بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
بين متين العلم ومُلَح التفسير
جدت في عصرنا مصادر جديدة للتفسير، منها الإعجاز العلمي والعددي، ولا يزال الباحثون في الدراسات القرآنية مختلفين في اعتماد هذه المصادر، فبعضهم يعتمدها – وهم الجمهور – وبعضهم يرفضها.
وجميع هذه الأنواع تعود في الحقيقة إلى دلالة الإشارة، ودلالة الإشارة عند الأصوليين هي: دلالة اللفظ على معنى لا تتوقف صحة الكلام عليه، ولم يقصده المتكلم، مثل قوله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، فمنطوقها الصريح يدل على جواز جماع الصائمين لنسائهم في جميع أجزاء الليل، وتدل هذه الآية أيضا عن طريق الإشارة على صحة صوم من أصبح جنبا؛ لأن ذلك لازم على إباحة الجماع في جميع أجزاء الليل، ومنها آخر جزء منه، ويلزم على ذلك أن يصبح المجامع جنبا. ومن أمثلة دلالة الإشارة أيضا قوله تعالى: "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون"؛ فقد استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن الولد لا يُمْلَك؛ لأن الله تعالى وصف الملائكة بأنهم عباده ردا على الكفار في زعمهم أنهم أبناؤه، تعالى الله عن ذلك، ويلزم من ذلك أن العبودية والولدية لا يجتمعان.
ومن أمثلة ذلك من الإعجاز العلمي قوله تعالى: "غلبت الروم في أدنى الأرض"؛ فالآية أصلا ليست مسوقة لتقرير حقيقة علمية، وإنما هي مسوقة للإخبار عن أمر مستقبلي هو انتصار الروم على الفرس وهذا ما يفهمه العرب الأميون منها إذا سمعوها، لكن العلم الحديث استكشف أيضا أنها تدل على حقيقة علمية.
وليس الخلاف في دلالة الإشارة جديدا؛ فقد اختلف القدماء في اعتبارها؛ وخصص الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات" بحثا مطولا لهذا الموضوع، ذكر فيه حجج من يقول بها وحجج من يمنعها، وأطال في ذلك، وإن كان في الأخير قد رجح جانب من يمنع اعتمادها في مجال استنباط الأحكام الشرعية (انظر "الموافقات" للشاطبي، ط. عبد الله دراز: 2/79 – 103).
لكن ألا يمكن لهؤلاء وهؤلاء أن يجتمعوا في هذه المسألة على كلمة سواء؟
ربما نجد حلا لهذا الخلاف عند الإمام ابن عطية؛ فهو يميز بين نوعين من مصادر التفسير، هما: متين العلم ومُلَح التفسير، كما يقول في تفسير البسملة، من تفسيره "المحرر الوجيز":
"والبسملة تسعة عشر حرفا؛ فقال بعض الناس إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم: "عليها تسعة عشر" إنما ترتب عددهم على حروف "بسم الله الرحمن الرحيم" لكل حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم: "بسم الله الرحمن الرحيم" فمن هنالك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا. قال القاضي أبو محمد عبد الحق - رضي الله عنه -: وهذه من مُلَح التفسير وليست من متين العلم، وهي نظير قولهم في ليلة القدر إنها ليلة سبع وعشرين مراعاة للفظة "هي" في كلمات سورة "إنا أنزلناه"، ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: "ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه"؛ فإنها بضعة وثلاثون حرفا قالوا: "فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول".
فالإمام ابن عطية هنا ينزل كل واحد من النوعين منزلته بلا إفراط ولا تفريط؛ فهو لا ينكر مُلَح التفسير، لكنه أيضا لا يرفعها إلى درجة متين العلم.
فمتين العلم هو استنباط التفسير من القرآن العظيم عن طريق مصادر التفسير المعروفة التي حددها علماء التفسير، ومنها: القرآن والسنة والإجماع وعلوم اللغة، أما مُلَح التفسير فهي استنباط اللطائف والنكت من القرآن، عن طريق التفسير الإشاري، ومنه الإعجاز العلمي والعددي، ونحوها.
