بلوغ الأرب في آداب الغضب

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
C:\DOCUME~1\DWA_MA~1\LOCALS~1\Temp\msohtml1\01\clip_image001.wmz
بسم الله لرحمن الرحيم
رب يسر وأعن وتقبل​
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد :
فالغضب قوة من قوى ثلاث مجبول عليها البشر ، وهي القوة العقلية ، والقوة الشهوانية ، والقوة الغضبية ؛ قال ابن تيمية - رحمه الله : قُوَى الْإِنْسَانِ ثَلَاثٌ : قُوَّةُ الْعَقْلِ ، وَقُوَّةُ الْغَضَبِ ، وَقُوَّةُ الشَّهْوَةِ ؛ فَأَعْلَاهَا الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ ، الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ دُونَ سَائِرِ الدَّوَابِّ ، وَتَشْرَكُهُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ ؛ ثُمَّ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ ، الَّتِي فِيهَا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ ؛ ثُمَّ الْقُوَّةُ الشهوية ، الَّتِي فِيهَا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وقال ابن حجر - رحمه الله : في كل إنسان ثلاث قوى : أحدها : الغضبية ، وكمالها الشجاعة ؛ ثانيها : الشهوانية ، وكمالها الجود ؛ ثالثها : العقلية ، وكمالها النطق بالحكمة[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وللغضب ثلاث مراتب : تفريط ، وإفراط ، واعتدال ، والأولان مذمومان ، فكلا طرفي الأمور ذميم ؛ والاعتدال في الغضب هي المرتبة المحمودة .
وما جاء في النهي عن الغضب والتحذير منه إنما هو ما يتعلق بمرتبة الإفراط ، التي يتجاوز فيها المرء حدَّه في الكلام والفعل ؛ وهو ما يكون ضد التحلُّم ؛ وقد قالت العرب : ( الغضب غول الحلم ) ، أي : مهلكه ، لأنه يغتاله ويذهب به ، وكلُّ شيء أَهْلَكَ شيئًا فقد غَالَهُ ؛ ويقال : أية غول أغول من الغضب ؟
فهذه المرتبة من الغضب تكون استجابة لانفعال ، تتميز بالميل إلى الاعتداء ؛ وهذا هو المذموم ؛ قال أبو حاتم البستي – رحمه الله : لو لم يكن في الغضب خصلة تذم إلا إجماع الحكماء قاطبة على أن الغضبان لا رأي له ، لكان الواجب عليه الاحتيال لمفارقته بكل سبب[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ وقد قيل : من أطاع غضبه أضاع أدبه .
والغضب بالباطل مع أنه يحمل على العدوان على الغير ، فهو - أيضًا - يحمل على الغيظ ؛ إذ الغيظ سَوْرة الغضب وأوَّله ، وقيل : الغيظ أشد من الغضب ؛ كما يحمل على الحقد والحسد ، إذ الحسد من نتائج الحقد ، والحقد من نتائج الغضب ؛ فعقوبة الغضب تبدأ بالغضبان ، فتثلم دينه ، وتقبح صورته ، وتعجل ندمه .
لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ ... ولا ينالُ العلى من طبعهُ الغضبُ​
وهذه المرتبة من الغضب لؤمٌ وسوءُ مقدرة ؛ وذاك أن الغضب ثمرةٌ لخلاف ما تهوى النفس ، فإن جاء الإنسان خلاف ما يهوى ممن فوقه أغضى ، وسَمَّى ذلك حزنًا ؛ وإن جاءه ذلك ممن دونه حمله لؤم النفس وسوء الطباع على الاستطالة بالغضب ، وحملته المقدرة على البطش .
قال ابن القيم – رحمه الله : أصول المعاصي كلها كبارها وصغارها ثلاثة : تعلق القلب بغير الله ، وطاعة القوة الغضبية ، والقوة الشهوانية ؛ وهي الشرك ، والظلم ، والفواحش ؛ فغاية التعلق بغير الله شرك ، وأن يُدعى معه إله آخر ؛ وغاية طاعة القوة الغضبية القتل ؛ وغاية القوة الشهوانية الزنا ؛ ولهذا جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله : ] وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [ [ الفرقان : 68 ] [SUP]( [4] ) [/SUP].ا.هـ . وقال بعضهم : من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار .
وروى عبد الرزاق وعنه أحمد عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْصِنِي ؛ قَالَ : " لَا تَغْضَبْ " ، قَالَ : قَالَ الرَّجُلُ : فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ [SUP]( [5] )[/SUP] ؛ فإذا كان الغضب جِماعُ الشرِّ ، فالتحرُّز منه جماعُ الخير ، فما أكثر ما يقحم الغضب المقاحم التي لا يبلغها جناية الجنون ؛ فإن الغضبان أسوأ أثرًا على نفسه من السكران ؛ فأثر الغضب أنكى في العاقل من النار في الهشيم ؛ لأن من غضب زايله عقله ، فقال ما سولت له نفسه ، وعمل ما شانها وأرداها ؛ وقيل لابنِ المبارك : اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة ، قال : تركُ الغضبِ [SUP]( [6] ) [/SUP].
ولو لم يكن في تقبيح هذه المرتبة إلا هيئة الغاضب ، وقبح منظره ، وقبح أقواله وأفعاله ، لكفى ، ولكن هو مع ذلك يتحمل من الإثم ما الله به عليم ؛ وقد قيل : الغضب يبدأ بالعصيان : يعظم ذنبه ، ويقبح صورته ، ويعمل بذمه ؛ قال سهل بن عبد الله التستري : الغضب أشد في البدن من المرض ، إذا غضب دخل عليه من الإثم أكثر مما يدخل عليه في المرض[SUP] ( [7] ) [/SUP]. أي : من فساد الجسم .
وقد نقل أبو حيان التوحيدي عن صاحب كتاب ( الأخلاق ) أنه قال في الحيلة لتقبيح الغضب عند سريع الغضب : إن الغضبان خارج الصورة عن الاعتدال ؛ أما تراه جاحظ العينين ، بادي العروق ، دارَّ الأوداج ، مضطرب الأوصال ، مشوه البنية ، مختلف الحركة ، مكدود النفس ، حار المزاج ، مضطرم الحرارة ، مدخول الروية ، غامر الفكرة ، ظاهر العجز ، جاهلاً بقدر الحق .ا.هـ [SUP]( [8] ) [/SUP].
وقال أبو حاتم البستي - رحمه الله : سرعة الغضب من شيم الحمقى ، كما أن مجانبته من زي العقلاء ؛ والغضب بذر الندم ، فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسد به بعد الغضب .
قال بعض الحكماء : لكل شيء آفة ، وآفة الغضب الغيظ ؛ وقال أعرابي : لا يقوم عزُّ الغضب بذلِّ الاعتذار ؛ وقد قيل : إياك وجرأة الغضب ، فإنَّها تصيرك إلى ذل الاعتذار ؛ وقال آخر : إن أطعت الغضب أضعت الأدب ؛ وإذا جاء الغضب كان فيه العطب .
ولم أرَ عقلاً تمَّ إلاَّ بِشِيمَةٍ ... ولم أرَ عِلمًا تمَّ إلا على أدبِ
ولم أرَ في الأشياء حين بلوتها ... عدوًا للبِ المرءِ أعدى من الغضبِ[SUP] ( [9] )[/SUP]​
وقد يغلق الغضب على العقل ؛ فيمنع صاحبه من الفكر السليم ، وتدبر الأمر على وجهٍ صحيح ، ففي حديث أبي مسعود رضي الله عنه : ( فَجَعَلْتُ لا أَعْقِلُ مِنَ الْغَضَبِ ) [SUP]( [10] ) [/SUP].
ومن هنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القضاء في الغضب ، وأخبر أن الغضب الذي يُغلق على العقل لا يقع الطلاق ولا العتاق من صاحبه ؛ لأنه - حينئذ - لا يدري ما يقول .
ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ قَالَ : كَتَبَ أَبِي - وَكَتَبْتُ لَهُ - إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ أَنْ لاَ تَحْكُمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لاَ يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ "[SUP] ( [11] )[/SUP] ؛ وفي لفظ لأحمد وابن ماجة : " لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ "[SUP] ( [12] ) [/SUP].
لأن القضاء ينبغي أن يكون حالة الاعتدال ؛ وذلك لأن الغضب يُفسد الفكر ، ويغيِّر الحال ؛ فلا يؤمن عليه في الحكم ؛ وقد قيل : إنَّ حكم الغضب جائر .
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ " والإغلاق : الإكراه ؛ وفي لفظ : " فِي غَلاَقٍ " ؛ والغلاق : الغضب الشديد ، الذي يغلق على العقل ، فلا يعي صاحبه ما يقول[SUP] ( [13] ) [/SUP]. قال ابن القيم – رحمه الله : وقسم شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - الغضب إلى ثلاثة أقسام : قسم يزيل العقل كالسكر ، فهذا لا يقع معه طلاق بلا ريب ؛ وقسم يكون في مبادئه بحيث لا يمنعه من تصور ما يقول وقصده ، فهذا يقع معه الطلاق ؛ وقسم يشتد بصاحبه ولا يبلغ به زوال عقله ، بل يمنعه من التثبت والتروي ، ويخرجه عن حال اعتداله ؛ فهذا محل اجتهاد[SUP] ( [14] ) [/SUP].
من أجل ذلك كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له : أَوْصِنِي ؛ قَالَ : " لَا تَغْضَبْ " فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ : " لَا تَغْضَبْ "[SUP] ( [15] )[/SUP] .
وكذلك فَهِم أصحاب العقول أن الغضب مزلق ، فكانوا يوصون بتركه ؛ فقد قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لابْنِهِ : يَا بُنَيَّ ، احْتَفِظْ مِنَ النَّزَقِ عِنْدَ سَوْرَةِ الْغَضَبِ ؛ فَإِنَّكَ مَتَى افْتَتَحْتَ بَدْوَ غَضَبِكَ بِكَظْمٍ ، خُتِمَتْ عَاقِبَتُهُ بِالْحِلْمِ ؛ وَمَتَى افْتَتَحْتَهُ بِالْقَلَقِ وَالضَّجَرِ ، خَتَمْتَهُ بِالسَّفَهِ ؛ وَإِذَا حَاجَجْتَ فَلا تَغْضَبْ ؛ فَإِنَّ الْغَضَبَ يَقْطَعُ الْحُجَّةَ ، وَيُظْهِرُ عَلَيْكَ الْخَصْمَ [SUP]( [16] ) [/SUP].
وفي هذه الرسالة ( بلوغ الأرب في آداب الغضب ) أحاول أن ألقي الضوء على جوانب هذا الموضوع المهم ، وأسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية


[1] - انظر ( مجموع الفتاوى ) : 15 / 428 .

[2] - انظر ( فتح الباري : 10 / 457 .

[3] - روضة العقلاء ، ص 140 .

[4] - انظر ( الفوائد ) ص 81 .

[5] - عبد الرزاق ( 20286 ) ومن طريقه أحمد : 5 / 372 ، وإسناده صحيح .

[6] - ذكره ابن رجب في ( جامع العلوم والحكم ) ص 145 – دار المعرفة – بيروت .

[7] - حلية الأولياء : 10 / 196 .

[8] - البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي : 9 / 197 .

[9] - انظر ( روضة العقلاء ) ص 139 .

[10] - جزء من حديث صحيح رواه مسلم وغيره ، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى .

[11] - البخاري ( 6739 ) ، مسلم ( 1717 ) واللفظ له .

[12] - أحمد : 5 / 37 ، وابن ماجة ( 2316 ) .

[13] - أحمد : 6 / 276 ، وأبو داود ( 2193 ) ، وابن ماجة ( 2046 ) ، وحسنه الألباني .

[14] - إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 51) .

[15] - رواه أحمد : 2 / 362 ، والبخاري ( 6116 ) ؛ والترمذي ( 2020 ) عن أبي هريرة t .

[16] - انظر ( المجالسة وجواهر العلم ) : 4 / 477 ، 478 .
 
معنى الغضب
الغَضَبُ نَقِيضُ الرِّضَا ؛ وقد غَضِبَ عليه غَضَبًا ومَغْضَبَةً ؛ وأَغْضَبْتُه فَتَغَضَّبَ ؛ وغَضِبَ له : غَضِبَ على غيره من أَجله ، وذلك إِذا كان حَيًّا ؛ فإِن كان ميْتًا قلت : غَضِبَ به ؛ ورجلٌ غَضِبٌ ، وغَضُوبٌ ، وغُضُبٌّ ( بغير هاء ) ، وغُضُبَّة وغَضُبَّة ( بفتح الغين وضمها وتشديد الباء ) ؛ وغَضْبانُ : يَغْضَبُ سريعًا ، وقيل : شديد الغَضَب ؛ والأُنثى غَضْبَى وغَضُوبٌ [SUP]( [1] ) [/SUP].
وغضب عليه غضبًا : سخط عليه ، وأراد الانتقام منه ؛ فالسُّخْطُ ( بالضم ) هو الغضب ، وأَسْخَطْتُهُ فَسَخِطَ ، مثل أغضبته فغَضِبَ ، وزنًا ومعنى [SUP]( [2] ) [/SUP].
ومعنى الغضب اصطلاحًا : هو غليان دم القلب لإرادة الانتقام ؛ وقال أبو حيان التوحيدي – رحمه الله : هو غليان دم القلب لشهوة الانتقام ؛ وهو الحركة لقهر ما أضر بالبدن[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ وفي ( التعريفات ) للجرجاني : الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر [SUP]( [4] ) [/SUP]؛ والتشفي للصدر هو الانتقام .

[1] - انظر ( لسان العرب ) باب الباء فصل الغين ؛ والقاموس المحيط باب الغين والضاد ، والمحيط في اللغة والمصباح المنير ( مادة غ ض ب ) .

[2] - انظر العجم الوسيط ، والمصباح المنير ( مادة غ ض ب ) .

[3] - انظر ( المقابسات ) ص 192 .

[4] - التعريفات ص 209 .
 
سبب الغضب وحقيقته
حقيقة الغضب - كما يقول مسكويه : حركة النفس للانتقام ، وهذه الحركة تثير دم القلب حتى يغلي ؛ ولذلك يُحَدُّ الغضب بأنه : غليان دم القلب شهوةَ الانتقام .
قال : وفائدة الغضب وسبب وجوده في الإنسان هو أن ينتصر به من الظالم ، أو يمنعه ويضعه عن نفسه ؛ فإذا علم الإنسان أن قاصدًا يقصده بالظلم ، أحب الانتقام منه ، وتحركت نفسه لذلك ، فحدث الغضب [SUP]( [1] ) [/SUP].
وقال بهاء الدين العاملي في ( الكشكول ) : سبب الحزن هجوم ما تكرهه النفس ممن هو فوقها ، وسبب الغضب هجوم ما تكرهه النفس ممن هو دونها ؛ والغضب : حركة إلى الخارج ، والحزن حركة إلى الداخل ، فيحدث عن الغضب السطوة والانتقام لبروزه ؛ ويحدث عن الحزن المرض والسقم لكمونه ، ولهذا يعرض الموت من الحزن ، ولا يعرض من الغضب [SUP]( [2] ) [/SUP].
ويُفَصِّل ذلك الغزالي - رحمه الله - في ( إحياء علوم الدين ) فيقول : اعلم أن الله تعالى خلق طبيعة الغضب من النار ، وغرزها في الإنسان ، وعجنها بطينته ، فمهما صُدَّ عن غرض من أغراضه ، ومقصود من مقاصده ، اشتعلت نار الغضب ، وثارت ثورانًا يغلي به دم القلب ، وينتشر في العروق ، ويرتفع إلى أعالي البدن ، كما ترتفع النار ، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر ؛ فلذلك ينصب إلى الوجه ، فيحمر الوجه والعين ؛ والبشرة لصفائها تحكى لون ما وراءها من حمرة الدم ، كما تحكي الزجاجة لون ما فيها ، وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه ، واستشعر القدرة عليه ، فإن صدر الغضب على من فوقه ، وكان معه يأس من الانتقام ، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب ، وصار حزنًا ؛ ولذلك يصفر اللون ؛ وإن كان الغضب على نظير يشك في قدرته على الانتقام منه ، تردد الدم بين انقباض وانبساط ، فيحمر ويصفر ويضطرب .
وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ، ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام ، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها ، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها ؛ والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها ، وفيه لذتها ، ولا تسكن إلا به ، ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث في أول الفطرة : من التفريط ، والإفراط ، والاعتدال .
أما التفريط فبفقد هذه القوة أو ضعفها ، وذلك مذموم ، وهو الذي يقال فيه : إنه لا حمية له ؛ ولذلك قال الشافعي - رحمه الله : من استغضب فلم يغضب فهو حمار ؛ فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلا ، فهو ناقص جدًّا ، وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والحمية ، فقال : } أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ { [ الفتح : 29 ] ؛ وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : } يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ { [ التوبة : 73 ؛ والتحريم : 9 ] ؛ وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية ، وهو الغضب .
وأما الإفراط فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته ، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ، ولا اختيار ؛ بل يصير في صورة المضطر .
وسبب غلبته أمور غريزية ، وأمور اعتيادية ؛ فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب ، حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان ، ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب ؛ لأن الغضب من النار ؛ وإنما برودة المزاج تطفئه وتكسر سورته .
وأما الأسباب الاعتيادية ، فهو أن يخالط قومًا يتبجحون بتشفي الغيظ ، وطاعة الغضب ، ويسمون ذلك شجاعة ورجولية ، فيقول الواحد منهم : أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال ، ولا أحتمل من أحد أمرًا ؛ ومعناه لا عقل فيَّ ولا حلم ، ثم يذكره في معرض الفخر بجهله ، فمن سمعه رسخ في نفسه حسن الغضب ، وحب التشبه بالقوم ، فيقوى به الغضب ، ومهما اشتدت نار الغضب ، وقويَ اضطرامها ، أعمت صاحبها ، وأصمته عن كل موعظة ؛ فإذا وعظ لم يسمع ، بل زاده ذلك غضبًا ، وإذا استضاء بنور عقله وراجع نفسه ، لم يقدر ، إذ ينطفئ نور العقل ، وينمحي في الحال بدخان الغضب ؛ فإن معدن الفكر الدماغ ، ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان مظلم إلى الدماغ ، يستولي على معادن الفكر ، وربما يتعدى إلى معادن الحس ، فتظلم عينه ، حتى لا يرى بعينه ، وتسود عليه الدنيا بأسرها ، ويكون دماغه على مثال كهف اضطرمت فيه نار ، فاسوَّد جَوُّه ، وحميَ مستقره ، وامتلأ بالدخان جوانبه ، وكان فيه سراج ضعيف فانمحى أو انطفأ نوره ، فلا تثبت فيه قدم ، ولا يسمع فيه كلام ، ولا ترى فيه صورة ، ولا يقدر على إطفائه ، لا من داخل ولا من خارج ، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق ، فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ ، وربما تَقْوَى نار الغضب فتفني الرطوبة ، التي بها حياة القلب ، فيموت صاحبه غيظًا ، كما تَقْوَى النار في الكهف فينشق ، وتنهد أعاليه على أسفله ، وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه ؛ فهكذا حال القلب عند الغضب [SUP]( [3] ) [/SUP].
والعلم عند الله تعالى .

