بين الدعاء والتفويض

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
التفويض لغة : من فوض إليه الأمر ، أي وكله ورده إليه وجعله الحاكم فيه .
وشرعًا : براءة وخروج من الحول والقوة ، وتسليم الأمر كله إلى مالكه . قاله ابن القيم - رحمه الله .
والمقصود هنا رد الأمر إلى الله عز وجل ، والتسليم بقضائه مع الرضا ، وترك الدعاء مع الاستسلام لأمر الله .
وقد تنازع القوم في الدعاء والتفويض ؛ أيهما أفضل ؟ وهل ينافي الدعاء التفويض والرضا ؟
فقال بعضهم : السكوت والخمود تحت جريان الحكم أتم ، والرضا بما سبق من اختيار الحق سبحانه أولى . قالوا : فالراضي لا يدعو ، فإن دعا فقد أحب خلاف ما أحب الله ، فليس براض . واحتجوا بأن امرأة بها لمم سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها فقال : " إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ " ؛ وسألته الأنصار أن يدعو الله أن يكشف عنهم الحمى ، فقال : " مَا شِئْتُمْ ؛ إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أَدْعُوَ اللهَ لَكُمْ فَيَكْشِفَهَا عَنْكُمْ ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ طَهُورًا " ؛ وقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مخبرًا عن الله سبحانه : " مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ " .
وكما قالوا :
وتمنعني الشكوى إلى الناس أنني ... عليلٌ ، ومن أشكو إليه عليلُ
وتـمنعـــني الشــــــكوى إلى الله أنـــه ... عــلـــيم بما ألـــقاه قـــبل أقـــــــــــــــولُ​
وقالت طائفة : لا يدعو إلا بطاعة ينالها ، أو خوف سخط ، فإنه من دعا سوى ذلك فقد خرج عن حد الرضا .
وقالت طائفة : له أن يدعو الكشف لأي حال كانت : للطاعة أو الراحة العاقبة ، وفي كل ذلك هو مطيع ، ودعاؤه للطاعة لا للراحة أفضل ، ولا يخرجه دعاؤه للراحة عن الرضا ولا ينقصه منه . وقال آخرون : دعاؤه بغير الطاعة ينقصه عن الرضا ، واحتجوا بأن رجلاً أعمى قال : يا رسول الله ! علمني دعاء أدعو به ليرد الله عليَّ بصري ، فقال : " وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ " ، فأبى ، فعلمه دعاء ، فرد الله عليه بصره .
وقالت طائفة : الدعاء في نفسه عبادة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " ، والإتيان بما هو عبادة أولى من تركه ، فإن لم يُسْتَجبْ له فقد قام بحق ربه ، لأن الدعاء إظهار فاقة العبودية ، فالراضي لا يدعو إلا بخير .... وللحديث صلة .
( من كتابي : فقه الدعاء )​
 
والحق أن الدعاء لا ينافي التفويض أو الرضا ، والرسول e وهو صاحب أعلى مقام في الرضا والتفويض ، لم يترك الدعاء في رخاء ولا شدة ، بل كان له e أدعية يومية راتبة ، وأخرى مرتبة بأوقات وأحوال علمها للأمة . وسأفرد أمثلة من أدعيته e في فصل مستقل بإذن الله تعالى .
وقد أمر الله تعالى عباده بالدعاء في آي ذوات عدد ، منها قوله تعالى : ]وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ ( غافر : 60 ) ، ومنها : ] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [ ( غافر : 14 ) ، ومنها : ] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [ ( النمل : 26 ) ، ومنها : ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ [ ( البقرة : 186 ) .
وحث الرسول الكريم e أمته على الدعاء ، وبين لهم فضله ومكانته ، في مثل قوله e : " الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ " ، وقوله : " لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنَ الدُّعَاءِ " [1][SUP] [/SUP]، وقوله : " مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ " [2][SUP] [/SUP]، إلى غير ذلك من الأحاديث .
وقد كان النبي e كثير الدعاء ، وتلك الحال التي اختارها ، فلا ينبغي للمسلم أن يختار عليها ، ولا أن يتركها ابتغاء غيرها من الأحوال ، لشبهة من الشبهات .
بل كان ذلك حال الأنبياء جميعاً ، وقد ذكر القرآن أدعية كثيرة لرسل الله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وأنهم كانوا يلجئون إلى الله بالدعاء في حوائجهم الخاصة ، وفي الدعاء على المعاندين المستكبرين من أقوامهم .
ومثال الأول : دعاء إبراهيم وموسى وزكريا ويونس وأيوب ؛ ومثال الثاني : دعاء نوح ولوط وموسى عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه .... وللحديث صلة .

