بَابُ سَعَادَةِ مِنْ كِتَابِ مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ.....

إنضم
21/12/2015
المشاركات
1,712
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
مصر
جاء في كِتَابِ: مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ وَمَنشورِ وِلَايةِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ لابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ (المُتوفى: 751هـ) ..
وَفضل الْعِلْمِ على المَال يُعلم من وُجُوه .
أحَدُها :أن الْعِلْمَ مِيرَاثُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَال مِيرَاثُ الْمُلُوك والأغْنياء.
وَالثَّانِي : أن الْعِلْمَ يَحرسُ صَاحبَه وَصَاحبُ المَالِ يَحرسُ مَاله .
وَالثَّالِث: أن المَال تُذهبُه النَّفَقَاتُ وَالْعِلمُ يزكوا عَلى النَّفَقَة .
الرَّابِع : أن صَاحبَ المَال إِذا مَاتَ فَارقه مَالُه وَالْعلمُ يَدْخل مَعَه قَبره.
الْخَامِس : أن الْعِلْمَ حَاكمٌ على المَال وَالْمَال لَا يَحكمُ على الْعلم.
السَّادِس : أن المَالَ يحصلُ لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر وَالْبر والفَاجِر وَالْعلم النَّافع لَا يَحصلُ الا لِلْمُؤمنِ .
السَّابِع : أن الْعَالِم يحْتَاج إليه الْمُلُوك فَمَن دُونَهم وَصَاحبُ المَال إِنَّمَا يحْتَاج إليه أهلُ الْعَدَم والفاقة .
الثَّامِن : أن النَّفسَ تَشرفُ وتزكو بِجمع الْعلمِ وتحصيله وَذَلِكَ من كمالها وشرفها وَالْمَال يُزكيها وَلَا يُكملها وَلَا يَزيدها صفةَ كَمَالٍ بل النَّفس تنقصُ وتشحُ وتبخلُ بجمعه والحِرصِ عَلَيْهِ- فحرصُها على الْعلمِ عينُ كمالِها وحرصُها على المَال عين نَقصِهَا .
التَّاسِع: أن المَالَ يَدعُوها إلى الطُغيان وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء وَالْعلم يَدعُوهَا إِلَى التواضع وَالْقِيَام بالعبودية - فَالْمَال يَدعُوهَا إلى صِفَات الْمُلُوك وَالْعلمُ يَدعُوهَا إلى صِفَات العَبيدِ .
الْعَاشِر: أن الْعِلْمَ جاذبٌ موصل لَهَا إلى سَعادِتها الَّتِي خُلِقت لَهَا وَالْمَالُ حِجاب بَينهَا وَبَينهَا .
 
الْحَادِي عَشر: أن غِنِي الْعلم أجَلُّ من غِنِي المَال- فَإِن غِنِي المَال غِنى بأمرٍ خارجي عَن حَقِيقَة الإنسان- فلَو ذَهبَ فِي لَيْلَة أصبح فَقِيرا مُعدما وغِني الْعلمِ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ الْفقر بل هُوَ فِي زِيادةٌ أبدا فَهُوَ الْغَنِيّ العالي حَقِيقَة كَمَا قِيل
غنيت بِلَا مَال عَن النَّاس كلهم ... وأن الْغَنِيّ العالي عَن الشَّيْء لَا بِهِ
- غنِيٌّ بِلا مَالٍ عَنِ النَّاسِ كُلِّهِم ... وَلَيسَ الغِنَى إلا عَنِ الشَيءِ لا بِهِ
الثَّانِي عَشر : أن المَال يَستعبدُ مُحِبه وَصَاحبُه فَيَجْعَلهُ عبدا لَهُ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ - تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ- الْحَدِيثَ - وَالْعلم يَسْتَعْبِدُهُ لرَبه وخالقه فَهُوَ لَا يَدعُوهُ إِلَّا إلى عُبوديةِ اللهِ وَحدَه.
الثَّالِث عَشر: أن حُبَّ الْعلم وَطَلَبه أصلُ كلِ طَاعَة وَحب الدُّنْيَا وَالْمَال وَطَلَبه أصل كل سَيِّئَة .
الرَّابِع عَشر: أن قيمَة الْغَنِيّ مَاله وَقِيمَة الْعَالم علمه- فَهَذَا مُتَقَوّم بِمَالِه فَإِذا عُدم مَالُه عُدمت قِيمَتُه وَبَقِي بِلَا قيمَة- والعالِم لا تزولُ قِيمَته بل هِيَ في تَضاعُف وَزِيَادَة دَائِما .
الْخَامِس عَشر: أن جَوْهَر المَال من جِنس جَوْهَر الْبدن وجوهر الْعلم من جنس جَوْهَر الرّوح كَمَا قَالَ يُونُس بنُ حبيب: إِنَّ عِلْمَكَ مِنْ رُوحِكَ، وَمَالُك من بَدنك- وَالْفرق بَين الأمرين كالفرق بَين الرّوح وَالْبدن .{ الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه للعسكري (المتوفى: نحو 395هـ)}
السَّادِس عَشر :أن الْعَالم لَو عَرض عَلَيْهِ بحظه من الْعلم الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا لم يرضها عِوضا من علمه والغَني الْعَاقِل إِذا رأى شرفَ الْعلم وفضله وابتهاجه بِالْعلمِ وكماله بِهِ يود لَو أن لَهُ علمه بغناه أجْمَعْ.
السَّابِع عَشر: أنه مَا أطاع الله اُحْدُ قَطُّ إلا بِالْعلمِ وَعَامة من يَعصِيه إِنَّمَا يَعصِيه بِالْمَالِ .