[1] - انظر ( الهوامل والشوامل ) ص 123 – الكتب العلمية – بيروت .

[2] - انظر ( الكشكول ) : 2 / 199 – الكتب العلمية – بيروت . .

[3] - انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 167 ، 168 ، باختصار وتصرف بسيطين .
 
أنواع الغضب
الغضب نوعان : محمود ومذموم ؛ فالمحمود ما كان في جانِب الدِّين والحق ، والمذمومُ ما كان في خِلافه ؛ ذلك لأن الغضب إنما يثور به دم القلب لمحبة الانتقام - كما تقدم ؛ وهذا الانتقام إذا لم يكن كما ينبغي ، وعلى من ينبغي ، وعلى مقدار ما ينبغي ؛ فهو مذموم .
وفي صحيح مسلم عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ : مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ ، وَلاَ امْرَأَةً ، وَلاَ خَادِمًا ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عز وجل[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم : وَلا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا ، وَلا مَا كَانَ لَهَا ؛ فَإِذَا تُعُوطِيَ الْحَقَّ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ ، لا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ ، وَلا يَنْتَصِرُ لَهَا[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وبوب البخاري بابًا سماه ( بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللَّهِ ؛ وَقَـالَ اللَّهُ : } جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ { ) ، ثم أورد تحته أحاديث ، منها :
عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ ؛ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ : أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ ، مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ ؛ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا ، قَالَ : فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ، قَالَ : فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ ، وَالْكَبِيرَ ، وَذَا الْحَاجَةِ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب يتغير وجهه ويحمر ، كأنه فقأ فيه حب الرمان ، فروى أحمد وابن ماجة عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ ، قَالَ : وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ الْغَضَبِ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ : " مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ ؟! بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ "[SUP] ( [5] ) [/SUP]؛ وفي الصحيحين عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللُّقَطَةِ ، فَقَالَ : " عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا ؛ فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ " ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَضَالَّةُ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : " خُذْهَا ؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ ، أَوْ لِأَخِيكَ ، أَوْ لِلذِّئْبِ " ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَضَالَّةُ الْإِبِلِ ؟ قَالَ : فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ ، أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ ؛ ثُمَّ قَالَ : " مَا لَكَ وَلَهَا ؟! مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا "[SUP] ( [6] ) [/SUP].
فهذا الغضب محمود ، إذ به يكون إظهار الحق وبيانه والدفاع عنه ؛ وقد غضب موسى عليه السلام غضبًا شديدًا من عبادة قومه العجل ، قال الله تعالى : } وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ { [ لأعراف : 150 ] ، ثم قال عز وجل : } وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ } [ لأعراف : 154 ] .
ومن الغضب المحمود - أيضًا - ما يكون في القتال الذي هو كمال القوة الغضبية ، وكذلك ما يكون في الغيرة على الحرم ونحو ذلك .
قال الماوردي في ( أدب الدنيا والدين ) : وَمَنْ فَقَدَ الْغَضَبَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُغْضِبَةِ حَتَّى اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ قَبْلَ الْإِغْضَابِ وَبَعْدَهُ ، فَقَدْ عَدِمَ مِنْ فَضَائِلِ النَّفْسِ : الشَّجَاعَةَ ، وَالْأَنَفَةَ ، وَالْحَمِيَّةَ ، وَالْغَيْرَةَ ، وَالدِّفَاعَ ، وَالْأَخْذَ بِالثَّأْرِ ؛ لِأَنَّهَا خِصَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْغَضَبِ .
فَإِذَا عَدِمَهَا الْإِنْسَانُ هَانَ بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِبَاقِي فَضَائِلِهِ فِي النُّفُوسِ مَوْضِعٌ ، وَلَا لِوُفُورِ حِلْمِهِ فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ .ا.هـ .
وتقدم كلام الغزالي وتقسيمه الغضب إلى درجات ثلاثة من التفريط ، والإفراط ، والاعتدال ؛ والتفريط والإفراط مذمومان ؛ ومرتبة الاعتدال هي المرتبة المحمودة ؛ إذ الغضب لا يكون مذمومًا إلا إذا أعمل في غير أوانه ، وعلى غير ما يأذن الناموس الحق به .
فمن الناسِ مَنْ يبلغُ من أحدهمِ الغضبُ - إذا غضبَ - أن يحملهُ ذلك على الكلوحِ والقطوبِ في وجهِ غيرِ من أغضبهُ ، وسوء اللفظ لمن لا ذنب لهُ ، والعقوبةِ لمن لم يكن يهم بمعاقبتهِ ، وشدةِ المعاقبةِ باللسانِ واليد لمن لم يكن يريدُ به إلا دون ذلكَ .
فهذا إفراط مذموم ، إذ هو ظلم بَيِّنٌ ، والظلم ظلمات يوم القيامة .
قال الغزالي - رحمه الله : ففَقْدُ الغضب مذموم ؛ وإنما المحمود غضبٌ ينتظر إشارة العقل والدين ، فينبعث حيث تجب الحمية ، وينطفئ حيث يحسن الحلم ، وحفظه على حد الاعتدال ، هو الاستقامة التي كلَّف الله بها عباده ، وهو الوسط ؛ وخير الأمور أوساطها .
فمن مال غضبه إلى الفتور ، حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة ، وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله ، فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه .
ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جرَّه إلى التهور واقتحام الفواحش ، فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب ، ويقف على الوسط الحق بين الطرفين ، فهو الصراط المستقيم ، وهو أرق من الشعرة ، وأحد من السيف ؛ فإن عجز عنه فليطلب القرب منه ، فليس كل من عجز عن الإتيان بالخير كله ، ينبغي أن يأتي بالشرِّ كله ، ولكن بعض الشر أهون من بعض ، وبعض الخير أرفع من بعض .
نسأل الله حسن التوفيق لما يرضيه ، إنه على ما يشاء قدير [SUP]( [7] ) [/SUP].


[1] - رواه مسلم ( 2328 ) .

[2] - جزء من حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي e ، رواه الترمذي في الشمائل المحمدية : 1 /34 ( 8 ) ، والطبراني : 22 / 155 ( 414 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 1430 ) ، وفيه من لم يسم .

[3] - البخاري ( 5758 ) .

[4] - البخاري ( 5759 ) .

[5] - أحمد : 2 / 178 ، وابن ماجة ( 85 ) .

[6] - البخاري ( 5761 ) ، ومسلم ( 1722 ) .

[7] - انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 168 .
 
