[align=justify]وصلتني رسالة من جوال تدبر تورد تساؤلاً عن سر التعبير عن الحال بـ(سربا) في قول الله عز وجل: (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا) ثم جاء التعبير عن الحال بـ(عجبًا) في قول الله على لسان الغلام: (فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبًا) وأورد الجوال جوابًا عن ذلك قول الدكتور عويض العطوي: ((لعل ذلك لأن الوصف الأول هو وصف الله سبحانه للأمر، وخروج السمكة حية بعد أن كانت ميتة ودخولها في البحر أمر هين ويسير على الخالق. أما بالنسبة لمخلوق كغلام موسى فإنه أمر في غاية العجب؛ لذلك قال: واتخذ سبيله في البحر عجبا)).
وأقول: لعله يشهد لهذا التوجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا حتى إذا كان من الْغَدِ قال لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لقد لَقِينَا من سَفَرِنَا هذا نَصَبًا، ولم يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حتى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ الله، قال له فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وما أَنْسَانِيهِ إلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ عَجَبًا. فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلَهُمَا عَجَبًا).
والذي يظهر من الحديث أن قوله: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ عَجَبًا) من قول الفتى، وليس كما ذكر بعض المفسرين أنه من قول الله، أو أن قوله: (عجبًا) من قول موسى، والله أعلم.[/align]
أخب الفاضل يوسف أنقل لك ما ذكره الدكتور فاضل السامرائي حول الفرق بين سربا وعجبا:
(قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) يقال هذا الحوت (أي السمكة) الذي أخذه موسى كان مشوياً وأكلوا منه والباقي شيء من السمكة (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)) هذا الحوت المشوي الذي نيل منه هل يصير حياً؟ مستحيل لكن هذا الحوت صار حياً واتخذ سبيله في البحر عجباً، يا للعجب كيف يذهب ويتخذ طريقه في البحر سرباً؟ سرباً أي سبّب نفقاً حيثما مشى البحر يكون عليه كالطاق أو النفق، يكون نفقاً، هذه الحالة كيف تُنسى؟ هي لا تُنسى وهي أغرب حالات النسيان وعجباً كيف ينساها؟ كيف لم يخبر صاحبه وقد شاهد هذه الحالة؟ الغلام شاهد هذه الحالة وموسى لم يشاهدها. هذه أندر حالات النسيان فجاء بأندر حالات التعبير لأندر حالات النسيان (وما أنسانيهُ).
وهذا ما ذكره الدكتور حسام النعيمي حول اللمسات البيانية في قصة موسى مع العبد الصالح في سورة الكهف وفيها إجابة على سؤالك أيضاً
اللمسات البيانية في آيات سورة الكهف في قصة موسى مع الرجل الصالح أو الخِضر: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65))
هذه الآية تقع في سورة الكهف ضمن قصة موسى والخضر أو الرجل الصالح وورد في الحديث أن إسمه الخِضْر قال بكسر الخاء وسكون الضاد وهذا هو الأفصح. وقد وجدت بين أيدينا مجموعة من الأسئلة تتعلق بهذه القصة فرأيت أن أبدأ بها ونمر على هذا السؤال.
تبدأ الآيات بقوله تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) الإنسان يمكن أن يسأل: أولاً لِمَ قال (فتاه)؟ ما المقصود بالفتى؟ والأمر الثاني لماذا يخبره بهذا الكلام؟ أصل القصة كما تذكرها الأحاديث الصحيحة أن موسى سُئل عن أعلم من في الأرض أو عن العلم فقال أنا فقيل له أنت لا تعلم كل شيء، أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن علمك جزء من العلم وليس كل العلم فأراد أن يربّيه التربية الإلهية بالتطبيق أن يعلم أن هناك حيّزاً من العلم لم يُمنَحه وهو علم الغيب. أنت تعلم العلم الظاهر، علم الشرع. فوعده .في مكان خذ معك سمكة أو حوتاً في مِكتل وتذهب به إلى مجمع البحرين وهناك سيذهب الحوت، في المكان الذي سيذهب فيه الحوت ستجد الرجل الذي وعدتك به. هذه هي القصة.