الثَّامِن عَشرَ : أن الْعَالمَ يَدْعُو النَّاس إلى الله بِعِلْمِهِ وحاله وجامع المَال يَدعُوهُم إلى الدُّنْيَا بِحَالهِ وَمَاله .
التَّاسِع عَشر: أن غِنى المَالِ قد يكونُ سَبَبَ هَلَاكِ صَاحبِه كثيرا- فَإِنَّهُ مَعشوق النُّفُوس فَإِذا رَأَتْ من يستأثر بمعشوقها عَلَيْهَا سعت فِي هَلَاكه كَمَا هُوَ الْوَاقِع - وَأما غِنى الْعلمِ فسببُ حَيَاةِ الرجلِ وحياةِ غَيره بِهِ وَالنَّاس إِذا رأوا من يَستأثر عَلَيْهِم بِهِ ويطلبه أحبوه وخَدموه وأكرَموه .
الْعشْرُونَ : إِن اللَّذَّة الْحَاصِلَة من غِنى المَالِ إِمَّا لَذَّة وَهمية وَإِمَّا لَذَّة بهيمية, فَإِن صَاحبَه التَذّ بِنَفسِ جَمعه وتَحصيله فَتلك لَذَّة وهميةٌ خياليةٌ وإن التَذّ بإنفاقه فِي شَهواتِه فَهِيَ لَذَّة بَهيمية- وأمَّا لَذَّة الْعلم فلذَّةٌ عَقلية رُوحانية وَهِي تُشبه لَذَّة الْمَلَائِكَة وبَهجتَها, وَفرق مَا بَين اللذَّتينِ.
 
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ : أن عُقلاءَ الأُممِ مُطبقون على ذمّ الشَّره فِي جمع المَال الْحَرِيص عَلَيْهِ وتنقصه والإزراء بِهِ, ومُطبقونَ على تَعْظِيم الشَّره فِي جَمع الْعلمِ وتَحصيله ومَدحِه ومَحبته ورؤيتِه بِعَين الْكَمَال .
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: إنهم مُطبقون على تَعْظِيم الزَّاهِد فِي المَال المُعرض عَن جمعه الَّذِي لَا يلْتَفتُ إليه وَلَا يَجْعَل قلبَه عَبدا لَهُ ومُطبقونَ على ذمّ الزَّاهِد فِي الْعلم الَّذِي لَا يلْتَفتُ إليه وَلَا يَحرصُ عَلَيْهِ .
الثَّالِث وَالْعشْرُونَ : أن المَال يُمدحُ صَاحبُه بِتخليه مِنْهُ وإخراجه وَالْعلمُ إِنَّمَا يُمدحُ بتخليه بِهِ واتصافه بِهِ.
الرَّابِع وَالْعشْرُونَ : أن غِنى المَالِ مَقرونٌ بالخوفِ والحَزن فَهُوَ حَزِين قبل حُصُوله خَائِفٌ بعد حُصُوله- وَكلما كَانَ أكثر كَانَ الْخَوْفُ أقوى وغِني الْعلمِ مَقرونٌ بالأمنِ والفَرحِ وَالسُّرُور .
الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: أن الْغنى بِمَالِه لَا بُد أن يُفَارِقهُ غناهُ ويتعذبُ ويتألمُ بمفارقتِه والغِنى بِالْعلمِ لَا يَزُولُ وَلَا يتعذبُ صَاحبُه ولَا يتألمُ , فلذَّةُ الْغِنى بالمَالِ لذَّةٌ زائلةٌ مُنْقَطِعَةٌ يعقبُها الألمُ وَلَذَّة الْغِنى بِالْعلمِ لَذَّة بَاقِيَةٌ مُستمرةٌ لَا يلْحقهَا ألمٌ .
السَّادِس وَالْعشْرُونَ : أن استلذَاذَ النَّفسِ وكمَالَها بالغِني استكمالٌ بعاريةٍ مُؤَدَّاةٍ, فتجملها بِالْمَالِ تَجملٌ بِثَوْب مُستعار لَا بُد أن يَرجع إلى مَالِكه يَوْمًا مَا , وأما تجملُها بِالْعلمِ وكَمالُها بِهِ فتَجملٌ بِصفةٍ ثَابِتَةٍ لَهَا راسخةٍ فِيهَا لَا تفارقُها .
السَّابِع وَالْعشْرُونَ : أن الْغَنِي بِالْمَالِ هُوَ عَينُ فَقرِ النَّفس والغِنى بِالْعلمِ هُوَ عَينُ غِنى النَّفس والغِنى بِالْعلمِ هُوَ غِناها الحقيقي- فغِناها بعلمِها هُوَ الْغِنِي- وغناها بمالِها هُوَ الْفقر.
الثَّامِن وَالْعشْرُونَ: أن من قُدِّم وَأُكْرمَ لمَاله إِذا زَالَ مَالُه زَالَ تَقْدِيمه وإكرامه وَمن قُدِّم وَأُكْرم لعلمه لَا يزْدَاد إلا تَقْدِيمًا وإكراما.
التَّاسِع وَالْعشْرُونَ : أن تَقْدِيمَ الرجل لمَاله هُوَ عينُ ذمه فإنه نِدَاءٌ عَلَيْهِ بنقصِه وأنه لَوْلَا مَاله لَكَانَ مُسْتَحقّا للتأخر والإهانة - وأما تَقْدِيمه وإكرامه لِعلمِه فَإِنَّهُ عين كَمَاله إِذْ هُوَ تَقْدِيم لَهُ بِنَفسِهِ وبصفته الْقَائِمَة بِهِ لَا بِأَمْر خَارجٍ عَن ذَاته.