وصية النبي صلى الله عليه وسلم : " لَا تَغْضَبْ "
جاء ذلك في عدة أحاديث ، منها : ما رواه أحمد والبخاري والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَوْصِنِي ؛ قَالَ : " لَا تَغْضَبْ " فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قَالَ : " لَا تَغْضَبْ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ والوصية هي العهد بالأمر الهام ، والمعنى : اعهد لي بوصية جامعة لخصال الخير ؛ وقوله : " لَا تَغْضَب " أي : لا تتعرض لما يجلب الغضب ، ولا تفعل ما يأمرك به ؛ والغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فيغلي القلب ؛ وقوله : ( فَرَدَّدَ مِرَارًا ) : أَيْ : رَدَّدَ السُّؤَال يَلْتَمِس أَنْفَع مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَعَمَّ ، فَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ ونبه بتكرارها على عظيم نفعها وعمومه .
وفي مسند أحمد عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبِرْنِي بِكَلِمَاتٍ أَعِيشُ بِهِنَّ ، وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى ؛ قَالَ : " اجْتَنِبْ الْغَضَبَ " ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اجْتَنِبْ الْغَضَبَ " [SUP]( [2] ) [/SUP].
وعند الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث سُفْيَان بْن عَبْد اللَّه الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه : قُلْت يَا رَسُول اللَّه ، قُلْ لِي قَوْلًا أَنْتَفِع بِهِ وَأَقْلِلْ ، قَالَ : " لَا تَغْضَب ، وَلَك الْجَنَّة "[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ وَعندهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء رضي الله عنه : قُلْت : يَا رَسُول اللَّه دُلَّنِي عَلَى عَمَل يُدْخِلنِي الْجَنَّة ، قَالَ : " لَا تَغْضَب " [SUP]( [4] ) [/SUP]؛
وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر رضي الله عنهما عِنْدَ أَبِي يَعْلَى : قُلْت : يَا رَسُول اللَّه قُلْ لِي قَوْلًا وَأَقْلِلْ لَعَلِّي أَعْقِلهُ ؛ قَالَ : " لَا تَغْضَب "[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ عَمٍّ لَهُ يُقَالُ لَهُ : جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قُلْ لِي قَوْلًا وَأَقْلِلْ عَلَيَّ ، لَعَلِّي أَعْقِلُهُ ؛ قَالَ لَا تَغْضَبْ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ : " لَا تَغْضَب "[SUP] ( [6] ) [/SUP].
ثم قال ابن حبان بعد أن أورد الحديث : قوله صلى الله عليه وسلم : " لَا تَغْضَب " ، أراد به أن لا تعمل عملا بعد الغضب مما نهيتُك عنه ؛ لا أنه نهاه عن الغضب ، إذ الغضب شيء جبلة في الإنسان ، ومحال أن ينهى المرء عن جبلته التي خلق عليها ، بل وقع النهي في هذا الخبر عما يتولد من الغضب مما ذكرناه .ا.هـ .
فيا لها من وصية غالية ، وموعظة بليغة ، تكرر سائلوها ، وتكررت الإجابة بها : " لَا تَغْضَب " ؛ وليس المراد النهي عن الغضب الذي هو جبلة في الإنسان , ولكن المراد : املك نفسك عند الغضب ، بحيث لا تنفذ إلى ما يقتضيه ذلك الغضب ؛ وقد مدح الله تعالى الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ؛ ومدح النبي صلى الله عليه وسلم الذي يملك نفسه عند الغضب فقال : " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " [SUP]( [7] )[/SUP] .
لأن الغضب بالباطل يُخرج الإنسان من اعتدال حاله ، فيتكلم بالباطل ، ويرتكب المذموم ، ويضمر الحقد والبغضاء وغير ذلك من القبائح المحرمة .
وقد جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لمن استوصاه الْخَيْرَ فِي هذه الجملة : " لَا تَغْضَبْ " وَمَعْنَى ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْغَضَبَ يُفْسِدُ كَثِيرًا مِنْ الدِّينِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُؤْذِيَ وَيُؤْذَى ، وَأَنْ يَأْتِيَ فِي وَقْتِ غَضَبِهِ مِنْ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا يَأْثَمُ بِهِ وَيُؤْثِمُ غَيْرَهُ ، وَيُؤَدِّي الْغَصْبُ إِلَى الْبَغْضَاء ؛ وَيَمْنَعُ الْغَضَبُ صَاحبَهُ كَثِيرًا مِنْ مَنَافِعِ دُنْيَاهُ ؛ وقد قيل : لا يحملنك الغضب على اقتراف إثمٍ ؛ فتشفي غيظك ، وتسقم دينك .
قال ابن رجب في ( جامع العلوم ) : قولُه صلى الله عليه وسلم : " لا تَغْضَبْ " يحتَمِلُ أمرين ؛ أحدُهما : أنْ يكونَ مرادُه الأمرَ بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُقِ من الكرم والسخاء ، والحلمِ ، والحياء ، والتواضع ، والاحتمال ، وكفِّ الأذى ، والصفح والعفو ، وكظم الغيظ ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة ، فإنَّ النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق ، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه .
والثاني : أنْ يكونَ المرادُ : لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَل لك ، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به ، فإنَّ الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر والناهي له ، ولهذا المعنى قال الله عز وجل : } وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ { [الأعراف : 154 ] ، فإذا لم يمتثل الإنسانُ ما يأمره به غضبُه ، وجاهد نفسه على ذلك ، اندفع عنه شرُّ الغضب ، وربما سكن غَضَبُهُ ، وذهب عاجلاً ، فكأنَّه حينئذٍ لم يغضب ، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله تعالى : ] وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [ [ الشورى : 37 ] ، وبقوله سبحانه : ] وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [ [ آل عمران : 134 ] ؛ وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يأمرُ من غضبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ ، وتُسَكِّنُهُ .
إن الغضب غليانُ دمِ القلب طلبًا لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه ، أو طلبًا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه[SUP] ( [8] ) [/SUP]، وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان ، وكثيرٌ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش ، وربما ارتقى إلى درجة الكفر ، كما جرى لجبلة بن الأيهم[SUP] ( [9] ) [/SUP]؛ كما ينشأ عنه كذلك الأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعًا ، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ .
والواجبُ على المؤمن أنْ يكونَ غضبه دفعًا للأذى في الدين له أو لغيره ، وانتقامًا ممن عصى الله ورسولَه ؛ وهذه كانت حالة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم .


[1] - البخاري ( 6116 ) ؛ ورواه أحمد : 2 / 362 ، والترمذي ( 2020 ) .

[2] - أحمد : 5 / 408 ، ورواه - أيضًا - ابن أبى شيبة ( 25386 ) .

[3] - الطبراني في الكبير : 7 / 69 ( 6399 ) .

[4] - الطبراني في الأوسط ( 2353 ) ، والشاميين ( 21 ) ، وقال الهيثمي في المجمع : 8 / 70 : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وأحد إسنادي الكبير رجاله ثقات ، وصححه الألباني في ( صحيح الترغيب ) لغيره .

[5] - أبو يعلى ( 5685 ) .

[6] - أحمد : 2 / 484 ، 5 / 34 ، 370 ، وابن حبان ( 5690 ) ؛ ورواه الطبراني في الكبير من طرق : 2 / 262 – 264 ( 2095 – 2107 ) .

[7] - أحمد : 2 / 236 ، والبخاري ( 6114 ) ، ومسلم ( 2609 ) ، والترمذي ( 2020 ) عن أبي هريرة t .

[8] - انظر : المفردات في غريب القرآن : 375 ، والتعريفات : 162 .

[9] - جبلة بن الأيهم ملك غسان ؛ وقد كان رسول الله e كتب إليه يدعوه إلى الإسلام ، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى له هدية ، ثم لم يزل مسلمًا حتى كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فبينا هو في سوق دمشق إذ وطئ رجلاً من مزينة ، فوثب المزني فلطمه ، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح ، فقالوا : هذا لطم جبلة ؛ قال : فليلطمه . قالوا : أو ما يقتل ؟ قال : لا ، فقالوا : أفما تقطع يده ؟ قال : لا ، إنَّما أمر الله بالقَوَدِ ، قال جبلة : أترون أني جاعل وجهي ندًا لوجه جَدْيٍ جاء من عمق ؟ بئس الدين هذا ! ثم ارتد نصرانيًا ، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم . انظر تاريخ دمشق : 11 / 19 .
 
الشديد من يملك نفسه عند الغضب
تقدم حديث النبي صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " ؛ والشديد ، أي : القوي الحقيقي ؛ والصرعة : الذي يغلب الرجال ويصرعهم ، ويكثر منه ذلك ؛ و" يَمْلِكُ نَفْسَهُ " أي : يكظم غيظه ويتحلم ، ولا يعمل بمقتضى غضبه ؛ وقد قيل : لا قوة كَرَدِّ الغضب .
قال ابن عبد البر – رحمه الله : وفيه دليل على أن مجاهدة النفس في صرفها عن هواها أشد محاولة وأصعب مرامًا وأفضل من مجاهدة العدو - والله أعلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل للذي يملك نفسه عند الغضب من القوة والشدة ما ليس للذي يغلب الناس ويصرعهم [SUP]([/SUP] [1] [SUP])[/SUP] .
وروى أحمد ومسلم والبخاري في ( الأدب المفرد ) وأبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ ؟ " ، قَالَ : قُلْنَا : الَّذِي لاَ يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ ؛ قَالَ : " لَيْسَ بِذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " [SUP]([/SUP] [2] [SUP]) [/SUP].
وروى البزار عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ يَصْطَرِعُونَ ، فَقَالَ : " مَا هَذَا ؟ " قَالُوا : فُلَان مَا يُصَارِع أَحَدًا إِلَّا صَرَعَهُ ! قَالَ : " أَفَلَا أَدُلّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُ ؟ رَجُل ظَلَّمَهُ رَجُل ، فَكَظَمَ غَيْظه ، فَغَلَبَهُ وَغَلَبَ شَيْطَانه ، وَغَلَبَ شَيْطَان صَاحِبه " [SUP]([/SUP] [3] [SUP])[/SUP] .
وروى أحمد عَنْ رَجُلٍ شَهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ : " مَا الصُّرَعَةُ ؟ " قَالَ : قَالُوا : الصَّريعُ , قال : فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " الصُّرَعَةُ كُلّ الصرَعَةِ ، الصُّرَعَةُ كُلَّ الصُّرَعَةِ ، الرَّجُلُ يَغْضَبُ ، فَيَشْتَدَّ غَضَبُهُ ، وَيَحْمَرّ وَجْهُهُ ، وَيَقْشَعِرّ شَعَرُهُ ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ " [SUP]([/SUP] [4] [SUP])[/SUP] .
قال النووي – رحمه الله : تعتقدون أن الصرعة الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال ، بل يصرعهم ! وليس هو كذلك شرعًا ، بل هو من يملك نفسه عند الغضب ؛ فهذا هو الفاضل الممدوح ، الذي قلَّ من يقدر على التخلق بخلقه ، ومشاركته في فضيلته ، بخلاف الأول[SUP] ( [5] ) [/SUP].
فالصرعة المستحق لهذا الاسم ، هو الذي يملك نفسه عند الغضب ، فيصرعها بذلك عما تدعوه إليه من هواها ، ولا يخرج منه قول ولا فعل على المخالفة لشرع الله تعالى .


