بعض لطائف إن وأن فی كتاب الله

إنضم
31/10/2015
المشاركات
2,088
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
مصر
بسم الله الرحمن الرحيم


سوف نتناول فى هذا الجزء ان شاء الله بعض الامثلة القليلة على جواهر إن و أن فى كتاب الله

لعلها تكون ثمرة لمزيد بحث عن أسرار إن فی كتاب الله

وعلي الله توكلي واعتمادی

الجوهرة الاولى

{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ }



قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله تعالى: { فَإِن كُنتَ }: في " إنْ " هذه وجهان،

الظاهر منهما: أنها شرطيةٌ،


ثم استشكلوا على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكنْ في شك قط. قال الزمخشري: " فإن قلت كيف قال لرسوله: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } مع قوله للكفرة:
{ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }
[هود: 110]؟ قلت: فرقٌ عظيم بين إثباته الشكَّ لهم على سبيل التوكيد والتحقيق، وبين قوله: " فإن كنت " بمعنىٰ الفَرَض والتمثيل ". وقال الشيخ: " وإذا كانت شرطيةً فقالوا: إنها تدخُل على الممكنِ وجودُه أو المحقَّقِ وجودُه المبهمِ زمنُ وقوعِه كقوله تعالى:
{ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ }
[الأنبياء: 34]. قال "


والذي أقولُه إنَّ " إنْ " الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيء، ولا تستلزمُ تحتُّمَ وقوعِه ولا إمكانَه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقولِه تعالىٰ:
{ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ }
[الزخرف: 81]، ومستحيلٌ أن يكونَ له ولدٌ فكذلك [هذا]، مستحيلٌ أن يكون في شك، وفي المستحيل عادةً كقوله تعالىٰ:
{ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ }
[الأنعام: 35] لكنَّ وقوعَها في تعليق المستحيل قليلٌ ". ثم قال: " ولمَّا خَفِي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية، فقال ابن عطية: " الصواب أنها مخاطبةٌ، والمرادُ مَنْ سواه مِنْ أمته ممَّن يمكن أن يَشُكَّ أو يعارِض ". وقيل: كنىٰ بالشك عن الضيق. وقيل: كَنَىٰ به عن العجب، ووجه المجازِ فيه أن كلاً منهما فيه تَرَدُّد، وقال الكسائي: إنْ كنت في شك أنَّ هذا عادتُهم مع الأنبياء فَسَلْهُمْ كيف كان صبر موسى عليه السلام؟

الوجه الثاني مِنْ وجهي " إنْ "
أنها نافية. قال الزمخشري: " أي: فما كنت في شك فاسأل، يعني لا نأمرك بالسؤال لكونِك شاكَّاً ولكن لتزداد يقيناً كما ازدادَ إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتىٰ. وهذا القولُ سبقه إليه الحسنُ البصري والحسين بن الفضل وكأنه فرارٌ من الإِشكال المتقدِّم في جَعْلها شرطيةً، وقد تقدَّم جوابُه مِنْ وجوهٍ
 
الجوهرة الثانية

{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:


قوله: { إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ }: قيل: هي شرطيةٌ على بابِها.

واخْتُلِفَ في تأويلِه

فقيل: إنْ صَحَّ ذلك فأنا أولُ مَنْ يَعْبُده لكنه لم يَصِحَّ البتةَ بالدليلِ القاطعِ، وذلك أنَّه عَلَّق العبادةَ بكيْنونة الولدِ، وهي مُحالٌ في نفسِها، فكان المُعَلَّقُ بها مُحالاً مثلَها، فهو في صورةِ إثباتِ الكينونةِ والعبادةِ، وفي معنى نَفْيهِما على أَبْلغِ الوجوهِ وأَقْواها، ذكره الزمخشريُّ.

وقيل: إن كان له ولدٌ في زَعْمِكم.

وقيل: العابدين بمعنى: الآنفين. مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إذا اشْتَدَّ أَنَفَةً فهو عَبِدٌ وعابِدٌ. ويؤيِّدُه قراءةُ السُّلَميِّ واليماني " العَبِدين " دون ألفٍ. وحكى الخليل قراءةً غريبةً وهي " العَبْدِيْن " بسكون الباءِ، وهي تخفيفُ قراءةِ السُّلَمي فأصلها الكسرُ. قال ابنُ عرفة: " يقال: عَبِدَ بالكسر يَعْبَد بالفتح فهو عَبِد، وقلَّما يقال: عابِد، والقرآن لا يجيْءُ على القليلِ ولا الشاذِّ ". قلتُ: يعني فتخريج مَنْ قال: إنَّ العابدين بمعنى الآنفين لا يَصِحُّ، ثم قال كقول مجاهد. وقال الفرزدق:4010 ـ أولئك آبائي فجِئْني بمثْلِهم وأَعْبَدُ أنْ أَهْجُوْ كُلَيْباً بدارِمِ
أي: آنَفُ. وقال آخر:4011 ـ متى ما يَشَأْ ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خليلَه ويُعْبَدْ عليه لا مَحالةَ ظالما
وقال أبو عبيدة: " معناه الجاحِدين ". يقال: عَبَدَني حَقِّي أي: جَحَدنيه. وقال أبو حاتم: " العَبِدُ بكسر الباءِ: الشديدُ الغَضَبِ " ، وهو معنى حسنٌ أي: إنْ كان له ولدٌ على زَعْمِكم فأنا أولُ مَنْ يَغْضَبُ لذلك.

وقيل: " إنْ " نافيةٌ
أي: ما كان، ثم أَخْبَرَ بقولِه: { فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } وتكونُ الفاءُ سببيةً. ومنع مكي أَنْ تكونَ نافيةً قال: " لأنه يُوْهِمُ أنَّك إنما نَفَيْتَ عن الله الولدَ فيما مضى دونَ ما هو آتٍ، وهذا مُحالٌ ".

وقد رَدَّ الناسُ على مكيّ، وقالوا: كان قد تَدُلُّ على الدوامِ كقوله:
{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
[النساء: 96] إلى ما لا يُحْصَى، والصحيحُ من مذاهبِ النحاةِ: أنها لا تدُلُّ على الانقطاعِ، والقائلُ بذلك يقولُ: ما لم يكنْ قرينة كالآياتِ المذكورةِ. وتقدَّمَ الخلافُ في قراءَتَيْ: وَلَد ووُلْد في مريم
 
الجوهرة الثالثة


{ قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً }

قال الالوسي فى تفسيره:

{ إِن كُنتَ تَقِيّاً }شرط جوابه محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله تعالى وتخشاه وتحتفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري. / وفي «الكشف» أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقياً أولى أن أثر الاستجارة بالله تعالى أعني مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقي، وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ بالله تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطاً للاستعاذة لا تتم دونها وقال: إن كان يرجى إظهاراً لمعنى أن وإنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلاً عن العلم بها. والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاستعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة بالله تعالى حثاً له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وأن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى.

وقدر الزجاج إن كنت تقياً فتتعظ بتعويذي،
والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جواباً لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعاً بتقدير مبتدأ، وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بـي

وقيل إنها أرادت إن كنت تقياً متورعاً فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقابله من باب أولى،

وقال الشهاب: الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام، وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى الله تعالى من شره لا حثه على الانزجار

وقيل نافية، والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقياً متورعاً بحضورك عندي وانفرادك بـي وهو خلاف الظاهر،

وأياً كان فالتقي وصف من التقوى، وقول من قال: إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد.
 
الجوهرة الرابعة



{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

وقرأ العامَّة " أنها " بفتح الهمزة، وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ـ بخلاف عنه ـ بكسرها.

فأمَّا على قراءةِ الكسر فواضحةٌ استجودها الناس: الخليل وغيره؛ لأن معناها استئناف إخبار بعدم إيمان مَنْ طُبع على قلبه ولو جاءتهم كلُّ آية.

قال سيبويه: " سألْتُ الخليل عن هذه القراءة ـ يعني قراءة الفتح ـ فقلت: ما منع أن يكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يَحْسُن ذلك في هذا الموضع، إنما قال " وما يُشْعركم " ، ثم ابتدأ فأوجب فقال { إِنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولو فَتَح فقال: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } لكان عُذْراً لهم ". وقد شرح الناس قولَ الخليل وأوضحوه فقال الواحدي وغيره: " لأنك لو فتحت " أنَّ " وجعلتها التي في نحو " بلغني أن زيداً منطلق " لكان عذراً لمن أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون، لأنه إذا قال القائل: " إن زيداً لا يؤمن " فقلت: وما يدريك أن لا يؤمن، كان المعنى أنَّه يؤمن، وإذا كان كذلك كان عذراً لمَنْ نفى عنه الإِيمان، وليس مرادُ الآية الكريمة إقامةَ عُذْرِهم ووجودَ إيمانهم.

وقال الزمخشري " وقرئ " إنها " بالكسر، على أن الكلام قد تمَّ قبله بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون ".

وأمَّا قراءة الفتح فقد وجَّهها الناس على ستة أوجه،

أظهرها: أنها بمعنى لعلَّ، حكى الخليل " أتيت السوق أنك تشتري لنا منه شيئاً " أي: لعلك، فهذا من كلام العرب ـ كما حكاه الخليل ـ شاهد على كون " أنَّ " بمعنى لعلَّ، وأنشد أبو جعفر النحاس:
2027ـ أريني جواداً مات هُزْلاً لأَنَّني أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مُخَلَّدا
قال امرؤ القيس: ـ أنشده الزمخشري ـ

2028ـ عُوجا على الطلل المُحيلِ لأنَّنا نبكي الديار كما بكى ابنُ حِذامِ
وقال جرير:
2029ـ هلَ أنتمْ عائجون بنا لَعَنَّا نرى العَرَصاتِ أو أثرَ الخيام
وقال عدي بن زيد:
2030ـ أعاذلَ ما يُدْرِيكَ أن منيَّتي إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد
وقال آخر:
2032ـ قلت لشيبانَ ادنُ مِنْ لِقائِهْ أنَّا نُغَذِّي الناسَ مِنْ شوائِهْ

فـ " أنَّ " في هذه المواضع كلها بمعنى لعلَّ، قالوا: ويدل على ذلك أنها في مصحف أُبَيّ وقراءته " وما أدراكم لعلَّها إذا جاءت لا يؤمنون " ونُقِلَ عنه: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ لعلها إِذَا جَآءَتْ } ، ذكر ذلك أبو عبيد، وغيره، ورجَّحوا ذلك أيضاً بأنَّ " لعل " قد كَثُرَ ورودها في مثل هذا التركيب كقوله تعالى:
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ }
[الشورى: 17]
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ }
[عبس: 3] وممَّنْ جعل " أنَّ " بمعنى " لعل " أيضاً يحيى بن زياد الفراء.

ورجَّح الزجاج ذلك، فقال: " زعم سيبويه عن الخليل أن معناها " لعلها " قال: " وهذا الوجه أقوى في العربية وأجود " ،/ ونسب القراءة لأهل المدينة، وكذا أبو جعفر. قلت: وقراءة الكوفيين والشاميين أيضاً، إلا أن أبا علي الفارسي ضعَّف هذا القول الذي استجوده الناس وقوَّوه تخريجاً لهذه القراءة فقال: " التوقع الذي تدل عليه " لعلَّ " لا يناسب قراءة الكسر لأنها تدل على حكمه تعالى عليهم بأنهم لا يؤمنون " ولكنه لمَّا منع كونها بمعنى " لعل " لم يجعلها معمولة لـ " يُشْعِركم " بل جعلها على حذف لام العلة أي لأنها، والتقدير عنده: قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فهو لا يأتي بها لإِصْرارهم على كفرهم، فيكون نظير
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ }
[الإِسراء: 59] أي بالآيات المقترحة، وعلى هذا فيكون قوله " وما يُشْعركم " اعتراضاً بين العلة والمعلول.

الثاني: أن تكون " لا " مزيدةً، وهذا رأيُ الفراء وشيخه قال: " ومثله
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }
[الأعراف: 12] أي: أن تسجد، فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، والمعنى على هذا: أنها لو جاءت لم يؤمنوا، وإنما حملها على زيادتها ما تقدَّم من أنها لو تُقَدَّر زائدةً لكان ظاهرُ الكلام عذراً للكفار وأنهم يُؤْمنون، كما عرَفْتَ تحقيقَه أولاً. إلا أن الزجاج نسب ذلك إلى الغلط فقال " والذي ذكر أن " لا " لغوٌ غالط، لأنَّ ما يكون لغواً لا يكون غيرَ لغو، ومَنْ قرأ بالكسر فالإِجماع على أن " لا " غير لغو " فليس يجوز أن يكون معنى لفظة مرةً النفيَ ومرةً الإِيجابَ في سياق واحد.

وانتصر الفارسي لقول الفراء ونفى عنه الغلط، فإنه قال: " يجوز أن تكون " لا " في تأويلٍ زائدةً، وفي تأويلٍ غيرَ زائدة كقول الشاعر:
2032ـ أبى جودُه لا البخلَ واستعجلَتْ نَعَمْ به مِنْ فتى لا يمنع الجودَ نائِلُهْ
يُنشد بالوجهين أي بنصب " البخل " وجرِّه، فَمَنْ نَصَبَه كانت زائدة أي: أبى جوده البخل، ومَنْ خفض كانت غيرَ زائدة وأضاف " لا " إلى البخل قلت: وعلى تقدير النصب لا يلزم زيادتها لجواز أن تكون " لا " مفعولاً بها والبخل بدل منها أي: أبى جوده لفظ " لا " ، ولفظ " لا " هو بخل.

وقد تقدَّم لك طرفٌ من هذا محققاً عند قوله تعالى
{ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }
[الفاتحة: 7] في أوائل هذا الموضوع، وسيمر بك مواضعُ منها، كقوله تعالى:
{ وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }
[الأنبياء: 95] قالوا: تحتمل الزيادةَ وعَدَمَها، وكذا
{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }
[الأعراف: 12]
{ لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ }
[الحديد: 29].

الثالث: أن الفتح على تقديرِ لامِ العلة، والتقدير: إنما الآيات التي يقترحونها عند الله لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، وما يُشْعركم اعتراض، كما تقدَّم تحقيق ذلك عن أبي علي فأغنى عن إعادته، وصار المعنى: إنما الآيات عند الله أي المقترحة لا يأتي بها لانتفاء إيمانهم وإصرارهم على كفرهم.

الرابع: أنَّ في الكلام حذفَ معطوفٍ على ما تقدَّم. قال أبو جعفر في معانيه: " وقيل في الكلام حذف، المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون " فحذف هذا لعلم السامع، وقَدَّره غيره: ما يشعركم بانتفاء الإِيمان أو وقوعه.

الخامس: أنَّ " لا " غير مزيدة، وليس في الكلام حَذْفٌ بل المعنى: وما يدريكم انتفاء إيمانهم، ويكون هذا جواباً لمن حكم عليهم بالكفر أبداً ويئس من إيمانهم. وقال الزمخشري: " وما يشعركم وما يدريكم أنها - أن الآيات التي يقترحونها - إذا جاءت لا يؤمنون بها، يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تَدْرُون بذلك، وذلك أن المؤمنين كانوا حريصين على إيمانهم وطامعين فيه إذا جاءت تلك الآية ويتمنَّون مجيئها فقال عز وجل: " وما يدريكم أنهم لا يؤمنون " على معنى: أنكم لا تَدْرُوْنَ ما سَبَقَ علمي بهم أنهم لا يؤمنون، ألا ترى إلى قوله:
{ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }
[الأنعام: 110] انتهى. قلت بَسْطُ قولِه إنهم كانوا يطمعون في إيمانهم ما جاء في التفسير أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل علينا الآية التي قال الله فيها { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } ونحن والله نؤمن فأنزل الله تعالى: وما يُشْعركم إلى آخرها/. وهذا الوجه هو اختيار الشيخ فإنه قال: " ولا يحتاج الكلام إلى زيادة " لا " ولا إلى هذا الإِضمار " - يعني حَذْفَ المعطوف - " ولا إلى " أنَّ " بمعنى لعلَّ، وهذا كله خروج عن الظاهر لغير ضرورةٍ، بل حَمْلُه على الظاهر أَوْلى وهو واضح سائغ أي: وما يشعركم ويدريكم بمعرفة انتفاء إيمانهم لا سبيل لكم إلى الشعور بها ".