 
الْوَجْه الثَّلَاثُونَ: أن طَالبَ الْكَمَال بِغِنى المَال كالجَامع بَين الضِدينِ فَهُوَ طَالب مَالا سَبِيل لَهُ إليه- وَبَيَان ذَلِك أن الْقُدْرَة صفة كَمَال وَصفَة الْكَمَال محبوبة بِالذَّاتِ والاستغناء عَن الْغَيْر أيضا صفة كَمَال مَحبوبة بِالذَّاتِ - فَإِذا مَال الرجل بطبعه إلى السَّخاوة والجود وَفعل المُكرمات فَهَذَا كَمَال مَطْلُوب للعقلاء مَحْبُوب للنفوس وَإِذا الْتفت إلى أن ذَلِك يقتضى خُرُوج المَال من يَده وَذَلِكَ يُوجب نَقصه واحتياجه إلى الْغَيْر وَزَوَال قدرته نفرت نَفسه عَن السخاء وَالْكَرم والجود واصطناع الْمَعْرُوف وَظن أن كَمَاله فِي إمْسَاك المَال وَهَذِه البَلية أمْر ثَابت لعامة الْخلق لَا ينفكون عَنْهَا فلأجل مَيل الطَّبْع إلى حُصُول الْمَدْح وَالثنَاء والتعظيم بحب الْجُود والسَّخاء والمَكارم وَلأَجل فَوت الْقُدْرَة الْحَاصِلَة بِسَبَب إخراجه وَالْحَاجة المُنافية لكَمَال الْغنى يحب إبقاء مَاله وَيكرهُ السخاء وَالْكَرم والجود فَيبقى قلبه وَاقِفًا بَين هذَيْن الداعيينِ يتجاذبانه و يعْتَوِران عَلَيْهِ فَيبقى الْقلب فِي مقَام الْمُعَارضَة بَينهمَا فَمن النَّاس من يتَرَجَّح عِنْده جَانب الْبَذْل والجود وَالْكَرم فَيُؤْثِرُهُ على الْجَانِب الآخر وَمِنْهُم من يتَرَجَّح عِنْده جَانب الإمساك وَبَقَاء الْقُدْرَة والغني فَيُؤْثِرُهُ فهذانِ نَظرانِ للعقلاء- وَمِنْهُم من يبلغ بِهِ الْجَهْل والحماقة إلى حَيْثُ يُرِيد الْجمع بَين الْوَجْهَيْنِ فيعد النَّاس بالجود والسخاء والمَكارم طَمَعا مِنْهُ فِي فوزه بالمدح وَالثنَاء على ذَلِك وَعند حُضُور الْوَقْت لَا يَفِي بِمَا قَالَ فَيسْتَحق الذَّم ويبذل بِلِسَانِهِ ويمسك بِقَلْبِه وَيَده فَيَقَع فِي أَنْوَاع القبائح والفضائح وَإِذا تَأَمَّلت أحوال أهل الدُّنْيَا من الأغنياء رَأَيْتهمْ تَحت أسر هَذِه البلية وهم غَالِبا يَبْكُونَ ويشكون وَأما غنى الْعلم فَلَا يعرض لَهُ شَيْء من ذَلِك بل كلما بذله ازْدَادَ ببذلة فَرحا سُرُورًا وابتهاجا وَإِن فَاتَتْهُ لَذَّة اهل الْغنى وتمتعهم باموالهم فهم أيضا قد فَاتَتْهُمْ لَذَّة أهل الْعلم وتمتعهم بعلومهم وابتهاجهم بهَا فَمَعَ صَاحب الْعلم من أسباب اللَّذَّة مَا هُوَ أعظم وأقوى وأدوم من لَذَّة الْغنى وتعبه فِي تَحْصِيله وَجمعه وَضَبطه أقل من تَعب جَامع المَال فَجَمعه وألمه دون ألمه كَمَا قَالَ تَعَالَى للْمُؤْمِنين تَسْلِيَة لَهُم بِمَا ينالهم من الألم والتَّعب فِي طَاعَته ومرضاته { وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.}
 
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أن اللَّذَّة الْحَاصِلَة من المَال والغنى إِنَّمَا هِيَ حَال تجدده فَقَط واما حَال دَوَامه فإمَّا ان تذْهب تِلْكَ اللَّذَّة وَإِمَّا أن تنقص وَيدل عَلَيْهِ أن الطَّبْع يبْقى طَالبا لغنى آخر حَرِيصًا عَلَيْهِ فَهُوَ يحاولُ تَحْصِيل الزِّيَادَة دَائِما فَهُوَ فِي فقر مُسْتَمر غير منقض وَلَو ملكَ خَزَائِن الأرض ففقره وَطَلَبه وحرصه بَاقٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ اُحْدُ المَنهومين اللَّذينِ لَا يَشبعانِ فَهُوَ لَا يُفَارِقهُ ألمُ الْحِرْص والطلبِ , وَهَذَا بِخِلَاف غِنى الْعلم وَالْإِيمَان فإن لذته فِي حَال بَقَائِهِ مثلهَا فِي حَال تجدده بل أزيد وصاحبها وإن كَانَ لَا يزَال طَالبا للمزيد حَرِيصًا عَلَيْهِ فَطَلَبه وحرصه مستصحب للذة الْحَاصِل وَلَذَّة المَرجو الْمَطْلُوب وَلَذَّة الطّلب وابتهاجه فرجه بِهِ .
