".
ومن ظواهر هذا التأثير المحضري أن الشيخ التركزي قد ساهم في نشر بعض المتون المقررة في المحضرة، والتي لم تكن متداولة في المقررات المشرقية، مثل المعلقات السبع، التي لم تكن تلقى اهتماما كبيرا في الأزهر، وكانت "نسخها التي في الأيدي غير موثوق بضبطها وصحتها؛ لذلك انبرى الشيخ أحمد عمر المحمصاني إلى تصحيحها وضبطها على الشيخ محمد محمود الشنقيطي"، حسب تعبير مجلة المنار (المجلد: 5، ص: 634، العدد الصادر بتاريخ: 16/8/1320هـ / 17/11/1902م.)، وطبعت في مصر بتصحيح الشيخ التركزي.
وقد نقل الشيخ التركزي أيضا إلى المشارقة نماذج من الأدب المحضري الشنقيطي؛ فنشرت مجلة المنار من منشَداته قصيدة العلامة ابن حنبل الحسني في التغزل بلوحه، يقول الشيخ محمد رشيد رضا (مجلة المنار - المجلد: 2، ص: 303، العدد الصادر بتاريخ: 14/3/1317هـ / 22/7/1899م.): "أنشدنَا الأستاذ محمد محمود الشنقيطي قال: أنشدني محمد بن حنبل الشنقيطي تغزُّلاً بلوحه:
عِم صباحا أفلحت كل فلاح فيك يا لوح لم أطع ألف لاح"
ونشرت المنار القصيدة كاملة.
2 - العلامة الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي والتأثير النظري:
لئن كان مشروع الشيخ التركزي قد انتقل من القوة إلى الفعل؛ فمارس الشيخ التركزي التدريس وأثرى المناهج العلمية المشرقية بالمناهج العلمية المحضرية، فإن مشروع العلامة الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي كان نظريا أكثر؛ فلم يشتهر عن الشيخ العلوي أنه تولى التدريس في الأزهر، ولعل السبب في ذلك أنه قد اعتبطه الموت؛ فتوفي ولم يزد على الأربعين إلا قليلا. لكن الشيخ العلوي في كتابه "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط"، قد قارن بين المناهج التعليمية المحضرية والمناهج التعليمية المشرقية، وأوعز تصريحا أو تلميحا إلى الأزهريين أن يهتدوا على آثار الشناقطة في بعض المناهج والتقاليد العلمية المحضرية؛ ومنها:
- الاهتمام بالحفظ:
يقوم المنهج المحضري على الحفظ، وتلك ظاهرة يبدو أن الشيخ العلوي لم يلاحظها عند المشارقة، كما يقول (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط – لأحمد بن الأمين العلوي – ص: 541 - مطبعة الخانجي – القاهرة – ط 1.): "ومن يطلق عليه عالم هناك، أكثر حفظاً للمتون، من من يطلق عليه من غيرهم".
- التأدب مع الشيوخ:
من التقاليد المحضرية العريقة احترام الطلاب للشيوخ، ومن ذلك أن الطالب لا يصحح لشيخه ما قد يقع فيه الشيخ من أخطاء لغوية ونحوها، وهو التقليد الذي لم يلمسه الشيخ العلوي لدى المشارقة، كما يقول (الوسيط: 195 - 196): "فإن محمد بن يزيد المعروف بالمبرد، لحن يوما في مجلس أحد الخلفاء، فعاب ذلك عليه، وقال له: كيف تلحن وأنت إمام اللغة؟! فقال له: إن الفصاحة في حقنا تكلف، فإذا جريت على الطبع ألحن، وإذا أحضرت ذهني لا ألحن. فاستحسن ذلك منه. ولو استحضر هذه الحكاية بعض العلماء في مصر، كان أحسن لهم، فإني كثيرا ما حضرت في مجالس بعض أفاضلهم، الذي تتردد عليه العلماء، وله عليهم الفضل الوافر، فإذا قرأ في كتاب، تراهم يردونه من غير أن يعهد إليهم ذلك، ولا بد إنه يتأثر في الباطن؛ لأنه تجهيل له في الحقيقة، ولله در القائل:
ومصلح الشكل لدى حكايه غير حديث المصطفى والآيه
من غير إذن منه أو قرينــه قـد فاته الأدب والسكينه"
- تأديب الطلاب:
من التقاليد المحضرية العريقة أيضا احترام الشيوخ للطلاب؛ ومن ذلك أن الشيوخ يلتزمون الحدود الشرعية في تأديب الطلاب على ما قد يقعون فيه من هفوات، كما يقول الشيخ العلوي (الوسيط: 491 - 492): "إذا بلغ الشيخ أن أحد التلاميذ أساء، فإنه يعاتبه برفق، بأن لا يلتفت إليه حتى يعلم التلميذ ذلك من حاله. وكان العلامة محمذ فال بن أحمد فال التندغي، تجتمع عنده الطلبة من الزوايا، ومن قومه فإذا بلغه عن أحدهم قول لا يليق، تركهم حتى يجتمعوا عنده، فيقول:
وقول ما لا ينبغي لا ينبغي لِتنْدغ ولا لغير تنـــدغ
فإذا كان الذي بلغه فعلا، قال:
وفعل ما لا ينبغي لا ينبغي لتندغ ولا لغير تنـــدغ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك على جهة التعميم، فيقول: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو يقولون كذا، وما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله. وهذا النوع أردع للناس؛ فليت أن علماء الأزهر فعلوا مثله، وتركوا عنهم: يا ابن الفاعلة، أو يا ابن الكلب، أو يا حمار؛ فإن هذه الألفاظ تذهب هيبة الشيخ من قلب الطالب".