السادس: أنَّ " ما " حرف نفي، يعني أنه نَفَى شعورَهم بذلك، وعلى هذا فيُطْلَبُ لـ " يُشْعركم " فاعلٌ

فقيل: هو ضمير الله تعالى أُضْمر للدلالة عليه، وفيه تكلُّفٌ بعيد أي: وما يُشْعِرُكم الله أنها إذا جاءت الآيات المقترحة لا يؤمنون. وقد تقدَّم في البقرة كيفيةُ قراءةِ أبي عمرو لـ
{ يُشْعِرُكُمْ }
[الأنعام: 109] و
{ يَنصُرْكُمُ }
[آل عمران: 160] ونحوِهما عند قوله
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ }
[البقرة: 67]، وحاصلها ثلاثة أوجه: الضم الخالص، والاختلاس، والسكون المحض.

وقرأ الجمهور: " لا يؤمنون " بياء الغيبة، وابن عامر وحمزة بتاء الخطاب، وقرآ أيضاً في الجاثية [الآية: 6]
{ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ }
بالخطاب، وافقهما عليها الكسائي وأبو بكر عن عاصم، والباقون بالياء للغيبة، فَتَحَصَّل من ذلك أنَّ ابن عامر وحمزة يقرآن بالخطاب في الموضعين، وأنَّ نافعاً وابن كثير وأبا عمرو وحفصاً عن عاصم بالغيبة في الموضعين، وأن الكسائي وأبا بكر عن عاصم بالغيبة هنا وبالخطاب في الجاثية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحدى السورتين والآخر في أخرى.

فأما قراءة الخطاب هنا فيكون الظاهر من الخطاب في قوله " وما يشعركم " أنه للكفار، ويتضح معنى هذه القراءة على زيادة " لا " أي: وما يُشْعركم أنكم تؤمنون إذا جاءت الآيات التي طلبتموها كما أَقْسَمْتُمْ عليه ويتضح أيضاً على كونِ " أنَّ " بمعنى لعلَّ مع كون " لا " نافيةً، وعلى كونِها علةً بتقديرِ حَذْفِ اللامِ أي: إنما الآيات عند الله فلا يأتيكم بها؛ لأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ويتضح أيضاً على كون المعطوف محذوفاً أي: وما يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءت الآيات أو وقوعه، لأنَّ مآل أمرِكم مُغَيَّبٌ عنكم فكيف تُقْسِمون على الإِيمان عند مجيء الآيات؟ وإنما يُشْكل إذا جَعَلْنا " أنَّ " معمولةً لـ " يُشْعركم " وجَعَلْنَا " لا " نافيةً غير زائدة، إذ يكون المعنى: وما يدريكم أيها المشركون بانتفاء إيمانكم إذا جاءتكم، ويزول هذا الإِشكال بأنَّ المعنى: أيُّ شيء يدريكم بعدم إيمانكم إذا جاءتكم الآيات التي اقترحتموها؟ يعني لا يمرُّ هذا بخواطركم، بل أنتم جازِمُون بالإِيمان عند مجيئها لا يَصُدُّكم عنه صادٌّ، وأنا أعلم أنكم لا تؤمنون وقت مجيئها لأنكم مطبوعٌ على قلوبكم.

وأمَّا على قراءة الغَيْبة فتكون الهمزةُ معها مكسورةً، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر عن عاصم، ومفتوحة وهي قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم.

فعلى قراءة ابن كثير ومَنْ معه يكون الخطاب في " وما يشعركم " جائزاً فيه وجهان،

أحدهما: أنه خطاب للمؤمنين أي: وما يشعركم أيها المؤمنون إيمانهم، ثم استأنف إخباراً عنهم بأنهم لا يؤمنون فلا تَطْمعوا في إيمانهم

والثاني: أنه للكفار أي: وما يُشْعركم أيُّها المشركون ما يكون منكم، ثم استأنف إخباراً عنهم بعدم الإِيمان لعلمه السابق فيهم، وعلى هذا ففي الكلام التفاتٌ من خطاب إلى غيبة.

وعلى قراءة نافع يكون الخطابُ للكفار، وتكون " أنَّ " بمنى لعلَّ، كذا قاله أبو شامة وغيره.

وقال الشيخ في هذه القراءة: " الظاهر أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى: وما يدريكم أيها المؤمنون أن الآية التي تقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون " يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ثم ساق كلام الزمخشري بعينه الذي قَدَّمْتُ ذِكْرَه عنه في الوجه الخامس قال: " ويبعد جداً أن يكون الخطاب في " وما يشعركم " للكفار ". قلت: إنما استبعده لأنه لم يَرَ في " أنَّ " هذه أنها بمعنى لعل كما حكيتُه عنه.

وقد جعل الشيخُ في مجموع { أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بالنسبة إلى كسر الهمزة وفتحِها والخطاب والغَيْبة أربع قراءات قال: " وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والعليمي والأعشى عن أبي بكر، وقال ابن/ عطية: " ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الإِيادي: إنها بكسر الهمزة، وقرأ باقي السبعة بفتحها، وقرأ ابن عامر وحمزة " لا تؤمنون " بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبة، فترتَّب أربع قراءات:

الأولى: كَسْرُ الهمزة والياء وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر بخلاف عنه في كسر الهمزة " ثم قال:

" القراءة الثانية: كَسْرُ الهمزة والتاء وهي رواية العليمي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم؟ ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في " وما يُشْعركم " للمؤمنين وفي " تؤمنون " للكفار.

ثم ذكر القراءة الثالثة نظرٌ لا يخفى: وذلك أنه لَمَّا حكى قراءة الخطاب في " تؤمنون " لم يحكها إلا عن حمزة وابنِ عامر فقط، ولم يدخل معهما أبو بكر لا من طريق العليمي والأعشى ولا من طريق غيرهما، والفرض أن حمزة وابن عامر يفتحان همزة " أنها " ، وأبو بكر يكسرها ويفتحها، ولكنه لا يقرأ " يؤمنون " إلا بياء الغيبة فمن أين تجيء لنا قراءةٌ بكسر الهمزة والخطاب؟ وإنما أتيتُ بكلامه برُمَّته ليُعْرَفَ المأخذ عليه ثم إني جَوَّزْتُ أن تكون هذه روايةً رواها فكشفتُ كتابه في القراءات، وكان قد أفرد فيه فصلاً انفرد به العليمي في روايته، فلم يذكر أنه قرأ " تؤمنون " بالخطاب البتة، ثم كشفت كتباً في القراءات عديدةً فلم أرهم ذكروا ذلك فعرفتُ أنه لَمَّا رأى للهمزة حالتين ولحرف المضارعة في " يؤمنون " حالتين ضرب اثنين في اثنين فجاء من ذلك أربعُ قراءات ولكن إحداهما مهملة.
 
الجوهرة الخامسة


{ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } * { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }

قال الرازى فى تفسيره:

أما قوله: { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } فاعلم أن قوله: { وَحَرَامٌ } خبر فلا بد له من مبتدأ وهو إما قوله: { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أو شيء آخر

أما الأول فالتقدير أن عدم رجوعهم حرام أي ممتنع وإذا كان عدم رجوعهم ممتنعاً كان رجوعهم واجباً فهذا الرجوع إما أن يكون المراد منه الرجوع إلى الآخرة أو إلى الدنيا.

أما الأول: فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد فإنه سبحانه سيعطيه الجزاء على ذلك يوم القيامة وهو تأويل أبي مسلم بن بحر.

وأما الثاني: فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الدنيا واجب لكن المعلوم أنهم لم يرجعوا إلى الدنيا فعند هذا ذكر المفسرون وجهين:

الأول: أن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب والدليل عليه الآية والاستعمال والشعر، أما الآية فقوله تعالى:
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً }
[الأنعام: 151] وترك الشرك واجب وليس بمحرم، وأما الشعر فقول الخنساء:
وإن حراماً لا أرى الدهر باكياً على شجوه إلا بكيت على عمرو
يعني وإن واجباً، وأما الاستعمال فلأن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور كقوله تعالى:
{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }
[الشورى: 40] إذا ثبت هذا فالمعنى أنه واجب على أهل كل قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، ثم ذكروا في تفسير الرجوع

أمرين: أحدهما: أنهم لا يرجعون عن الشرك ولا يتولون عنه وهو قول مجاهد والحسن. وثانيها: لا يرجعون إلى الدنيا وهو قول قتادة ومقاتل.

الوجه الثاني: أن يترك قوله وحرام على ظاهره ويجعل في قوله: { لاَ يَرْجِعُونَ } صلة زائدة كما أنه صلة في قوله:
{ مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُد }
[الأعراف: 12] والمعنى حرام على قرية أهلكناها رجوعهم إلى الدنيا وهو كقوله:
{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }
[يس: 50] أو يكون المعنى وحرام عليهم رجوعهم عن الشرك وترك الأيمان، وهذا قول طائفة من المفسرين،

وهذا كله إذا جعلنا قوله وحرام خبراً لقوله: { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أما إذا جعلناه خبراً لشيء آخر فالتقدير وحرام على قرية أهلكناها ذاك، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور ثم علل فقال: { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } عن الكفر فكيف لا يمتنع، ذلك هذا على قراءة إنهم بالكسر والقراءة بالفتح يصح حملها أيضاً على هذا أي أنهم لا يرجعون.
 
الجوهرة السادسة

{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } * { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } * { وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } * { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً }* { ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ } * { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } * { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون

{ وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }


قوله تعالى: { وَإِنَّ ٱللَّهَ }: قرأ ابن عامرٍ والكوفيون " وإنَّ " بكسر " إنَّ " على الاستئناف، ويؤيِّدها قراءةُ أُبَيّ { إِنَّ ٱللَّهَ } بالكسر دون واو.

وقرأ الباقون بفتحها، وفيها أوجهٌ،

أحدُها: أنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ متعلِّقاً بما بعده، والتقدير: ولأنَّ اللهَ ربي وربُّكم فاعبُدوه، كقوله تعالى:
{ وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً }
[الجن: 18] والمعنى لوَحْدانيَّته أَطِيْعوه. وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه.

الثاني: أنها عطفٌ على " الصلاةِ " والتقدير: وأوصاني بالصلاةِ وبأنَّ اللهَ. وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكيٌّ غيرَه. ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ " وبأنَّ اللهَ ربي " بإظهار الباءِ الجارَّة. وقد استُبْعِد هذا القولُ لكثرةِ الفواصلِ بين المتعاطفَيْن. وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أَُبَيّ فلا يُرَجِّحُ هذا لأنها باءُ السببيةِ، والمعنى: بسبب أنَّ الله ربي وربُّكم فاعبُدوه فهي كاللام.

الثالث: أَنْ تكونَ " أنَّ " وما بعدها نَسَقاً على " أمراً " المنصوبِ بـ " قَضَى " والتقدير: وإذا قضى أمراً، وقضى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. ذكر ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء. واستبعد الناسُ صحةَ هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العِلْم والمعرفة بمنزلٍ يمنعُه من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عَطَفَ على " أمراً " لزم أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الشرطِ بـ " إذا " ، وكونُه تبارك وتعالى ربُّنا لا يتقيَّد بشرطٍ البتةَ، بل هو ربُّنا على الإِطلاق. ونسبوا هذا الوهمَ لأبي عبيدةَ كان ضعيفاً في النحو، وعَدُّوا له غَلَطاتٍ، ولعلَّ ذلك منها.

الرابع: أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، تقديرُه: والأمرُ أنَّ الله ربي وربُّكم. ذُكِر ذلك عن الكسائي، ولا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ.

الخامس: أَنْ/ يكونَ في محلِّ نصبٍ نَسَقاً على " الكتاب " في قولِه " قال: إني عبد الله آتاني الكتابَ " على أن يكونَ المخاطَبُ بذلك معاصِرِي عيسى عليه السلام، والقائلُ لهم ذلك عيسى. وعن وَهْب: عَهِدَ إليهم عيسى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم. قال هذا القائل: ومَنْ كسرَ الهمزةَ يكون قد عَطَفَ { إِنَّ ٱللَّهَ } على قوله " إني عبدُ الله " فهو داخِلٌ في حَيِّز القولِ. وتكون الجملُ من قوله { ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } إلى آخرها جملَ اعتراض، وهذا من البُعْدِ بمكانٍ
 
الجوهرة السابعة

{ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }

قال الالوسى فى تفسيره:

{ وَأَنَّهُ } بفتح الهمزة عند الجمهور على أنه
عطف
على
{ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ }
[الجن: 1]
كالذي قبله فهو من كلامه تعالى أي وأوحي إليَّ أن الشأن { لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ }

وقال الرازى فى تفسيره:

اعلم أن عبدالله هو النبي صلى الله عليه وسلم في قول الجميع، ثم قال الواحدي: إن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى، لأن الرسول لا يليق أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة وهذا غير بعيد، كما في قوله:
{ يَوْمٍ يُحْشَرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً }
[مريم:85] والأكثرون على أنه من جملة الموحى، إذ لو كان من كلام الجن لكان ما ليس من كلام الجن. وفي خلل ما هو كلام الجن مختلاً بعيداً عن سلامة النظم
وفائدة هذا الاختلاف أن من جعله من جملة الموحى فتح الهمزة في أن، ومن جعله من كلام الجن كسرها،
 
الجوهرة الثامنة

{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُوَأَنَّأَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله تعالى: { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } قرأ الجمهورُ: " أَنَّ " مفتوحةَ الهمزة، وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها.

فأمَّا قراءةُ الجمهور فتحتمل " أنَّ " فيها أنْ تكونَ في محل رفع أو نصب أو جر،

فالرفعُ من وجه واحد وهو أن تكونَ مبتدأً والخبر محذوف. قال الزمخشري: " والخبر محذوف أي: فسقُكم ثابت معلومٌ عندكم، لأنكم علمتم أنَّا على الحق وأنتم على الباطل، إلا أنَّ حبَّ الرئاسة وجمع الأموال لا يَدَعُكم فتنصفوا " فقدَّر الخبر مؤخراً. قال الشيخ: " ولا ينبغي أن يُقَدَّر الخبرُ إلا مقدماً لأنه لا يُبْتَدَأ بـ " أَنَّ " على الأصحِّ إلا بعد " أمَا " انتهى. ويمكن أن يقال: يُغْتفر في الأمور التقديرية ما لايُغْتفر في اللفظية، لاسيما أن هذا جارٍ مَجْرى تفسير المعنى، والمرادُ إظهار ذلك الخبر كيف يُنْطَق به، إذ يقال إنه يرى جواز الابتداء بـ " أنَّ " مطلقاً، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير.