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : أن غَنِي المَال يَسْتَدْعِي الإنعام على النَّاس والإحسان إليهم ,فصاحبه إما أن يَسدَ على نَفسه هَذَا الْبَاب وإما أن يَفْتَحهُ عَلَيْهِ فان سَده على نَفسه اشْتهر عِنْد النَّاس بالبعد من الْخَيْر والنفع فَأَبْغضُوهُ وذموه واحتقروه وكل من كَانَ بغيضا عِنْد النَّاس حَقِيرًا لديهم كَانَ وُصُول الآفات والمَضرات إليه أسرع من النَّار فِي الْحَطب الْيَابِس وَمن السَّيْل فِي منحدره وَإِذا عرف من الْخلق أنهم يمقتونه ويبغضونه وَلَا يُقِيمُونَ لَهُ وزنا تألم قلبه غَايَة التألم وأحضر الهموم والغموم والأحزان وإن فتح بَاب الإحسان وَالعطَاء فَإِنَّهُ لايمكنه إيصال الْخَيْر والإحسان الى كل اُحْدُ فَلَا بُد من إيصاله إلى الْبَعْض وإمساكه عَن الْبَعْض وَهَذَا يفتح عَلَيْهِ بَاب الْعَدَاوَة والمذمة من الْمَحْرُومِ والْمَرْحُومِ -
أما الْمَحْرُومُ فَيَقُول كَيفَ جاد على غَيْرِي وبخل عَليّ وأما الْمَرْحُومُ فَإِنَّهُ يلتذ ويفرح بِمَا حصل لَهُ من الْخَيْر والنفع فَيبقى طامعا مستشرفا لنظيره على الدَّوَام وَهَذَا قد يتَعَذَّر غَالِبا فيفضى ذَلِك إلى الْعَدَاوَة الشَّدِيدَة والمذمة وَلِهَذَا قيل اتَّقِ شَرّ من أحسنت إليه وَهَذِه الآفات لَا تعرض فِي غنى الْعلم فَإِن صَاحبه يُمكنهُ بذله للْعَالم كلهم وإشتراكهم فِيهِ وَالْقدر المبذول مِنْهُ بَاقٍ لأخذه لَا يَزُول بل يتجربه فَهُوَ كالغني إِذا أعطى الْفَقِير رَأس مَال يتجربه حَتَّى يصير غَنِيا مثله .
الْوَجْه الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ:أن جمعَ المَال مقرون بِثَلَاثَة أنواع من الآفات والمِحن نوع قبله وَنَوع عِنْد حُصُوله وَنَوع بعدمفارقته -فَأَما النَّوْع الأول فَهُوَ المَشاق والأنكاد والآلام الَّتِي لَا يحصلُ إلا بهَا - وأما النَّوْع الثَّانِي فمشقة حفظه وحرساته حراسته وَتعلق الْقلب بِهِ فَلَا يصبح إلا مهموما وَلَا يُمْسِي إلا مغموما فَهُوَ بِمَنْزِلَة عاشق مُفرط الْمحبَّة قد ظفر بمعشوقته والعيون من كل جَانب ترمقه والألسن والقلوب ترشقه فَأَي عَيْش وَلَذَّة لمن هَذِه حَاله وَقد علم أن أعداءه وحُساده لَا يَفترون عَن سَعْيهمْ فِي التَّفْرِيق بَينه وَبَين معشوقه, وَإِن لم يظفروا هم بِهِ دونه وَلَكِن مَقصودهم أن يزيلوا اخْتِصَاصه بِهِ دونهم فَإِن فازوا بِهِ وإلا اسْتَووا فِي الحرمان فَزَالَ الِاخْتِصَاص المؤلم للنفوس وَلَو قدرُوا على مثل ذَلِك مَعَ الْعَالم لفعلوه وَلَكنهُمْ لما علمُوا أنه لَا سَبِيل إلى سلبِ علمه عَمدُوا الى جَحده وإنكاره ليزيلوا من الْقُلُوب محبته وتقديمه وَالثنَاء عَلَيْهِ فَإِن بهر علمه وَامْتنع عَن مُكَابَرَة الْجُحُود والإنكار رَمَوْهُ بالعظائم ونسبوه إلى كل قَبِيح ليزيلوا من الْقُلُوب محبته ويسكنوا موضعهَا النفرة عَنهُ وبغضه وَهَذَا شغل السَّحَرَة بِعَيْنِه فَهَؤُلَاءِ سحرة بألسنتهم فَإِن عجزوا لَهُ عَن شَيْء من القبائح الظَّاهِرَة رَمَوْهُ بالتلبيس والتدليس والرياء وَحب الترفع وَطلب الجاه وَهَذَا الْقدر من مُعاداة أهل الْجَهْل وَالظُّلم للْعُلَمَاء مثل الْحر وَالْبرد لَا بُد مِنْهُ فَلَا يَنْبَغِي لمن لَهُ مسكة عقل أن يتَأَذَّى بِهِ إِذْ لَا سَبِيل لَهُ الى دَفعه بِحَال فليوطن نَفسه عَلَيْهِ كَمَا يوطنها على برد الشتَاء وحر الصَّيف -وَالنَّوْع الثَّالِث من آفَات الْغنى مَا يحصل للْعَبد بعد مُفَارقَته من تعلق قلبه بِهِ وَكَونه قد حِيل بَينه وَبَينه والمُطالبة بحقوقه والمُحاسبة على مقبوضه ومصروفه من أيْنَ اكْتَسبهُ وَفِيمَا إذَا أنفقه وغِنى الْعلم والإيمان مَعَ سَلَامَته من هَذِه الآفات فَهُوَ كَفِيل بِكُل لَذَّة وفرحة وسرور وَلَكِن لَا ينَال إلا على جِسر من التَّعَب وَالصَّبْر وَالْمَشَقَّة .
الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: أن لَذَّة الْغَنِيّ بِالْمَالِ مقرونة بخلطة النَّاس وَلَو لم يكن إلا خدمه وأزواجه وسراريه وأتابعه إِذْ لَو انْفَرد الْغَنِيّ بِمَالِه وَحده من غير ان يتَعَلَّق بخادم أَوْ زوجه أوْ اُحْدُ من النَّاس لم يَكمل انتفاعه بِمَالِه وَلَا التذاذه بِهِ وَإِذا كَانَ كَمَال لذته بغناه مَوْقُوفا على اتِّصَاله بِالْغَيْر فَذَلِك منشأ الآفات والآلام وَلَو لم يكن إلا اخْتِلَاف النَّاس وطبائعهم وإرادتهم فقبيح هَذَا حسن ذَاك ومصلحة ذَاك مفْسدَة هَذَا وَمَنْفَعَة هَذَا مضرَّة ذَاك وَبِالْعَكْسِ فَهُوَ مُبتلى بهم فَلَا بُد من وُقُوع النفرة والتباغض والتعادي بَينهم وَبَينه فإن إرضاءهم كلهم محَال وَهُوَ جمع بَين الضدين وإرضاء بَعضهم وإسخاط غَيره سَبَب الشَّرّ والمعاداة وَكلما طَالَتْ المخالطة ازْدَادَتِ أسباب الشَّرّ والعداوة وقويت وَبِهَذَا السَّبَب كَانَ الشَّرّ الْحَاصِل من الأقارب والعُشراء أضعاف الشَّرّ الْحَاصِل من الأجانب والبُعداء وَهَذِه المخالطة إنما حصُلت من جَانب الْغَنِيّ بِالْمَالِ أما إِذا لم يكن فِيهِ فَضِيلَة لَهُم فإنهم يتجنبون مُخالطته ومُعاشرته فيستريحُ من أذى الْخلطَة وَالْعشرَة وَهَذِه الآفات مَعْدُودَة فِي الْغِنى بِالْعلمِ .
 
الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ : أن المَال لَا يُرَاد لذاته وعينِه فَإِنَّهُ لَا يحصل بِذَاتِهِ شَيْء من الْمَنَافِع أصلا فَإِنَّهُ لَا يشْبع وَلَا يرْوى وَلَا يدفء وَلَا يمتع وَإِنَّمَا يُرَاد لهَذِهِ الأشياء فَإِنَّهُ لما كَانَ طَرِيقا اليها أُريد إرادة الْوَسَائِل وَمَعْلُوم أن الغايات أشرف من الْوَسَائِل فَهَذِهِ الغايات إذا أشرف مِنْهُ وَهِي مَعَ شرفها بِالنِّسْبَةِ إليه نَاقِصَة دنيئة وَقد ذهب كثير من الْعُقَلَاء إلى أنها لَا حَقِيقَة لَهَا وإنما هِيَ دفع الألم فَقَط ,فَإِن لبس الثِّيَاب مثلا إِنَّمَا فَائِدَته دفع التألم بِالْحرِّ وَالْبرد وَالرِّيح وَلَيْسَ فِيهَا لَذَّة زَائِدَة على ذَلِك وَكَذَلِكَ الأكل إِنَّمَا فَائِدَته دفع ألم الْجُوع وَلِهَذَا لَو لم يجد ألم الْجُوع لم يستطب الأكل وَكَذَلِكَ الشّرْب مَعَ الْعَطش والراحة مَعَ التَّعَب وَمَعْلُوم أن فِي مُزاولة ذَلِك وتحصيله ألما وضررا وَلَكِن ضَرَره وألمه أقل من ضَرَر مَا يدْفع بِهِ وألمه فَيحْتَمل الإنسان أخفَ الضررينِ دفعا لأعظمهما.
وَحكى عَن بعض الْعُقَلَاء أنه قيل لَهُ وَقد تنَاول قدحا كريها من الدَّوَاء كَيفَ حالك مَعَه قَالَ أصبحت فِي دَار بليات أدافع آفَات بآفات- وَفِي الْحَقِيقَة فلذات الدُّنْيَا من المآكل والمشارب واللبس والمسكن والمَنكح من هَذَا الْجِنْس واللذة الَّتِي يُبَاشِرهَا الْحس ويتحرك لَهَا الْجَسَد وَهِي الْغَايَة الْمَطْلُوبَة لَهُ من لَذَّة المَنكح والمأكل شهوتي الْبَطن والفرج لَيْسَ لَهما ثَالِث ألْبَتَّةَ إلا مَا كَانَ وَسِيلَة إليهما وطريقا إلى تحصيلهما وَهَذِه اللَّذَّة منغصة من وُجُوه عديدة :
مِنْهَا أن تصور زَوَالهَا وانقضائها وفنائها يُوجب تنغصها .