[1] حديث حسن : رواه أحمد : 2 / 362 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 712 ) ، والترمذي ( 3370 ) ، وقال : حسن غريب ، وابن ماجة ( 3829 ) ، والحاكم : 1 / 490 ، وصححه ووافقه الذهبي ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
[2] رواه البخاري في الأدب المفرد ( 658 ) ، والترمذي ( 3373 ) ، وأبو يعلى ( 6655 ) ، ورواه أحمد : 2 / 477 ، وابن ماجة ( 3828 ) بلفظ " من لم يدع الله .. " ، والحاكم : 1/491 ، وصححه ، وقال ابن كثير في تفسيره : 4 / 78 : إسناده لا بأس به ، وحسنه الألباني في صحيح الأدب ( 512 ) ، والصحيحة : (2654) .
 
ولعل ذلك لما في الدعاء من استشعار الذل بين يدي العزيز ، والخوف بين يدي الجبار ، والفقر بين يدي الغني المغني ، والحاجة بين يدي الكريم الجواد ، والضعف بين يدي القوي المتين ، والرجاء بين يدي الرحمن الرحيم الغفار الحليم ، وذلك روح العبادة وأسها وغايتها .
ومن هنا رجح جمهور العلماء أفضلية الدعاء ، وقالوا : إنه لا ينافي التفويض والتسليم . والله سبحانه وتعالى يحب تذلل عبيده بين يديه ، وسؤالهم إياه ، وطلبهم حوائجهم منه ، وشكواهم إليه ، وعياذهم به منه ، وفرارهم منه إليه ، كما قيل :
قالـوا أتشكـو إليه ... ما ليس يخفـى عليه
قلـت ربي يرضـى ... ذل العـــــــبيد لــديــه
وقد نقل الحافظ في ( الفتح ) عن القشيري - رحمهما الله - الخلاف في المسألة قال : اختلف أي الأمرين أولى : الدعاء أو السكوت والرضا ؟ فقيل الدعاء لكثرة الأدلة ، لما فيه من إظهار الخضوع والافتقار ، وقيل : السكوت والرضا أولى لما في التسليم من الفضل .ا.هـ قال ابن حجر - رحمه الله : قلت : وشبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قُدِّر له ، فدعاؤه إن كان على وفق المقدور فهو تحصيل حاصل ، وإن كان على خلافه فهو معاندة . والجواب عن الأول : أن الدعاء من جملة العبادة لما فيه من الخضوع والافتقار . وعن الثاني : أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا قدر الله تعالى كان إذعانا لا معاندة . وفائدة الدعاء : تحصيل الثواب بامتثال الأمر ، ولاحتمال أن يكون المدعو به موقوفا على الدعاء ، لأن الله خالق الأسباب ومسبباتها . ا.هـ[SUP] [1] [/SUP].
قلت : وقد يتضمن الدعاء تفويضًا ، ولعل ذلك هو الأفضل ، وكثيرا ما نجده في أدعية الأنبياء ، ومثاله : دعاء زكريا u : ]وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَاتَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [ ( الأنبياء : 89 ) ، و ] رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [ ( آل عمران : 38 ) ، فقد سأل في دعائه الذرية الطيبة ، مفوضاً أمرها إلى العليم الخبير ، فلم يحدد نوع الذرية ذكورًا أو إناثًا ، ولعل في ذلك إشارة إلى أن طيب الذرية ليس بالذكورة أو الأنوثة ، وإنما بصلاحها ونفعها ، وكم رأينا ذكورًا غدوا وبالاً على أهليهم ، وإناثا جُعلن خيرا لأهلهن ، وقد روي في تفسير قوله تعالى : ] وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [ ( الكهف : 80 ، 81 ) ، أن الله رزقهما جارية ، فنشأت صالحة ، فتزوجها نبي من الأنبياء ، والعلم عند الله تعالى .
بيد أن زكريا u حدد في دعاءٍ آخر نوع الذرية : ] وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [ ( مريم : 5 ، 6 ) ، لأن المقام مقام الرجال ، قال الله تعالى : ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [ ( النحل : 43 ) ، فكان هذا سببا وجيهًا لتحديد النوع ، والله تعالى أعلم .
وكذلك دعاء أيوب u قال : ]أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[ ( الأنبياء : 83 ) ، وقال : ]أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ[ ( ص : 41 ) ، فقد أظهر حاله الذي انتهى إليه من الضر ، ولم يصرح بطلب الشفاء ، بل توسل برحمة الله تعالى ، وفوض أمر الشفاء إليه ، تأدبًا وإظهارًا للرضا ، واستسلامًا لقضاء ربه سبحانه .
هذا هو التفويض في الطلب ، وهناك تفويض آخر في الثناء ، يظهر جليا في دعاء النبي e : " اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " [2][SUP] [/SUP].
ففي هذا الدعاء : توسل النبي e إلى الله بصفاته سبحانه ، ثم بأفعاله جل وعلا ، ثم بذاته العلية ، ثم فوض الثناء على الله إليه تعالى ، فمهما بلغ المرء من فصاحة ، وأوتي من بلاغة ، فلا يستطيع أن يحصي ثناءً على الله العظيم ، ففوض صاحب أفصح لسان وأوضح بيان e ، والذي أوتي جوامع الكلم ، فوض الثناء على الله تعالى إليه سبحانه ، فالله جل وعز كما أثنى على نفسه .
[1] انظر فتح الباري : 11 / 95 .
[2] رواه أحمد : 6 / 58 ، 201 ، ومسلم ( 486 ) ، وأبو داود ( 879 ) ، والترمذي ( 3493 ) ، والنسائي (1100 ، 1130 ) ، وابن ماجة (3841) عن عائشة رضي الله عنها؛ ورواه احمد : 1 / 96 ، 118، وأبو داود في ( 1427 ) ، والترمذي ( 3566 ) ، والنسائي ( 1747 ) عن علي رضي الله عنه.
 