- تعليم النساء:
يلاحظ الشيخ العلوي على أن التعليم في شنقيط لا يختص بالرجال، وإنما تشارك فيه شقائق الرجال أيضا، يقول (الوسيط: 489): "أما الزوايا فلا يوجد من بينهم ذكر أو أنثى إلا يقرأ ويكتب، وإن وجد في قبيلة غير ذلك فإنه نادر، بحيث لا يوجد في المائة أكثر من واحد، على تقدير وجوده".
- التطوع بالتدريس والفتوى:
لا يأخذ المدرس أو المفتي الشنقيطي أجرا على التدريس أو الفتوى، وإنما يدرس أو يفتي لوجه الله تعالى، كما يقول الشيخ العلوي (الوسيط: 491): "وليس للقاضي ولا للمدرس هناك أوقاف تصرف عليهما، ولا يأخذ أحدهما من الطلبة، بل قد يعطيهم من يده، والمفتى أيضا لا يأخذ شيئا في مقابلة الفتوى".
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
كانت علاقة المحضرة الشنقيطية بالمدارس المشرقية علاقة تفاعل عبر التاريخ؛ فما أكثر من رحل من الشناقطة وتلقى العلم في المدارس المشرقية، وكذلك كان لرواد المحضرة الذين رحلوا إلى المشرق بعد أن رسخوا في العلم على ظهور العيس، دور في إغناء المناهج التعليمية المشرقية بخصوصيات المحاضر الشنقيطية. وسيقتصر هذا المقال على دراسة علمين من هؤلاء الأعلام، كان لهما تأثير على مناهج الأزهر، هما: العلامة الشيخ محمد محمود بن التلاميذ التركزي الشنقيطي (ت: 1322هـ/1904م)، والعلامة الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي (ت: 1331هـ/1913م).
1 - العلامة الشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي والتأثير الفعلي:
أقام العلامة الشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي في مصر في أواخر أيامه؛ فبهر المصريين بحفظه وعلمه، وأحس بعض المثقفين بضرورة الاستفادة من المنهج الذي يمثله الشيخ التركزي، وهو المنهج المحضري القائم على الاهتمام بالحفظ، وبتدريس علوم اللغة العربية، فكتب الشيخ محمد رشيد رضا في مجلته المنار يقترح على إدارة الأزهر أن تستفيد من علم الشيخ التركزي وتقرره مدرسا لعلوم اللغة العربية، وهي الفنون التي كانت تعيش عصر ازدهار في المحضرة الشنقيطية، يوازيه عصر ضعف في المشرق، كما يقول الشيخ محمد رشيد رضا (مجلة المنار – المجلد: 4، ص: 441، العدد الصادر بتاريخ: 16/5/1319هـ / 31/8/1901م.): "وُجد في مصر عالم من علماء اللغة يُعَدُّ في طبقة الأئمة الحفاظ الذين وضعوا لها المعاجم، ودوَّنوا الدواوين وهو الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فلم يعرف له فضله أحد من علماء الأزهر ويرشد الناس إلى الانتفاع بعلمه إلا مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده. وكان ينبغي لشيخ الأزهر أن يندبه لقراءة أشعار العرب وأراجيزهم في الأزهر، وقراءة بعض الكتب النافعة ككتاب سيبويه، وكتاب الكامل للمبرد، ويأمر العلماء ونجباء المجاورين بالتلقي عنه إذا كانوا يودون إحياء اللغة، ولا يحيا الدين إلا بحياة لغته".