وَمِنْهَا أنها ممزوجة بالآفات ومعجونة بالآلام مُحتاطة بالمخاوف وَفِي الْغَالِب لا تَفي آلامها بطيبها كَمَا قيل:
قايست بَين جمَالهَا وفعالها ... فَإِذا الملاحة بالقباحة لاتفي
وَمِنْهَا أن الأراذل من النَّاس وَسَقَطهمْ يشاركون فِيهَا كبراءهم وعقلاءهم بل يزِيدُونَ عَلَيْهِم فِيهَا أعظم زِيَادَة وأفحشها فنسبتهم فِيهَا إلى الأفاضل كنسبة الْحَيَوَانَات الْبَهِيمَة إليهم, فمشاركة الأراذل وَأهل الخِسة والدناءة فِيهَا زيادتهم على الْعُقَلَاء فِيهَا مِمَّا يُوجب النفرة والإعراض عَنْهَا وَكثير من النَّاس حصل لَهُ الزّهْد فِي المحبوب والمعشوق مِنْهَا بِهَذِهِ الطَّرِيق هَذَا كثير فِي أشعار النَّاس ونثرهم كَمَا قيل
سأترك حبها من غير بغض ... وَلَكِن لِكَثْرَة الشُّرَكَاء فِيهِ إِذا وَقع الذُّبَاب على طَعَام ... رفعت يَدي وَنَفْسِي تشتيه وتجتنب الاسود ورودماء ... إِذا كَانَ الْكلاب يلغن فِيهِ
وَقيل لزاهد مَا الَّذِي زهدك فِي الدُّنْيَا فَقَالَ خسة شركائها وَقلة وفائها وَكَثْرَة جفائها وَقيل لآخر فِي ذَلِك فَقَالَ مَا مددت يَدي إلى شَيْء مِنْهَا إِلَّا وجدت غَيْرِي قد سبقني إليه فَأتْرُكْهُ لَهُ .
وَمِنْهَا أن الالتذاذَ بموقعها إِنَّمَا هُوَ بِقدر الْحَاجة إليها والتألم بمطالبة النَّفس لتناولها وَكلما كَانَت شَهْوَة الظفر بالشَّيْء أقوى كَانَت اللَّذَّة الْحَاصِلَة بِوُجُودِهِ أكمل فَلَمَّا لم تحصل تِلْكَ الشَّهْوَة لم تحصل تِلْكَ اللَّذَّة فمقدار اللَّذَّة الْحَاصِلَة فِي الْحَال مسَاوٍ لمقدار الْحَاجة والألم والمضرة فِي الْمَاضِي وَحِينَئِذٍ يتقابل اللَّذَّة الْحَاصِلَة والألم الْمُتَقَدّم فيتساقطان فَتَصِير اللَّذَّة كأنها لم تُوجد وَيصير بِمَنْزِلَة من شقّ بطن رجل ثمَّ خاطه وداواه بالمراهم أوْ بِمَنْزِلَة من ضربه عشرَة أسواط وأعطاه عشرَة دَرَاهِم وَلَا تخرج لذات الدُّنْيَا غَالِبا عَن ذَلِك وَمثل هَذَا لَا يعد لَذَّة وَلَا سَعَادَة وَلَا كمالا بل هُوَ بِمَنْزِلَة قَضَاء الْحَاجة من الْبَوْل وَالْغَائِط فَإِن الإنسان يتَضَرَّر بثقله فَإِذا قضى حَاجته استراح مِنْهُ فإما أن يعدَ ذَلِك سَعَادَة وبهجة وَلَذَّة مَطْلُوبَة فَلَا.
وَمِنْهَا أن هَاتينِ اللذتينِ اللَّتَيْنِ هما أثر اللَّذَّات عِنْد النَّاس وَلَا سَبِيل إلى نيلهما إلا بِمَا يقْتَرن بهما قبلهمَا وبعدهما من مُبَاشرَة القاذورات والتألم الْحَاصِل عقبيهما مثل لَذَّة الأكل فَإِن الْعَاقِل لَو نظر إلى طَعَامه حَال مخالطته رِيقه وعجنه بِهِ لنفرت نَفسه مِنْهُ وَلَو سقت تِلْكَ اللُّقْمَة من فِيهِ لنفر طبعه من إعادتها إليه ثمَّ إن لذته بِهِ إِنَّمَا تحصل فِي مجْرى نَحْو الأربع الأصابع فَإِذا فصل عَن ذَلِك المجرى زَالَ تلذذه بِهِ فَإِذا اسْتَقر فِي معدته وخالطه الشَّرَاب وَمَا فِي الْمعدة من الأجزاء الفضلية فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يصير فِي غَايَة الخسة فَإِن زَاد على مِقْدَار الْحَاجة أورث الأدواء الْمُخْتَلفَة على تنوعها وَلَوْلَا أن بَقَاءَهُ مَوْقُوف على تنَاوله لَكَانَ تَركه وَالْحَالة هَذِه أليق بِهِ كَمَا قَالَ بَعضهم:
لَوْلَا قَضَاءَهُ جرى نزهت أنملتي ... عَن أن تلم بمأكول ومشروب ,
وَأما لَذَّة الوقاع قدرهَا أبين من أن نذْكر آفاته وَيدل عَلَيْهِ أن أعضاء هَذِه اللَّذَّة هِيَ عَورَة الإنسان الَّتِي يستحيا من رؤيتها وَذكرهَا وسترها أمْر فطر الله عَلَيْهِ عباده وَلَا تتمّ لَذَّة المواقعة إلا بالاطلاع عَلَيْهَا وإبرازها والتلطخ بالرطوبات المستقذرة المتولدة مِنْهَا - ثمَّ إِن تَمامهَا إِنَّمَا يحصل بانفصال النُّطْفَة وَهِي اللَّذَّة الْمَقْصُودَة من الوقاع وزمنها يشبه الآن الَّذِي لَا يَنْقَسِم فصعوبة تِلْكَ المزاولة والمُحاولة والمطاولة والمراوضة والتعب لأجل لَذَّة لَحْظَة كمد الطّرف فَأَيْنَ مُقايسة بَين هَذِه اللَّذَّة وَبَين التَّعَب فِي طَرِيق تَحْصِيلهَا وَهَذَا يدل على أن هَذِه اللَّذَّة لَيست من جنس الْخيرَات والسعادات والكمال الَّذِي خلق لَهُ العَبْد وَلَا كَمَال لَهُ بِدُونِهِ بل ثمَّ أمرٌ وراء ذَلِك كُله قد هُيء لَهُ العَبْد وَهُوَ لَا يفعلن لَهُ لِغَفْلَتِه عَنهُ وإعراضه عَن التفتيش على طَرِيقه حَتَّى يصل إليه يسوم نَفسه مَعَ الأنعام السَّائِمَة:
قد هيؤك لأمر لَو فطنت لَهُ ... فاربأ نَفسك أن ترعى مَعَ الهمل
وموقع هَذِه اللَّذَّات من النَّفس كموقع لَذَّة البرَاز من رجل احْتبسَ فِي مَوضِع لَا يُمكنهُ الْقيام إلى الْخَلَاء وصار مُضطرا إليه فَإِنَّهُ يجدُ مَشقة شَدِيدَة وبلاء عَظِيما فَإِذا تمكن من الذهاب إلى الْخَلَاء وَقدر على دفع ذَلِك الْخَبيث المؤذي وجد لَذَّة عَظِيمَة عِنْد دَفعه وإرساله وَلَا لَذَّة هُنَاكَ إلا رَاحَته من حمل مَا يُؤْذِيه حمله فَعلم أن هَذِه اللَّذَّات إِمَّا أن تكون دفع آلام وَإِمَّا أن تكون لذات ضَعِيفَة خسيسة مقترنة بآفات ترى مضرتها عَلَيْهِ وَهَذَا كَمَا يعقب لَذَّة الوقاع من ضعف الْقلب وخفقان الْفُؤَاد وَضعف القوى الْبَدَنِيَّة والقلبية وَضعف الأرواح واستيلاء العُفونة على كل الْبدن وإسراع الضعْف والخور إليه واستيلاء الأخلاط عَلَيْهِ لضعف الْقُوَّة عَن دَفعهَا وقهرها وَمِمَّا يدل على أن هَذِه اللَّذَّات لَيست خيرات وسعادات وكمالا.
إن الْعُقَلَاء من جَمِيع الأمم مُطبقون على ذمّ من كَانَت هِيَ نِهمته وشغله ومصرف همته وإرادته والإزراء بِهِ وتحقير شَأْنه وإلحاقه بالبهائم ولايقيمون لَهُ وزنا وَلَو كَانَت خيرات وكمالا لَكَانَ من صَرف إليها همته أكمل النَّاس وَمِمَّا يدل على ذَلِك أن الْقلبَ الَّذِي قد وَجه قَصده وإرادته إلى هَذِه اللَّذَّات لَا يزَال مُسْتَغْرقا فِي الهموم والغموم والأحزان وَمَا يَنَالهُ من اللَّذَّات فِي جنب هَذِه الآلام كقطرة فِي بحر - كما قيل سروره وزن حَبَّة وحزنه قِنْطَار فَإِن الْقلب يجرى مجْرى مرْآة مَنْصُوبَة على جِدَار وَذَلِكَ الْجِدَار ممر لأنواع المشتهيات والملذوذات والمكروهات وَكلما مر بِهِ شَيْء من ذَلِك ظهر فِيهِ أَثَره فَإِن كَانَ محبوبا مشتهيا مَال طبعه اليه فَإِن لم يقدر على تَحْصِيله تألم وتعذب بفقده وَإِن قدر على تَحْصِيله تألم فِي طَرِيق الْحُصُول بالتعب وَالْمَشَقَّة ومنازعة الْغَيْر لَهُ ويتألم حَال حُصُوله خوفًا من فِرَاقه وَبعد فِرَاقه خوفًا على ذَهَابه وَإِن كَانَ مَكْرُوها لَهُ وَلم يقدر على دَفعه تألم بِوُجُودِهِ وَإِن قدر على دَفعه اشْتغل بِدَفْعِهِ ففاتته مصلحَة راجحة الْحُصُول فيتألم لفواتها فَعلم أن هَذَا الْقلب أبدا مُسْتَغْرق فِي بحار الهموم والغموم والأحزان وَإِن نَفسه تضحك عَلَيْهِ وترضيه بِوَزْن ذرة من لذته فيغيب بهَا عَن شُهُوده القناطير من ألمه وعذابه فَإِذا حيل بَينه وَبَين تِلْكَ اللَّذَّة وَلم يبْق لَهُ إليها سَبِيل تجرد ذَلِك الألم وأحاط بِهِ وَاسْتولى عَلَيْهِ من كل جهاته فَقل مَا شِئْت فِي حَال عبد قد غُيب عَنهُ سعده وحظوظه وأفراحه وأحضر شِقوته وهمومه وغمومه وأحزانه وَبَين العَبْد وَبَين هَذِه الْحَال أن ينْكَشف الغطاء وَيرْفَع السّتْر وينجلى الْغُبَار وَيحصل مَا فِي الصُّدُور فَإِذا كَانَت هَذِه غَايَة اللَّذَّات الحيوانية الَّتِي هِيَ غَايَة جمع الأموال وطلبها فَمَا الظَّن بِقدر الْوَسِيلَة وَأما غِنى الْعلم والإيمان فدائم اللَّذَّة مُتَّصِل الفرحة مُقْتَض لأنواع المسرة والبهجة لايزول فيحزن وَلَا يُفَارق فيؤلم بل أصحابه كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فيهم {لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ}.