هذا وقد جمع بعضهم بين الدعاء والرضا والتسليم ، فنقل الحافظ في ( الفتح ) عن القشيري قال : وقالت طائفة : ينبغي أن يكون داعيا بلسانه ، راضيا بقلبه . قال : والأولى أن يقال : إذا وجد في قلبه إشارة الدعاء فالدعاء أفضل ، وبالعكس . قال الحافظ : قلت : القول الأول أعلى المقامات ، أن يدعو بلسانه ويرضى بقلبه ، والثاني لا يتأتى من كل أحد ، بل ينبغي أن يختص به الكُمَّل . ا.هـ[SUP] [1] [/SUP].
وأما قول النبي e للمرأة التي كانت تصرع : "إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ" وكذلك ما في معناه من الأحاديث التي احتج بها من فضَّل التفويض على الدعاء ، فليس فيه دليل لمن ذهب إلى أن السكوت أفضل من الدعاء ، بل غاية ما فيها : أن الصبر على البلاء عظيم أجره ، كبير فضله ، فهو يوجب الجنة ؛ والصبر مأمور به ، والدعاء أيضًا ، وقد يكون الحال يقتضي الصبر ، فيكون الصبر أولى وأفضل ، وأما من لا يقوى على الصبر المطلوب ، فالدعاء في حقه أولى وأفضل ، لأن في الجزع تسخطاً على القضاء والابتلاء ، وقد يستوي الطرفان ، وقد يدعو المرء مع الصبر دون جزع . ولعل هذا هو أفضل المقامات كما سبق من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله ، والعلم عند الله تعالى .
[1] انظر فتح الباري : 11 / 95 .
 
جزاك الله خير
جيد ان تنسب الاقوال الاهلها ولكن افصل كان تقول انتهى او رحمه الله او تضع نقاط او اقواس

الدعاء قبل وبعد واثناء للزياده ونطلب كل مانحتاج ونتمنى من اكرم الاكرمين
التفويض على ما لا نملك تغييره او لانعلمه وماله بعد عمل الاسباب فمثلا تضع راعيا لماشيتك وتسافر مضطرا تركه وماشيتك فتحرص وتدعوا وتفوض وتعقب عند عودتك
 
عودة
أعلى