[1] - انظر ( الاستذكار ) : 8 / 287 .

[2] - أحمد : 1 / 282 ، ومسلم ( 2608 ) ، والبخاري في الأدب المفرد ( 155 ) ، وأبو داود ( 4779 ) .

[3] - البزار ( 7272 ) ، وحسنه الحافظ في ( فتح الباري ) : 10 / 519 . تنبيه : الذي في الفتح ( كلمه رجل ) بدل ( ظلمه رجل ) ، وأحسبه تصحيف من النساخ ، والعلم عند الله تعالى .

[4] - أحمد : 5 / 367 ، وهو صحيح لغيره .

[5] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 16 / 162 .
 
السلام عليكمالموضوع جد مهم وهو يعالج ظاهرة متفشية في جانبها السلبي ؛في عالم الانسان لابد من الحد منها... ولايمكن للمسلم ان يشرعن المسألة الا بالوقوف على نصوص الشارع الحكيم ...ويتخذه قدوة والحلقات النادرة هي جزء من الحل ...فبارك الله فيك وصانك من سورة الغضب..... وحماك الله وستر عليك ووفقك لكل خير...
 
الأسباب المهيجة للغضب
لا يكون الغضب إلا بسببٍ يهيجه ، إما بكلام أو بفعال توافق صفة رديئة في الإنسان ، فيهيج معها الغضب ، ويحاول صاحبه الانتصار لنفسه ، ولو بالخروج عن حدِّ الشرع ؛ وقد جمع الغزالي - رحمه الله - هذه الأسباب ؛ قال : الأسباب المهيجة للغضب هي الزهو ، والعجب ، والمزاح ، والهزل ، والهزء ، والتعيير ، والمماراة ، والمضادة ، والغدر ، وشدة الحرص على فضول المال والجاه ؛ وهي بأجمعها أخلاق رديئة ، مذمومة شرعًا ، ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب ، فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها :
فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع ، وتميت العجب بمعرفتك بنفسك ، وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك ؛ إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد ، وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتًا ، فبنو آدم جنس واحد ، وإنما الفخر بالفضائل .
والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل ، وهي أصلها ورأسها ، فإذا لم تخل عنها ، فلا فضل لك على غيرك ؛ فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك ، من حيث البنية ، والنسب ، والأعضاء الظاهرة والباطنة ؟!
وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية ، التي تستوعب العمر ، وتفضل عنه إذا عرفت ذلك .
وأما الهزل فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة والعلوم الدينية ، التي تبلغك إلى سعادة الآخرة .
وأما الهزء ، فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس ، وبصيانة النفس عن أن يُستهزأ بك .
وأما التعيير ، فالحذر عن القول القبيح ، وصيانة النفس عن مُرِّ الجواب .
وأما شدة الحرص على مزايا العيش ، فتزال بالقناعة بقدر الضرورة ، طلبًا لعز الاستغناء ، وترفعًا عن ذل الحاجة .
وكل خلق من هذه الأخلاق وصفة من هذه الصفات ، يفتقر في علاجه إلى رياضة ، وتحمل مشقة ؛ وحاصل رياضتها يرجع إلى معرفة غوائلها ، لترغب النفس عنها ، وتنفر عن قبحها ، ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة ، حتى تصير بالعادة مألوفة ، هينة على النفس ، فإذا انمحت عن النفس ، فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل ، وتخلصت - أيضًا - عن الغضب الذي يتولد منها .
ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية ، وعزة نفس ، وكبر همة ؛ وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلا ، حتى تميل النفس إليه وتستحسنه[SUP] ( [1] ) [/SUP].


[1] - انظر ( إحياء علوم الدين ) : 3 / 172 .
 
فضل كظم الغيظ
كظم الغيظ هو حبس النفس عن الاستجابة لبواعث الغضب ، وهو الحلم ؛ والغيظ - كما تقدم - هو أول الغضب وسورته ، ولا يُعلم نارٌ أبلغ في إحراق أهلها من نار الغيظ ؛ ومجاهدة الغيظ من أشد الجهاد .
قال أبو حاتم البستي - رحمه الله : الخلق مجبولون على الغضب والحلم معًا ، فمن غضب وحلم في نفس الغضب ، فإن ذلك ليس بمذموم ، ما لم يخرجه غضبه إلى المكروه من القول والفعل ؛ على أن مفارقته في الأحوال كلها أحمد[SUP][1] [/SUP].
وكظم الغيظ يدل على خُلُق الحلم ، إذ الحلم لا يظهر إلا عند الغضب ؛ فلا يؤثر الغضب في صاحبه بسهولة وسرعة ؛ ولما سأل عليٌّ الحسن - رضي الله عنهما - قال : فما الحلم ؟ قال : كظم الغيظ ، وملك النفس[SUP][2] [/SUP].
من ادعى الحلم أغضبه لتعرفه ... لا يعرف الحلم إلا ساعة الغضب
فالحلم هو الطمأنينة عند سورة الغضب[3][SUP] [/SUP]؛ وقيل : الحلم تجرع الغيظ .
وقيل : ليس الحليم من ظُلم فحلم ، حتى إذا قدر انتصر ، ولكن الحليم من ظلُم فحلم ، فإذا قدر غفر .
وَقَارُ الْحِلْمِ يَقْرَعُ كُلَّ جَهْلٍ ... وَعَزْمُ الصَّبْرِ يَنْهَضُ بِالثَّقِيلِ


[1] - روضة العقلاء ، ص 141 .

[2] - رواه أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) : 2 / 36 .

[3] - التعريفات ص 125 .
 
فضل كظم الغيظ ( 2 )
وقد جاءت النصوص ببيان فضل الحلم وكظم الغيظ ، وفضل من يتحلى به ؛ نذكر منها :
1 - مدح الله تعالى الكاظمين الغيظ ؛ فقال : } وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ { [ آل عمران : 134 ] ؛ وذكر ذلك في معرض المدح ، ومعنى } وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ { أي : الحابسين أنفسهم عن الاستجابة لبواعث الغضب ، وتنفيذ ما يقتضيه ؛ والكظم : حبس الشيء عند امتلائه ؛ والغيظ : توقد حرارة القلب من الغضب .

2 - كظم الغيظ من أفضل القربات ؛ فقد روى أحمد وابن ماجة عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وفي ( شعب الإيمان ) عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال : إن من أحب الأعمال إلى الله تعالى : العفو عند القدرة ، وتسكين الغضب عند الحدة ، و الرفق بعباد الله[SUP] ( [2] ) [/SUP].

3 - الحلم من الخصال التي يحبها الله عز وجل ؛ فقد روى مسلم والترمذي وابن ماجة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلأَشَجِّ ، أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ : " إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ : الْحِلْمُ ، وَالأَنَاةُ "[SUP] ( [3] ) [/SUP].

4 - كاظم الغيظ يخير يوم القيامة من الحور العين ما يشاء ؛ روى أحمد وأهل السنن إلا النسائي عَنْ مُعَاذٍ بنِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ "[SUP] ( [4] ) [/SUP].
5 – عدم الاستجابة لبواعث الغضب ( الحلم ) يُبعد الإنسان من غضب الله تعالى ؛ فقد روى أحمد وابن حبان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تعالى ؟ قَالَ : " لَا تَغْضَبْ "[SUP] ( [5] ) [/SUP].
وروى أبو نعيم عن طلق بن حبيب قال : مكتوب في الإنجيل : ابن آدم اذكرني حين تغضب ، أذكرك حين أغضب ، ولا أمحقك فيمن أمحق ؛ يا ابن آدم إذا ظُلمت فاصبر ، فإن لك ناصرًا خيرًا منك لنفسك[SUP] ( [6] ) [/SUP].
فهذه الفضائل لكظم الغيظ تدفع أولي الألباب أن يتخلقوا بالحلم ، ولا يستجيبوا لبواعث الغضب ، بل يكظموا غيظهم قربة إلى الله تعالى ، ولينالوا ما وعد الله تعالى الكاظمين الغيظ ؛ وفي سلف الأمة الصالحين أمثلة ، ففي ( شعب الإيمان ) عن علي بن زيد قال : أسمع رجلٌ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلامًا ، فقال له عمر : أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان ، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدًا ؛ ثم عفا عنه[SUP] ( [7] ) [/SUP].
وفيه عن امرأة حذيفة أنها قالت : قمت إلى جارية لي أضربها ؛ فقالت لي : اتق الله ؛ قالت : فألقيت ما في يدي ، ثم قلت : يا بنية ، من اتقى الله لم يشف غيظه[SUP] ( [8] ) [/SUP].
وأتى عبد الله بن مسلم إلى الرشيد فهم بقتله ، فقال له عبد الله : أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك ؛ والذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي ، إلا عفوت عني ؛ فعفا عنه[SUP] ( [9] ) [/SUP].
فَرُدَّ الغضب بالكظم ، وسكِّنه بالتؤدة ؛ وإياك والعجلة ، فإنك إذا عجلت أخطأت .


[1] - أحمد : 2 / 128 ، وابن ماجة ( 4189 ) .