أولاً كلمة فتاه هذه لمسة من القرآن الكريم في الوقت الذي كان هناك عبودية وتبعية الإنسان يكون تابعاً لغيره. الرسول ينهى أن يقول المرء عبدي أو أمتي وإنما يقول فتاي وفتاتي الفتى كأنه إبن. فكأن هذه لمسة إنسانية من رسول الله الذي هو رسول البشرية ورسول الإنسانية جميعاً. لا يقال خادمتي، عبدتي، عبدي، أمتي وإنما فتاي وفتاتي حتى هو الشخص العامل يحس بقيمته الإنسانية عند ذلك. فالقرآن يذكر هذا الكلام حتى يؤدّب قُرّاء القرآن كيف يتعامل مع الناس.
(لا أبرح حتى) هذه كلمة تقال لبيان الإصرار على الشيء: لا أبرح حتى أفعل كذا أي سأستمر على جهدي إلى أن أفعل هذا الأمر.
(أو أمضي حقبا) الحقب جمع حِقبة والحقبة هي مدة من الوقت قسم يقول سنة وقسم يقول ليس لها وقت محدود كأنه يقول سأمضي إلى ما لا نهاية. (لا بثين فيها أحقابا) أي أزمنة طويلة قد لا تكون محسوبة. هذا الإصرار ينبغي أن يعلمه المصاحِب له. لا ينبغي أن يخدعه أو أن يغشّه، هو معه يخدمه، إذن ينبغي أن يعلم من معك أين تريد ولذلك الرسول كان في غزواته القريبة يورّي (يستعمل التورية) مثلاً هو يريد أن يذهب إلى المنطقة الجنوبية يبعث رجلاً للمنطقة الشمالية يقول له إستكشفوا لنا الطريق فيظنّ الناس في المدينة أنه سيذهب إلى الشمال لكن لما خرج في غزوة تبوك نبّه الصحابة إلى أنه يريد الروم حتى الذي يريد أن يأتي معنا يأتي والذي لا يأتي يتحمل نتائج عدم مجيئه لأنه الذي يقوى على المجيء هناك أناس فاضت أعينهم من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون لم يكن عندهم شيء فجلسوا.
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) كان في هذا بيان لفتاه أنه قد يمضون زمناً طويلاً في رحلتهما. الآية لا تقول لنا إن الفتى وافق لكن المفهوم ضمناً من قوله تعالى (فلما بلغا مجمع بينهما) أنه كان معه.
.ما هذان البحران؟ كما قلنا في منهجنا ما سكت عنه القرآن نسكت عنه لأنه لو كان فيه فائدة للقاريء كان ذكره القرآن. فإذن مجمع البحرين هو مكان يجتمع فيه بحران مع مراعاة أن العرب تسمي النهر الكبير بحراً: النيل في لسان العرب بحر، والفرات في لسان العرب بحر ودجلة في لسان العرب بحر. لكن لما يأتي إلى الأنهار الصغيرة يقول نهر. قد يسميه نهراً أو قد يسميه اليمّ وقد يطلق اليم على البحر أو على النهر الكبير. هناك إذن نقطة إلتقاء أو قد تكون نقطة إفتراق لأن المكان الذي يجتمع فيه فرعان. الإنسان يمكن أن يتخيل ما شاء الله له أن يتخيل مع مراعاة المكان الذي عاش فيه موسى : هو عاش في في مصر، فلسطين وسيناء. يمكن أن يكون البحر المتوسط أحد هذين البحرين مع النيل وقد يكون تفرع النيل، أو الملتقى ويمكن أن يكون أي شيء. لكن ليس فيه فائدة وما عندنا دليل على وجه التحديد أنه هذا لكن هناك مؤشرات لما يقول مثلاً: السفينة وجاء عصفور فنقر نقرة في الماء معناه أن الماء حلو لأن العصفور لا ينقر من ماء مالح فهو إذن ماء حلو أو في الأقل ماء مخلوط. لا نطيل أين هذان البحران؟ لا فائدة من ذلك.