وأمَّا النصبُ فمِنْ ستة أوجه،

أحدها: أن يُعْطَفُ على " أن آمَنَّا " ، واستُشْكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقديرُ: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَ أكثرهم، وهم لا يَعْترفون بأن أكثرَهم فاسقون حتى يكرهونه وأجيب عن ذلك، فأجاب الزمخشري وغيرُه بأنَّ المعنى: وما تنقمون منا إلا الجمعَ بين أيماننا وبين تَمَرُّدكم وخروجكم عن الإِيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفَتكم حيث دَخَلْنا في دين الإِسلام وأنتم خارجون منه ".

ونقل الواحدي عن بعضهم أنَّ ذلك من باب المقابلة والازدواج، يعني أنه لَمَّا نقم اليهود عليهم الإِيمان بجميع الرسل وهو مما لا يُنْقَم ذكَرَ في مقابلته فِسْقَهم، وهو مِمَّا يُنْقِم، ومثلُ ذلك حسنٌ في الازدواج، يقول القائل: " هل تنقم مني إلا أني عَفَوْتُ عنك وأنك فاجر " فَيَحْسُن ذلك لإِتمامِ المعنى بالمقابلة. وقال أبو البقاء: " والمعنى على هذا: إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم، أي: كرهتم مخالفتَنا إياكم، وهذا كقولك للرجل: ما كرهتَ مني إلا أني مُحَبِّبٌ للناس وأنك مُبْغَضٌ " وإن كان لا يعترف بأنه مُبْغَض.
وقال ابن عطية: وأنَّ أكثركم فاسقون / هو عند اكثر المتأوِّلين معطوفٌ على قوله: { أَنْ آمَنَّا } فيدخُل كونُهم فاسقين فيما نَقَموه، وهذا لا يتِّجِهُ معناه " ثم قال بعد كلام: " وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة: هل تَنْقِمون منا إلا مجموعَ هذه الحال من أنَّا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } مِمَّا قَرَّره المخاطب لهم، وهذا كما تقولُ لِمَنْ يخاصِمُ: " هل تَنْقِم عليَّ إلا أن صدقتُ أنا وكَذَبْتَ أنت " وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب ولا يَنْقِم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تَنْقِم إلا مجموعَ هذه الحال " وهذا هو مجموعُ ما أجاب به الزمخشري والواحدي.

الوجه الثاني من أوجه النصب: أن يكونَ معطوفاً على " أن آمنَّا " أيضاً، ولكنْ في الكلامِ مضافٌ محذوفٌ لصحةِ المعنى، تقديرُه: " واعتقادَ أن أكثركم فاسقون " وهو معنى واضح
، فإنَّ الكفار يِنقِمون اعتقاد المؤمنين انهم فاسقون،

الثالث: أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر تقديرُه: هل تنقمون منا إلا إيمانا، ولا تنقمون فِسْقَ أكثركم.

الرابع: أنه منصوبٌ على المعية، وتكونُ الواوُ بمعنى " مع " تقديرُه: وما تَنْقِمون منا إلا الإِيمانَ مع أن أكثرَكم فاسقون. ذَكَر جميعَ هذه الأوجه أبو القاسم الزمخشري.

والخامس: أنه منصوبٌ عطفاً على " أنْ آمنَّا " و " أن آمنَّا " مفعولٌ من أجله فهو منصوب، فعَطَفَ هذا عليه، والأصلُ: " هل تَنْقِمون إلا لأجْلِ إيماننا، ولأجل أنَّ أكثرَهم فاسقون " ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر من " أن آمنَّا " بقي منصوباً على أحدِ الوجهين المشهورين، إلا أنه يقال هنا: النصبُ ممتنعٌ من حيث إنه فُقِد شرطٌ من المفعول له، وهو اتحاد الفاعلِ، والفاعلُ هنا مختلفٌ، فإنّ فاعل الانتقام غير فاعل الإِيمان، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ " أن آمنَّا " جراً ليس إلا، بعد حذفِ حرفِ الجر، ولا يَجْري فيه الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محلِّ " أنْ " إذا حُذِف منها حرفُ الجر، لعدمِ اتحاد الفاعل. وأُجيب عن ذلك بأنَّا وإن اشترطنا اتحادَ الفاعلِ فإنَّا نجوِّزُ اعتقادَ النصبِ في " أَنْ " و " أَنَّ " إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حَذْفِ حرفِ الجر لا لكونِهما مفعولاً من أجله، بل من حيث اختصاصُهما من يحث هما بجواز حذف حرف الجر لطولِهما بالصلةِ، وفي هذه المسألةِ بخصوصِها خلافٌ مذكور في بابِه، ويدلُّ على ذلك ما نقلَه الواحدي عن صاحبِ " النظم " فإن صاحب " النظم " ذَكَر عن الزجاج معنًى، وهو: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَكم، أي: إنما كرهتم إيمانَنا وأنتم تعلمون أنَّا على حقٍّ لأنكم فسقتم بأنْ أقمتم على دينِكم، وهذا معنى قولِ الحسن، فعلى هذا يجب أن يكونَ موضعُ " أَنَّ " في قوله: { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ } نصباً بإضمار اللام على تأويل " ولأنَّ أكثرَكم " والواوُ زائدةٌ، فقد صَرَّح صاحبُ " النظم " بما ذكرته.

الوجه السادس: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول من أجله لتنقِمون، والواوُ زائدةٌ كما تقدَّم تقريرُه. وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير ليُفْهَم معناه، قال الشيخ بعد ذِكْرِ ما نَقَلْتُه من الأوجه المتقدمةِ عن الزمخشري: " ويظهرُ وجهٌ ثامن ولعله يكون الأرجحَ، وذلك، أن " نَقَم " أصلُه أن يتعدَّى بـ " على " تقول: " نَقَمت عليه " ثم تبني منه افْتَعَل إذ ذاك بـ " من " ويُضَمَّن معنى الإِصابة بالمكروه، قال تعالى:
{ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ }
[المائدة: 95]، ومناسَبَ التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخصٍ فِعْلَه فهو كارهٌ له، ومصيبُه عليه بالمكروه، فجاءت هنا فَعَل بمعنى افْتَعَل كقَدَرَ واقتدر، ولذلك عُدِّيت بـ " مِنْ " دون " على " التي أصلُها أن تتعدَّى بها، فصار المعنى: وما تنالون منا وما تصيبوننا بما نَكْرَهُ إلا أن آمنا، أي: إلاَّ لأنْ آمنَّا " فيكون " ان آمنَّا " مفعولاً من أجله، ويكون " وأنَّ أكثركم فاسقون " معطوفاً على هذه العلة، وهذا - والله أعلم - سببُ تعديتِه بـ " مِنْ " دون " على " انتهى ما قاله، ولم يُصَرِّحْ بكونِه حينئذ في محلِّ نصبٍ أو جر، إلاَّ أنَّ ظاهر حالِه أن يُعْتَقَد كونُه في محلِّ جرِّ، فإنه إنما ذُكِر أوجه الجر.

وأمَّا الجرُّ فمن ثلاثةِ أوجهٍ،

أحدُها: أنه عطفٌ على المؤمَنِ به، قال الزمخشري: " أي: وما تَنْقِمون منا إلا الإِيمانَ بالله وبما أُنْزِل، وبأن أكثركم فاسقون " وهذا معنى واضح، قال ابن عطية: " وهذا مستقيمُ المعنى
، لأنَّ إيمانَ المؤمنين بأنَّ أهلَ الكتابِ المستمرين على الكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فَسَقه هو مما ينقمونه "

الثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على علةٍ محذوفةٍ تقديرها: ما تَنْقِمون منا إلا الإِيمان لقلة إنصافِكم وفسقِكم وإتباعِكم شهواتِكم، ويدلُّ عليه تفسيرُ الحسن البصري " بقسقِكم نَقَمتم علينا " ويُروى " لفسقهم نَقَموا علينا الإِيمان "

الثالث: أنه في محلِّ جرِّ عطفاً على محل " أنْ آمنَّا " إذا جعلناه مفعولاً من أجله، واعتقَدْنا أنَّ " أنَّ " في محل جر بعد حذف الحرف، وقد تقدَّم ما في ذلك في الوجه الخامس، فقد تحصَّل في قولِه تعالى: { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } أحدَ عشرَ وجهاً، وجهان في حال الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر: هل يٌقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً، وقد تقدَّم ما فيه، وستةُ أوجه في النصب، وثلاثةٌ في الجر.

وأمَّا قراءةُ ابن ميسرة فوجهها أنها على الاستئنافِ، أخبر أنَّ أكثرَهم فاسقون، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفِها على معمول القول، أمرَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لهم: هل تنقِمون إلى آخره، وأن يقول لهم: إنَّ أكثركم فاسقون، وهي قراءة جَلِيَّةٌ واضحة.
 
الجوهرة التاسعة


{ قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ }

قال القرطبي فى تفسيره:

قوله تعالى: { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } قرأ أبو عمرو «إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ». ورويت عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة؛ وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النَّخَعيّ وغيرهم من التابعين؛ ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري؛ فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف.

وقرأ الزهريّ والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه «إِنْ هَذَانِ» بتخفيف «إن» «لساحران» وابن كثير يشدّد نون «هذانّ». وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران.

وقرأ المدنيون والكوفيون «إنَّ هَذَانِ» بتشديد «إنّ» «لساحران» فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب. قال النحاس: فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «إِنْ هذانِ إِلاّ ساحِرَانِ» وقال الكسائي في قراءة عبد الله: «إِنْ هَذَانِ سَاحِرَانِ» بغير لام؛ وقال الفراء في حرف أبيّ «إِنْ ذَانِ إِلاَّ سَاحِرَانِ» فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف.

قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الردّ له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض. وقد خطأهم قوم حتى قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله تعالى أن أقرأ «إِنَّ هَذَانِ»: وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى:
{ لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ }
[النساء: 162] ثم قال: «والمقِيمِين» وفي «المائدة»
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ والصَّابِئُونَ }
[البقرة: 62] و«إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ» فقالت: يا ابن أختيٰ هذا خطأ من الكاتب. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم. وقال أبان بن عثمان: قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان، فقال: لحن وخطأ؛ فقال له قائل: ألا تغيِّروه؟ فقال: دَعُوه فإنه لا يحرّم حلالاً ولا يحلّل حراماً.

القول الأول من الأقوال الستة أَنها لغة بني الحرث بن كعب وزَبيد وخَثْعم وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف؛ يقولون: جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، ومنه قوله تعالى:

{ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ }
[يونس: 16] على ما تقدّم. وأنشد الفراء لرجل من بني أسد ـ قال: وما رأيت أفصح منه:
فأَطرقَ إطراقَ الشُّجاعِ ولو يَرَى مَساغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا
ويقولون: كسرت يداه وركبت عَلاَه؛ بمعنى يديه وعليه؛ قال شاعرهم:
تَزوَّدَ مِنّا بين أُذْنَاه ضَرْبَةً دعته إلى هابِي التُّرابِ عَقِيم
وقال آخر:
طَارُوا عَلاَهُنَّ فَطِرْ عَلاَهَا
أي عليهنّ وعليها وقال آخر:
إنّ أَبَاهَا وأَبَا أباهَا قد بَلَغَا في المجدِ غايتاها
أي إن أبا أبيها وغايتيها. قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى بعلمه وأمانته؛ منهم أبو زيد الأنصاري، وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدّثني من أثق به فإنما يعنيني؛ وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحارث بن كعب. وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة. المهدوي: وحكى غيره أنها لغة لخثعم. قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه: واعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مدّ ولين وهو حرف الإعراب؛ قال أبو جعفر فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أن الأصل ألا يتغير، فيكون «إِنَّ هَذَانِ» جاء على أصله ليعلم ذلك، وقد قال تعالى:
{ ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ }
[المجادلة: 19] ولم يقل استحاذ؛ فجاء هذا ليدل على الأصل، وكذلك { إِنْ هَـٰذَانِ } ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذْ كان الأئمة قد رووها.

القول الثاني: أن يكون «إنّ» بمعنى نعم؛ كما حكى الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي بـ«ـإنّ» بمعنى نعم، وحكى سيبويه أن «إنّ» تأتي بمعنى أَجَلْ، وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد، وإسماعيل بن إسحاق القاضي يذهبان؛ قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق الزجاج وعلي بن سليمان يذهبان إليه. الزمخشري: وقد أعجب به أبو إسحاق. النحاس: وحدّثنا عليّ بن سليمان، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن عبد السلام النيسابوريّ، ثم لقيت عبد الله بن أحمد (هذا) فحدّثني، قال: حدّثني عمير بن المتوكل، قال: حدّثنا محمد بن موسى النوفلي من ولد حارث بن عبد المطلب، قال: حدّثنا عمرو بن جميع الكوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ ـ وهو ابن الحسين ـ عن أبيه عن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، قال: لا أحصي كم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره: " إنَّ الحمدُ لله نحمده ونستعينه " ثم يقول: " أنا أفصح قريش كلها وأفصحها بعدي أبان بن سعيد بن العاص "

قال أبو محمد الخفاف قال عمير: إعرابه عند أهل العربية والنحو «إنَّ الحمد لله» بالنصب إلا أن العرب تجعل «إن» في معنى نعم، كأنه أراد صلى الله عليه وسلم نعم الحمد لله؛ وذلك أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بنعم. وقال الشاعر في معنى نعم:
قالوا غَدَرْتَ فقلتُ إنّ وربَّمَا نَالَ العُلاَ وشَفَى الغَليلَ الغادِرُ
وقال عبد الله بن قيس الرُّقيات:
بَكَرَ العواذلُ في الصَّبا حِ يَلُمْنَني وأَلُومُهُنَّهْ
ويَقلْنَ شيبٌ قد عَلاَ كَ وقد كَبِرتَ فقلتُ إنَّهْ
فعلى هذا جائز أن يكون قول الله عز وجل: «إِنَّ هَذَانَ لَسَاحِرَانِ» بمعنى نعم ولا تنصب. قال النحاس: أنشدني داود بن الهيثم، قال أنشدني ثعلب:
ليت شعري هل للمحبِّ شفاء من جَوَى حبّهن إنَّ اللقاءُ
قال النحاس: وهذا قول حسن إلا أن فيه شيئاً لأنه إنما يقال: نعم زيد خارج، ولا تكاد تقع اللام هاهنا، وإن كان النحويون قد تكلموا في ذلك فقالوا: اللام ينوى بها التقديم؛ كما قال:
خالِي لأنتَ ومَنْ جريرٌ خالُه يَنلِ العَلاَء ويُكْرِم الأَخوالاَ
قال آخر:
أُمُّ الْحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ تَرْضَى من الشَّاةِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ
أي لخالي ولأمّ الحليس؛ وقال الزجاج: والمعنى في الآية إن هذان لهما ساحران ثم حذف المبتدأ. المهدوي: وأنكره أبو عليّ وأبو الفتح بن جنيّ. قال أبو الفتح: «هما» المحذوف لم يحذف إلا بعد أن عُرِف، وإذا كان معروفاً فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام، ويقبح أن تحذف المؤكَّد وتترك المؤكِّد.

القول الثالث قاله الفراء أيضاً: وجدت الألف دعامة ليست بلام الفعل، فزدت عليها نوناً ولم أغيرها، كما قلت: «الذي» ثم زدت عليه نوناً فقلت: جاءني الذين عندك، ورأيت الذين عندك، ومررت بالذين عندك.

القول الرابع قاله بعض الكوفيين؛ قال: الألف في «هذان» مشبهة بالألف في يفعلان؛ فلم تغير.