ولكل من النوعين مجاله؛ فمجال متين العلم هو الأحكام العقدية والفقهية. أما مُلَح التفسير فهي لا تستخدم في استنباط هذين النوعين، وإن صح الاعتماد عليها في مجالات أخرى، فحكمها حكم الرؤيا والفراسة والتوسم والأحاديث الضعيفة التي يصح الاستدلال بها في مجال المستحبات والترغيب والترهيب بشروط، عند جمهور العلماء.
ومن المجالات التي يصح أن نعتمد فيها على مُلَح التفسير:
1 - زيادة الإيمان وتقويته: فالمسلمون - والحمد لله - يقطعون بكل ما أخبر به الصادق المصدوق، ولكنهم يزدادون إيمانا مع إيمانهم إذا استكشف العلم الحديث إعجازا علميا جديدا في الكتاب والسنة: "ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون"، ونظير ذلك ما ورد في كتب أهل الكتاب من البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن تصديقه، فإن المسلم إذا وقف على هذه الشهادة ازداد إيمانا مع إيمانه، كما قال تعالى: "قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله". ونظير ذلك من السنة اعتماده صلى الله عليه وسلم للقيافة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: "ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد وأسامة - ورأى أقدامهما -: "إن بعض هذه الأقدام من بعض". [متفق عليه: رواه البخاري، برقم: 3362، ومسلم برقم: 3690]، وقد كان مجزز المدلجي هذا قائفا، والقائف – كما قال ابن حجر في شرح هذا الحديث -: "هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر؛ سمي بذلك لأنه يقفو الأشياء، أي: يتبعها فكأنه مقلوب من القافي". وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث أيضا: "قال أبو داوود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة؛ لأنه كان أسود شديد السواد وكان أبوه زيد أبيض من القطن، فلما قال القائف ما قال مع اختلاف اللون سر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك لكونه كافا لهم عن الطعن فيه لاعتقادهم ذلك"؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قاطعا بصحة نسب أسامة وكان المسلمون قاطعين بذلك؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع دليل القافة من مجزز المدلجي فرح به؛ لأنه تصديق لما كان عنده من القطعيات، وهو دليل آخر على كذب الكفار والمنافقين.
2 - تعيين المبهمات: ذكر ابن عطية في النص أعلاه استنباط بعض المفسرين أن ليلة القدر هي السابعة والعشرون من رمضان اعتمادا على الإعجاز العددي، فكلمة "هي" وقعت هي السابعة والعشرين من السورة؛ فدل ذلك عندهم على أن ليلة القدر هي السابعة والعشرون من رمضان. وهو استنباط مقبول؛ لأن ليلة القدر يصح الاعتماد في تحديدها على الأدلة الفرعية كالرؤيا ونحوها، قال صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر؛ فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر". [متفق عليه: رواه البخاري برقم: 1911، ومسلم برقم: 1165]، قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: "وفي هذا الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية".
