محمد محمود إبراهيم عطية
Member
بسم الله لرحمن الرحيم
رب يسر وأعن وتقبل
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد :رب يسر وأعن وتقبل
فالغضب قوة من قوى ثلاث مجبول عليها البشر ، وهي القوة العقلية ، والقوة الشهوانية ، والقوة الغضبية ؛ قال ابن تيمية - رحمه الله : قُوَى الْإِنْسَانِ ثَلَاثٌ : قُوَّةُ الْعَقْلِ ، وَقُوَّةُ الْغَضَبِ ، وَقُوَّةُ الشَّهْوَةِ ؛ فَأَعْلَاهَا الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ ، الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ دُونَ سَائِرِ الدَّوَابِّ ، وَتَشْرَكُهُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ ؛ ثُمَّ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ ، الَّتِي فِيهَا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ ؛ ثُمَّ الْقُوَّةُ الشهوية ، الَّتِي فِيهَا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وقال ابن حجر - رحمه الله : في كل إنسان ثلاث قوى : أحدها : الغضبية ، وكمالها الشجاعة ؛ ثانيها : الشهوانية ، وكمالها الجود ؛ ثالثها : العقلية ، وكمالها النطق بالحكمة[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وللغضب ثلاث مراتب : تفريط ، وإفراط ، واعتدال ، والأولان مذمومان ، فكلا طرفي الأمور ذميم ؛ والاعتدال في الغضب هي المرتبة المحمودة .
وما جاء في النهي عن الغضب والتحذير منه إنما هو ما يتعلق بمرتبة الإفراط ، التي يتجاوز فيها المرء حدَّه في الكلام والفعل ؛ وهو ما يكون ضد التحلُّم ؛ وقد قالت العرب : ( الغضب غول الحلم ) ، أي : مهلكه ، لأنه يغتاله ويذهب به ، وكلُّ شيء أَهْلَكَ شيئًا فقد غَالَهُ ؛ ويقال : أية غول أغول من الغضب ؟
فهذه المرتبة من الغضب تكون استجابة لانفعال ، تتميز بالميل إلى الاعتداء ؛ وهذا هو المذموم ؛ قال أبو حاتم البستي – رحمه الله : لو لم يكن في الغضب خصلة تذم إلا إجماع الحكماء قاطبة على أن الغضبان لا رأي له ، لكان الواجب عليه الاحتيال لمفارقته بكل سبب[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ وقد قيل : من أطاع غضبه أضاع أدبه .
والغضب بالباطل مع أنه يحمل على العدوان على الغير ، فهو - أيضًا - يحمل على الغيظ ؛ إذ الغيظ سَوْرة الغضب وأوَّله ، وقيل : الغيظ أشد من الغضب ؛ كما يحمل على الحقد والحسد ، إذ الحسد من نتائج الحقد ، والحقد من نتائج الغضب ؛ فعقوبة الغضب تبدأ بالغضبان ، فتثلم دينه ، وتقبح صورته ، وتعجل ندمه .
لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ ... ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ
وهذه المرتبة من الغضب لؤمٌ وسوءُ مقدرة ؛ وذاك أن الغضب ثمرةٌ لخلاف ما تهوى النفس ، فإن جاء الإنسان خلاف ما يهوى ممن فوقه أغضى ، وسَمَّى ذلك حزنًا ؛ وإن جاءه ذلك ممن دونه حمله لؤم النفس وسوء الطباع على الاستطالة بالغضب ، وحملته المقدرة على البطش .قال ابن القيم – رحمه الله : أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة : تعلق القلب بغير الله ، وطاعة القوة الغضبية ، والقوة الشهوانية ؛ وهي الشرك ، والظلم ، والفواحش ؛ فغاية التعلق بغير الله شرك ، وأن يُدعى معه إله آخر ؛ وغاية طاعة القوة الغضبية القتل ؛ وغاية القوة الشهوانية الزنا ؛ ولهذا جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله : ] وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [ [ الفرقان : 68 ] [SUP]( [4] ) [/SUP].ا.هـ . وقال بعضهم : من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار .
وروى عبد الرزاق وعنه أحمد عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْصِنِي ؛ قَالَ : " لَا تَغْضَبْ " ، قَالَ : قَالَ الرَّجُلُ : فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ [SUP]( [5] )[/SUP] ؛ فإذا كان الغضب جِماعُ الشرِّ ، فالتحرُّز منه جماعُ الخير ، فما أكثر ما يقحم الغضب المقاحم التي لا يبلغها جناية الجنون ؛ فإن الغضبان أسوأ أثرًا على نفسه من السكران ؛ فأثر الغضب أنكى في العاقل من النار في الهشيم ؛ لأن من غضب زايله عقله ، فقال ما سولت له نفسه ، وعمل ما شانها وأرداها ؛ وقيل لابنِ المبارك : اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة ، قال : تركُ الغضبِ [SUP]( [6] ) [/SUP].
ولو لم يكن في تقبيح هذه المرتبة إلا هيئة الغاضب ، وقبح منظره ، وقبح أقواله وأفعاله ، لكفى ، ولكن هو مع ذلك يتحمل من الإثم ما الله به عليم ؛ وقد قيل : الغضب يبدأ بالعصيان : يعظم ذنبه ، ويقبح صورته ، ويعمل بذمه ؛ قال سهل بن عبد الله التستري : الغضب أشد في البدن من المرض ، إذا غضب دخل عليه من الإثم أكثر مما يدخل عليه في المرض[SUP] ( [7] ) [/SUP]. أي : من فساد الجسم .
وقد نقل أبو حيان التوحيدي عن صاحب كتاب ( الأخلاق ) أنه قال في الحيلة لتقبيح الغضب عند سريع الغضب : إن الغضبان خارج الصورة عن الاعتدال ؛ أما تراه جاحظ العينين ، بادي العروق ، دارَّ الأوداج ، مضطرب الأوصال ، مشوه البنية ، مختلف الحركة ، مكدود النفس ، حار المزاج ، مضطرم الحرارة ، مدخول الروية ، غامر الفكرة ، ظاهر العجز ، جاهلاً بقدر الحق .ا.هـ [SUP]( [8] ) [/SUP].
وقال أبو حاتم البستي - رحمه الله : سرعة الغضب من شيم الحمقى ، كما أن مجانبته من زي العقلاء ؛ والغضب بذر الندم ، فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسد به بعد الغضب .
قال بعض الحكماء : لكل شيء آفة ، وآفة الغضب الغيظ ؛ وقال أعرابي : لا يقوم عزُّ الغضب بذلِّ الاعتذار ؛ وقد قيل : إياك وجرأة الغضب ، فإنَّها تصيرك إلى ذل الاعتذار ؛ وقال آخر : إن أطعت الغضب أضعت الأدب ؛ وإذا جاء الغضب كان فيه العطب .
ولم أرَ عقلاً تمَّ إلاَّ بِشِيمَةٍ ... ولم أرَ عِلمًا تمَّ إلا على أدبِ
ولم أرَ في الأشياء حين بلوتها ... عدوًا للبِ المرءِ أعدى من الغضبِ[SUP] ( [9] )[/SUP]
وقد يغلق الغضب على العقل ؛ فيمنع صاحبه من الفكر السليم ، وتدبر الأمر على وجهٍ صحيح ، ففي حديث أبي مسعود رضي الله عنه : ( فَجَعَلْتُ لا أَعْقِلُ مِنَ الْغَضَبِ ) [SUP]( [10] ) [/SUP].ولم أرَ في الأشياء حين بلوتها ... عدوًا للبِ المرءِ أعدى من الغضبِ[SUP] ( [9] )[/SUP]
ومن هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القضاء في الغضب ، وأخبر أن الغضب الذي يُغلق على العقل لا يقع الطلاق ولا العتاق من صاحبه ؛ لأنه - حينئذ - لا يدري ما يقول .
ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ : كَتَبَ أَبِي - وَكَتَبْتُ لَهُ - إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ أَنْ لاَ تَحْكُمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لاَ يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ "[SUP] ( [11] )[/SUP] ؛ وفي لفظ لأحمد وابن ماجة : " لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ "[SUP] ( [12] ) [/SUP].