[2] - شعب الإيمان للبيهقي ( 8321 ) .

[3] - مسلم ( 17 ) ، والترمذي ( 2011 ) وحسنه ، وابن ماجة ( 4188 ) .

[4] - أحمد : 3 / 440 ، وأبو داود ( 4777 ) ، والترمذي ( 2021 ، 2493 ) وحسنه ، وابن ماجة ( 4186 ) .

[5] - أحمد : 2 / 175 ، وابن حبان ( 296 ) .

[6] - ( حلية الأولياء ) : 3 / 65 .

[7] - شعب الإيمان للبيهقي ( 8324 ) .

[8] - شعب الإيمان للبيهقي ( 8333 ) .

[9] - انظر ( الكشكول ) : 2 / 16.
 
علاج الغضب
من عَلِم من نفسه سرعة الغضب ، فعليه أن يحترز من أسبابه ، وأن يدعو الله تعالى أن يجعله ممن يعدلون في الغضب والرضا ؛ وأن يتعلم الحلم ، فإنما الحلم بالتحلم ، ثم يصير سجية ؛ ويذكر دائمًا فضل كظم الغيظ والتحلم ، فيدعوه ذلك إذا هاج غضبه أن يُسكِّنه ، ولا يطاوعه ، ولا يخرج منه قول ولا فعل يخالف الشرع ؛ قال أبو بكر بن عبد الله : أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم .
قال أبو حاتم البستي - رحمه الله : الواجب على العاقل إذا ورد عليه شيء بضد ما تهواه نفسه ، أن يذكر كثرة عصيانه ربه ، وتواتر حلم الله عنه ؛ ثم يُسَكِّن غضبه ، ولا يزري بفعله الخروج إلى ما لا يليق بالعقلاء في أحوالهم ، مع تأمل وفور الثواب في العقبى بالاحتمال ونفي الغضب ؛ وأنشدني الأنصاري
وكظمي الغيظ أولى من محاولتي ... غيظ العدو بإضراري بإيماني
لا خير في الأمر ترديني مغبته ... يوم الحساب إذا ما نصب ميزاني [SUP]( [1] )[/SUP]
ولو تفكر في قبح صورته عند الغضب ، وحسن صورة الحليم الهادي التارك للغضب ؛ لدعاه ذلك لترك الغضب ، إن كان قد بقي معه مسكة من عقل .
ولو تفكر فيما ورد في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال ، لرغب في ثوابه ، فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي والانتقام ، وينطفئ عنه غيظه ؛ ففي صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ ، وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا ؛ فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ : يَا ابْنَ أَخِي ، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ ؛ قَالَ : سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ : هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ ؛ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] ، وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ ؛ وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ[SUP] ( [2] ) [/SUP]. وقوله : ( وقافًا ) أي : إذا سمع آيات الله التزم أحكامه ، ووقف عندها ، ولم يتعدها .
ولو تفكر في أن قدرة الله عليه أعظم من قدرته على من يغضب عليه ، فقال : فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علي يوم القيامة ، أحوج ما أكون إلى العفو ؛ لترك ما يدعوه إليه الغضب ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِىُّ رضي الله عنه قَالَ : كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي بِالسَّوْطِ ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِى : " اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ " ؛ فَلَمْ أَفْهَمِ الصَّوْتَ مِنَ الْغَضَبِ - قَالَ : فَلَمَّا دَنَا مِنِّى ، إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ : " اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ " ، قَالَ : فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي ، فَقَالَ : " اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ ، أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلاَمِ " ؛ قَالَ : فَقُلْتُ : لاَ أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا[SUP] ( [3] ) [/SUP]؛ وفي ( الأدب المفرد ) عن أبي ليلى قال : خرج سلمان ( الفارسي ) ، فإذا عَلفُ دابَّتِه يَتَسَاقَطُ من الآرِي ( معلف الدواب ) ، فقال لخادمه : لولا أني أخَافُ القِصَاصَ لَأوْجَعْتُكَ[SUP] ( [4] ) [/SUP]؛ أي : القصاص في القيامة . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَنْ ذَكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْ قُدْرَتَهُ فِي ظُلْمِ عِبَادِ اللَّهِ .


[1] - روضة العقلاء ، ص 139 ، 140 .

[2] - البخاري ( 4366 ) .

[3] - مسلم ( 1659 ) .

[4] - الأدب المفرد ( 182 ) ، وصححه الألباني في ( صحيح الأدب المفرد ) .
 
علاج الغضب ( 2 ) :
قال ابن حجر - رحمه الله : ويعين على ترك الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل ، وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد ، وأن يستعيذ من الشيطان كما في حديث سليمان بن صرد ، وأن يتوضأ ، كما تقدمت الإشارة إليه في حديث عطية[SUP] ([1] ) [/SUP].
وقال الطوفي : أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد الحقيقي ، وهو أن لا فاعل إلا الله ، وكل فاعل غيره فهو آلة له ، فمن توجه إليه بمكروه من جهة غيره فاستحضر أن الله لو شاء لم يُمَكِّن ذلك الغير منه ، اندفع غضبه ؛ لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه على ربه جل وعلا ، وهو خلاف العبودية . قلت : وبهذا يظهر السر في أمره صلى الله عليه وسلم الذي غضب بأن يستعيذ من الشيطان ؛ لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به من الشيطان ، أمكنه استحضار ما ذكر ، وإذا استمر الشيطان متلبسًا متمكنًا من الوسوسة ، لم يمكنه من استحضار شيء من ذلك ، والله أعلم[SUP] ([2] ) [/SUP].

[1] - سيأتي – إن شاء الله – الكلام على الحديثين .

[2] - انظر ( فتح الباري ) : 10 / 521 .
 
علاج الغضب ( 3 )
يعينه على ترك الغضب وعلاجه الآداب الآتية :
1 - الاستعاذة
روى الشيخان وأبو داود والنسائي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ رضي الله عنه قَالَ : اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ ؛ لَوْ قَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " فَقَالُوا لِلرَّجُلِ : أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ ورواه النسائي في (اليوم والليلة ) وأبو يعلى عن أبي بن كعب[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وذلك أن الشيطان هو الذي يزين الغضب ، وكل ما لا تحمد عاقبته ، فإن الشيطان يغويه ويبعده عن رضا الله عز وجل ، فالاستعاذة بالله منه من أقوى الأسلحة على دفع كيده .
قال النووي – رحمه الله : فيه أن الغضب في غير الله تعالى من نزغ الشيطان ، وأنه ينبغي لصاحب الغضب أن يستعيذ ، فيقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وأنه سبب لزوال الغضب ؛ وأما قول هذا الرجل الذي اشتد غضبه : ( هل ترى بي من جنون ) ، فهو كلام من لم يفقه في دين الله تعالى ، ولم يتهذب بأنوار الشريعة المكرمة ، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجنون ، ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان ، ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله ، ويتكلم بالباطل ، ويفعل المذموم ، وينوي الحقد والبغض ، وغير ذلك من القبائح المترتبة على الغضب ... قال : ويحتمل أن هذا القائل كان من المنافقين ، أو من جفاة الأعراب ؛ والله اعلم[SUP]( [3] ) [/SUP].
وفي الحكمة من الاستعاذة عند الغضب ، قال ابن القيم - رحمه الله : ولما كان الغضب مَرْكَبَ الشيطان ، فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان ، أُمِرَ أن يعاونها بالاستعاذة منه ؛ فتمد الاستعاذة النفس المطمئنة ، فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية ، ويأتي مدد الصبر ، الذي يكون النصر معه ، وجاء مدد الإيمان والتوكل ، فأبطل سلطان الشيطان ؛ فـ } إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ { [ النحل : 99 ] ، قال مجاهد وعكرمة والمفسرون : ليس له حجة ؛ والصواب أن يقال : ليس له طريق يتسلط به عليهم ؛ لا من جهة الحجة ، ولا من جهة القدرة ؛ والقدرة داخلة في مسمى السلطان ، وإنما سميت الحجة سلطانًا لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده ، وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين ؛ فقال في سورة الحجر : } قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ . قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ . إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ { [ الحجر : 39 - 42 ] ؛ وقال في سورة النحل : } إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ { [ النحل : 99 ، 100 ] ؛ فتضمن ذلك أمرين : أحدهما نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص ؛ والثاني إثبات سلطانه على أهل الشرك ، وعلى من تولاه .
ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد والإخلاص ، } قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ { [ ص : 82 ، 83 ] ؛ فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله عز وجل ، وأخلص له ، وتوكل عليه ، لا يقدر على إغوائه وإضلاله ، وإنما يكون له السلطان على من تولاه ، وأشرك مع الله ؛ فهؤلاء رعيته ، فهو وليهم ، وسلطانهم ، ومتبوعهم[SUP] ( [4] ) [/SUP].


[1] - البخاري ( 3282 ، 6048 ، 6115 ) ، ومسلم ( 2610 ) .

[2] - رواه النسائي في السنن الكبرى ( 10141 ) ، ورواه الضياء في المختارة من طريق أبي يعلى : 3 / 436 ( 1236 ) .

[3] - انظر ( شرح النووي على مسلم ) : 16 / 163 .

[4] - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان : 1 / 98 ، 99 .
 
