محمد محمود إبراهيم عطية
Member
بيان فوائد حديث أبي هريرة عبد الرحمن
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ؛ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَكْذِبُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ ؛ التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ " .
التخريج
رواه أحمد : 2 / 277 ، ومسلم ( 2564 ) .
هذا الحديث أصل في ما ينبغي أن يكون بين المسلمين من أنواع التعامل ، قال ابن حجر - رحمه الله : وَهُوَ حَدِيث عَظِيم اِشْتَمَلَ عَلَى جُمَل مِنْ الْفَوَائِد وَالْآدَاب الْمُحْتَاج إِلَيْهَا ( [1] ) .
إن أصل دوام الأخوة بين المسلمين : سلامة الصدر تجاه المسلم ؛ وقد حرص الإسلام على أمر المسلمين بكل ما فيه سلامة الصدر ؛ كما حرص على نهيهم عن كل ما يعكر صفو ذلك ؛ وفي هذا السياق جاءت أحاديث جامعة ، بتعاليمها وأحكامها وآدابها لتعمق هذه الأخوة الإيمانية ؛ وتجعل المثال واقعًا ، فلا بد من عمل تطبيقي ومعايشة لأخوة الإيمان ؛ فقوله e : " لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ " فهذه كلها محرمة ، لأنها مما يترتب عليها كثير من المفاسد المؤدية إلى عدم سلامة الصدر ؛ وفي هذا السياق - أيضًا - ما رواه مسلم عن عقبة بن عامر t أن رسول الله e قال : " الْمُؤْمِن أَخُو الْمُؤْمِن ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاع عَلَى بَيْع أَخِيهِ ، وَلَا يَخْطُب عَلَى خِطْبَة أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ " ( [2] ) ، وهو ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيم الْخِطْبَة عَلَى خِطْبَةِ المسلم ، والْخِطْبَة بِكَسْرِ الْخَاء ، مَا يَكُونُ بَيْن يدَيِّ عَقْدِ النِّكَاح ؛ وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمهَا إِذَا كَانَ قَدْ صُرِّحَ لِلْخَاطِبِ بِالْإِجَابَةِ ، وَلَمْ يَأْذَن لمن يريد أن يخطب عَلَى خِطْبَته ، وَلَمْ يَتْرُك خِطبته ؛ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْخِطْبَة رَغْبَةً عَنْهَا ، وَأَذِنَ فِيهَا ، جَازَتْ الْخِطْبَة عَلَى خِطْبَته ( [3] ) .
فهذه حقوق وآداب بين المسلمين ذكرها النبي e ؛ ثم قال : " وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا " أي : لا يعلو بعضكم بعضًا ، فإنكم جميعًا عباد الله ؛ فاكتسبوا ما تصيرون به إخوانًا مما ذكر وغيره مما يقتضيه إثباتًا ونفيًا ؛ فإذا تركتم ذلك كنتم إخوانًا ؛ وإذا لم تتركوه صرتم أعداء .
ثم قال e : " الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ " وهو تأكيد على الأخوة الدينية التي تجمع المسلمين ، ثم بيَّن حقوقًا وآدابًا أخرى : " لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَكْذِبُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ " .
وفي قول النبي e : " التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " إشارة بليغة إلى أن التقي لا يصدر منه ذلك ، وأن ما في القلب يظهر على السلوك والقول ؛ ومعنى الحديث - والله أعلم - مجازاته ومحاسبته ، وأن الاعتبار في هذا كله بالقلب ؛ثم قالe : " بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ " أي : يكفيه من الشر الذي يهلكه أن يحتقر أخاه المسلم ؛ وفيه تحذير عظيم من ذلك ؛ لأن الله تعالى لم يحقره إذ خلقه ورزقه ، ثم أحسن تقويم خلقه ، وسخر ما في السموات وما في الأرض جميعًا لأجله ، وإن كان له ولغيره ، فله من ذلك حصة ؛ ثم إن الله سبحانه سماه مسلمًا ومؤمنًا وعبدًا ، وبلغ من أمره إلى أن جعل الرسول منه إليه محمدًا e ؛ فمن حقَّر مسلمًا من المسلمين ، فقد حقَّر ما عظم الله U، وكافيه ذلك ؛ ومن احتقار المسلم للمسلم أن لا يسلم عليه إذا مرَّ به ، ولا يرد عليه السلام إذا بدأ به ، أو أن ينظر إليه نظرة احتقار ، أو يستهزئ به بكلمات فيها تنقيص وازدراء ؛ ومنها أن يراه دون أن يدخله الله الجنة أو يبعده من النار ؛ وأما ما ينقمه العاقل على الجاهل ، والعدل على الفاسق ، فليس ذلك احتقار للمسلم ، بل لما اتصف به الجاهل من الجهل ، والفاسق من الفسق ؛ فمتى فارق ذلك راجعه إلى احتفاله به ورفع قدره ( [4] ) .