لأن القضاء ينبغي أن يكون حالة الاعتدال ؛ وذلك لأن الغضب يُفسد الفكر ، ويغيِّر الحال ؛ فلا يؤمن عليه في الحكم ؛ وقد قيل : إنَّ حكم الغضب جائر .
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ " والإغلاق : الإكراه ؛ وفي لفظ : " فِي غَلاَقٍ " ؛ والغلاق : الغضب الشديد ، الذي يغلق على العقل ، فلا يعي صاحبه ما يقول[SUP] ( [13] ) [/SUP]. قال ابن القيم – رحمه الله : وقسم شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - الغضب إلى ثلاثة أقسام : قسم يزيل العقل كالسكر ، فهذا لا يقع معه طلاق بلا ريب ؛ وقسم يكون في مبادئه بحيث لا يمنعه من تصور ما يقول وقصده ، فهذا يقع معه الطلاق ؛ وقسم يشتد بصاحبه ولا يبلغ به زوال عقله ، بل يمنعه من التثبت والتروي ، ويخرجه عن حال اعتداله ؛ فهذا محل اجتهاد[SUP] ( [14] ) [/SUP].
من أجل ذلك كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له : أَوْصِنِي ؛ قَالَ : " لَا تَغْضَبْ " فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ : " لَا تَغْضَبْ "[SUP] ( [15] )[/SUP] .
وكذلك فَهِم أصحاب العقول أن الغضب مزلق ، فكانوا يوصون بتركه ؛ فقد قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لابْنِهِ : يَا بُنَيَّ ، احْتَفِظْ مِنَ النَّزَقِ عِنْدَ سَوْرَةِ الْغَضَبِ ؛ فَإِنَّكَ مَتَى افْتَتَحْتَ بَدْوَ غَضَبِكَ بِكَظْمٍ ، خُتِمَتْ عَاقِبَتُهُ بِالْحِلْمِ ؛ وَمَتَى افْتَتَحْتَهُ بِالْقَلَقِ وَالضَّجَرِ ، خَتَمْتَهُ بِالسَّفَهِ ؛ وَإِذَا حَاجَجْتَ فَلا تَغْضَبْ ؛ فَإِنَّ الْغَضَبَ يَقْطَعُ الْحُجَّةَ ، وَيُظْهِرُ عَلَيْكَ الْخَصْمَ [SUP]( [16] ) [/SUP].
وفي هذه الرسالة ( بلوغ الأرب في آداب الغضب ) أحاول أن ألقي الضوء على جوانب هذا الموضوع المهم ، وأسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
[1] - انظر ( مجموع الفتاوى ) : 15 / 428 .
[2] - انظر ( فتح الباري : 10 / 457 .
[3] - روضة العقلاء ، ص 140 .
[4] - انظر ( الفوائد ) ص 81 .
[5] - عبد الرزاق ( 20286 ) ومن طريقه أحمد : 5 / 372 ، وإسناده صحيح .
[6] - ذكره ابن رجب في ( جامع العلوم والحكم ) ص 145 – دار المعرفة – بيروت .
[7] - حلية الأولياء : 10 / 196 .
[8] - البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي : 9 / 197 .
[9] - انظر ( روضة العقلاء ) ص 139 .
[10] - جزء من حديث صحيح رواه مسلم وغيره ، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى .
[11] - البخاري ( 6739 ) ، مسلم ( 1717 ) واللفظ له .
[12] - أحمد : 5 / 37 ، وابن ماجة ( 2316 ) .
[13] - أحمد : 6 / 276 ، وأبو داود ( 2193 ) ، وابن ماجة ( 2046 ) ، وحسنه الألباني .
[14] - إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 51) .
[15] - رواه أحمد : 2 / 362 ، والبخاري ( 6116 ) ؛ والترمذي ( 2020 ) عن أبي هريرة t .
[16] - انظر ( المجالسة وجواهر العلم ) : 4 / 477 ، 478 .