بصيرة قلب

إنضم
24/03/2012
المشاركات
36
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
العمر
43
الإقامة
فرنسا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة على رسول الله و آله و صحبه و التابعين لهم و سلم كثيرا :
كنت أقرأ هذا الصباح في سورة " ق " فأثارتني آية فيها عجبت لها كل العجب هي قول الحق تعالى : " تَبْصِرَةً وَ ذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [قـ : 8] " و ما أخذ بعقلي و قلبي أكثر هو تلك المفردة ذات الدلالة العميقة و الإشارة الموحية : " ذكرى " فما معناها ؟ و ما موقعها في السورة من حيث السياق ؟!
تأتي هذه المفردة في سياق هذه الآيات : " أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَ زَيَّنَّاهَا وَ مَا لَهَا مِن فُرُوجٍ [6] وَ الْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [7] تَبْصِرَةً وَ ذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [8 ] " .. إنه الحديث عن آيات الله سبحانه و تعالى في آفاق السموات و الأرض .. إنه الحديث عن الإبداع الجمالي المبثوث في حنايا الوجود جميعا و مظاهره حتى في أدنى شئ فيه .. يوجهنا الحق تعالى لكل هذا الجمال البديع و التناسق الدقيق لأجل ماذا ؟ لأجل التبصر و التذكر .. يا الله لا إله إلا أنت .. التبصر مفهوم و واضح وروده في السياق الدلالي للآيات , أما التذكر فما معناه ؟!
حدثتني نفسي أنه الذكرى لحقيقة متجذرة في أعماق النفس الإنسانية .. حقيقة الجمال .. الجمال المبثوت في صفحات الوجود .. الجمال الممزوج بأصل الفطرة .. فلا تلبث النفس و قد شهدت مشهدا من مشاهد هذا الجمال الخالب حتى تجد نفسها مغمورة دهشة و إعجابا . و لا تلبث أن تجد نفسها قد أخذتها أخذات الروعة و الجلال .. الله تعالى هنا يوجهنا إلى تملي هذا الجمال الرائع و إلى عظمة الألوهية في بناء الوجود ..
و لكن هذه الحقيقة .. حقيقة تذوق الجمال الإلهي في الوجود " الكون و الفطرة " .. رغم عظمتها و رغم عمقها فإنه لا يستطيعها و لا يقدرها حق قدرها إلا " عبد منيب " عبد قد صفت عاقلته و زكت كينونته و أشرق الإيمان في قلبه فهو لذلك منيب إلى الله تعالى : تفكيرا و سلوكا و علاقات .. و إنما كان العبد المنيب هو وحده المستطيع تذوق الجمال الإلهي في بنية الوجود و هو وحده القادر على تحسس مكامن الروعة الإلهية في الحياة و الكائنات جميعا و هو وحده المتمكن من تجاوز مظاهر الجمال المحدود إلى حقيقة الجمال المطلق .. إنما كان العبد المنيب وحده من أتيح له كل هذا لسبب واحد .. ذلك هو عمق ارتباطه بمبدع الجمال " الله " و من ثم فهو يقوم بعملية صعود و هبوط : النظر إلى الجمال المطلق " الله " و انعكاسه على تركيبة المخاليق التي يعج بها الوجود ظاهرا و باطنا, و النظر إلى مظاهر الجمال في الوجود و دلالته على الجمال الإلهي في معناه الأزلي المطلق ..
الإنسان عندما تمتلئ نفسه بروعة الجمال لا جرم أن ذلك ينعكس على كل شئ فيه و من حوله : في التفكير , في الأسلوب , في السلوك , في العلاقات , في الأهداف حتى في أتفه الأشياء بل التي يراها العميان تافهة .. من أجل ذلك وجدنا القرآن الكريم كثيرا ما يوجهنا إلى تأمل الوجود و الكون و الحياة , و الإنسان عندما يقوم بهذه العملية تحدث في نفسه ضرورة ذكرى عميقة .. ذكرى مستمدة من أعماق فطرته , و من ثم لا يلبث و قد شهد آيات الجمال في آفاق السموات و الأرض أن تتأكد لديه عظمة الخالق المبدع و جماله الأزلي , و من ثم خضوعه له راضيا مطمئنا , لأن النفس البشرية لا يحدث بينها و بين أي شئ ما أو مشهد ما أو حدث ما إعجاب يأخذ له نصيبا من العقل و يستحوذ على شعبة من القلب إلا إذا كانت هناك علاقة عميقة بينها و بينه .. إن الجمال آية من آيات الله الكبرى و هو عندي من أعمق دلائل الوجود الإلهي .. و الله أعلم
 
بصيرة قلب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و صلى الله على سيدنا رسولنا الكريم و على اله و صحبه و التابعين و سلم كثيرا ..