القول الخامس: قال أبو إسحاق: النحويون القدماء يقولون الهاء هاهنا مضمرة، والمعنى: إنه هذان لساحران؛ قال ابن الأنباري: فأضمرت الهاء التي هي منصوب «إن» و«هذان» خبر «إن» و«ساحران» يرفعها «هما» المضمر (والتقدير) إنه هذان لهما ساحران. والأشبه عند أصحاب أهل هذا الجواب أن الهاء اسم «إن» و«هذان» رفع بالابتداء وما بعده خبر الابتداء.

القول السادس: قال أبو جعفر النحاس وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي؛ فقلت: بقولك؛ فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال «هذا» في موضع الرفع والنصب والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد، أجريت التثنية مجرى الواحد؛ فقال: ما أحسن هذا لو تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنس به؛ قال ابن كيسان: فقلت له: فيقول القاضي به حتى يؤنس به؛ فتبسم.
 
الجوهرة العاشرة

{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوۤاْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله تعالى: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ }: قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم " يَحْسَبَنَّ " بياء الغيبة هنا، وفي النور في قوله " لا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا معجزين [في الأرض] " كذلك خلا حَفْصاً. والباقون بتاء الخطاب.

وفي قراءة الغَيْبةِ تخريجاتٌ كثيرة سَبَقَ نظائرُها في أواخر آل عمران. ولا بد مِنْ ذكر ما ينبِّهك هنا على ما تقدَّم فمنها: أن الفعلَ مسندٌ إلى ضميرٍ يُفَسِّره السياق تقديره: ولا يَحْسَبَنَّ هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب، أو يكون الضمير عائداً على مَنْ خلفهم. وعلى هذه الأقوالِ فيجوزُ أن يكون " الذين كفروا " مفعولاً أولَ، و " سبقوا " جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً.

وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى " الذين كفروا " ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين: فقال قوم: الأولُ محذوفٌ تقديره: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا سبقوا، فـ " هم " مفعول أول، و " سَبَقوا " في محلِّ الثاني، أو يكون التقدير: لا يَحْسَبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سَبَقوا، وهو في المعنى كالذي قبله. وقال قومٌ: بل " أن " الموصولة محذوفة، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا، فحذفت " أن " الموصولة وبقيت صلتها كقوله
{ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ }
[الروم: 24]، أي: أن يريكم وقولهم: " تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه " وقوله:
2434ـ ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ................
ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُ عبد الله " أنهم سبقوا ". وقال قوم: " بل " سبقوا " في محلِّ نصبٍ على الحال، والسادُّ مَسَدَّ المفعولين " أنهم لا يعجزون " في قراءة مَنْ قرأ بفتح " أنهم " وهو ابن عامر، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا سابقين أنهم لا يعجزون، وتكون " لا " مزيدةً ليصح المعنى ".

قال الزمخشري بعد ذِكْره هذه الأوجهَ: " وليست هذه القراءةُ التي تَفَرَّد بها حمزةُ بنيِّرة ". وقد رَدَّ عليه جماعةٌ هذا القولَ وقالوا: لم ينفرد بها حمزةُ بل وافقه عليها مِنْ قُرَّاء السبعةِ ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهم إسناداً، وعاصمٌ في رواية حفص، ثم هي قراءةُ أبي جعفر المدني شيخِ نافع وأبي عبد الرحمن السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى. وقد رَدَّ الشيخ عليه أيضاً أنَّ " لا يحسبَنَّ " واقع على " أنهم لا يُعْجِزون " وتكونُ " لا " صلة بأنه لا يتأتَّى على قراءة حمزة، فإنَّ حمزة يقرأ بكسر الهمزة يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج؟ قلت: هو لم يلتزم التخريج على قراءةِ حمزة في الموضعين: أعني " لا يَحْسَبَنَّ " وقولهم " أنهم لا يعجزون " حتى نُلْزِمه ما ذكر.

وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ أي: لا تَحْسبَنَّ يا محمدُ أو يا سامعُ، و " الذين كفروا " مفعولٌ أولُ، والثاني " سبقوا " ، وكان قد تقدَّم في آل عمران وجهٌ: أنه يجوز أن يكون الفاعلُ الموصولَ، وإنما أتى بتاءِ التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله:
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ }
[الشعراء: 105]، وتقدَّمَ لك فيه بحثٌ وهو عائدٌ ههنا.

وأمَّا قراءةُ الباقين في النور ففيها ما ذُكِر ههنا إلا الوجهَ الذي فيه تقديرُ " أنْ " الموصولة لتعذُّرِ ذلك، ولكن يَخْلُفُه وجهٌ آخر لا يتأتى ههنا: وهو أن يكون " الذين كفروا " فاعلاً، و " مُعْجزين " مفعول أول و " في الأرض " الثاني. أي: لا تَحْسَبوا أحداً يعجز الله في الأرض أي بقوته. وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ على ما قدَّمته لك.

وقرأ الأعمش: " ولا يَحْسَبَ الذين كفروا " بفتح الباء. وتخريجها أن الفعلَ مؤكَّد بنون التوكيد الخفيفة، فَحَذَفَها لالتقاء الساكنين، كما يُحْذَفُ له التنوين فهو كقول الآخر:
2435ـ لا تُهينَ الفقير عَلَّكَ أَنْ تَرْ كَعَ يوماً والدهرُ قد رفعهْ
أي: لا تهينَنَّ. ونقل بعضهم: " ولا تحسَبِ الذين " من غير توكيدٍ البتة. وهذه القراءةُ بكسرِ الباء على أصل التقاء الساكنين.

قولهم: { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر.

فالفتح: إمَّا على حَذْفِ لام العلة، أي: لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر. ووجهُ الاستبعادِ أنها تعليل للنهي أي: لا تَحْسَبَنَّهم فائتين لأنهم لا يُعْجزون، أي: لا يقع منك حسبانٌ لقولهم لأنهم لا يُعْجزون، وإمَّا على أنها بدلٌ من مفعول الحسبان.

وقال أبو البقاء: " إنه متعلقٌ بتحسب:/ إمَّا مفعولٌ أو بدلٌ من " سَبَقوا " ، وعلى كلا الوجهين تكون " لا " زائدةً. وهو ضعيفٌ لوجهين: أحدهما: زيادة لا، والثاني: أن مفعول " حَسِب " إذا كان جملةً وكان مفعولاً ثانياً كانت " إنَّ " فيه مكسورة لأنه موضعُ ابتداء وخبر ".

وقال الرازى فى تفسيره:

أكثر القراء على كسر { ءانٍ } في قوله: { إِنَّهُمْ لا } وهو الوجه لأنه ابتداء كلام غير متصل بالأول كقوله: { ٱلْكَـٰذِبِينَ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا } وتم الكلام ثم قال: { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } فكما أن قوله: { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } منقطع من الجملة التي قبلها، كذلك قوله: { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } وقرأ ابن عامر { أَنَّهُمْ } بفتح الألف، وجعله متعلقاً بالجملة الأولى، وفيه وجهان: الأول: التقدير لا تحسبنهم سبقوا، لأنهم لا يفوتون فهم يجزون على كفرهم.

الثاني: قال أبو عبيد: يجعل { لا } صلة، والتقدير: لا تحسبن أنهم يعجزون.

وقال القرطبي فى تفسيره:

وقرأ ابن عامر «أَنَّهم لا يُعجزون» بفتح الهمزة. واستبعد هذه القراءةَ أبو حاتم وأبو عُبيد. قال أبو عبيد: وإنما يجوز على أن يكون المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون. قال النحاس: الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين، لا يجوز حسبت زيداً أنه خارج، إلا بكسر الألف، وإنما لم يجز لأنه في موضع المبتدأ؛ كما تقول: حسبت زيداً أبوه خارج، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيداً خروجَه. وهذا محال، وفيه أيضاً من البعد أنه لا وجه لما قاله يصحّ به معنًى؛ إلا أن يجعل «لا» زائدة، ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله عز وجل إلى التطوّل بغير حجة يجب التسليم لها. والقراءة جيدة على أن يكون المعنى: لأنهم لا يعجزون. مَكِّيٌّ: فالمعنى لا يحسبن الكفار أنفسهم فاتوا لأنهم لا يعجزون، أي لا يفوتون. فـ «أنّ» في موضع نصب بحذف اللام، أو في موضع خفض على إعمال اللام لكثرة حذفها مع «أنّ»، وهو يُروَى عن الخليل والكسائِيّ. وقرأ الباقون بكسر «إن» على الاستئناف والقطع مما قبله، وهو الاختيار؛ لما فيه من معنى التأكيد، ولأن الجماعة عليه
 
الجوهرة الحادية عشر

{ وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:


قوله: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } اعلم أنَّ في هذه الآية كلاماً كثيراً لا بد من إيرادِهِ عن قائليهِ ليتضحَ ذلك، فأقولُ وباللهِ العون: اختلفَ الناس في هذه الآيةِ على [وجوهٍ:]

أحدُها: أنْ يكونَ { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } متعلِّقاً بقوله: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } على حذف حرفِ الجر، والأصلُ: " ولاتؤمنوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لِمَنْ تَبعَ دينَكم " فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجَرِّ جرى الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محل " أَنْ " ، ويكونُ قولُهُ: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } جملةً اعتراضيةً، قال الزمخشري في تقريرِ هذا الوجهِ وبه بدأ: " ولا تُؤْمِنُوا متعلِّقٌ بقولِهِ: " أَنْ يُؤْتَى أحد " ، وما بينهما اعتراضٌ أي: " ولا تُظْهِرُوا إيمانكم بأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دونَ غيرِهم، أرادوا: أسِرُّوا تصديقَكم بأنَّ المسلمين قد أُوتوا مثلَ ما أوتيتم ولا تُفْشُوه إلا لأشياعِكم وحدَهم دونَ المسلمين، لئلا يَزيدَهم ثباتاً، ودونَ المشركين لئلا يَدْعُوهم إلى الإِسلام، أو يُحاجُّوكم عطفٌ على " أَنْ يُؤْتَى ".

والضميرُ في " يُحاجُّوكم " لأحد لأنه في معنى الجميع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم، فإن المسلمين يُحاجُّوكم عند ربكم بالحق، ويغالِبونُكم عند الله. فإنْ قلت: ما معنى الاعتراض؟ قلت: معناه أن الهدى هدى الله، مَنْ شاءَ أَنْ يلطف به حتى يُسْلِمَ أو يَزيدَ ثباتاً كان ذلك، ولم ينفع كَيْدُكم وحِيَلُكُم وزيُّكُم تصديقكم عن المسلمين والكافرين، وكذلك قوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } يريد الهدايةَ والتوفيق ". قلت: هذا كلامٌ حسن لولا ما يريد بباطنه، وعلى هذا يكونُ قولُه { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } مستثنًى من شيءٍ محذوف، تقديره: ولا تُؤمِنُوا بأَنْ يُؤْتَى أحد مثلَ ما أوتيتم لأحدٍ من الناسِ إلا لأشياعكم دونَ غيرهم، وتكونَ هذه الجملةُ ـ أعني قولَه: ولا تُؤْمِنُوا إلى آخرها، من كلامِ الطائفةِ المتقدِّمة، أي: وقالَتْ طائفةٌ كذا، وقالَتْ أيضاً: ولا تُؤمِنُوا، وتكونُ الجملةُ من قولِهِ: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } مِنْ كلام اللهِ لا غير.

الثاني: أنَّ اللامَ زائدةٌ في " لِمَنْ تَبعَ " وهو مستثنى من أحد المتأخر، والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم، فَمَنْ تَبعَ منصوبٌ على الاستثناء من " أحد " ، وعلى هذا الوجه جَوَّز أبو البقاء في محل " أن يؤتى " ثلاثة أوجهٍ: الأول والثاني مذهبُ الخليل وسيبويه وقد تقدَّما. الثالث: النصبُ على المفعولِ مِنْ أجله تقديرُهُ: مخافَةَ أَنْ يُؤْتَى.

وهذا الوجهُ الثاني لا يَصِحُّ من جهةِ المعنى ولا مِنْ جهةِ الصناعة: أمَّا المعنى فواضحٌ، وأَمَّا الصناعةُ فلأن فيه تقديمَ المستثنى على المستثنى منه وعلى عامله، وفيه أيضاً تقديمُ ما في صلةِ " أَنْ " عليها، وهو غيرُ جائز.

الثالث: أَنْ يكونَ " أَنْ يُؤْتَى " مجروراً بحرفِ العلة وهو اللام، والمُعَلَّلُ محذوفٌ تقديرُه: لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه، لا لشيء آخرَ، وعلى هذا يكونُ كلامُ الطائفةِ قد تَمَّ عند قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ، ولنوضَّحْ هذا الوجه بما قاله الزمخشري. قال رحمه الله: " أو تمَّ الكلامُ عند قوله: { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ، على معنى: ولا تُؤمِنُوا هذا الإِيمانَ الظاهرَ وهو إيمانهم وجهَ النهار إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم، إلا لِمَنْ كانوا تابِعين لديِنكم مِمَّنْ أسلموا منكم، لأنَّ رجوعَهم كانَ أَرْجَى عندهم مِنْ رُجُوعِ مَنْ سِواهم، ولأنَّ إسلامَهم كان أغيظَ لهم، وقوله: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } معناه: لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرْتموه لا لشيء آخر، يَعْني أن ما بكم من الحسد والبغي أَنْ يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم، والدليلُ عليه قراءة ابن كثير: " أَأَن يُؤْتَى أحد " بزيادةِ همزةِ الاستفهام للتقرير والتوبيخ بمعنى: ألأنْ يُؤْتَى أحدٌ؟ فإن قلت: فما معنى قوله " أو يُحاجُّوكم " على هذا؟ قلت: معناه دَبَّرْتُم ما دَبَّرْتُم لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلُ ما أُوتيتم ولِمَا يتصلُ به عند كُفْرِكُم به مِنْ مُحَاجَّتِهم لكم عند رَبِّكم ".

الرابع: أن ينتصِبَ " أَنْ يُؤْتَى بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } كأنه قِيل: قل إنَّ الهدى هُدى الله فلا تُنْكروا أَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم، فلا تُنْكِرُوا ناصبٌ لأنْ وما في حَيِّزها، لأنَّ قولَه { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إنكار لأن يُؤْتَى أحد مثلَ ما أُوتوا. قال الشيخ: " وهذا بعيدٌ لأنَّ فيه حذفَ حرفِ النهي وحَذْفَ معمولِهِ، ولم يُحْفَظْ ذلك من لسانِهم " قلت: متى دَلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أيِّ حالةٍ كان.

الخامس: أَنْ يكونَ " هدى الله " بدلاً من " الهدى " الذي هو اسمُ إنَّ، ويكون خبرُ إنَّ: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } ، والتقديرُ: قل إنَّ هدى الله أَنْ يُؤْتى أحدٌ، أي: إنَّ هدَى اللهِ إيتاءُ أحدٍ مثلَ ما أوتيتم، وتكونَ " أو " بمعنى " حتى " ، والمعنى: حتى يُحاجُّوكم عند ربكم فيغلبوكم ويَدْحَضُوا حُجَّتكم عند الله، ولا يكون " أَوْ يُحاجُّوكم " معطوفاً على أَنْ يُؤتى وداخلاً في حَيِّزِ أَنْ.

السادس: أَنْ يكونَ " أَنْ يُؤْتَى " بَدَلاً مِنْ هدى الله، ويكون المعنى: قل إنَّ الهدى هدى الله وهو أَنْ يُؤْتَى أحدٌ كالذي جاءنا نحن، ويكونُ قولُه: " أو/ يُحاجُّوكم " بمعنى أو فليحاجوكم فإنهم يَغْلبونكم، قاله ابن عطية، وفيه نظرٌ، لأنه يُؤَدِّي إلى حَذْفِ حرفِ النهيِ وإبقاءِ عملِهِ.