3 - الترجيح بين الخلافات الفقهية والتفسيرية، أو تقوية ما يدل عليه متين العلم: فمُلَح التفسير يصح الاعتماد عليها في تأكيد الأحكام لا في تأسيسها، فلا يُنشَأ بها حكم جديد ولكن يصح أن يقوى بها حكم موجود؛ لأن مُلَح التفسير كالرؤيا ونحوها، والرؤيا يصح اعتمادها في هذا المجال، مثل حديث ابن عباس المتفق عليه، عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال: "تمتعت فنهاني ناس فسألت ابن عباس رضي الله عنهما فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي: "حج مبرور وعمرة متقبلة"، فأخبرت ابن عباس فقال: "سنة النبي صلى الله عليه وسلم" فقال لي: "أقم عندي؛ فأجعل لك سهما من مالي" قال شعبة: "فقلت: "لم؟" فقال"للرؤيا التي رأيت". [متفق عليه، رواه البخاري برقم: 1492، ومسلم برقم: 1242]"، قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: "ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسره، وفرح العالم بموافقته الحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم ليعمل بالراجح منه الموافق للدليل". وقال القسطلاني في إرشاد الساري في شرح هذا الحديث: "قال المهلب: "ففي هذا دليل على أن الرؤيا الصادقة شاهد على أمور اليقظة"، وفيه نظر؛ لأن الرؤيا الحسنة من غير الأنبياء ينتفع بها في التأكيد لا في التأسيس والتجديد، فلا يسوغ لأحد أن يسند فتياه إلى منام، ولا يتلقى من غير الأدلة الشرعية حكما من الأحكام". ومن الخلافات التفسيرية التي أصبح بإمكاننا اليوم أن نرجح جانبا منها بفضل الإعجاز العلمي، الخلاف في تفسير قوله تعالى: "فاليوم ننجيك ببدنك"؛ فقد اختلف المفسرون القدماء في تفسيرها فقيل: البدن: الجسد، وقيل: الدرع، لكن الإعجاز العلمي أثبت أن جسد فرعونِ موسى ما زال موجودا بذاته في عصرنا، فدل ذلك على أن المقصود بالبدن في هذه الآية هو الجسد.
ولا ينبغي أن ننسى أيضا أن القائلين باعتماد الإعجاز العلمي والعددي، قد وضعوا لهما ضوابط وشروطا ومعايير، تكفل لهما الدقة وتحاشِيَ الإفراط والتفريط، وهم يرفضون رفضا باتا ما لا يلتزم بهذه المعايير، أما المعارضون فينصب انتقادهم غالبا على ما لم يلتزم بهذه المعايير؛ وهنا يصل الخلاف إلى مرحلة يكاد يكون فيها لفظيا.
وأخيرا أفلا يمكن أن يكون الإمام ابن عطية بتمييزه بين متين العلم و مُلَح التفسير، وسيطا بين هؤلاء وهؤلاء؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
بين متين العلم ومُلَح التفسير
جدت في عصرنا مصادر جديدة للتفسير، منها الإعجاز العلمي والعددي، ولا يزال الباحثون في الدراسات القرآنية مختلفين في اعتماد هذه المصادر، فبعضهم يعتمدها – وهم الجمهور – وبعضهم يرفضها.
وجميع هذه الأنواع تعود في الحقيقة إلى دلالة الإشارة، ودلالة الإشارة عند الأصوليين هي: دلالة اللفظ على معنى لا تتوقف صحة الكلام عليه، ولم يقصده المتكلم، مثل قوله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، فمنطوقها الصريح يدل على جواز جماع الصائمين لنسائهم في جميع أجزاء الليل، وتدل هذه الآية أيضا عن طريق الإشارة على صحة صوم من أصبح جنبا؛ لأن ذلك لازم على إباحة الجماع في جميع أجزاء الليل، ومنها آخر جزء منه، ويلزم على ذلك أن يصبح المجامع جنبا. ومن أمثلة دلالة الإشارة أيضا قوله تعالى: "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون"؛ فقد استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن الولد لا يُمْلَك؛ لأن الله تعالى وصف الملائكة بأنهم عباده ردا على الكفار في زعمهم أنهم أبناؤه، تعالى الله عن ذلك، ويلزم من ذلك أن العبودية والولدية لا يجتمعان.
ومن أمثلة ذلك من الإعجاز العلمي قوله تعالى: "غلبت الروم في أدنى الأرض"؛ فالآية أصلا ليست مسوقة لتقرير حقيقة علمية، وإنما هي مسوقة للإخبار عن أمر مستقبلي هو انتصار الروم على الفرس وهذا ما يفهمه العرب الأميون منها إذا سمعوها، لكن العلم الحديث استكشف أيضا أنها تدل على حقيقة علمية.
وليس الخلاف في دلالة الإشارة جديدا؛ فقد اختلف القدماء في اعتبارها؛ وخصص الإمام الشاطبي في كتابه "الموافقات" بحثا مطولا لهذا الموضوع، ذكر فيه حجج من يقول بها وحجج من يمنعها، وأطال في ذلك، وإن كان في الأخير قد رجح جانب من يمنع اعتمادها في مجال استنباط الأحكام الشرعية (انظر "الموافقات" للشاطبي، ط. عبد الله دراز: 2/79 – 103).