وقوله e : " كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ " أي : إراقة دمه بغير وجه حق ، " وَمَالُهُ " أي : أخذ ماله بغير رضا منه ، كنحو غصب أو سرقة ، ونحو ذلك ؛ " وَعِرْضُهُ " أي : هتك عرضه بلا استحقاق ؛ وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورة معروفة من الدين بالضرورة ؛ وجعلها كل المسلم وحقيقته لشدة اضطراره إليها ، فالدم فيه حياته ؛ ومادته المال ، فهو ماء الحياة الدنيا ؛ والعرض به قيام صورته المعنوية ؛ واقتصر عليها لأن ما سواها فرع عنها وراجع إليها ؛ لأنه إذا قامت الصورة البدنية والمعنوية فلا حاجة لغيرهما ، وقيامهما إنما هو بتلك الثلاثة ( [5] ) .
ما يستفاد من الحديث
1 - النهي عن أذية المسلم بأي وجه من الوجوه من قول أو فعل .
2 - تحريم الحسد ، لما فيه من المفاسد المؤدية إلى التباغض والتدابر .
3 - تحريم المناجشة لما فيها من العدوان على الغير ، وكونها سببًا للتباغض و أسبابه ، فلا يجوز للإنسان أن يبغض أخاه أو أن يفعل سببًا يكون جالبا للبغض .
4 - تحريم التباغض بين المسلمين ، والنهي عن تعاطي الأسباب المؤدية إليها .
5 - قال ابن عبد البر - رحمه الله : قوله : " وَلَا تَبَاغَضُوا " نهيٌ معناه الندب إلى رياضة النفس على التحاب ، لأن المحبة والبغضة لا يكاد المرء يغلب فيهما نفسه ، لقول الله تعالى: ] لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [[لأنفال:63] ؛ وقال رسول الله e : " الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ " ( [6] ) .
6 - تحريم التدابر ، و هو أن يولي أخاه ظهره ، ولا يأخذ منه ولا يستمع إليه ؛ لأن هذا ضد الأخوة الإيمانية .
7 - تحريم بيع المسلم على بيع أخيه ، ومثله السوم على سومه ، والشراء على شرائه ، والخطبة على خطبته ، والإجارة على إجارته ، وغير ذلك من حقوقه .
8 - وجوب تنمية الأخوة الإيمانية ، لقوله : " وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا" .
9 - تحريم ظلم المسلم لأخيه وخذلانه له والكذب عليه واحتقاره ، لأنها جميعًا تخالف معنى الأخوة الشرعي .
10 - أن من حقوق المسلم على المسلم نصره إذا احتاج إليه ، سواء كان ذلك الأمر دنيويا مثل أن يقدر على دفع عدو يريد أن يبطش به ، فيجب عليه دفعه ، أو دينيا مثل أن يقدر على نصحه عن غيه بنحو وعظ فيجب عليه حينئذ النصح ، وتركه هو الخذلان المحرم .
11 - أن محل التقوى هو القلب ، فإذا اتقى القلب اتقت الجوارح ، ولهذا أشار إلى صدره عندما ذكر التقوى .
12 - أنَّ الميزانَ في التفاضل بين الناس التقوى ، كما قال الله U : ] إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [ [ الحجرات : 13 ] .
13 - بيان عظم احتقار المسلم لأخيه المسلم ، لأنه ينافي المحبة الواجبة له ، إضافة إلى أنه نوع كبر ، وقد حرمه الله .
14 - تحريم الاعتداء على دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم بأي وجه من الوجوه .
15 - دل على أن الأخوة بين المسلمين والتأليف بينهم أمر مقصود من مقاصد الشريعة .
16 - أنَّ الأخوَّةَ بين المسلمين تقتضي إيصالَ الخير إليهم ودفع الضرر عنهم .
هذا ؛ والعلم عند اَللَّه تعالى .
[1] - انظر فتح الباري : 10 ، 484 .
[2] - مسلم ( 1414 ) .
[3]- انظر شرح النووي على مسلم : 9 / 197 ؛ وفتح الباري : 9 / 199 .
[4] - انظر شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ، حديث رقم ( 35 ) .
[5]- انظر فيض القدير : 5 / 11 .
[6] - انظر ( الاستذكار ) : 8 / 288 ، بتصرف يسير .