السابع: أَنْ تكونَ " لا " النافيةُ مقدرةً قبل " أَنْ يؤتى " فَحُذِفَتْ لدلالةِ الكلام عليها وتكونُ " أو " بمعنى إلاَّ أَنْ، والتقديرُ: ولا تؤمنوا لأحدٍ بشيء إلاَّ لِمَنْ تَبع دينكم بانتفاءِ أن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم، وجاء بمثله وعاضداً له، فإنَّ ذلك لا يُؤْتاه غيرُكم إلاَّ أنْ يُحاجُّوكم كقولِك: لألْزَمنَّك أو تقضيَني حقي، وفيه ضعفٌ من حيث حَذْفُ " لا " النافية، وما ذكروه من دلالةِ الكلامِ عليها غيرُ ظاهرٍ.

الثامن: أَنْ يكونَ " أَنْ يُؤْتى " مفعولاً من أجله، وتحريرُ هذا القولِ أَنْ تجعلَ قولَه: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } ليس داخلاً تحتَ قولِه " قل " بل هو من تمامِ قول الطائفةِ متصلٌ بقولِه: ولا تُؤمِنُوا إلا لِمَنْ جاءَ بمثلِ دينِكم مخافَةَ أَنْ يُؤْتى أحدٌ من النبوةِ والكرامة مثلَ ما أوتيتم، ومخافَةَ أَنْ يُحاجُّوكُم بتصديقِكُم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه. وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكفرهم مع معرفتهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولَمَّا قَدَّر المبرد المفعولَ من أجله هنا قَدَّر المضاف: كراهَة أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أي: مِمَّن خالَفَ دينَ الإِسلام، لأن الله لا يَهْدِي مَنْ هو كاذب وكَفَّار، فهُدى الله بعيدٌ مِنْ غيرِ المؤمنين، والخطابُ في " أوتيتم " و " يُحاجُّوكم " لأمةِ النبي صلى الله عليه وسلم.

واستضعف بعضُهم هذا وقال: كونُ مفعولاً من أجله على تقدير: " كراهةَ " يَحْتاج إلى تقديرِ عاملٍ فيه ويَصْعُبُ بتقديرُهُ، إذ قبلَه جملةٌ لا يظهرُ تعليلُ النسبةِ فيها بكراهةِ الإِيتاء المذكور.

التاسع: أنَّ " أَنْ " المفتوحَةَ تأتي للنفي كما تأتي " لا " نَقَل ذلك بعضُهم نصاً عن الفراء، وجَعَل " أو " بمعنى إلا، والتقدير: لا يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكُم، فإنَّ إيتاءَه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو مُحاجَّتِكُم عند ربكم، لأنَّ مَنْ آتاه اللهُ الوحيَ لا بد أن يُحاجَّهم عند ربهم في كونِهم لا يتَّبعونه، فقوله: " أو يُحاجُّوكم " حالٌ لازمةٌ مِنْ جهةِ المعنى، إذ لا يُوحي الله لرسولٍ إلا وهو مُحاجٌّ مخالفِيه. وهذا قولٌ ساقط إذ لم يثبت ذلك من لسانِ العرب.

واختلفوا في الجملةِ مِنْ قولِهِ: " ولا تُؤْمِنُوا " هل هي مِنْ مقولِ الطائفة أم من مقول الله تعالى، على معنى أن الله تعالى خاطب به المؤمنين تثبيتاً لقلوبِهم وتسكيناً لجَأْشهم؛ لئلا يَشُكُّوا عند تَلَبُّس اليهود عليهم وتزويرهم؟ وقد نَقَلَ ابنُ عطية الإِجماعَ من أهلِ التأويل على أنه من مقول الطائفة، وليس بسديدٍ لما نَقَلَهُ الناسُ من الخلاف.
 
الجوهرة الثانية عشر

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله: { أَن تَضِلَّ } قرأ حمزةُ بكسر " إنْ " على أنَّها شرطيةٌ، والباقون بفتحِها، على أنَّها المصدريةُ الناصبةٌ،

فأمَّا القراءةُ الأولى فجوابُ الشرطِ فيها قولُه " فتذكِّرُ " ، وذلك أنَّ حمزةَ رحمه الله يقرأ: " فَتُذَكِّرُ " بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ فَصَحَّ أن تكونَ الفاءُ وما في حَيِّزها جواباً للشرطِ، ورَفَعَ الفعلَ لأنه على إضمارِ مبتدأ أي: فهي تُذِكِّر، وعلى هذه القراءةِ فجملةُ الشرطِ والجزاءِ هل لها محلُّ من الإِعراب أم لا؟ فقال ابن عطيةَ: " إنَّ محلَّها الرفعُ صفةً لامرأتين " ، وكان قد تقدَّم أنَّ قولَه: " مِمَّنْ تَرْضَوْن " صفةٌ لقولِه " فرجلٌ وامرأتان " قال الشيخ: " فصار نظيرَ " جاءني رجلٌ وامرأتان عقلاءُ حُبْلَيَان " وفي جوازِ مثلِ هذا التركيبِ نظرٌ، بل الذي تقتضيه الأقيسةُ تقديمُ " حُبْلَيَان " على " عقلاء "؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ " ممَّنْ تَرْضَوْن " بدلٌ من رجالكم، أو متعلِّقٌ باستشهدوا فيتعذَّرُ جَعْلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصلِ بين الصفةِ والموصوف بأجنبي ". قلت: وابن عطية لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ، بل سَبَقَه إليه الواحدي فإنه قال: " وموضعُ الشرطِ وجوابُه رفعٌ بكونِهما وصفاً للمذكورين وهما " امرأتان " في قوله: " فرجلٌ وامرأتان " لأنَّ الشرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما، كما يُوصَلُ بهما في قولِه
{ ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ }
[الحجر: 41].

والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحكمِ، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأن قائلاً قال: ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيبَ بهذه الجملةِ.

وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فـ " أَنْ " فيها مصدريةٌ ناصبةٌ بعدَها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافِها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغامِ في الثانية، والثانيةُ مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ، فَحرَّكْنا الثانيةَ بالفتحةِ هرباً من التقائِهما، وكانتِ الحركةُ فتحةً، لأنها أَخَفُّ الحركاتِ، وأَنْ وما في حَيَّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعدَ حذفٍ حرفِ الجر، وهي لامُ العلة، والتقديرُ: لأنْ تَضِلَّ، أو إرادةَ أَنْ تَضِلَّ.

وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه،

أحدُها: أنه فِعْلٌ مضمرٌ دَلَّ عليه الكلامُ السابق، إذ التقديرُ: فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين لأنْ تَضِلَّ إحداهما، ودَلَّ على هذا الفعلِ قولُه: { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } قالَه الواحدي، ولا حاجةَ إليه، لأنَّ الرافعَ لرجل وامرأتين مُغْنٍ عن تقدير شيءٍ آخرَ، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولِك: " فرجلٌ وامرأتان " إذ تقديرُ الأولِ: فَلْيَشْهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني: فرجلٌ وامرأتان يشهدون لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التقديرانِ هما الوجهُ الثاني والثالثُ من الثلاثةِ المذكورةِ.

وهنا سؤالٌ واضحٌ جَرَتْ عادةُ المُعْرِبين والمفسِّرين يسألونَه وهو: كيف جُعِل ضلالُ إحداهما علةً لتطلُّبِ الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حَسَبِ التقديرَيْن المذكورَيْن أولاً؟ وقد أجابَ سيبويه وغيرُه عن ذلك بأن الضلالَ لَمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسَبَّباً عنه، وهم يُنَزَّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسِهما واتصالِهما كانَتْ إرادةُ الضلالِ المُسَبَّبِ عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكارِ. فكأنه قيل: إرادَةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهما الأخرى إنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم: " أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائطُ فأدعمَه، وأعدْدتُ السلاحَ ان يجيءَ عدوٌ فأدفعَه " فليس إعدادُك الخشبةَ لأَنْ يميلَ الحائطُ ولا إعدادُك السلاحَ لأنْ يجيءَ عدوٌ، وإنما هما للإِدغام إذا مالَ/ وللدفع إذا جاء العدوُ، وهذا مِمَّا يعدُ إليه المعنى ويُهْجَرُ فيه جانبُ اللفظَ.

وقد ذهب الجرجاني في هذه الآيةِ إل أنَّ التقديرَ: مخافةَ أَنْ تَضِلَّ، وأنشد قول عمروٍ:
1125 ـ.................. فَعَجَّلْنا القِرى أَنْ تَشْتِمُونا
أي: مخافَةَ أَنْ تَشْتِمونا " وهذا صحيحٌ لو اقتُصِر عليه مِنْ غيرِ أَنْ يُعْطَفَ عليه قولُه " فَتُذَكِّرَ " لأنه كان التقديرُ: فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين مخافةَ أَنْ تضِلَّ إحداهما، ولكنَّ عَطْفَ قوله: " فتذكِّر " يُفْسِده، إذ يَصِيرُ التقديرُ: مخافةَ أَنْ تذكر إحداهما الأخرى، وإذكارُ إحداهما الأخرى ليس مخوفاً منه، بل هو المقصودُ، قال أبو جعفر: " سمعتُ عليَّ بن سليمان يَحْكي عن أبي العباس أن التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ " قال أبو جعفر: " وهو غلطٌ إذ يصيرُ المعنى: كراهةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهُما الأخرى " انتهى.

وذهب الفراء إلى أغربَ مِنْ هذا كلِّه فَزَعَمَ أَنَّ تقديرَ الآيةِ الكريمة: " كي تذكِّر أحداهما الأخرى إنْ ضَلَّت " فلَّما قُدِّم الجزاءُ اتصلَ بما قبلَه ففُتِحَتْ " أَنْ " ، قال: " ومثلُه من الكلامِ: " إنه ليعجبُني أَنْ يسألَ السائلُ فيُعْطى " معناه: إنه ليعجبني أَن يُعْطَى السائلُ إن سَأَلَ؛ لأنه إنما يُعْجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ، فلمَّا قَدَّموا السؤالَ على العَطِيَّة أصحبوه أَنْ المفتوحة لينكشِفَ المعنى " ، فعنده " أنْ " في " أَنْ تَضِلَّ " للجزاءِ، إلاَّ أنه قُدِّم وفُتِح وأصلُه التأخيرُ.

وأنكر هذا القولَ البصريُّون وَردُّوه أبلغ ردٍّ. قال الزجاج: " لَسْتُ أدري لمَ صار الجزاءُ [إذا تقدَّم] وهو في مكانِه وغيرِ مكانِه وَجَبَ أن يَفْتَحْ أن ". وقال الفارسي: " ما ذَكَرَه الفراء دعوى لا دلالةَ عليها والقياسُ يُفْسِدُها، ألا ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العاملَ إذا تغيَّرت حركتُه لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عَملِهِ ولا معناه، وذلك ما رواه أبو الحسن من فتحِ اللامِ الجارَّةِ مع المُظْهَرِ عن يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر، فكما أنَّ هذه اللامَ لَمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك " إنْ " الجزائيةُ ينبغي إذا فُتِحَتْ ألاَّ يتغيَّر عملها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديمِ ولا بالتأخيرِ، ألا ترى لقولِك: " مررتُ بزيدٍ " ثم تقول: " بزيد مررت " فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ
 
الجوهرة الثالثة عشر

{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله تعالى: { أَن صَدُّوكُمْ } قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر " إنْ " والباقون بفتحها، فمَنْ كسر فعلى أنها شرطية،

والفتح على أنها علة للشنآن أي: لا يكسبنَّكم ـ أولا يَحْمِلَنَّكم ـ بغضُكم لقوم لأجل صَدِّهم إياكم عن المسجد الحرام، وهي قراءةٌ واضحة.

وقد استشكل الناسُ قراءة الأبوين من حيث إنَّ الشرط يقتضي أنَّ الأمر المشروط لم يقع، والفرض أنَّ صَدَّهم عن البيت الحرام كان وقد وقع، ونزولُ هذه الآية متأخرٌ عنه بمدة، فإنَّ الصدَّ وقع عامَ الحديبية وهي سن ست، والآية نزلت سنة ثمان، وأيضاً فإنَّ مكةَ كانت عام الفتح في أيديهم فكيف يُصَدون عنها؟ قال ابن جريج والنحاس وغيرهما: " هذه القراءة منكرةٌ " واحتجوا بما تقدم من الإِشكال، ولا إشكالَ في ذلك. فالجواب عما قالوه من وجهين،

أحدهما: أنَّا لا نُسَلِّم أن الصدَّ كان قبل نزول الآية فإنَّ نزولها عام الفتح ليس مُجْمعاً عليه. وذكر اليزيدي أنها نزلت قبل الصدِّ فصار الصدُّ أمراً منتظراً،

والثاني: أنه وإنْ سَلَّمنا أن الصدَّ كان متقدماً على نزولها فيكون المعنى: إنْ وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع زمن الحديبية - أو يستديموا ذلك الصدَّ الذي وقع منهم - فلا يجرمنكم، قال مكي: " ومثلُه عند سيبويه قول الشاعر - وهو الفرزدق -:
1691- أتغضَبُ إنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّنا ....................
وذلك شيءٌ قد كان ووقع، وإنما معناه: إنْ وقع مثلُ ذلك الغضب، وجواب الشرِط ما قبله " يعني: وجوابُ الشرط دلَّ عليه ما قبلَه، لأن البصريين يمنعون تقديمَ الجوابِ إلا أبا زيد. وقال مكي أيضاً: " ونظيرُ ذلك أنَّ يقول رجل لامرأته " أنت طالق إنْ دخلت الدار " بكسر " إن " لم تَطْلُق عليه بدخولها الأول لأنه أمر يُنْتَظَر، ولو فتح لَطَلَقَتْ عليه، لأنه أمرٌ كان ووقع،

ففتحُ " أن " لما هو علة لما كان ووقع، وكَسْرُها إنما هو لأمرٍ يُنْتظر، والوجهان حَسَنان على معنييهما " وهذا الذي قاله مكي فَصَّل فيه الفقهاء بين مَنْ يعرف النحو وبين مَنْ لا يعرفه. ويؤد قراءَة الأبوين قراءة عبد الله بن مسعود: " إنْ يَصُدُّوكم " قال أبو عبيد: " حَدَّثنا حجاج عن هرون قال: قرأ ابن مسعود فذكرها، قال: وهذا لا يكونُ إلا على استئنافِ الصدِّ، يعني إنْ وقع صَدُّ آخرُ مثلُ ما تقدم عام الحديبية.
 
الجوهرة الرابعة عشر

{ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله " لِتَزُولَ " قرأ العامَّةُ بكسر اللام، والكسائيُّ بفتحِها

فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجه،

أحدُها: أنها نافيةٌ واللامُ لامُ الجحودِ؛ لأنها بعد كونٍ منفيّ،

وفي " كان " حينئذٍ قولان،

أحدُهما: أنها تامَّةٌ، والمعنى: تحقيرُ مَكْرِهم، أنه ما كان لتزولَ منه الشرائع التي كالجبالِ في ثبوتِها وقوتِها. ويؤيد كونَها نافيةً قراءةُ عبد الله: " وما كان مَكْرُهم ".

القول الثاني: أنها ناقصةٌ، وفي خبرِها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين: هل هو محذوفٌ واللامُ متعلقةٌ به، وإليه ذهب البصريون، أو هذه اللام وما جَرَّتْه، كما هو مذهبُ الكوفيين، وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران.