(مجمع بينِهما): كلمة بين هي ظرف مكان تشير إلى مساحة. (مجمع بينِهما) هذه المساحة التي إجتمع فيها البحران. لما نرجع إلى أصل كلمة البين هي بمعنى البِعاد والمفارقة ومنه قول الشاعر في مدح الرسول (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول). البين هو البعاد والمفارقة فإذن هو فيه معنى المفارقة، معنى الفصل أن يكون فاصلاً. (مجمع بينهما) هذا الفاصل جعله للبحرين لأن كل واحد منهما له جزء منه لأن هذا ماء والماء يختلط حتى إذا كان ملح وحلو يكون هناك منطقة مختلطة سماها القرآن الكريم (برزخ) هذا البرزخ منطقة الإجتماع بينهما، هناك فاصل منطقة مختلطة (بينهما برزخ لا يبغيان) لا يكون هناك خلطٌ كامل. هذا قد يشاهده أهل منطقة البصرة: شط العرب جزء منه فيه ملوحة من الخليج ثم لما تصعد إلى الأعلى يقل الملح فهناك منطقة فيها إختلاط.
(مجمع بينهما) جعل البين واحداً وفي مكان آخر جعله بينين (هذا فراق بيني وبينك) جعل لكلٍ بيناً لكن هنا جعل بيناً واحداً (مجمع بينهما). ليس من السهل أن تفصل بين هذا عن بين ولذلك فقال القرآن (مجمع بينهما). لهذا نقول كل كلمة في القرآن هي في موضعها في كتاب الله عز وجل.
(نسيا) لماذا إستعمل التثنية في النسيان؟ ممكن إذا جاء إثنان أحدهما متبوع والآخر تابع أن المتبوع يتكلم بإسم الإثنين: ذهبنا أنا وهذا، هو يتكلم بإسمه لكن يبدو هنا أن النسيان بمعنيين: موسى نسي والفتى نسي لكن نسيان موسى غير نسيان الفتى. موسى يعلم أن لُقياه لهذا الرجل يكون عن طريق ذهاب الحوت فلما أمضيا الليل في هذا المكان عند الصخرة (وسيأتي لماذا قلنا أنهما أمضيا الليل) يُفترض أنه في الصباح قبل أن يغادر أن يسأل عن الحوت هل بقي أو ذهب لأن علامة لقياه أن يذهب الحوت في البحر مع أن الحوت كان مشوياً وأكلا منه في الطريق، هذه مهجزة أن هذا الحوت الذي كان مشوياً وأكلتما بعضه سيُبعث حيّاً ويمضي في البحر بطريقة عجيبة سيذكرها لنا (سربا). فنسيان موسى نسي ليس بمعنى حدث شيء ولم يتذكره وإنما غفل عن ذكره أو أهمله، يعني أهمل ذكر الحوت، نوع من إهمال الشيء كما قيل في القرآن الكريم (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى) أي أهملتها، لم تأخذ بها لأنها ما جاءته وحفظها ثم نسيها لكنه أهمل العمل بها والأخذ بها والإنتباه إليها. كذلك اليوم تُنسى أن تهمل (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) نهملهم كما أهملوا كما أهملوا هذا اللقاء. ولذلك فنسيان موسى من باب الإهمال: أهمل ذكر الحوت. أما نسيان الفتى أنه وموسى نائم، هو رأى عجباً رأى هذا الحوت يقفز من المِكتل وهو مشوي ومأكول منه يقفز إلى الماء ويمضي في الماء بشكل سريع بحيث يكوّن سرباً، الرسول حلّق بين أصابعه يعني صنع نفقاً من الماء بسرعة بحيث صار الماء نتيجة سرعته كأنه نفق وهذا معنى سرب. (جعل لنفسه مسرباً: نفقاً). السرب بمعنى نفق الماء، فسار فيه ولذلك هذا لا يُنسى. فإذن هذا الحادث وقع وكان ينبغي لما يستيقظ موسى أن يحدّثه الغلام بما حدث لأنه أمر عظيم لكنه نسي وغاب عنه. فنسيان موسى غير نسيان الفتى لكن كلاهما نسي وكلٌ نسي بما يناسبه من النسيان: موسى كان نوعاً من الإهمال أهمل ذكر الحوت وكا كان ينبغي أن يهمله لأن موعده مع الرجل بحركة الحوت.
