أيمن أبومصطفى
New member
بسم1
يمكن أن تستخدم البلاغة استخداما مخادعا ، وقد التفت إلى ذلك ابن الأثير في كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر تحت باب الاستدراج حيث يقول: "وهذا الباب أنا استخرجته من كتاب الله تعالى وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال والكلام فيه وإن تضمن بلاغة فليس الغرض ها هنا ذكر بلاغته فقط بل الغرض ذكر ما تضمنه من النكت الدقيقة في استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم وإذا حقق النظر فيه علم أن مدار البلاغة كلها عليه لأنه انتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها والكلام في مثل هذا ينبغي أن يكون قصيرا في خلابه لا قصيرا في خطابه فإذا لم يتصرف الكاتب في استدراج الخصم إلى إلقاء يده وإلا فليس بكاتب ولا شبيه له إلا صاحب الجدل فكما أن ذاك يتصرف في المغالطات القياسية فكذلك هذا يتصرف في المغالطات الخطابية ".وقد أشار ابن سينا إلى أن الاستعارة ينتفع بها على أنها وسيلة خادعة للتأثير على المتلقي الذي يسهل خداعه ، حيث يقول :".....وليعلم أن الاستعارة في الخطابة ليست على أنها أصل ، بل إنها غش ينتفع به في ترويج الشيء على من ينخدع وينغش ، ويؤكد عليه الإقناع بالتخييل ، كما تغش الأطعمة والأشربة بأن يخلط معها شيء غيرها لتطيب به، أو لتعمل عملها فيروج أنها طيبة في أنفسها.. "
هكذا يتجلى أنّ المعوّل عليه في البلاغة هو الصياغة اللغوية وقدرتها على الإيهام والتخييل إلى درجة الإقناع، وبلغة ثانية، المهارة اللغوية التي تمتلك القلوب وتستأثر بها، غير أننا نجد من نظر إلى نماذج المهارة اللغوية نظرة الريب؛ فالجاحظ يذكر أنّ البلاغة هي تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق . وهذا مؤدّاه مغالطة المتلقي ومخادعته واستدراجه في غيبة من رويته إلى ما يخالف عقله وعلمه.
إن الحديث النبوى يحمل أبعاداً تنظيرية لا تختلف عن هذه الآراء والمقولات ، بل يضع الحديث النبوى أسساً نظرية لاصطناع الأنماط البلاغية فى الأسلوب ، وذلك ببيان مواضع الاستحسان ومواضع الاستهجان ، فليس كل استعمال بلاغي بمستحسن ، ومن هنا تأتى فكرة الدوافع التي تكون من وراء أنماط الأساليب إن كانت ترمى إلى الحقيقة ، أو كانت ترمى إلى المخادعة أو المبالغة فى سلوك لغوى يؤدى إلى قلب الحقائق ، يبين الحديث النبوى هذا النمط المخادع من الاستعمال البلاغي :
فعن أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ ، أَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ وَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَدَعْهَا " ( البخاري ك الأحكام 6648 ) وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا التفاوت فى البيان بقوله : " فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ " من هؤلاء الخصم الذين يأتونه ، فيأتي هذا البليغ القادر على البيان بحجج تشوه الحقيقة إلى حد تغيم معه الرؤية فى نظر الذي يقضى ، وفى هذا بيان لغاية غير أخلاقية قد تستعمل فيها البلاغة ، وفى ذلك يقول سهل بن هارون " سياسة البلاغة أشد من البلاغة ، كما أن التوقِّى على الدواء أشد من الدواء " وسياسة البلاغة أي السيطرة عليها وابتغاء الحقيقة فى استعمالها ، فإذا كانت البلاغة عسيرة لا تتوفر لكل إنسان ، فإن القدرة على توجيهها بحيث لا تستعمل إلا لكشف الحقيقة لاتتيسر لكل قادرعليها.
من هذا المنظور، ينبغي التمييز بين نوعين من اللغة، أحدهما صادق حقيقي، والثاني خلاّب ومستحبّ، وقد يتجمع هذان النمطان في قول واحد، وقد يفترقان، وربما لا يكون للحق ميزات ظاهرة، وربما يجتمع للباطل أوجه استحسان باهرة وحسن البيان يرى الظلماء كالنور .وقد عبر ابن الرومي عن قدرة البلاغة على المخادعة والمغالطة بقوله :
في زُخْرُفِ القولِ تزيينٌ لباطِلِهِ *** والحقُّ قَدْ يعتريه ســوءُ تعبيرِ.
تقول هذا مجـاج النحل تمدحه *** وإن ذممت فقل قيء الزنابيــرِ.