لكن ألا يمكن لهؤلاء وهؤلاء أن يجتمعوا في هذه المسألة على كلمة سواء؟
ربما نجد حلا لهذا الخلاف عند الإمام ابن عطية؛ فهو يميز بين نوعين من مصادر التفسير، هما: متين العلم ومُلَح التفسير، كما يقول في تفسير البسملة، من تفسيره "المحرر الوجيز":
"والبسملة تسعة عشر حرفا؛ فقال بعض الناس إن رواية بلغتهم أن ملائكة النار الذين قال الله فيهم: "عليها تسعة عشر" إنما ترتب عددهم على حروف "بسم الله الرحمن الرحيم" لكل حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم: "بسم الله الرحمن الرحيم" فمن هنالك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا. قال القاضي أبو محمد عبد الحق - رضي الله عنه -: وهذه من مُلَح التفسير وليست من متين العلم، وهي نظير قولهم في ليلة القدر إنها ليلة سبع وعشرين مراعاة للفظة "هي" في كلمات سورة "إنا أنزلناه"، ونظير قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: "ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه"؛ فإنها بضعة وثلاثون حرفا قالوا: "فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول".
فالإمام ابن عطية هنا ينزل كل واحد من النوعين منزلته بلا إفراط ولا تفريط؛ فهو لا ينكر مُلَح التفسير، لكنه أيضا لا يرفعها إلى درجة متين العلم.
فمتين العلم هو استنباط التفسير من القرآن العظيم عن طريق مصادر التفسير المعروفة التي حددها علماء التفسير، ومنها: القرآن والسنة والإجماع وعلوم اللغة، أما مُلَح التفسير فهي استنباط اللطائف والنكت من القرآن، عن طريق التفسير الإشاري، ومنه الإعجاز العلمي والعددي، ونحوها.
ولكل من النوعين مجاله؛ فمجال متين العلم هو الأحكام العقدية والفقهية. أما مُلَح التفسير فهي لا تستخدم في استنباط هذين النوعين، وإن صح الاعتماد عليها في مجالات أخرى، فحكمها حكم الرؤيا والفراسة والتوسم والأحاديث الضعيفة التي يصح الاستدلال بها في مجال المستحبات والترغيب والترهيب بشروط، عند جمهور العلماء.
ومن المجالات التي يصح أن نعتمد فيها على مُلَح التفسير:
1 - زيادة الإيمان وتقويته: فالمسلمون - والحمد لله - يقطعون بكل ما أخبر به الصادق المصدوق، ولكنهم يزدادون إيمانا مع إيمانهم إذا استكشف العلم الحديث إعجازا علميا جديدا في الكتاب والسنة: "ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون"، ونظير ذلك ما ورد في كتب أهل الكتاب من البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن تصديقه، فإن المسلم إذا وقف على هذه الشهادة ازداد إيمانا مع إيمانه، كما قال تعالى: "قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله". ونظير ذلك من السنة اعتماده صلى الله عليه وسلم للقيافة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: "ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد وأسامة - ورأى أقدامهما -: "إن بعض هذه الأقدام من بعض". [متفق عليه: رواه البخاري، برقم: 3362، ومسلم برقم: 3690]، وقد كان مجزز المدلجي هذا قائفا، والقائف – كما قال ابن حجر في شرح هذا الحديث -: "هو الذي يعرف الشبه ويميز الأثر؛ سمي بذلك لأنه يقفو الأشياء، أي: يتبعها فكأنه مقلوب من القافي". وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث أيضا: "قال أبو داوود: نقل أحمد بن صالح عن أهل النسب أنهم كانوا في الجاهلية يقدحون في نسب أسامة؛ لأنه كان أسود شديد السواد وكان أبوه زيد أبيض من القطن، فلما قال القائف ما قال مع اختلاف اللون سر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك لكونه كافا لهم عن الطعن فيه لاعتقادهم ذلك"؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قاطعا بصحة نسب أسامة وكان المسلمون قاطعين بذلك؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع دليل القافة من مجزز المدلجي فرح به؛ لأنه تصديق لما كان عنده من القطعيات، وهو دليل آخر على كذب الكفار والمنافقين.