 
السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ : أن غنى المَال يبغض الْمَوْت ولقاء الله فَإِنَّهُ لحبه لمَاله يكره مُفَارقَته وَيُحب بَقَاءَهُ ليتمتع بِهِ كَمَا شهد بِهِ الْوَاقِع- وَأما الْعلم فَإِنَّهُ يحبب للْعَبد لِقَاء ربه ويزهده فِي هَذِه الْحَيَاة النكدة الفانية .
السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: أن الأغنياء يَمُوت ذكرهم بموتهم وَالْعُلَمَاء يموتون وَيبقى ذكرهم كَمَا قَالَ أمير الْمُؤمنِينَ فِي هَذَا الحَدِيث : مَاتَ خزان الأموال وهم أحياء وَالْعُلَمَاء باقون مَا بَقِي الدَّهْر- فخُزان الأموال أحياء كأموات وَالْعُلَمَاء بعد موتهم أموات كأحياء .
الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ: أن نِسْبَة الْعلم إلى الرّوح كنسبة الرّوح إلى الْبدن فالروح ميتَة حَيَاتهَا بِالْعلمِ كَمَا أن الْجَسَد ميت حَيَاته بِالروحِ فالغني بِالْمَالِ غَايَته أن يزِيد فِي حَيَاة الْبدن وأما الْعِلم فَهُوَ حَيَاة الْقُلُوب والأرواح كَمَا تقدم تَقْرِيره .
التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ: أن الْقلب ملك الْبدن وَالْعلم زينته وعدته وَمَاله وَبِه قوام ملكه وَالْملك لَا بُد لَهُ من عَدد وعُدة وَمَال وزِينة - فالعلم هُوَ مركبُه وعدتُه وجمالُه- وأما المَال فغايته أن يكون زِينَة وجمالا للبدن إِذا أنفقه فِي ذَلِك فَإِذا خزنه وَلم يُنْفِقهُ لم يكن زِينَة وَلَا جمالا بل نَقصا ووبالا وَمن الْمَعْلُوم أن زِينَة الْملك بِهِ وَمَا بِهِ قوام ملكه أجلُّ وأفضل من زِينَة رَعيته وجمالهم فقوام الْقلب بِالْعلمِ كَمَا أن قِوام الْجِسْم بالغذاء .
الْوَجْه الأربعون : أن الْقدر الْمَقْصُود من المَال هُوَ مَا يَكْفِي العَبْد ويقيمه وَيدْفَع ضَرُورَته حَتَّى يتَمَكَّن من قَضَاء جهازه وَمن التَّزَوُّج لسفره إلى ربه عزوجل فَإِذا زادعلى ذَلِك شغله وقطعه عَن السّفر وَعَن قَضَاء جهازه وتعبية زَاده فَكَانَ ضَرَره عَلَيْهِ أَكثر من مصْلحَته وَكلما ازْدَادَ غناهُ بِهِ ازْدَادَ تثبطا وتخلفا عَن التجهز لما أمامه وَأما الْعلم النافع فَكلما ازْدَادَ مِنْهُ ازْدَادَ فِي تعبية الزَّاد وَقَضَاء الجهاز وإعداد عدَّة الْمسير وَالله الْمُوفق وَبِه الِاسْتِعَانَة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إلا بِهِ- فَعدَّة هَذَا السّفر هُوَ الْعلم وَالْعَمَل وعدة الإقامة جمع الأموال والادخار وَمن أراد شَيْئا هيأ لَهُ عدته قَالَ تَعَالَى { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ }.
قَوْله محبَّة الْعلم أوْ الْعَالم دين يُدان بهَا - لَأن الْعلم مِيرَاث الأنبياء وَالْعُلَمَاء ورثتهم فمحبة الْعلم وأهله محبَّة لميراث الأنبياء وورثتهم وبغض الْعلم وَأَهله بغض لميراث الأنبياء وورثتهم فمحبة الْعلم من عَلَامَات السَّعَادَة وبغض الْعلم من عَلَامَات الشقاوة وَهَذَا كُله إِنَّمَا هُوَ فِي علم الرُّسُل الَّذِي جاؤا بِهِ وورثوه للأمة لَا فِي كل مَا يُسمى علما وأيضا فَإِن محبَّة الْعلم تحمل على تعلمه واتباعه وَذَلِكَ هُوَ الدّين وبغضه ينْهَى عَن تعلمه واتباعه وَذَلِكَ هُوَ الشَّقَاء والضلال.
وأيضا فَإِن الله سُبْحَانَهُ عليم يحب كل عليم وَإِنَّمَا يضع علمه عِنْد من يُحِبهُ فَمن أحب الْعلم وأهله فقد احب مَا احب الله وَذَلِكَ مِمَّا يدان بِهِ قَوْله الْعلم يكْسب الْعَالم الطَّاعَة فِي حَيَاته وَجَمِيل الأحدوثة بعد مماته يكسبه ذَاك أَي يَجعله كسبا لَهُ ويورثه إِيَّاه وَيُقَال كَسبه ذَلِك عزا وَطَاعَة وأكسبه لُغَتَانِ وَمِنْه حَدِيث خَدِيجَة رضى الله عَنْهَا- إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتصدق الحَدِيث وَتحمل الْكل وتكسب الْمَعْدُوم -روى بِفَتْح التَّاء وَضمّهَا وَمَعْنَاهُ تكسب المَال والغنى هَذَا هُوَ الصواب.
 
عودة
أعلى