ما الذي يدلّ على أنهما ناما ليلاً؟ (فلما جاوزا ) مضيا ويبدو أنهم مشيا مسافة وظهر عليهما التعب في أوائل شروق الشمس لأن الغداء في اللغة هو غير ما نستعمله نحن الآن (وقت الظهيرة) وهذا ليس صحيحاً. الغداء في العربية هو طعام الغداة والغدوة ما بين الفجر وشروق الشمس. الإفطار يكون بعد الصيام. فقال (آتنا غداءنا) معناه هو خرج بعد الفجر أو قبيل الفجر لا ندري المهم ناما وقتاً أو بعضاً من الليل لم تخبرنا الآيات. الغداء قبل شروق الشمس أو مع شروق الشمس. الغداء أول وجبة يتناولها العربي في وقت الغدوة بين الفجر وشروق الشمس (بالغدو والآصال) وكما في الحديث (لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطانا). فإذن كان مبيت بعض الليل ثم سارا إلى أن أُنهِكا فقال نأكل هذا الأكل. (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) هذا مؤكد أنه ظهر عليه التعب الشديد بوجود اللام و(قد): (قد للتحقيق واللام للتأكيد) كأنه قَسَمٌ محذوف: والله لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا). (نصبا) النصب هو أشد التعب. هذا كلام موسى أنه تعب. لما قال (آتنا غداءنا) تذكر الفتى. أُنظر كيف يعلمنا القرآن الرقة مع الناس: الفرق بين آتنا وأعطنا (سبق وذكرناها في وآتت كل واحدة منهن سكينا) في سورة يوسف ما قال أعطت. وقلنا أن الفرق بين آتى وأعطى: العين والألف والألف هو مجرد هواء يهتز معه الوتران فيكون ألفاً، العين حرف حلقي ومجهور يهتز معه الوتران وله مخرج معيّن فأقوى. فالعين أقوى من اللام ولذلك لما تكلم عن شيء قوي قال (إنا أعطيناك الكوثر) الكوثر شيء عظيم فاحتاج الحرف القوي لكن آتينا وآتنا فيها نوع من الرقة واللين. (آتنا غداءنا) مع أنه متعب لم يفقد أسلوب الرقة والمجاملة مع فتاه: كما يقول له يا ولدي إتنا بالطعام كلمة رقيقة.