الوجه الثاني: أن تكونَ المخففةَ من الثقيلة. قال الزمخشري: " وإنْ عَظُمَ مكرُهم وتبالغَ في الشدَّةِ، فضرب زوالَ الجبالِ منه مثلاً لشدَّته، أي: وإنْ كان مَكْرُهم مُعَدَّاً لذلك ". وقال ابن عطية: " ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءةِ: تَعظيمَ مَكْرِهم، أي: وإن كان شديداً، إنما يفعل لتذهب به عظامُ الأمور " فمفهومُ هذين الكلامين أنها مخففةٌ لأنه إثباتٌ.

والثالث: أنها شرطيةٌ، وجوابُها محذوف، أي: وإنْ كان مكرُهم مُعَدَّاً لإِزالةِ أشباهِ الجبال الرواسي، وهي المعجزات والآيات، فالله مجازِيْهم بمكرٍ هو أعظمُ منه. وقد رُجَّح الوجهان الأخيران على الأول وهو أنها نافيةٌ؛ لأن فيه معارضةً لقراءة الكسائي، وذلك أن قراءَته تُؤْذِنُ بالإِثباتِ، وقراءةَ غيره تُؤْذن بالنفي.

وقد أجاب بعضُهم عن ذلك بأنَّ الحالَ في قراءة الكسائي مُشارٌ بها إلى أمورٍ عظام غيرِ الإِسلامِ ومُعجزاتِه كمكرهم صلاحيةَ إزالتها، وفي قراءةِ الجماعةِ مُشارُ بها إلى ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدين الحق، فلا تَعارُضَ، إذ لم يتواردا على معنى واحدٍ نفياً وإثباتاً.

وأمَّا قراءةُ الكسائي ففي " إنْ " وجهان: مذهبُ البصريين، أنها المخففةُ واللام فارقة، ومذهبُ الكوفيين: أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى " إلا " ، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين.

وقرأ عمرُ وعليٌّ وعبد الله وزيد بن علي وأبو سلمة وجماعة " وإن كاد مكرهم لَتزول " كقراءةِ الكسائي إلا أنهم جعلوا مكان نون " كان " دالاًّ فعلَ مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوالَ غيرُ واقعٍ.

وقال ابن عاشور فى التحرير:

وقرأ الجمهور { لتزول } ـــ بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها ـــ فتكون (إن) نافية ولام { لتزول } لام الجحود، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال. وفي هذا تعريض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي.

وقرأ الكسائي وحده ــــ بفتح اللام الأولى ــــ من { لَتزولُ } ورفع اللام الثانية على أن تكون { إنْ } مخففة من { إنْ } المؤكدة وقد أكمل إعمالها، واللام فارقة بينها وبين النافية، فيكون الكلام إثباتاً لزوال الجبال من مكرهم، أي هو مكر عظيم لَتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول، أي جديرة، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة. وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى:
{ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً }
[سورة مريم: 90].
 
الجوهرة الخامسة عشر

{ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله: { مَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ }: " ما " موصولةٌ أو موصوفةٌ. وفي " إنْ " ثلاثةُ أوجهٍ:

شرطية وجوابُها محذوفٌ. والجملةُ الشرطيةُ صلةُ ما والتقديرُ: في الذي إنْ مَكَّنَّاكم فيه طَغَيْتُم.

والثاني: أنها مزيدةٌ تشبيهاً للموصولةِ بـ " ما " النافيةِ والتوقيتيةِ. وهو كقوله:
4047 ـ يُرَجِّي المرءُ ما إنْ لا يَراهُ وتَعرِضُ دونَ أَدْناه الخُطوبُ

والثالث: - وهو الصحيحُ - أنها نافيةٌ بمعنى: مَكَّنَّاهم في الذي ما مكَّنَّاكم فيه من القوةِ والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق. ويدلُّ له قولُه تعالى في مواضعَ:
{ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً }
[الروم: 9] وأمثالِه. وإنما عَدَلَ عن لفظِ " ما " النافية إلى " إنْ " كراهيةً لاجتماعِ متماثلَيْن لفظاً. قال الزمخشري: " وقد أَغَثَّ أبو الطيبِ في قولِه:
4048 ـ لَعَمْرُك ما ما بان منك لِضاربٍ .......................
وما ضَرَّه لو اقتدى بعُذوبة لفظِ التنزيل فقال: " ما إنْ بانَ منك "
 
الجوهرة السادسة عشر

{ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ }

قال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله: { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ }: في " إنْ " هذه وجهان،

أحدهما: أنها نافيةٌ أي: ما كُنَّا فاعلين.

والثاني: أنها شرطيةٌ. وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ جوابِ " لو " عليه. والتقدير: إنْ كُنَّا فاعلينَ اتَّخَذْناه.
 
الجوهرة السابعة عشرة

{ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } * { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ }

قال القرطبي فى تفسيره:

قوله تعالى: { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِ } الوقف على { مِنْ دُونِ اللَّهِ } حسن؛ والمعنى: منعها من أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر فـ { ـما } في موضع رفع. النحاس: المعنى؛ أي صدها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه (عن أن تسلم).

ويجوز أن يكون { ما } في موضع نصب، ويكون التقدير: وصدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله؛ أي حال بينها وبينه. ويجوز أن يكون المعنى: وصدها الله؛ أي منعها الله عن عبادتها

وقال السمين الحلبى فى الدر المصون:

قوله: { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ }: في فاعلِ " صَدَّ " ثلاثةُ أوجهٍ،

أحدُها: ضميرُ الباري.

والثاني: ضميرُ سليمان.

وعلى هذا فـ { مَا كَانَت تَّعْبُدُ } منصوبٌ على إسقاطِ الخافضِ أي: وصدَّها اللهُ، أو سليمانُ، عن ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دونِ الله، قاله الزمخشري مُجَوِّزاً له. وفيه نظرٌ: من حيث إنَّ حَذْفَ الجارِّ ضرورةٌ كقوله:
3573ـ تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوْجُوا ......................
كذا قاله الشيخ. وقد تقدَّم لك آياتٌ كثيرةٌ من هذا النوعِ فلهذه بِهِنَّ أُسْوَةٌ.

والثالث: أنَّ الفاعلَ هو " ما كَانَتْ " أي: صَدَّها ما كانَتْ تعبدُ عن الإِسلامِ وهذا واضِحٌ. والظاهرُ أنَّ الجملةَ مِنْ قولِه " وصَدَّها " معطوفةٌ على قولِه: " وأُوْتِيْنا ". وقيل: هي حالٌ مِنْ قوله: " أم تكونَ من الذينَ " و " قد " مضمرةٌ وهذا بعيدٌ جداً. وقيل: هو مستأنَفٌ إخبارٍ من اللهِ تعالى بذلك.

قوله: " إنَّها " العامَّةُ على كسرِها استئنافاً وتعليلاً. وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوةَ بالفتح، وفيها وجهان،

أحدهما: أنها بدلٌ مِنْ " ما كانَتْ تعبدُ " ، أي: وصَدَّها أنها كانَتْ.

والثاني: أنها على إسقاطِ حَرْفِ العلةِ أي: لأنَّها، فهي قريبةٌ من قراءةِ العامة.
 
الجوهرة الثامنة عشر

{ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قال ابو حيان فى بحره:

وقرأ الجمهور: { أن كنا } ، بفتح الهمزة، وفيه الجزم بإيمانهم. وقرأ أبان بن تغلب، وأبو معاذ: إن كنا، بكسر الهمزة. قال صاحب اللوامح على الشرط: وجاز حذف الفاء من الجواب، لأنه متقدم، وتقديره: { إن كنا أول المؤمنين } فإنا نطمع، وحسن الشرط لأنهم لم يتحققوا ما لهم عند الله من قبول الإيمان. انتهى. وهذا التخريج على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد، حيث يجيزون تقديم جواب الشرط عليه، ومذهب جمهور البصريين أن ذلك لا يجوز، وجواب مثل هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقال الزمخشري: هو من الشرط الذي يجيء به المدلول بأمره المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين. ونظيره قول العامل لمن يؤخر. جعله إن كنت عملت فوفني حقي، ومنه قوله تعالى:
{ إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي }
[الممتحنة: 1] مع علمه أنهم لم يخرجوا إلا لذلك. وقال ابن عطية بمعنى: أن طمعهم إنما هو بهذا الشرط. انتهى. ويحتمل أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وجاز حذف اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون، فلا يحتمل النفي، والتقدير: إن كنا لأول المؤمنين. وجاء في الحديث: " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل " ، أي ليحب. وقال الشاعر:
ونحن أباة الضيم من آل مالك وإن مالك كانت كرام المعادن
أي: وإن مالك لكانت كرام المعادن، وأول يعني أول المؤمنين من القبط، أو أول المؤمنين من حاضري ذلك المجمع. وقال الزمخشري: وكانوا أول جماعة مؤمنين من أهل زمانهم، وهذا لا يصح لأن بني إسرائيل كانوا مؤمنين قبل إيمان السحرة.

قال الالوسي فى تفسيره:

وقرأ أبان بن تغلب. وأبو معاذ { أَن كُنَّا } بكسر همزة { إن } وخرج على أن إن شرطية والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنا أول المؤمنين فإنا نطمع، وجعل صاحب «اللوامح» الجواب { إِنَّا نَطْمَعُ } المتقدم وقال: / جاز حذف الفاء منه لتقدمه وهو مبني على مذهب الكوفيين وأبـي زيد والمبرد حيث يجوزون تقديم جواب الشرط، وعلى هذا فالظاهر أنهم لم يكونوا متحققين بأنهم أول المؤمنين، وقيل: كانوا متحققين ذلك لكنهم أبرزوه في صورة الشك لتنزيل الأمر المعتمد منزلة غيره تمليحاً وتضرعاً لله تعالى، وفي ذلك هضم النفس والمبالغة في تحري الصدق والمشاكلة مع { نَطْمَعُ } على ما هو الظاهر فيه، وجوز أبو حيان أن تكون أن هي المخففة من الثقيلة ولا يحتاج إلى اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون فلا احتمال للنفي، وقد ورد مثل ذلك في الفصيح ففي الحديث: " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل " ، وقال الشاعر:
ونحن أباة الضيم من آل مالك وإن مالك كانت كرام المعادن
وعلى هذا الوجه يكونون جازمين بأنهم أول المؤمنين أتم جزم. واختلف في أن فرعون هل فعل بهم ما أقسم عليه أولاً؟ والأكثرون على أنه لم يفعل لظاهر قوله تعالى:
{ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَـٰلِبُونَ }
[القصص: 35] وبعض هؤلاء زعم أنهم لما سجدوا رأوا الجنات والنيران وملكوت السماوات والأرض وقبضت أرواحهم وهم ساجدون، وظواهر الآيات تكذيب أمر الموت في السجود، وأما رؤية أمر ما ذكر فلا جزم عندي بصدقه والله تعالى أعلم.
 
الجوهرة التاسعة عشر

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله تعالى: { وَٱلصَّابِئُونَ }: الجمهور على قراءته بالواو وكذلك هو في مصاحف الأمصار. وفي رفعةِ تسعة أوجه ....

الوجه الثاني: أن " إنَّ " بمعنى نعم فهي حرفُ جوابٍ، ولا محلَّ لها حينئذ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفع، وخبرُ الجميع قوله: { مَنْ آمَنَ } إلى آخره، وكونُها بمعنى " نعم " قولٌ مرجوح، قال به بعضُ النحويين، وجَعَل من ذلك قول تعالى:
{ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ }
[طه: 63] في قراءةِ مَنْ قرأه بالألف،
 
الجوهرة العشرون

{ فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون:


وقوله: { إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا } جارٍ مَجْرى التعليل وإن كان استئنافاً لفظاً، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عيسى بن عمر والعباس بن الفضل وسهل بن شعيب " أنهم " بفتح الهمزة وهي نصٌّ في العِلِّيَّة أي: حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطينَ أولياءَ، ولم يُسْند الإِضلال إلى ذاته المقدسة وإن كان هو الفاعلَ لها تحسيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدبَ، وعليه:
{ وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ }
[النحل: 9].
 
الجوهرة الواحدة والعشرون

{ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }
قال السمين الحلبي فى الدر المصون:
قوله تعالى: { وَأُمْلِي }: جَوَّز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: وأنا أُملي، وأن يكون َمستأنفاً، وأن يكونَ معطوفاً على " سنستدرج ". وفيه نظر إذ كان من الفصاحة لو كان كذا [لكان] " ونُمْلي " بنون العظمة. ويجوز أن يكون هذا قريباً من الالتفات. والإِملاء: الإِمهالُ والتطويل. والمتين: القوي. ومنه المَتْنُ وهو الوسط لأنه أقوى ما في الحيوان. وقد مَتُنَ يَمْتُنُ مَتانةً، أي: قَوِيَ. وقرأ العامَّة: " إنَّ كيدي " بالكسر على الاستئناف المُشْعر بالغلبة. وقرأ ابن عامر في روايةِ عبد الحميد " أنَّ كيدي " بفتحِ الهمزة على العلة.
 
الجوهرة الثانية والعشرون

{ ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ } الجمهور على فتح " أنَّ " وفيها تخريجات،

أحدها: أنها وما في حَيِّزها في محل رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: حَتْمٌ استقرارُ عذابِ النار للكافرين.

والثاني: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: الحتم/ أو الواجب أن للكافرين، أو الواجب أن للكافرين عذاب النار.

الثالث: أن تكون عطفاً على " ذلكم " في وجهَيْه، قاله الزمخشري، ويعني بقوله " في وجهيه " ، أي: وجهي الرفع وقد تقدَّما.

الرابع: أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة، قال الزمخشري: " أو نصب على أن الواو بمعنى مع، والمعنى: ذوقوا هذا العذابَ العاجلَ مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضَع الظاهرَ موضعَ المضمر " يعني بقوله " وَضَع الظاهرَ موضعَ المضمر " أن أصلَ الكلام: فذوقوه وأن لكم، فوضع " للكافرين " موضعَ " لكم " ، شهادةً عليهم بالكفر ومَنْبَهَةً على العلة. الخامس: أن يكون في محل نصب بإضمار اعلموا، قال الشاعر:
2396ـ تسمع للأَحْشاء منه لَغَطَاً ولليدين جُسْأَةً وبَدَدا
أي: وترى لليدين بَدَداً، فأضمر " ترى " ، كذلك فذوقوه: واعلموا أنَّ للكافرين. وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ وقال: " لو جاز هذا لجاز: " زيد قائم وعمراً منطلقاً " ، أي: وترى عمراً منطلقاً، ولا يُجيزه أحد ".

وقرأ زيد بن علي والحسن بكسرها على الاستئناف.

{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:
قوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قرأ نافع وابن عامر وحفصٌ عن عاصم بالفتح والباقون بالكسر. فالفتح من أوجه

أحدها: أنه على لام العلة تقديره: ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت.

والثاني: أنَّ التقدير: ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم.

والثالث: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: والأمر أن الله مع المؤمنين. وهذا الوجهُ الأخيرُ يَقْرُب في المعنى مِنْ قراءة الكسر لأنه استئناف.
 
الجوهرة الثالثة والعشرون

{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ }: قرأ الكسائي بفتحِ الهمزةِ والباقون بكسرِها.

فأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فعلى الاستئنافِ، وهي مؤكدةٌ للجملة الأولى: قال الزمخشري: " فإنْ قلت: ما فائدةُ هذا التوكيدِ؟ قلتْ: فائدتُهُ أنَّ قولَه: " لا إله إلا هو " توحيدٌ، وقولَه: " قائماً بالقِسْطِ " تعديلٌ، فإذا أَردْفه قولَه: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } فقد آذن أن الإِسلام هو العدلُ والتوحيد، وهو الدينُ عند الله، وماعداه فليس في شيء من الدين عنده ".