2 - تعيين المبهمات: ذكر ابن عطية في النص أعلاه استنباط بعض المفسرين أن ليلة القدر هي السابعة والعشرون من رمضان اعتمادا على الإعجاز العددي، فكلمة "هي" وقعت هي السابعة والعشرين من السورة؛ فدل ذلك عندهم على أن ليلة القدر هي السابعة والعشرون من رمضان. وهو استنباط مقبول؛ لأن ليلة القدر يصح الاعتماد في تحديدها على الأدلة الفرعية كالرؤيا ونحوها، قال صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر؛ فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر". [متفق عليه: رواه البخاري برقم: 1911، ومسلم برقم: 1165]، قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: "وفي هذا الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية".
3 - الترجيح بين الخلافات الفقهية والتفسيرية، أو تقوية ما يدل عليه متين العلم: فمُلَح التفسير يصح الاعتماد عليها في تأكيد الأحكام لا في تأسيسها، فلا يُنشَأ بها حكم جديد ولكن يصح أن يقوى بها حكم موجود؛ لأن مُلَح التفسير كالرؤيا ونحوها، والرؤيا يصح اعتمادها في هذا المجال، مثل حديث ابن عباس المتفق عليه، عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال: "تمتعت فنهاني ناس فسألت ابن عباس رضي الله عنهما فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي: "حج مبرور وعمرة متقبلة"، فأخبرت ابن عباس فقال: "سنة النبي صلى الله عليه وسلم" فقال لي: "أقم عندي؛ فأجعل لك سهما من مالي" قال شعبة: "فقلت: "لم؟" فقال"للرؤيا التي رأيت". [متفق عليه، رواه البخاري برقم: 1492، ومسلم برقم: 1242]"، قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: "ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسره، وفرح العالم بموافقته الحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم ليعمل بالراجح منه الموافق للدليل". وقال القسطلاني في إرشاد الساري في شرح هذا الحديث: "قال المهلب: "ففي هذا دليل على أن الرؤيا الصادقة شاهد على أمور اليقظة"، وفيه نظر؛ لأن الرؤيا الحسنة من غير الأنبياء ينتفع بها في التأكيد لا في التأسيس والتجديد، فلا يسوغ لأحد أن يسند فتياه إلى منام، ولا يتلقى من غير الأدلة الشرعية حكما من الأحكام". ومن الخلافات التفسيرية التي أصبح بإمكاننا اليوم أن نرجح جانبا منها بفضل الإعجاز العلمي، الخلاف في تفسير قوله تعالى: "فاليوم ننجيك ببدنك"؛ فقد اختلف المفسرون القدماء في تفسيرها فقيل: البدن: الجسد، وقيل: الدرع، لكن الإعجاز العلمي أثبت أن جسد فرعونِ موسى ما زال موجودا بذاته في عصرنا، فدل ذلك على أن المقصود بالبدن في هذه الآية هو الجسد.
ولا ينبغي أن ننسى أيضا أن القائلين باعتماد الإعجاز العلمي والعددي، قد وضعوا لهما ضوابط وشروطا ومعايير، تكفل لهما الدقة وتحاشِيَ الإفراط والتفريط، وهم يرفضون رفضا باتا ما لا يلتزم بهذه المعايير، أما المعارضون فينصب انتقادهم غالبا على ما لم يلتزم بهذه المعايير؛ وهنا يصل الخلاف إلى مرحلة يكاد يكون فيها لفظيا.
وأخيرا أفلا يمكن أن يكون الإمام ابن عطية بتمييزه بين متين العلم و مُلَح التفسير، وسيطا بين هؤلاء وهؤلاء؟