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما *** حسن البيان يُرِي الظلماء كالنورِ.
وهناك إشارة من القرآن الكريم تدلّ على المفارقة بين القول الذي يغري الإنسان بالاستماع إليه والحق البريء من الزينة. والقرآن الكريم يشير مرة أخرى بقوله: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ " ويقول أيضا:تقول هذا مجـاج النحل تمدحه *** وإن ذممت فقل قيء الزنابيــرِ.
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما *** حسن البيان يُرِي الظلماء كالنورِ.
" وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ ":
ففي هذين المقامين ندرك ما يسمى بـ"الاستمالة"، وقد نظر إليها القرآن نظرة تحذير إذا كانت استمالة غير مشروعة..
ويتضح في ضوء هذه الاعتبارات أنّ المقاصد ذات شأن كبير في البلاغة الموروثة، إنها تسود غيرها من الوظائف اللغوية، أو تصرفها حسبما شاءت ؛ فالوظيفة الإفهامية من اللغة، والوظيفة الخطابية، والوظيفة الشعرية، غايتها هي التأثير في السامع وإقناعه. وبتعبير آخر، كانت وظيفة البلاغة الموروثة هي وصف الطرق الخاصة في استعمال اللغة وتصنيف الأساليب بحسب تمكنها في التعبير عن الغرض يتجاوز الإبداع إلى التأثير في السامع أو إقناعه بما نقول أو إشراكه فيما نحس به، وغايتها مد المستعمل بما تعتبره أنجع طريقة في بلوغ المقاصد .
ويحسن بنا -هنا- أن نتذكر أنّ اللغة في بدايتها وظيفة اجتماعية، يمارسها الإنسان ليؤكد بها ذاته، وليستشعر عن طريقها وجوده متفاعلاً مع غيره ممن يشاركه هذه الوظيفة .
وعلى العموم، إنّ للغة وظيفتين جوهريتين هما: التعبير والتوصيل، إلاّ أنّ المقاصد ذات شأن كبير في التراث البلاغي، وكيفما كان الأمر، فقد كانت اللغة في هذا الإطار تستعمل لغايات أخرى، مثل التشريع، أو خدمة أغراض علم الكلام، أو إذكاء العصبية، أو التجمل الواجب لكل من يتصدى لمنصب من مناصب الحكم أو الرياسة .
هكذا بالبلاغة ينتصر الشاعر لقضيته ويسوغها في النفوس ويتمّ تمكينها في الذات، "إنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة" ؛ وهذا ما جعل المتكلمين والمعتزلة يعتبرون تعلّم البلاغة غاية في حد ذاته؛ فهي تمكنهم من أداة ناجعة، يظهرون بها على خصومهم في المناظرات والمجادلات .
وما يعنينا هو أنهم ركزوا على مقاصد البلاغة العقائدية ووظّفوها لغايات جدلية إقناعية، ومنه أصبحت اللغة خادمًا من أجل الوصول إلى نهائي أو موقف حاسم ؛ الأمر الذي جعلها تهدف إلى كسب تأييد المتلقي في شأن قضية أو فعل مرغوب فيه من جهة، ثم إقناع ذلك المتلقي عن طريق إشباع مشاعره وفكره معًا، حتى يتقبل ويوافق على القضية أو الفعل موضوع الخطاب؛ فالبلاغة -كما قلنا- توجّه بخصائصها للقلب والعقل معًا؛ إذ يجمع القول فيها بين المضمون العقلي للشاهد وصوره البيانية، أو بين التبرير العقلي والمحسنات البديعية .
انطلاقًا من هذا اعتبرت البلاغة هي الطريقة والوسائل المتبعة في الكلام حتى تنفذ معانيه إلى عقل وقلب السامع وما يقتضيه ذلك من وضع محسنات بديعية وإبانة وإظهار وإقناع. ويعود هذا التصور إلى كون البلاغة العربية قد نشأت في أحضان الصراع بين العقائد؛ فقد وصف القرآن الكريم بعض الناس بأنّ لهم ألسنة حادة، ووصف طائفة أخرى بأنّ لهم القدرة على الجدل والخصومة، مما يدلّ على أنّ اللغة ظاهرة من مظاهر الصراع وليس السلام.
ولقد رأى البعض أنّ الأبحاث البلاغية نشأت في عصور قوامها الاضطراب السياسي والاجتماعي، ومن الطبيعي أن يفقد المنطق العقلي وقاره في هذا النحو.
ومن خلال ما سبق يمكن أن نقف على أهمية اتقان البلاغة كي تكون من وسائلنا في الإقناع والحجاج والخطاب، وكي نأمن أن يفتننا أحد باستخدامها استخداما مخادعا.