الآن تذكر الفتى فقال (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) كلمة أرأيت صيغتها صيغة سؤال وحقيقتها تعجيب. يعجّبه من هذا الشيء. أرأيت إلى كذا؟ بمعنى إعجب من أمري. اللفظة أرأيت معناها هل نظرت لكن لا يعنيها بهذا المعنى لما يقول أرأيت لكن العرب تستعملها في موطن التعجيب لما يريد أن يعجّبك من شيء يقول أرأيت هذا الأمر يعني إعجب منه إنه شيء عجيب. مثل: (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى) يعني ما أعجب هذا الأمر كيف ينهى عبداً عن الصلاة هو يصلي وينهاه عن عبادة الله عز وجل. فهي لفظة تعجب. الألفاظ لا تعطي دائماً معانيها المعجمية: (أرأيت الذي يكذب بالدين) عجيب أن يكذب بدين الله عز وجل؟. (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) لأنه سيذكر له أمراً عجباً. يقول له: إعجب من أمري وكيف نسيت لأن أمري يحتاج إلى تعجب. لما يقول في الحديث الشريف "فاظفر بذات الدين تربت يداك" تربت يداك في المعجم تعني تعفّرت يداك بالتراب ولكنها في الحديث لا تعني هذا وإنما يريد من هذا المعنى ربحت وفُزت. هذا الإستعمال ولذلك نقول دائماً أن الذي يحكم ليس اللفظة بمعناها المعجمي وإنما من داخل السياق. هو أراد أن يذكر لموسى أمراً عجباً فقال له (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) إحتميا بصخرة وناما. (فإني نسيت الحوت) هذا النسيان الحقيقي هو لم ينسى الحوت وإنما نسي أن يخبر موسى بأمر الحوت، فيها إختصار. هل كان الفتى يعلم أن العلامة ذهاب الحوت.؟ لا بد أنه أخبره بالأمر لأنه ما دام السفر طويلاً ولا يعلم مداه فلا بد أن يكون موسى قد أعلم فتاه بهذه الدلالة من دلالة قوله (أو أمضي حقبا) فأنت تستطيع أن تتخلى عني وتقول أن هذا الشرط لا أستطيعه.
(وما أنسانيهُ): في غير القرآن أو في غير هذه الرواية التي هي رواية حفص، نحن نعتمد القرّاء السبعة ولا نمنع من العشرة المتواترة وأكثر المسلمين على أن القرّاء العشرة قراءاتهم متواترة لكن قلة من الناس لا يميل إلى تواترها والجمهور مجمعون على السبعة. كل قارئ بروايين: عندنا 14 راوياً، 13 راوياً قرأوها (وما أنسانيهِ) بالكسر، فقط حفص قرأها (وما أنسانيهُ) بالضم. عاصم الذي هو قارئ حفص عنده راوي آخر هو شعبة فأقرأ شعبة (وما أنسانيهِ) وأقرأ حفصاً (وما أنسانيهُ) تدل على أن دقة هؤلاء القرّاء أنهم كانوا ينقلون ما يسمعون من جمهور العرب. فعاصم سمع من قبائل كثيرة من العرب (أنسانيهِ) وسمع من قبائل كثيرة من العرب (أنسانيهُ) فلا يستطيع أن يرجّح فقرأ لهذا هكذا وقرأ لهذا هكذا. بعض العرب قرأ بهذه وبعض العرب قرأ بهذه. وكلتا القراءتين بموافقة رسول الله أو بقراءته المباشرة بأمر من ربه سبحانه وتعالى. القراءات ليست من عند رسول الله التي هي الأحرف وإنما هي سُنّة متّبعة عن الله تعالى قرأ بها جبريل أو أذن بها جبريل عن الله سبحانه وتعالى قرئت بين يدي رسول الله فأُذن له بأمر من ربه جلّت قدرته. القبائل قالت أنسانيهُ. أنسانيهِ: عندنا الضمير مبني والبناء لزوم حركة أو سكوناً. معنى مبني يعني كأنه جدار مبني لا مجال فيه للتحرك. لا يوجد مبني على صورتين وإلا يكون معرباً، طالما وجدت حركتين يعني يُعرب. هذا الضمير (هاء الغائب) لما يكون ما قبلها ساكناً نقول (هذا مِنْهُ) فهو مضموم، لما يكون ما قبلها مفتوحاً يضم (الكتاب لَهُ)، لما يكون ما قبلها مضموم يضم (كتبتُهُ). لما يسكن ما قبله أو يفتح أو يضم يكون مضموماً معناه مبني على الضم. لكن الإنتقال من الكسرة إلى الضمة ثقيلة (بِِهُ) (فخسفنا بهِ وبداره الأرض) لما تقرأها بالضم (بِهُ) ثقيلة وجمهور العرب تكسره للمجانسة ولذلك الإعراب الدقيق (بِهِ: الباء حرف جر والهاء ضمير مبني على الضم وقد كُسِر لمجانسة الكسرة وكذلك (فيهِ) لأن الكسرة والياء من مخرج واحد. لو قلت (أنسانيهُ) مبني على الضم وكُسِر للمجانسة وننظر في مكانه من الإعراب في محل نصب مفعول به. لو قال أنسانيهِ مبني على الضم وكُسِر لمجانسة الياء وهو في محل نصب.