2 – السكوت
روى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " عَلِّمُوا ، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا ؛ وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ ، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ ، وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
قال ابن رجب في ( جامع العلوم والحكم ) : وهذا دواء عظيم للغضب ؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليهِ في حال زوال غضبه كثيرًا من السِّباب وغيره مما يعظم ضَرَرُهُ ، فإذا سكت زال هذا الشرّ كله عنه ؛ وما أحسنَ قولَ مورق العجلي - رحمه الله : ما امتلأتُ غيضاً قَطُّ ، ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ[SUP] ( [2] )[/SUP] .. قال ابن رجب : وقوله : " وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ " يدلُّ على أنَّ الغضبانَ مُكَلَّفٌ في حال غضبه بالسكوت ، فيكون حينئذٍ مؤاخذًا بالكلام ، وقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه أمر من غضب أنْ يتلافى غضبَه بما يُسكنه من أقوال وأفعال ، وهذا هو عينُ التكليف له بقطع الغضب .ا.هـ [SUP]( [3] ) [/SUP].


[1] - أحمد : 1 / 365 ، والأدب المفرد ( 1320 ) ، وصححه الألباني في ( صحيح الأدب ) .

[2] - رواه أبو نعيم في الحلية : 2 / 235 .

[3] - انظر ( جامع العلوم والحكم ) شرح الحديث رقم ( 16 ) .
 
3 – تغيير الحال
روى أحمد وعنه أبو داود عَنْ أَبِى ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَنَا : " إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ ، وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْ "[SUP] ( [1] ) [/SUP].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " لاَ تَسَابَّ وَأَنْتَ صَائِمٌ ، فَإِنْ شَتَمَكَ أَحَدٌ ، فَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ ، وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاقْعُدْ " ، وفي رواية : " لا تُسَابَّ وَأَنْتَ صَائِمٌ ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ ، فَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ ، وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاجْلِسْ "[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وقد قيل : إنَّ المعنى في هذا أنَّ القائم متهيِّئ للانتقام ، والجالس دونَه في ذلك ، والمضطجع أبعدُ عنه ، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام ؛ والعرب تقول في أمثالها : ( النَّومُ فَرْخُ الغَضَبِ ) ؛ والفَرْخ : اسمٌ من الإفراخ ، في قولهم : ( أفْرَخَ رَوْعُك ) أي : ذهب خَوْفُكَ ؛ ومعنى هذا المثل أن الغضبان إذا نام ذهَبَ غَضَبهُ[SUP] ( [3] ) [/SUP].


[1] - أحمد : ، وأبو داود ( 4782 ) ، وابن حبان ( 5688 ) .

[2] - أحمد : 2 / 428 ، 505 ، والنَّسائي في الكبرى ( 3246 ) ، وابن خزيمة ( 1994 ) ، وابن حِبَّان ( 3483 ) .

[3] - انظر ( مجمع الأمثال ) : 2 / 341 ( 4241 ) .
 
4 - الوضوء
روى أحمد وأبو داود عن أَبِي وَائِلٍ الصَنْعَانِيِّ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، إِذْ أُدْخِلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ بِكَلَامٍ أَغْضَبَهُ ، قَالَ : فَلَمَّا أَنْ غَضِبَ ، قَامَ ثُمَّ عَادَ إِلَيْنَا ، وَقَدْ تَوَضَّأَ ؛ فَقَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَطِيَّةَ السَّعْدِي قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ " [SUP]( [1] )[/SUP] ؛ فإذا توضأ العبد عند الغضب ، كان في وضوئه ما يطفئ تلك القوة الشيطانية ، فتزول تلك المفسدة ؛ قال ابن تيمية – رحمه الله : وَهَذَا مُسْتَحَبٌّ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : " الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنْ النَّارِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ " ، وَكَذَلِكَ الشَّهْوَةُ الْغَالِبَةُ هِيَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّارِ ، وَالْوُضُوءُ يُطْفِئُهَا ، فَهُوَ يُطْفِئُ حَرَارَةَ الْغَضَبِ ؛ وَالْوُضُوءُ مِنْ هَذَا مُسْتَحَبٌّ[SUP] ( [2] ) [/SUP].
وقوله صلى الله عليه وسلم : " الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ " أي : إنه المحرك له ، الباعث إليه ، ليردي الآدمي ويغويه ويبعده عن نعمة الله ورحمته ؛ " وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مِنْ النَّارِ " أي : خلق منها ، قال : } خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ { [ الأعراف : 12 ] ، " وَإِنَّمَا تُطْفَأُ " أي : تُخمد ؛ " النَّارُ بِالْمَاءِ " لأنه ضدها ؛ " فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ " ندبًا مؤكدًا ؛ قال الطيبي - رحمه الله : أراد أن يقول : إذا غضب أحدكم فليستعذ من الشيطان ، فإن الغضب من الشيطان ؛ فصَوَّر حالة الغضب ومنشأه ، ثم أرشد إلى تسكينه ، فأخرج الكلام هذا المخرج ليكون أجمع وأنفع ، وللموانع أزجر وأردع [SUP]( [3] ) [/SUP].


[1] - أحمد : 4 / 226 ، وأبو داود ( 4784 ) ، ورواه البخاري في التاريخ الكبير 7 / 8 ، في ترجمة عطية بن عروة السعدي ، ورواه الطبراني في الكبير من طريق أحمد : 17 / 167 ( 443 ) ، والبيهقي في الشعب ( 8291 ) ؛ وفيه أبو وائل القاص : عبد الله بن بحير ، وثقه ابن معين ، وذكره البخاري في التاريخ الكبير : 5 / 39 ( 106 ) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا ، واضطرب فيه ابن حبان فذكره في الثقات : 7 / 22 ( 8828 ) ، وفي المجروحين 2 / 24 ( 554 ) ، وعده رجلين ؛ ونقل ابن حجر في التهذيب عن الذهبي قال : لم يفرق بينهما أحد قبل ابن حبان ، وهما واحد .ا.هـ . وقال الذهبي في الكاشف : وثق ، وليس بذاك . ا.هـ .
قلت : وسكت عنه أبو داود فهو عنده حسن ، وذكره المنذري في الترغيب : 3 / 451 ، وسكت عنه ، وكذلك سكت عنه في مختصر أبي داود ؛ والعلم عند الله تعالى ؛ والحديث ضعفه الألباني وزعم أن عروة بن محمد بن عطية وأبوه مجهولا الحال ، لأنهما لم يوثقهما إلا ابن حبان ، وهو متساهل في التوثيق ؛ قلت : وقد ذكرهما - أيضًا - البخاري في ( التاريخ الكبير ) ، وابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل ) ، ولم يذكرا فيهما جرحًا ولا تعديلا ، مما يقوي أمرهما .. والعلم عند الله تعالى .
فائدة : قال ابن المنذر في الأوسط : 1 / 241 : إن ثبت هذا الحديث فإنما الأمر به ندبًا ليسكن الغضب ، ولا أعلم أحدًا من أهل العلم يوجب الوضوء منه ا.هـ .

[2] - انظر ( مجموع الفتاوى ) : 25 / 238 .

[3] - نقلا عن ( فيض القدير ) : 2 / 377 .
 
5 – الاقتداء بالأنبياء والصالحين
في الأنبياء والصالحين قدوة ، فقد كانوا يحلمون ويكظمون غيظهم ابتغاء الأجر العظيم من الله تعالى ؛ فإذا تذكر الغاضب ذلك ، سكن غضبه ، ولم يخرج إلى ما لا يليق من القول والفعل ؛ ففي الصحيحين عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةً ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ ! فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ ؛ وَقَالَ : " رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى ، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " ، وفي رواية : فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ ، فَغَضِبَ ، حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ؛ وفي أخرى : لَمَّا قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةَ حُنَيْنٍ ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : مَا أَرَادَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ ! فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَخْبَرْتُهُ ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ ، ثُمَّ قَالَ : " رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى ، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ " ؛ وفي أخرى : قُلْتُ : أَمَا وَاللَّهِ ، لَآتِيَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي مَلَإٍ ؛ فَسَارَرْتُهُ ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ ؛ ثُمَّ قَالَ : " رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى مُوسَى ، أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ "[SUP] ( [1] ) [/SUP]؛ وقوله : ( فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ ) أي : تغير لونه من الغضب ؛ وفي الرويات الأخرى وصف لهذا التغير .
قال ابن حجر - رحمه الله : قال بعض أهل العلم : الصبر على الأذى جهاد النفس ، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ، ويقال فيها ؛ ولهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة ؛ لكنه حلم عن القائل ، فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين ، وأن الله تعالى يأجره بغير حساب .. قال : وفيه أن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم ، ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم ، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بموسى[SUP] ([2] ) [/SUP].


[1] - البخاري ( 3224 ، 4080 ، 4081 ، 5712 ، 5749 ، 5933 ) ، ومسلم ( 1062 ) .

[2] - انظر ( فتح الباري ) : 10 / 511 ، 512 .
 
