المبحث الأول
الهجرة النبوية الشريفة
مقدمات الهجرة
1 ـ الهجرة إلى الحبشة.. والخروج من الأزمة(وإذ اعتزلتموهم).
قبل الهجرة الأولى للحبشة، كانت سورة الكهف تعد الصحابة لهذا الأمر إنهم فتية،أشداء في أجسامهم, أشداء في إيمانهم، أشداء في استنكار ما عليه قومهم. .
ولقدتبين لهم الطريقان طريق الإيمان وطريق الضلال , واختلف المنهجان ، فلا سبيل إلى الالتقاء , ولا للمشاركةفي الحياة، ولا بد من الفرار بالعقيدة، إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها , ويتلقوا ما يتلقاه الرسل ، إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر , ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروابها،وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويراودهم , ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله .
ولما كان أمرهم قد كشف، فلا سبيل لهم إلاأن يفروا بدينهم إلى الله, وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة، وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم:
(وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأْوُۥٓا۟ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِۦ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا ﴿16﴾ ۞ وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍۢ مِّنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ ۗ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلّيًا مُّرْشِداً) الكهف: 16
وهناينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم,ويهجرون ديارهم, ويفارقون أهلهم, ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاءالذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم ، هؤلاء يستروجون رحمة الله ، ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة . (فَأْوُۥٓا۟ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِۦ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا ﴿16﴾)..
ولفظة (يَنشُرْ) تلقي ظلال السعة والبحبوحة والإنفساح ، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطهاوتمتد ظلالها , وتشملهم بالرفق واللين والرخاء .
إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق , وإن الوحشة الموغلة لتشف , فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق .
حين اشتد العذاب بأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضاقت بهم السبل، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة "فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه" فخرج فريق من المسلمين إلى أرض الحبشة؛ مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام.مثل ما فعل أصحاب الكهف..
فلقد أخذ المسلمون الأوائل العبرة منهم..قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يوسف:111.
وتفكير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفي الحبشة ينطوي على معرفة واسعة للنبي الكريم بأحوال شبه الجزيرة العربية، واتجاهاتها السياسية، فلم يكن هناك مكان أصلح للحماية والإيواء من الحبشة، فالقبائل العربية تربطها بقريش علاقات وثيقة، وروابط متينة تمنعها من استقبال هؤلاء المسلمين إذا ما فكروا في الهجرة إليها، وبلاد اليمن غير مستقرة يتنازعها التنافس بين الفرس والروم، والصراع بين اليهودية والنصرانية، ولم تكن أي مدينة من مدن الجزيرة العربية تصلح أن تكون مكانًا مناسبًا لإيوائهم، حتى يثرب نفسها التي استقبلت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَبعد ذلك، وأقام بها دولته لم تكن تصلح هي الأخرى في هذا الوقت لاستقبال المهاجرين، حيث كانت تمزقها الخلافات الداخلية، والصراعات بين قبائلها، وكان جملة من هاجر إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً.
2 ـ الهجرة الثانية للحبشة
غير أن هذه الهجرة لم تدم طويلاً، حيث رجع المسلمون من أرض هجرتهم إلى مكة بعد أن بلغهم أن قريشاً هادنت الإسلام وتركت أهله أحراراً، إلا انهم بعد وصولهم إلى مكة وجدوا الأمر على خلاف ما ظنوه، فاضطروا إلى الهجرة مرة ثانية.فما خبر هذه الهجرة ؟ هذا ما سوف نعرفه في الأسطر التالية.
إن الإشاعة التي بلغت المؤمنين في أرض الهجرة تركت أثرها في قلوبهم ، فقرروا العودة إلى وطنهم، وكان سبب هذه الإشاعة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَخرج إلى الحرم وفيه جمع كبير من قريش، فقام فيهم وأخذ يتلو سورة النجم، ولم يكن المشركون قد سمعوا القرآن سماع منصت من قبل, لأن أسلوبهم المتواصل كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضاً (وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَا تَسْمَعُوا۟ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْا۟ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ )فصلت:26 .
فلما فاجأهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتلاوة هذه السورة، وقرع آذنهم القرآن في روعة بيانه ، وجلالة معانيه، أعطوه سمعهم، فلما قرأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: (فَٱسْجُدُوا۟ لِلَّهِ وَٱعْبُدُوا۟ ) النجم: 62فسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يتمالك المشركون أنفسهم فسجدوا .
وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدَّعت العناد والكِبْر الذي في نفوسهم، فخروا ساجدين، فبلغ هذا الخبر مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تماماً عن صورته الحقيقية، حيث بلغهم أن قريشاً أسلمت، فرجعوا إلى مكة آملين أن يعيشوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين قومهم وأهليهم آمنين، فلما وصلوا قريباً من مكة عرفوا حقيقة الأمر، وأن ما وصلهم من الأخبار غير صحيح ، بل إن قريشاً أشد وأنكى على المسلمين من ذي قبل، فرجع من رجع منهم ، ومن دخل مكة دخلها مستخفياً، أو في جوار رجل من المشركين، ثم زاد المشركون في تعذيب هؤلاء العائدين وسائر المسلمين، ولم ير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بداً من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى ، فهي المنفذ الوحيد والمخرج بعد الله تعالى - من بلاء قريش - لما يتميز به ملِكُها النجاشي من عدل ورحمة وحسن ضيافة، وقد وجده المسلمون كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لا يظلم عنده أحد) .
فقرر المسلمون الهجرة مرة ثانية، ولكن الهجرة في هذه المرة كانت أشق وأصعب من سابقتها، حيث تيقظت قريش لها، وقررت إحباطها ، لكن المسلمين كانوا قد أحسنوا التخطيط والتدبير لها ويسَّر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن تدركهم قريش، وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً ، وثماني عشرة امرأة .
وكما كان في الهجرة الأولى خير للإسلام والمسلمين ففي هذه الهجرة كان الخير أكثر وأكثر، فازداد عددهم وانتشر خبرهم، وكانت أرض الحبشة التي أمِنوا فيها على أنفسهم ودينهم منطلقاً للدعوة الإسلامية وملاذاً لكل مضطهد وطريد من المسلمين، والله يؤيد دينه وعباده المؤمنين بما شاء من جنوده التي لا يعلمها إلا هو ، فله الحمد في الأولى والآخرة .
3ـ بيعة العقبة الثانية.
بعد اجتماع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَبوفد المدينة قالوا له : قد سمعنا مقالتك ، فتكلم يارسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت ، وفي رواية خذ لنفسك ما شئت واشترط لربك ما شئت .
فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وآباءكم.
فقال ابن رواحة : فإذا فعلنا فما لنا ؟.
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكم الجنة .
قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل .
لم تكن صفقة دنيوية إذن، وما كان فيها شيء من مساومة.
وفي رواية أن العباس بن عبادة بن نضلة تكلم مع الأنصار وشد العقدة ، فقال : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر ، والأسود من الناس ـ أي على من حاربه منهم ـ ثم ذكر مثل ما تقدم عن أسعد بن زرارة.
ثم توافقوا على ذلك .
وقالوا: يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا ؟.
هنا يظهر جوهر الرسالة .
قال: رضوان الله والجنة.
قالوا: رضينا ابسط يدك.
فبسط يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعوه.
وأول من بايعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَالبراء بن معرور ، وقيل اسعد بن زرارة ، وقيل أبو الهيثم بن التيهان ، ثم بايعه السبعون كلهم ، وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة ، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يصافح النساء ، إنما كان يأخذ عليهن ، فإذا أحرزن قال اذهبن فقد بايعتكن .
فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام إظهارا كليا وتجاهروا به.
وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة.
ثم نزلت سورة القصص لتعد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإعداداً خاصاً : (وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَـٰمُوسَىٰٓ إِنَّ ٱلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ ٱلنَّـٰصِحِينَ ﴿20﴾ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ ﴿21﴾وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّىٓ أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ) القصص: 20 ـ 22
وهكذا كان الإذن بالهجرة له صلى الله عليه وسلم وجاءت الإشارة إليه في سورة يوسف المكية:(ٱقْتُلُوا۟ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضًۭا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا۟ مِنۢ بَعْدِهِۦ قَوْمًا صَـٰلِحِينَ ﴿9﴾ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا۟ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَـٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ ﴿10﴾)يوسف : 9 ـ 10
أليس هذا مشابها لقوله تعالى في الأنفال
( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ ) الأنفال:30