وأمَّا قراءةُ الكسائي ففيها أوجهٌ، أحدُها: أنها بدلٌ من " أنه لا إله إلا هو " على قراءةِ الجمهور في " أنه لا إله إلا هو " وفيه وجهان، أحدهما: أنه من بدلِ الشيءِ من الشيء، وذلك أنَّ الدين الذي هو الإِسلام يتضمَّنُ العدْلَ والتوحيدَ وهو هو في المعنى. والثاني: أنه بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الإِسلامَ يشتمِلُ على التوحيدِ والعَدْلِ.

الثاني من الأوجه السابقة أن يكونَ " أنَّ الدين " بدلاً من قوله " قائماً بالقسط " ثم لك اعتباران، أحدُهما: أَنْ تَجْعَله بدلاً من لفظِهِ فيكونُ محلُّ " أنَّ الدين " الجرَّ. والثاني: أن تجعلَه بدلاً مِنْ مَوْضِعِه فيكونُ محلُّها نصباً. وهذا الثاني لا حاجةَ إليه وإن كان أبو البقاء ذكره، وإنما صَحَّ البدلُ في المعنى؛ لأنَّ الدينَ الذي هو الإِسلامُ قِسْطٌ وعَدْلٌ، فيكونُ أيضاً من بدلِ الشيءِ من الشيء، وهما لعينٍ واحدةٍ/. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ اشتمال لأنَّ الدينَ مشتملٌ على القسطِ وهو العدلُ. وهذه التخاريجُ لأبي علي الفارسي، وتَبِعَهُ الزمخشري في بَعْضِها. قال الشيخ: " وأبو علي معتزلي فلذلِكَ يشتمل كلامُه على لفظِ المعتزلةِ من العدلِ والتوحيد " قلت: ومَنْ يرغَبُ عن التوحيدِ والعدلِ من أهلِ السنةِ حتى يَخُصَّ به المعتزلَة؟ وإنما رأى في كلامِ الزمخشري هذه الألفاظَ كثيراً، وهو عنده معتزليٌّ، فَمَن تَكَلَّم بالتوحيدِ والعَدْلِ كان عندَه معتزلياً.

ثم قال: " وعلى البدل من " أنه " خَرَّجه هو وغيرُه، وليس بجيد لأنه يُؤَدِّي إلى تركيبٍ بعيدٍ أَنْ يأتيَ مثلُه في كلامِ العربِ وهو: " عَرَف زيدٌ أنه لا شجاعَ إلا هو وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل الحامي أنَّ الخَصْلَةَ الحميدةَ هي البسالةُ " وتقريبُ هذا المثال: " ضرب زيدٌ عائشةً والعُمَران حَنِقاً أختَك " فَحَنِقاً حالٌ من زيد، وأختَك بدلٌ من عائشةً، ففصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالعطفِ، وهو لا يجوزُ، وبالحالِ لغيرِ المُبْدَلِ منه، وهو لا يجوزُ، لأنه فُصِلَ بأجنبي بين المُبْدَلِ منه والبدل " انتهى.

وقال الرازى فى تفسيره:

في كيفية النظم من قرأ { أَنَّ الدّينَ } بفتح { أن } كان التقدير: شهد الله لأجل أنه لا إلٰه إلا هو أن الدين عند الله الإسلام، فإن الإسلام إذا كان هو الدين المشتمل على التوحيد، والله تعالى شهد بهذه الوحدانية كان اللازم من ذلك أن يكون الدين عند الله الإسلام، ومن قرأ { إِنَّ الدّينَ } بكسر الهمزة، فوجه الاتصال هو أنه تعالى بيّن أن التوحيد أمر شهد الله بصحته، وشهد به الملائكة وأولوا العلم، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يقال { إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ }.
 
الجوهرة الرابعة والعشرون

{ وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ}

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { أَنَّ ٱلنَّاسَ } قرأ الكوفيون بالفتح، والباقون بالكسرِ،

فأمَّا الفتحُ فعلى تقديرِ الباءِ أي: بأنَّ الناسَ. ويدلُّ عليه التصريحُ بها في قراءةِ عبدِ الله " بأنَّ الناسَ ". ثم هذه الباء تُحتملُ أَنْ تكونَ مُعَدِّيَةً، وأن تكونَ سببيةً، وعلى التقديرين: يجوزُ أَنْ يكونَ " تُكَلِّمهم " بمعنَيَيْه من الحديثِ والجَرْح أي: تُحَدِّثهم بأنَّ الناسَ أو بسببِ أنَّ الناسَ، أو تجرَحهم بأنَّ الناس أي: تَسِمُهم بهذا اللفظِ، أو تَسِمُهم بسبب انتفاءِ الإِيمانِ.

وأمَّا الكسرُ فعلىٰ الاستئناف. ثم هو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ من كلامِ اللهِ تعالىٰ وهو الظاهرُ،

وأَنْ يكونَ من كلامِ الدابَّةِ، فيُعَكِّرَ عليه " بآياتنا ". ويُجاب عنه: إمَّا باختصاصِها، صَحَّ إضافةُ الآياتِ إليها، كقولِ أتباعِ الملوكِ: دوابُّنا وخَيْلُنا، وهي لِمَلِكهم، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: بآيات ربِّنا. وتُكَلِّمهم إنْ كان من الحديثِ فيجوزُ أَنْ يكونَ: إمَّا لإجراءِ " تُكَلِّمُهم " مُجْرىٰ تقولُ لهم، وإمَّا على إضمارِ القولِ أي: فتقول كذا. وهذا القولُ تفسيرٌ لـ " تُكَلِّمُهم ".
 
الجوهرة الخامسة والعشرون

{ وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله { أنَّه، فأنَّه } قرأ ابن عامر وعاصم بالفتح فيهما،

وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالكسر فيهما،

ونافع بفتح الأولى وكسر الثاينة، وهذه القاراءتُ الثلاثُ في المتواتر،

والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكسَ قراءة نافع، هذه رواية الزهراوي عنه وكذا الداني. وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافع، فيحتمل أن يكون عن روايتان.

فأمَّا القراءة الأولى فَفَتْحُ الأولى فيها مِنْ أربعة أوجه،

أحدها: أنها بدل من الرحمة بدل شيء من شيء والتقدير: كتب على نفسه أنه من عمل إلى آخره، فإنَّ نفس هذه الجملِ المتضمنةِ للإِخبار بذلك رحمة.

والثاني: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ، والخبر محذوف أي: عليه أنه من عمل إلى آخره.

والثالث: أنها فتحت على تقدير حذف حرف الجر، والتقدير: لأنه مَنْ عمل، فلما حُذِفت اللامُ جرى في محلها الخلاف المشهور. الرابع: أنها مفول بـ " كتب " و " الرحمة " مفعول من أجله، أي: كتب أنه مَنْ عَمِل لأجل رحمته إياكم. قال الشيخ: " وينبغي أن لا يجوز لأن فيه تهيئة العامل للعمل وقَطْعَه منه ".

وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه،

أحدها: أنها في محل رفع على أنها مبتدأ والخبر محذوف أي: فغفرانُه ورحمتُه حاصلان أو كائنان، أو فعليه غفرانه ورحمته. وقد أجمع القرَّاء على فتح ما بعد فاء الجزاء في قوله:
{ أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ }
[التوبة: 63]
{ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّه }
[الحج: 4] كما أجمعوا على كسرها في قوله:
{ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ }
[الجن: 23] الثاني: أنها في محل رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: فأمرُه أو شأنه أنه غفور رحيم.

الثالث: أنها تكريرٌ للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلام وعُطِفت عليها بالفاء، وهذا منقولٌ عن أبي جعفر النحاس. وهذا وهمٌ فاحش لأنه يلزم منه أحد محذورين: إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خير أو شرط بلا جواب، وبيان ذلك أن " مِنْ " في قوله: { أَنَّهُ مَن عَمِلَ } لا تخلو: إمَّا أن تكون موصولةً أو شرطية، وعلى كلا التقديرين فهي في محل رفع بالابتداء، فلو جعلنا " أن " الثانية، معطوفة على الأولى لزم عدم خبر المبتدأ وجواب الشرط، وهو لا يجوز.

قد ذكر هذا الاعتراضَ وأجاب عنه الشيخ شهاب الدين أو شامة فقال: " ومنهم مَنْ جعل الثانيةَ تكريراً للأولى لأجل طول الكلام على حد قوله:
{ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ }
[المؤمنون: 35] ودخلت الفاء في " فأنه غفورٌ " على حَدِّ دخولها في
{ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ }
[آل عمران: 188] على قول مَنْ جعله تكريراً لقولَه:
{ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ }
[آل عمران: 188] إلا أن هذا ليس مثلَ " أيعدكم أنَّكم "؛ لأنَّ هذه لا شرطَ فيها وهذه فيها شرط، فيبقى بغير جواب. فقيل: الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: غفر لهم " انتهى. وفيه بُعْدٌ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاء، وكان ينبغي أن يجيب به هنا لكنه لم يفعلْ، ولم يظهرْ فرقٌ في ذلك.

الرابع: أنها بدل من " أنَّ " الأولى، وهو قول الفراء والزجاج وهذا مردودٌ بشيئين، أحدهما: أنَّ البدلَ لا يَدْخُل فيه حرفُ عطف، وهذا مقترنٌ بحرفِ العطف، فامتنع أن يكون بدلاً. فإن قيل: نجعل الفاء زائدةً. فالجواب أن زيادتها غيرُ جائزة، وهي شيء قال به الأخفش، وعلى تقدير التسليم فلا يجوز ذلك من وجهٍ آخر: وهو خلوٌّ المبتدأ أو الشرط عن خبر أو جواب.
والثاني من الشيئين: خلوُّ المبتدأ أو الشرط عن الخبر أو الجواب، كما تقدَّم تقريره: فإن قيل: نجعل الجوابَ محذوفاً - كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي شامة - قيل: هذا بعيدٌ عن الفَهْم.

الخامس: أنها مرفوعةٌ بالفاعلية، تقديره: فاستقرَّ له أنه غفورٌ أي: استقرَّ له وثَبَتَ غُفرانه، ويجوز أن نُقَدِّر في هذا الوجه جارَّاً رافعاً لهذا الفاعلِ عند الأخفش تقديره: فعليه أنه غفور، لأنه يُرْفَعُ به وإن لم يَعْتمد، وقد تقدَّم تحقيقهُ غيرَ مرَّة.

وأما القراءة الثانية: فكسْرُ الأولى من ثلاثة أوجه،

أحدها: أنها مستأنفة وأن الكلام تام قبلها، وجيء بها وبما بعدها كالتفسير لقوله: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ }

والثاني: أنها كُسِرَتْ بعد قولٍ مقدَّر أي: قال الله ذلك، وهذا في المعنى كالذي قبله.

والثالث: أنه أجرى " كتب " مُجْرى " قال " فكُسِرَتْ بعده كما تُكْسرُ بعد القول الصريح، وهذا لا يتمشَّى على أصول البصريين.

وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين، أحدهما: أنها على الاستئناف، بمعنى أنها في صدر جملة وقعت خبراً لـ " مَنْ " الموصولة، أو جواباً لها إن كانت شرطاً.

والثاني: أنها عطفٌ على الأولى وتكرير لها، ويُعْترض على هذا بأنه يلزم بقاءُ المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جزاء، كما تقدَّم ذلك في المفتوحتين.

وأجاب أبو البقاء هنا عن ذلك بأن خبر " مَنْ " محذوفٌ دلَّ عليه الكلام، وقد قدَّمْتُ لك أنه كان ينبغي أن يُجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى أو بدلاً منها، ثم قال: " ويجوزُ أن يكونَ العائدُ محذوفاً أي: فإنه غفورٌ له " قلت: قوله " ويجوز " ليس بجيدٍ، بل كان ينبغي أن يقول ويجب، لأنه لا بد من ضمير عائد على المبتدأ من الجملة الخبرية، أو ما يقوم مقامه إن لم يكنْ نفسَ المبتدأ.

وأمَّا القراءةُ الثالثة: فيؤخذُ فتحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم مِنْ كسرِها وفتحها بما يليق من ذلك، وهو ظاهر.

وأمَّا القراءة الرابعة فكذلك وقال أبو شامة: " وأجاز الزجاجُ كَسْرَ الأولى وفَتْحَ الثانية وإن لم يُقرأ به " قلت: قد قدَّمْتُ أن هذه قراءةُ الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الداني نقلاها، عنه فكأن الشيخ لم يَطِّلِعْ عليها وقَدَّمْتُ لك أيضاً أنَّ سيبويه لم يَرْوِ عن الأعرج إلا كقراءة نافع، فهذا ممَّا يصلح أن يكون عذراً للزجاج، وأما أبو شامة فإنه متأخر، فعدمُ اطِّلاعِه عجيب.

والهاء في " أنَّه " ضمير الأمر والقصة.
 
الجوهرة السادسة والعشرون

{ قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } * { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } * { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ }: العامَّةُ على كسرِ الهمزتين على الاستئنافِ جواباً لسؤالِ قومِها كأنَّهم قالوا: مِمَّن الكتابُ؟ وما فيه؟ فأجابَتْهم بالجوابَيْن.

وقرأ عبد الله " وإنَّه مِنْ سليمانَ " بزيادةِ واوٍ عاطفةٍ " إنه من سليمان " على قولِه: { إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ }. وقرأ عكرمةُ وابن أبي عبلةَ بفتح الهمزتين. صَرَّح بذلك الزمخشري وغيرُه، ولم يذكر أبو البقاء إلاَّ الكسرَ في " إنه من سليمان " ، وكأنه سكتَ عن الثانيةِ؛ لأنها معطوفةٌ على الأولى

. وفي تخريجِ الفتح فيهما أوجهٌ،

أحدُهما: أنه بدلٌ من " كتاب " بدلُ اشتمالٍ، أو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، كأنه قيل: أُلْقِي إليَّ أنه من سليمانَ، وأنه كذا وكذا. وهذا هو الأصحُّ.

والثاني: أنه مرفوعٌ بـ " كريمٌ " ذكره أبو البقاء، وليس بالقويِّ.

الثالث: أنه على إسقاطِ حرفِ العلةِ. قال الزمشخري: " ويجوز أَنْ تريدَ: لأنه مِنْ سليمانَ، ولأنَّه، كأنها عَلَّلَتْ كرمَه بكونِه من سليمان وتصديرَه باسم الله ".

قال مكي: " وأجاز الفراء الفتحَ فيهما في الكلامِ " كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءةٌ.

وقرأ أُبَيٌّ " أَنْ مِنْ سليمانَ، وأنْ بسمِ اللهِ " بسكون النون فيهما. وفيها وجهان، أظهُرهما: أنَها " أنْ " المفسرةُ، لتقدُّم ما هو بمعنىٰ القول. والثاني: أنَّها المخففةُ، واسمُها محذوفٌ وهذا لا يَتَمَشَّىٰ على أصول البصريين؛ لأنَّ اسمَها لا يكونُ إلاَّ ضميرَ شأنٍ، وضميرُ الشأنِ لا يُفَسَّر إلاَّ بجملةٍ مُصَرَّحٍ بُجُزْأَيْها.

قوله: { أَلاَّ تَعْلُواْ }: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ " أنْ " مفسِّرةٌ، كما تقدَّمَ في أحد الأوجهِ في " أنْ " قبلَها في قراءةِ عكرمة، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه. وهو وجهٌ حسنٌ لِما في ذلك من المشاكلةِ: وهو عطفُ الأمرِ عليه وهو قولُه " وَأْتُوْني ".