6 – الدعاء
الدعاء هو السلاح الماضي في كل أمور الحياة ، وعلى المسلم أن يلزم الدعاء في أموره كلها ، فلن يتيسر أمر إلا بتيسير الله له ، ولا يصعب أمر إلا بإرادة الله ومشيئته ، فليجأ المسلم إلى الله في أن يذهب عنه أسباب الغضب المذموم وسورته ، وأن يجعله ممن يقول الحق في الغضب والرضا ، فروى أحمد عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ : صَلَّى بِنَا عَمَّارٌ صَلَاةً ، فَأَوْجَزَ فِيهَا ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ ؛ فَقَالَ : أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ؟ قَالُوا : بَلَى ؛ قَالَ : أَمَا إِنِّي قَدْ دَعَوْتُ فِيهِمَا بِدُعَاءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ : " اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ، أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ ؛ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ ؛ ورواه النسائي عن عطاء بن السائب ، عن أبيه قال : صلى بنا عمار بن ياسر ... فذكره بنحوه[SUP] ( [1] ) [/SUP].
قال ابن رجب - رحمه الله : وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : أسألك " كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا " وهذا عزيز جدًّا ، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي ، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول [SUP]( [2] ) [/SUP].


[1] - أحمد : 4 / 264 ، والنسائي ( 1305 ) ، ورواه ابن حبان ( 1971 ) ، والحاكم ( 1923 ) من طريق عطاء .

[2] - انظر ( جامع العلوم والحكم ) شرح الحديث رقم ( 16 ) .
 
فائدة :
قال ابن الجوزي - رحمه الله - في ( صيد الخاطر ) : متى رأيت صاحبك قد غضب و أخذ يتكلم بما لا يصلح ، فلا ينبغي أن تعقد على ما يقوله خنصرًا ، و لا أن تؤاخذه به ؛ فإن حاله حال السكران ، لا يدري ما يجري .
بل اصبر لفورته ، ولا تعول عليها ، فإن الشيطان قد غلبه ، و الطبع قد هاج ، و العقل قد استتر .
و متى أخذت في نفسك عليه ، أو أجبته بمقتضى فعله ، كنت كعاقل واجه مجنونًا ، أو كمفيق عاتب مغمى عليه ؛ فالذنب لك .
بل انظر بعين الرحمة ، و تلمح تصريف القدر له ، و تفرج في لعب الطبع به ؛ و اعلم أنه إذا انتبه ندم على ما جرى ، و عرف لك فضل الصبر .
وأقل الأقسام أن تسلمه فيما يفعل في غضبه إلى ما يستريح به .
و هذه الحالة ينبغي أن يتلمحها الولد عند غضب الوالد ، و الزوجة عند غضب الزوج ، فتتركه يشتفي بما يقول ، و لا تعول على ذلك ، فسيعود نادمًا معتذرًا .
و متى قوبل على حالته و مقالته صارت العداوة متمكنة ، و جازى في الإفاقة على ما فعل في حقه وقت السكر .
و أكثر الناس على غير هذه الطريق ؛ متى رأوا غضبان قابلوه بما يقول و يعمل ، وهذا على غير مقتضى الحكمة ، بل الحكمة ما ذكرته ، و ما يعقلها إلا العالمون[SUP] ( [1] ) [/SUP].


[1] - انظر صيد الخاطر ، ص 215 ، 216 .
 
فائدة ثانية
روى أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) عن عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ النَّرْسِيِّ قَالَ : قَالَ الرَّشِيدُ يَوْمًا لِلْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ ( حاجب هارون الرشيد ) ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسَهُ : يَا فَضْلُ ، أَيْنَ هَذَا الْحِجَازِيُّ , كَالْمُغْضَبِ , فَقُلْتُ : هَاهُنَا ، فَقَالَ : عَلَيَّ بِهِ ، فَخَرَجْتُ وَبِي مِنَ الْغَمِّ وَالْحَزَنِ ، لِمَحَبَّتِي لِلشَّافِعِيِّ لِفَصَاحَتِهِ ، وَبَرَاعَتِهِ ، وَعَقْلِهِ ؛ فَجِئْتُ إِلَى بَابِهِ ، فَأَمَرْتُ مَنْ دَقَّ عَلَيْهِ ، وَكَانَ قَائِمًا يُصَلَّى ، فَتَنَحْنَحَ ، فَوَقَفْتُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ، وَفَتَحَ الْبَابَ ، فَقُلْتُ : أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ : سَمْعًا وَطَاعَةً ؛ وَجَدَّدَ الْوضُوءَ ، وَارْتَدَى ، وَخَرَجَ يَمْشِي حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الدَّارِ ، فَمِنْ شَفَقَتِي عَلَيْهِ قُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، قِفْ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ لَكَ ، فَدَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِذَا هُوَ عَلَى حَالَتِهِ كَالْمُغْضَبِ ، وَقَالَ : أَيْنَ الْحِجَازِيُّ ؟ فَقُلْتُ : عِنْدَ السَّيْرِ ، فَجِئْتُ إِلَيْهِ ، فَقَامَ يَمْشِي رُوَيْدًا ، وَيحَرِّكُ شَفَتَيْهِ ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، قَامَ إِلَيْهِ فَاسْتَقْبَلَهُ ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَهَشَّ وَبَشَّ ، وَقَالَ : لِمَ لَا تَزُورُنَا ، أَوْ تَكُونُ عِنْدَنَا ؟ فَأَجْلَسَهُ ، وَتَحَدَّثَا سَاعَةً ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِبَدْرَةِ دَنَانِيرَ ، فَقَالَ : لَا أَرَبَ لِي فِيهِ ، قَالَ الْفَضْلُ : فَأَوْمَأْتُ إِلَيْهِ ، فَسَكَتَ ؛ وَأَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ رُدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ ، فَخَرَجْتُ وَالْبَدْرَةُ تُحْمَلُ مَعَهُ ، فَجَعَلَ يُنْفِقُهَا يُمْنَةً وَيُسْرَةً ، حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَمَا مَعَهُ دِينَارٌ ؛ فَلَمَّا دَخَلَ مَنْزِلَهُ ، قُلْتُ : قَدْ عَرَفْتَ مَحَبَّتِي لَكَ ، فَبِالَّذِي سَكَّنَ غَضَبَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْكَ ، إِلَّا مَا عَلَّمْتَنِي مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي دُخُولِكَ مَعِي عَلَيْهِ ، فَقَالَ : حَدَّثَنِي مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [ آل عمران : 18 ] إِلَى قَوْلِهِ : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [ آل عمران: 19] ؛ ثُمَّ قَالَ : وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَدِيعَةً لِي عِنْدَ اللَّهِ ، يؤَدِّيهَا إِلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِنُورِ قُدُسِكَ ، وَعَظِيمِ بَرَكَتِكَ ، وَعَظْمَةِ طَهَارَتِكَ ، مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَاهَةٍ ، وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ غِيَاثِي ، بِكَ أَسْتَغِيثُ ؛ وَأَنْتَ مَلَاذِي ، بِكَ أَلُوذُ ؛ وَأَنْتَ عِيَاذِي ، بِكَ أَعُوذُ ؛ يَا مِنْ ذَلَّتْ لَهُ رِقَابُ الْجَبَابِرَةِ ، وَخَضَعَتْ لَهُ أَعْنَاقُ الْفَرَاعِنَةِ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ خِزْيِكَ ، وَمِنْ كَشْفِ سِتْرِكَ ، وَنِسْيَانِ ذِكْرِكَ ، وَالِانْصِرَافِ عَنْ شُكْرِكَ ، أَنَا فِي حِرْزِكَ لِيَلِي وَنَهَارِي ، وَنَوْمِي وَقَرَارِي ، وَظَعْنِي وَأَسْفَارِي ، وَحَيَاتِي وَمَمَاتِي ، ذِكْرُكَ شِعَارِي ، وَثَنَاؤُكَ دِثَارِي ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ ، تَشْرِيفًا لِعَظَمَتِكَ ، وَتَكْرِيمًا لِسَبَحَاتِ وَجْهِكَ ، أَجِرْنِي مِنْ خِزْيِكَ ، وَمِنْ شَرِّ عِبَادِكَ ، وَاضْرِبْ عَلَيَّ سُرَادِقَاتِ حِفْظِكَ ، وَأَدْخِلْني فِي حِفْظِ عِنَايَتِكَ ، وَجُدْ عَلَيَّ مِنْكَ بِخَيْرٍ ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ . قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى : قَالَ الْفَضْلُ : فَحَفِظْتُهُ ، فَلَمْ يَغْضَبْ عَلَيَّ الرَّشِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ فَهَذَا أَوَّلُ بَرَكَةِ الشَّافِعِيِّ [ 1 ][SUP] [/SUP].

[1] - حلية الأولياء : 9 / 79 ، 80 ؛ وروى القصة من طريق أخرى : 9 / 78 ، 79 ، مع تغيير في بعض الألفاظ .
 
خاتمة
هذا ما يسره الله الكريم المنان في كتابة هذه الرسالة ، وهو جهد مَنْ بضاعته مزجاة ، وعمل البشر محفوف بالنقص .
لكن قدرة مثلي غير خافية ... والنمل يعذر في القدر الذي حملا
ومع ذلك فإني أطمع في فضل الله تعالى وكرمه أن يتقبلها مني ، وأن يجعل لها القبول في الأرض ، فهو سبحانه ولي ذلك والقادر عليه ، لا رب غيره ، ولا أرجو إلا خيره ، عليه توكلت ، وإليه أنيب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وكتبه
أفقر العباد إلى عفو رب البرية
محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
 
عودة
أعلى