جمهور العرب قالوا أنسانيهِ (13 راوياً قرأها إنسانيهِ). المصحف الذي بين أيدينا برواية حفص وحفص قرأ أنسانيهُ. الضمة ثقيلة. هذه التعليلات ليست تعليلات العرب وإنما تعليلات العلماء. العرب لم يقولوا لنا لماذا رفعنا الفاعل ونصبنا المفعول ولكن العلماء جاءوا وقالوا العرب رفعت الفاعل للسبب الفلاني ونصبت المفعول للسبب الفلاني وهي أسباب وجيهة مقبولة منطقياً. فقال الضمة ثقيلة قطعاً لأن ولادة الضمة تكون بحركتين، بعمليتين: اللسان في الخلف يرتفع نحو سقف الفم إلى مكان بحيث لو إرتفع فوقه أحدث إحتكاكاً مسموعاً وإستدارة الشفتين للتنويع، إذن عمليتان . بينما الكسرة تولد بإرتفاع اللسان من أوله نحو سقف الفم فيسموها الحركة الضيقة الأمامية والضمة الحركة الخلفية. فإذن الضمة أثقل من الكسرة فلما كان الأمر ثقيلاً : نسيان سمكة مشوية تدخل في البحر بهذه الصورة ويُنسى بهذا الشكل شيئاً ثقيلاً فجاءت الضمة، إستخدموا الحركة الثقيلة للإخبار عن أنسانيهُ. فناسب ثِقل الضمة ثِقل الواقعة. ولهذا عجّبه منه (أرأيت إذ أوينا) هذا شيء عجيب. (فإني نسيت الحوت) ونسب النسيان لنفسه لأن هذا النسيان هو منه ونسبه لنفسه وحده ولم يقل نسينا الحوت لأنه يخبره عن قضية عظيمة ولم يكن مناسباً أن يقول لموسى أنت أيضاً لم تُذكّرَني. (عجبا) ذكر التعجب هنا.
(ذلك ما كنا نبغِ): يعني هذا الذي وقع من خروج الحوت ومن دخوله في الماء بهذا الشكل ورجوع الحياة إليه هو الذي كنا نبغيه. (ذلك ما كنا نبغِ) يفترض أن يكون فيها ياء: بغى يبغي مثل رمى يرمي فلما يتكلم عن نفسه مع مجموعة يقول نحن نرمي فيضع الياء. الياء هنا في الخط حُذِفت مع أن كُتّاب المصحف أثبتوها في موضع آخر. كذلك (تعلّمنِ) حذف الياء. وأثبت الياء في (ستجدني، ولا أعصي). إذن الكاتب يعلم أن هناك ياء ومع ذلك حذفها هنا ولم يثبتها في موضعين. رسم المصحف فيه كلام لكن بصورة موجزة فيه قولان: قول يقول أن الرسول كان يقول للصحابي كيف يكتب: ضع هنا تاء مفتوحة، ونحن نقول ينبغي أن بدأ البحث حيث إنتهى الآخرون في دراساتهم حتى لا نعيد الدراسة. وفريق آخر يقول هذا تطور الخط العربي. لكن هناك مواضع كان لها غاية: مرة يرسم التاء طويلة ومرة مربوطة ومرة يرسم الألف ومرة لا يرسمها. هناك مواطن لها غاية ومواطن أخرى تبين تطور خطّهم.