والثاني: أنها مصدرية في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ " كتاب " كأنه قيل: أُلْقِيَ إليَّ: أَنْ لا تَعْلُوا عليَّ.

والثالث: أنها في موضعِ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو أَنْ لا تَعْلُوا

. والرابع: أنَّها على إسقاطِ الخافضِ أي: بأَنْ لا تَعْلُوا، فيجيْءُ في موضِعها القولان المشهوران. والظاهر أنَّ " لا " في/ هذه الأوجهِ الثلاثة للنهيِ. وقد تقدَّم أنَّ " أَنْ " المصدريةَ تُوْصَلُ بالمتصرفِ مطلقاً. وقال الشيخ: " وأَنْ في قولِه: " أن لا تَعْلُوا عليَّ " في موضع رفعٍ على البدلِ من " كتاب ". وقيل: في موضعِ نصبٍ على [معنى]: بأن لا تَعْلُوا. وعلى هذين التقديرين تكون " أنْ " ناصبةً للفعل ". قلت: وظاهرُ هذا أنها نافيةٌ؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ تكونَ ناهيةً بعد " أَنْ " الناصبةِ للمضارع. ويؤيِّد هذا ما حكاه عن الزمخشريِّ فإنه قال: " وقال الزمخشريُّ: وأنْ في " أَنْ لا تَعْلُوا " مفسرةٌ " قال: " فعلى هذه تكون " لا " في " لا تَعْلُوا " للنهي، وهو حسنٌ لمشاكلة عطفِ الأمرِ عليه ". فقوله: " فعلىٰ هذا " إلى آخره صريحٌ أنها على غيرِ هذا ـ يعني الوجهين المتقدمين ـ ليست للنهي فيهما. ثم القولُ بأنَّها للنفيِ لا يَظْهَرُ؛ إذ يصيرُ المعنى على الإِخبارِ منه عليه السلامُ بأنهم لا يَعْلُون عليه، وليس هذا مقصوداً، وإنما المقصودُ أَنْ يَنْهاهُمْ عن ذلك.

وقرأ ابن عباس والعقيلي " تَغْلُوا " بالغين مُعْجمةً من الغُلُوِّ وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ.
 
الجوهرة السابعة والعشرون

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله: { وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ } جوابُ لو محذوفٌ، واختُلِفَ في تقديره، ولا يَظْهَرُ ذلك إلا بعد ذِكْرِ القراءت الواردة في ألفاظِ هذه الآيةِ الكريمة:

قرأ ابنُ عامر ونافع: " ولو ترى " بتاءِ الخطابِ، و " أن القوة " و " أن الله بفتحِهما، وقرأ ابنُ عامر: " إذ يُرَوْن " بضم الياء، والباقون بفتحِهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون: " ولو يرى " بياء الغيبة، " أنَّ القوة " و " أنَّ الله " بفتحِهما، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة ويعقوب وأبو جعفر: " ولو تَرَى " بالخطاب، " إن القوة " و " إن الله " بكسرهما، وقرأت طائفةٌ: " ولو يرى " بياء الغيبة، " إن القوة " و " إن الله " بكسرهما.

إذا تقرَّر ذلك فقد اختلفوا في تقديرِ جواب لو، فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قولِه: " أن القوة " ومنهم مَنْ قدَّره بعد قولِه: " وأنَّ الله شديدُ العذابِ " / وهو قولُ أبي الحسن الأخفش والمبرد.

أمَّا مَنْ قَدَّره قبل " أنَّ القوةَ " فيكونُ " أنَّ القوةَ " معمولاً لذلك الجوابِ. وتقديرُه على قراءةِ ترى - بالخطاب - وفتح أنَّ وأنَّ: لعلِمْتَ أيها السامعُ أنَّ القوةَ لله جميعاً، والمرادُ بهذا الخطابِ: إمّا النبيُّ عليه السلام وإمّا كلُّ سامعٍ.

وعلى قراءةِ الكسرِ في " إنّ " يكونُ التقديرُ: لقلت إنَّ القوةَ لله جميعاً، والخلافُ في المرادِ بالخطاب كما تقدَّم، أو يكونُ التقديرُ: لاستعظَمت حالَهم، وإنما كُسِرَتْ " إنَّ " لأنَّ فيها معنى التعليل نحو قولك: لو قَدِمْتَ على زيد لأحْسنَ إليك إنَّه مكرمٌ للضِّيفان، فقولك: أنه مكرِمٌ للضِّيفان " عِلَّةٌ لقولِك " أَحْسَنَ إليك ".

وقال ابنُ عطية: " تقديرُه: ولو ترى الذين ظَلَموا في حال رؤيتهم العذابَ وفزعهم منه واستعظامِهم له لأقَرُّوا له لأقَرُّوا أنَّ القوةَ لله جميعاً " وناقشه الشيخ فقال: " كان ينبغي أن يقولَ: في وقتِ رؤيتهم العذابَ فيأتي بمرادف " إذ " وهو الوقتُ لا الحالُ، وأيضاً فتقديرُه لجوابِ " لو " غيرُ مُرَتَّبٍ على ما يلي " لو " ، لأنَّ رؤية السامعِ أو النبي عليه السلام الظالمينَ في وقتِ رؤيتهم لا يترتَُّبُ عليها إقرارُهم بأنّ القوة لله جميعاً، وهو نظيرُ قولِك: " يا زيدُ لو ترى عَمْراً في وقتِ ضَرْبِه لأقَرَّ أنَّ الله قادِرٌ عليه " فإقرارُه بقدرةِ الله ليست مترتبةً على رؤيةِ زيد " انتهى.

وتقديرُه على قراءةِ " يرى " بالغيبة: لعلموا أنَّ القوةَ، إنْ كان فاعل " يرى " " الذين ظلموا " ، وإن كان ضميراً يعودُ على السامعِ فيُقَدَّرُ: لَعَلِمَ أنَّ القوة.

وأمَّا مَنْ قَدَّره بعدَ قولِه: شديدُ العذاب فتقديرُه على قراءة " ترى " بالخطابِ: لاستعظَمْتَ ما حلَّ بهم، ويكونُ فتحُ " أنَّ " على أنه مفعولٌ من أجلِه، أي: لأنَّ القوةَ لله جميعاً، وكَسْرُها على معنى التعليلِ نحو: " أكرِمْ زيداً إنه عالم، وأَهِنْ عمراً إنَّه جاهلٌ " ، أو تكونُ جملةً معترضةً بين " لو " وجوابِها المحذوفِ. وتقديرُه على قراءةِ " ولو يرى " بالغيبة إن كان فاعلُ " يرى " ضميرَ السامعِ: لاستعظَمَ ذلك، وإنْ كان فاعلُه " الذين " كان التقديرُ: لاستعظَموا ما حَلَّ بهم، ويكونُ فتحُ " أنَّ " على أنها معمولةٌ ليرى، على أن يكونَ الفاعلُ " الذين ظلموا " ، والرؤيةُ هنا تحتِملُ أن تكونَ من رؤيةِ القلبِ فتسدَّ " أنَّ " مسدَّ مفعولهما، وأن تكونَ من رؤية البصرِ فتكونَ في موضعِ مفعولٍ واحدٍ.

وأمَّا قراءةُ " يرى الذين " بالغَيبة وكسرِ " إنَّ " و " إنَّ " فيكونُ الجوابُ قولاً محذوفاً وكُسِرتَا لوقوعِهما بعد القولِ، فتقديرُه على كونِ الفاعلِ ضميرَ الرأي: لقال إنَّ القوةَ؛ وعلى كونه " الذين ": لقالوا: ويكونُ مفعولُ " يرى " محذوفاً أي: لو يرى حالهم. ويُحتمل أن يكونَ الجوابُ: لاستَعْظَم أو لاستَعْظَموا على حَسَبِ القولين، وإنما كُسِرتا استئنافاً، وحَذْفُ جوابِ " لو " شائعٌ مستفيضٌ، وكثُر حَذْفهُ في القرآن. وفائدةُ حَذْفِه استعظامُه وذهابُ النفسِ كلَّ مذهبٍ فيه بخلافِ ما لو ذُكِر، فإنَّ السامعَ يقصُر هَمَّه عليه، وقد وَرَدَ في أشعارهم ونثرِهم حَذْفُه كثيراً...

وقراءةُ ابنِ عامر " يُرَوْنَ العذاب " مبنياً للمفعول مَنْ أَرَيْتُ المنقولةِ من رَأَيْتُ بمعنى أبصرتُ فتعدَّتُ لاثنين، أولُهما قامَ مَقامَ الفاعلِ وهو الواو، والثاني هو " العذابُ " ، وقراءةُ الباقين واضحةٌ.

وقال الراغبُ: " قوله ": " أنَّ القوة " بدلٌ من " الذين " قال: " وهو ضعيفٌ " قال الشيخ: " ويصيرُ المعنى: ولو تَرى قوةَ الله وقدرَتَه على الذين ظلموا ". وقال في " المنتخب ": " قراءةُ الياء عند بعضهم أَوْلَى من قراءة التاء " ، قال: " لأنَّ النبيَّ عليه السلام والمؤمنين قد عَلِموا قَدْرَ ما يُشَاهِدُه الكفارُ، وأمّا الكفارُ فلم يَعْلَمُوه فوجَبَ إسنادُ الفعلِ إليهم " وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ القراءَتَيْنِ متواتِرتان.

وقال القرطبي فى تفسيره:

قوله تعالى: { وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ } قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء، وأهل مكة وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء؛ وهو ٱختيار أبي عبيد. وفي الآية إشكال وحذف؛ فقال أبو عبيد: المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القُوّة لله جميعاً. و «يرى» على هذا من رؤية البصر. قال النحاس في كتاب «معاني القرآن» له: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقال في كتاب «إعراب القرآن» له: وروي عن محمد بن يزيد أنه قال: هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة؛ لأنه يقدّر: ولو يرى الذين ظلموا العذاب؛ فكأنه يجعله مشكوكاً فيه وقد أوجبه الله تعالى؛ ولكن التقدير وهو قول الأخفش: ولو يرى الذين ظلموا أن القوّة لله.
و «يرى» بمعنى يعلم؛ أي لو يعلمون حقيقة قوّة الله عزّ وجلّ وشدّة عذابه؛ فـ «ـيرى» واقعة على أن القوّة لله، وسدّت مَسدّ المفعولين. و «الذين» فاعل «يرى»، وجواب «لو» محذوف؛ أي ليتبيّنُوا ضرر ٱتخاذهم الآلهة؛ كما قال عزّ وجلّ:
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ }
[الأنعام: 27]،
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ }
[الأنعام: 30] ولم يأت لـ «ـلَوْ» جواب. قال الزهري وقتادة: الإضمار أشدّ للوعيد؛ ومثله قول القائل: لو رأيتَ فلاناً والسياط تأخذه! ومن قرأ بالتاء فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه وٱستعظامهم له لأقرّوا أن القوّة لله؛ فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو العامل في «أنّ». وتقدير آخر: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوّة لله جميعاً. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم علم ذلك، ولكن خوطب والمراد أمّته؛ فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمد للظالم هذا. وقيل: «أنّ» في موضع نصب مفعول من أجله؛ أي لأن القوة لله جميعاً. وأنشد سيبويه:
وأغفرُ عوراءَ الكريم ٱدّخارَه وأَعْرِضُ عن شتم اللئيم تكَرُّما
أي لادخاره؛ والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأنّ القوّة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حَلَّ بهم. ودخلت «إذ» وهي لمَا مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه. وقرأ ٱبن عامر وحده «يرون» بضم الياء، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وشَيبة وسَلاَّم وأبو جعفر «إن القوّة، وإن الله» بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على تقدير القول؛ أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوّة لله. وثبت بنصّ هذه الآية القوّة لله، بخلاف قول المعتزلة في نَفْيهم معاني الصفات القديمة؛ تعالى الله عن قولهم.
 
الجوهرة الثامنة والعشرون

{ وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِنِّيۤ آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون:

قوله: { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ }: عطفٌ على " أَنْ " الأولى. والعامَّةُ على كسرِ الهمزةِ مِنْ قولِه: " إنِّي آتِيْكم " على الاستئنافِ. وقُرِئ بالفتح على تقديرِ اللامِ أي: وأَنْ لا تَعْلُوا لأنِّي آتِيْكم.

الجوهرة التاسعة والعشرون

{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ }: العامَّةُ على كسرِ " إنَّ " استئنافاً وهو مُشْعِرٌ بالعِلِّيَّة. وقيل: هو جوابُ سؤالٍ مقدرٍ كأنَّ قائلاً قال: لِمَ لا يُحْزِنُه قولُهم، وهو ممَّا يُحْزِن؟ فأجيب بقوله: { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } ، ليس لهم منها شيءٌ فكيف تبالي بهم وبقولهم؟.

والوقفُ على قولِه: { قَوْلُهُمْ } ينبغي أن يُعْتمد ويُقْصَدَ ثم يُبتدأ بقوله: " إن العزَّة " وإن كان من المستحيلِ أن يتوهَّم أحد أن هذا مِنْ مقولهم، إلا مَنْ لا يُعْتَبَرُ بفهمه.

وقرأ أبو حيوة: " أنَّ العزة " بفتح " أنَّ ". وفيها تخريجان، أحدهما: أنها على حَذْفِ لام العلة، أي: لا يَحْزنك قولهم لأجل أن العزة لله جميعاً. والثاني: أنَّ " أنَّ " وما في حيِّزها بدل من " قولهم " كأنه قيل: ولا يَحْزُنك أن العَّزة لله، وكيف يَظْهَرُ هذا التوجيهُ أو يجوز القول به، وكيف يَنْهىٰ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في المعنى وهو لم يَتَعاطَ شيئاً من تلك الأسباب، وأيضاً فمِنْ أيِّ قبيلٍ الإِبدالُ هذا؟ قال الزمخشري: " ومَنْ جعله بدلاً من " قولهم " ثم أنكره فالمُنْكَر هو تخريجُه لا ما أنكره من القراءة به " ، يعني أن إنكارَه للقراءة مُنْكَرٌ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذَكَرْتُ لك مِنَ التعليلِ، وإنما المُنْكَر هذا التخريجُ.

وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ ونَسَبُوها للغلَط ولأكثر منه. قال القاضي: " فَتْحُها شاذٌّ يُقارِبُ الكفر، وإذا كُسِرت كان استئنافاً وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإِعراب ". وقال ابن قتيبة: " لا يجوز فتحُ " إنَّ " في هذا الموضعِ وهو كفرٌ وغلوٌّ " ، وقال الشيخ: " وإنما قالا ذلك بناءً منهما على أن " أنَّ " معمولةٌ لـ " قولهم ". قلت: كيف تكون معمولةً لـ " قولهم " وهي واجبةُ الكسرِ بعد القول إذا حُكِيَتْ به، كيف يُتَوَهَّم ذلك؟ وكما لا يُتَوَهَّم هذا المعنىٰ مع كسرِها لا يُتَوَهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيح.

وقال الرازى فى تفسيره

قال القاضي: إن العزة بالألف المكسورة وفي فتحها فساد يقارب الكفر لأنه يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون: { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزنه ذلك. أما إذا كسرت الألف كان ذلك استئنافاً، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب. قال صاحب «الكشاف»: وقرأ أبو حيوة { أنَّ ٱلْعِزَّةَ } بالفتح على حذف لام العلة يعني: لأن العزة على صريح التعليل.
 
عودة
أعلى