وبعد أن تولى الشيخ محمد عبده الإشراف على شؤون الأزهر، استطاع أن ينفذ هذا المشروع؛ فعين الشيخ التركزي مدرسا لعلوم اللغة العربية في الأزهر، كما يقول الأستاذ أحمد حسن الزيات [مجلة الأزهر – العدد: 22 – الصادر بتاريخ: 1381هـ / 1961م.]: "وكان الأزهر قد درج طويلا على إغفال اللغة والأدب من مناهجه، حتى أدخلها الأستاذ الإمام [يعني: الشيخ محمد عبده] في الدراسة الحرة، وجعل دراسة اللغة للشيخ الشنقيطي"، ويحدثنا الأستاذ أحمد حسن الزيات عن منهج الشيخ التركزي في التدريس: "ثم لزمته بعد ذلك إلى أن فارقنا إلى لقاء ربه، لزمته أنا وأربعة أو خمسة من الرفاق؛ فكنا نصلي معه الجمعة من كل أسبوع، ثم نجلس أمامه بالجانب الأيمن من المنبر، فنقرأ عليه ساعة أو بعض الساعة، ثم ينصرف إلى داره، قرأنا عليه كتابه الحماسة ثم ديوان المعلقات، وكانت طريقته في التلقين أن يعنى بدقة الضبط وصحة الرواية، ولا يشرح لفظا ولا يفسر معنى إلا إذا سألناه". ويقول عميد الأدب العربي الدكتور طهحسين: [الأيام لطه حسين: 2/154 – 156- ط دار المعارف - مصر.] "لم يكد الصبي يبلغ القاهرة ويستقر فيها حتى سمع ذكر الأدب والأدباء، كما سمع ذكر العلم والعلماء، سمع حديث الأدب بين هؤلاء الطلاب الكبار حين كانوا يذكرون الشيخ الشنقيطي رحمه الله وحماية الأستاذ الإمام [يعني: الشيخ محمد عبده] له وبره به، (...) كان أولئك الطلبة الكبار يتحدثون بأنهم لم يرواضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب (...) وكان الشيخ يقرأ لبعض الطلاب هذه القصائد التي تعرف بالمعلقات".
ومن ظواهر هذا التأثير المحضري أن الشيخ التركزي قد ساهم في نشر بعض المتون المقررة في المحضرة، والتي لم تكن متداولة في المقررات المشرقية، مثل المعلقات السبع، التي لم تكن تلقى اهتماما كبيرا في الأزهر، وكانت "نسخها التي في الأيدي غير موثوق بضبطها وصحتها؛ لذلك انبرى الشيخ أحمد عمر المحمصاني إلى تصحيحها وضبطها على الشيخ محمد محمود الشنقيطي"، حسب تعبير مجلة المنار (المجلد: 5، ص: 634، العدد الصادر بتاريخ: 16/8/1320هـ / 17/11/1902م.)، وطبعت في مصر بتصحيح الشيخ التركزي.
وقد نقل الشيخ التركزي أيضا إلى المشارقة نماذج من الأدب المحضري الشنقيطي؛ فنشرت مجلة المنار من منشَداته قصيدة العلامة ابن حنبل الحسني في التغزل بلوحه، يقول الشيخ محمد رشيد رضا (مجلة المنار - المجلد: 2، ص: 303، العدد الصادر بتاريخ: 14/3/1317هـ / 22/7/1899م.): "أنشدنَا الأستاذ محمد محمود الشنقيطي قال: أنشدني محمد بن حنبل الشنقيطي تغزُّلاً بلوحه:
عِم صباحا أفلحت كل فلاح فيك يا لوح لم أطع ألف لاح"
ونشرت المنار القصيدة كاملة.