هنا غاية، (نبغِ). قلنا سابقاً أنه لما ذكر كلمة (وبناتك) وكتبها بإثبات الألف كان لغاية حتى لا يأتي أحد ويقول بنتك ويخرج أحد من بناته . فهنا (ما كنا نبغِ) بالكسر. هذه الياء إختلسها إختلاساً، إختصرها. الإختلاس معناه الإختصار، لم يشبعها لأن القرآن نزل صوتاً ولم ينزل مرسوماً مكتوباً معناه أن الرسول قرأها هكذا (ذلك ما كنا نبغِ فارتدا) فلما سمع الكاتب هذا كتبها من غير ياء. ولو قرأها الرسول (نبغي) كان أثبت الياء. مع ذلك قد توجد قراءات بالياء هذا إشباع يعني أن بعض قبائل العرب أشبعت فأقرّت. لكن حديثنا عن المرسوم الآن لأن الرسم في كل مصاحف الدنيا (تبغِ) بالكسرة. هنا لما إختلس الياء هذا موضع سرعة وإختصار. لما يقلّص الكلام معناها هو يسرع في الكلام لأنه مستعجل على الرجعة يريد أن يعود إلى هذا الرجل فإختصر في لفظه (نبغِ فارتدا) يشير إلى سرعة الرجوع. فسرعة الرجوع ناسبها سرعة نطق الكلمة بعدم إشباع للياء لأن معناها واضح (ذلك ما كنا نبغ فارتدا) وهو نوع من الإختصار.
في الموضع الآخر (على أن تعلمنِ مما علمت رشدا) تعلمنِ بالكسر لها معنى آخر ليس موضع سرعة. لم يقل تعلمني لأنها تدل على إظهار لشخصه ولكن هو تلميذ يريد أن يتعلم فلا معنى لهذا الإظهار فبكل أدب يقول علماؤنا أدب المتعلم مع معلّمه كيف يكون فيه نوع من التواضع (تعلمنِ مما علمت) يعني أنا صغير. أما المعلِّم فقال (إنك لن تستطيع معيَ صبرا) وبعد ذلك قال (ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمرا) لأنه في موطن المعاهدة فأظهر إسمه (ستجدني، أعصي) هنا موطن معاهدة هذا شخصي كاملاً أعاهدك على هذا. هذا في الدرس الصوتي كيف توظيف الأصوات من إطناب، إيجاز، إطالة، إختلاس الصوت، مدّ الصوت، لذلك هذه المدود التي يتكلم عنها علماء التجويد مدّ حركتين أو أربعة أو ست لها دخل بإيحاء المعنى. صوت المعنى يكون نوع من الظلال للمعنى والإيحاء للفظ، المعنى اللفظي معلوم لكن يكون هناك إيحاء وظلال للفظ. (نبغِ فارتدا) على سرعة.
(على آثارهما قصصا) يقصّان الأثر يتتبعانه حتى لا يضيعا، هذا أثرنا. هما رجعا إلى الصخرة فوجدا الرجل. لم يذكر القرآن من أين جاء الرجل؟ أهو نبي مرسل؟ ملك؟ ما ذكر لنا شيئاً.
(فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلّمناه من لدنا علما): في الحديث الشريف أن اسمه الخِضْر. سنقف عند كلمة عبد، عباد، عندنا، لدنا كلها فيها لمسات:
كلمة عبد في اللغة تعني إنساناً سواء كان مملوكاً أو حُرّاً. فلما يقول في القرآن (فوجدا عبداً) أي وجدا هذا الإنسان لكن فيه إيحاء عبوديته لله سبحانه وتعالى. ما قال بشراً أو إنساناً لأنه يريد أن يربطه بالعبودية لله تعالى والعبودية لله عز وجل هي أسمى المراتب للبشر كما قال تعالى في سورة الإسراء (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً) في أروع المواطن سمّاه عبداً. كلمة عبد أنا رجعت إلى التاج (تاج العروس في جواهر القاموس) لتاج الدين الزبيدي، وجدت عجباً في جموع كلمة عبد أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين جمعاً ونظمها أكثر من واحد تراجع في تاج العروس. من جملة جموع عبد: عبيد وعباد. كان يمكن أن يقول عبيدنا لكن جرى إستعمال الناس أن كلمة عبيد في جمع العبد المملوك الذي يُباع ويُشترى. والله سبحانه وتعالى يريد أن يُكرم هذا الإنسان فاستخدم له كلمة عباد (عبادنا). العباد يستعمله عموم الناس هو جمع عبد وحتى مجموعة المماليك تسمى عباداً وهذا يعطينا إهتمام القرآن الكريم لإستعمال الناس. كلها في الأصل جمع لكلمة عبد الذي هو إنسان ويمكن أن يكون مملوكاً. الناس تستمعل كلمة عبيد للمملوكين وعباد لعباد الله. عباد من الدرس الصوتي فيها ِعزة وشموخ والياء في عبيد فيها إنكسار وخضوع وهبوط. كان العرب يدركون هذا ولذا وقفوا عاجزين أمام القرآن الكريم، وكانوا يدركون ذلك ويتلمسون ويتحسسون الدرس الصوتي لأن هذه لغتهم. قد يكون هناك أفراد يغيب عنه ذلك لكن جمهور العرب كان يفهم ذلك. في مواطن كثيرة تغير حرف عن حرف لكن المعنى العام يكون واحداً لكن تجد فوارق. انظر الفرق بين: صرع وزرع كلاهما له صلة بالأرض. إختلف الحرف الأول الصاد والزاي. ننظر الصوت الذي تحدثه الصاد كأن فيه إنبساط والصوت الذي تحدثه الزاي تشير إلى كأنه الثقب في الأرض. هذا ليس عبثاً ولا يقال العربية شأنها شأن سائر اللغات ولا يقال العربية لغة إعتباطية لكن لا يجوز أن يَصُمّ الإنسان أذنيه عن مثل هذه الأمور.
(عبداً من عبادنا) إكراماً له أنه من عبادنا. (آتيناه) الإيتاء غير الإعطاء لأن فيها رفق وتلطف ولين.
(آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)) كلمة عند ولدن لما نأتي إلى المعجمات يقولون معناهما متقارب لكن هناك فرق دقيق في اللغة: لدن أقرب من عند. قد تستعمل (عند) للشيء البعيد: يقال عندي مال والمال يسرح في البرية، لكن لا تقول: لدني إبل وإنما تقول عندي إبل. لدُنّي أقرب من عند وفيها قرب مكاني. مع الله تعالى فهو سبحانه يُنزّه في مسألة المكان لكن صورة القرب. قرب (عند) غير قرب (لدن) لذلك قال موسى (قد بلغت من لدني عذرا) أي من أعماقي. لم يقل من عندي لأن لدن أقرب. (رحمة من عندنا) الرحمة واسعة ممدودة فاستعمل لها (عند). الغيب خاص بالله سبحانه وتعالى (من لدنا علما) لأنه علم الغيب والغيب لدنه سبحانه وتعالى. الغيب لدنه ولا يقال عنده. في غير القرآن يمكن أن نقول (من عندنا علما) لكن كلمات القرآن الكريم غير. أما الرحمة شاملة واسعة ولو عكس لا يستقيم المعنى لأن الرحمة ليست خاصة بالخِضْر وإنما هي عامة: موسى يدخل فيها وغيره من البشر يدخل فيها. أما علم الغيب فخاصٌ بالخِضْر أوحاه الله سبحانه وتعالى إليه وهو علّمه سبحانه وتعالى ولم يكن علمه.