2 - العلامة الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي والتأثير النظري:
لئن كان مشروع الشيخ التركزي قد انتقل من القوة إلى الفعل؛ فمارس الشيخ التركزي التدريس وأثرى المناهج العلمية المشرقية بالمناهج العلمية المحضرية، فإن مشروع العلامة الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي كان نظريا أكثر؛ فلم يشتهر عن الشيخ العلوي أنه تولى التدريس في الأزهر، ولعل السبب في ذلك أنه قد اعتبطه الموت؛ فتوفي ولم يزد على الأربعين إلا قليلا. لكن الشيخ العلوي في كتابه "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط"، قد قارن بين المناهج التعليمية المحضرية والمناهج التعليمية المشرقية، وأوعز تصريحا أو تلميحا إلى الأزهريين أن يهتدوا على آثار الشناقطة في بعض المناهج والتقاليد العلمية المحضرية؛ ومنها:
- الاهتمام بالحفظ:
يقوم المنهج المحضري على الحفظ، وتلك ظاهرة يبدو أن الشيخ العلوي لم يلاحظها عند المشارقة، كما يقول (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط – لأحمد بن الأمين العلوي – ص: 541 - مطبعة الخانجي – القاهرة – ط 1.): "ومن يطلق عليه عالم هناك، أكثر حفظاً للمتون، من من يطلق عليه من غيرهم".
- التأدب مع الشيوخ:
من التقاليد المحضرية العريقة احترام الطلاب للشيوخ، ومن ذلك أن الطالب لا يصحح لشيخه ما قد يقع فيه الشيخ من أخطاء لغوية ونحوها، وهو التقليد الذي لم يلمسه الشيخ العلوي لدى المشارقة، كما يقول (الوسيط: 195 - 196): "فإن محمد بن يزيد المعروف بالمبرد، لحن يوما في مجلس أحد الخلفاء، فعاب ذلك عليه، وقال له: كيف تلحن وأنت إمام اللغة؟! فقال له: إن الفصاحة في حقنا تكلف، فإذا جريت على الطبع ألحن، وإذا أحضرت ذهني لا ألحن. فاستحسن ذلك منه. ولو استحضر هذه الحكاية بعض العلماء في مصر، كان أحسن لهم، فإني كثيرا ما حضرت في مجالس بعض أفاضلهم، الذي تتردد عليه العلماء، وله عليهم الفضل الوافر، فإذا قرأ في كتاب، تراهم يردونه من غير أن يعهد إليهم ذلك، ولا بد إنه يتأثر في الباطن؛ لأنه تجهيل له في الحقيقة، ولله در القائل:
ومصلح الشكل لدى حكايه غير حديث المصطفى والآيه
من غير إذن منه أو قرينــه قـد فاته الأدب والسكينه"
- تأديب الطلاب:
من التقاليد المحضرية العريقة أيضا احترام الشيوخ للطلاب؛ ومن ذلك أن الشيوخ يلتزمون الحدود الشرعية في تأديب الطلاب على ما قد يقعون فيه من هفوات، كما يقول الشيخ العلوي (الوسيط: 491 - 492): "إذا بلغ الشيخ أن أحد التلاميذ أساء، فإنه يعاتبه برفق، بأن لا يلتفت إليه حتى يعلم التلميذ ذلك من حاله. وكان العلامة محمذ فال بن أحمد فال التندغي، تجتمع عنده الطلبة من الزوايا، ومن قومه فإذا بلغه عن أحدهم قول لا يليق، تركهم حتى يجتمعوا عنده، فيقول:
وقول ما لا ينبغي لا ينبغي لِتنْدغ ولا لغير تنـــدغ
فإذا كان الذي بلغه فعلا، قال:
وفعل ما لا ينبغي لا ينبغي لتندغ ولا لغير تنـــدغ
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك على جهة التعميم، فيقول: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو يقولون كذا، وما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله. وهذا النوع أردع للناس؛ فليت أن علماء الأزهر فعلوا مثله، وتركوا عنهم: يا ابن الفاعلة، أو يا ابن الكلب، أو يا حمار؛ فإن هذه الألفاظ تذهب هيبة الشيخ من قلب الطالب".
- تعليم النساء:
يلاحظ الشيخ العلوي على أن التعليم في شنقيط لا يختص بالرجال، وإنما تشارك فيه شقائق الرجال أيضا، يقول (الوسيط: 489): "أما الزوايا فلا يوجد من بينهم ذكر أو أنثى إلا يقرأ ويكتب، وإن وجد في قبيلة غير ذلك فإنه نادر، بحيث لا يوجد في المائة أكثر من واحد، على تقدير وجوده".
- التطوع بالتدريس والفتوى:
لا يأخذ المدرس أو المفتي الشنقيطي أجرا على التدريس أو الفتوى، وإنما يدرس أو يفتي لوجه الله تعالى، كما يقول الشيخ العلوي (الوسيط: 491): "وليس للقاضي ولا للمدرس هناك أوقاف تصرف عليهما، ولا يأخذ أحدهما من الطلبة، بل قد يعطيهم من يده، والمفتى أيضا لا يأخذ شيئا في مقابلة الفتوى".