هذا الصباح كنت أقرأ سورة " يس " .. فاستوقفتني هذه القصة و أخذني منها ما قرب و ما بعد من أخذات الإكبار و الإعظام و أخذات الروعة و الجمال :
" وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [20] اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ [21] وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [22] أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ [ 23] إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ [24] إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [25] قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [26] بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [27] وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ [28] إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [29] يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [30] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ [31] وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [32] "..
إنها قصة إنسان مؤمن .. إنسان تفتحت بصيرته للهدى و النور و الحق و الإيمان .. إنسان أبى إلا أن يقول للجاهلية الكالحة : لا .. ليحافظ على فضيلته الإنسانيّة في مستواها الكريم بالعودة إلى منابع الفطرة الأولى .. تلك الفطرة التي خرجت من يد الله المبدعة فإذا هي آية من آيات الله الكبرى .. تلك الفطرة التي لا تتميّز بشئ تميّزها بالتّوحيد الخالص لله جل مجده ..
إننا أمام إنسان يجئ من أقصى المدينة – و ليس يهمنا نحن المتلقين اسم هذه المدينة و لا موقعها الجغرافي . فالدلالة و العبرة و الروعة و الجمال متحقق من القصة بصورة كاملة عميقة حتى دون ذكر اُسمها أو موقعها و حسبنا هذا – و هو يسعى – و استخدام القرآن لمفردة يسعى هنا له دلالته العميقة و تعبيره الموحي على عادته في التصوير و البيان لحركة النفس و تفاعلها في الواقع مع الملابسات المحيطة بها. و هذه المفردة هنا توحي إلينا بموقف ذلك الإنسان المؤمن تجاه قومه حتى كأننا نشاهد بباصرتنا المحدودة اُستقرار الإيمان قي سويدائه و وضوح الحق في عاقلته . و من ثم ينطلق في ثورته على الباطل بحركة سريعة و قلق متزايد على قومه . و توحي إلينا كذلك عمق الإحساس الذي انتاب ذلك المؤمن الفاضل و هو ينظر حالة قومه يعمهون في سدف الجاهليّة . و هو إحساس من يريد إيصال حقيقة مهمة إلى قومه كأنه يخشى على نفسه أو عليهم فوات الأوان أو كأن داهية من الدواهي أحاقت بهم فهو يبغي تنبيههم إليها .. إنه يجئ من أقصى المدينة لشئ واحد فقط أن يقول لقومه : " يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [20] اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ [21] " و هو موقف يذكرنا بمواقف نماذج كثيرة خلت في تاريخ الإيمان و مجرى الهدى و النور .. كما أنه يذكرنا بمواقف الصحابة الكرام الذين كان الواحد منهم بمجرد أن يعلن إيمانه حتى ينطلق بين الناس داعيا لهم إلى هذا الدين الجديد ..
و لقد علم ذلك المؤمن الصادق أن بالمدينة الرسل المبتعثين إلى قومه ليهدوهم و ليبصرونهم سواء السبيل . لقد علم ذلك من قبل أن يأتي من أقصى المدينة و هو يسعى .. و لكنه رغم ذلك أتى قومه داعياو معززا دعوة الرسل .. و كذلك الإيمان عندما تستقر بشاشته في القلب و تغمر أنواره العقل و الضمير يمنع صاحبه من السكون و اللامبالاة . بل بالحري أنه يفعمه بالحركية النابضة التي تميز الإنسان المؤمن و يفيض فيه الحيوية النشيطة التي تدفع به نحو الحركة القوية و العمل الدؤوب في واقع الناس و مسيرة التّاريخ .. حتى تكون كلمة الله هي العليا ..
إنه لم يكتف بأن الرسل فيهم كفاية و لم يقنع نفسه و لم يجادل عاقلته بأن لا معنى لوجوده بين قوم رسلُ الله بين أظهرهم . بل بالعكس من هذا كله . لقد علم أن مهمته الآن و قد آمن بما جاء به الرسل هي أن يدعو الناس إلى هذا الدين الجديد و هي أن يساهم و لو مساهمة ضعيفة في الدعوة إلى هذا الدين الذي انتمى إليه .. و هذه حقيقة تكون في حس الإنسان المؤمن شهادة يرفعها في وجه الإنسانية الضالة الجهول على صدق و أفضلية المنهجيّة الرّبانيّة التي يؤمن بها..
و هكذا بكل بساطة و بكل قوة و يقين راح يطلب إلى قومه أن يتبعوا المرسلين . و هو لم يكتف بهذه الدعوة فقط ليترك لهم مجال الحرية فارغا ليؤمنوا أو ليكفروا . بل لحرصه على هداية قومه و لرغبته في تبصيرهم الهدى و النور و لرغبته العارمة في تقديم شهادة الحق و الصدق لهذا الدين الجديد أردف لهم بيانا و تفسيرا معنى ضرورة اتباع هؤلاء الرسل الكرام .. إنهم رسل لا يبغون شيئا و لا يطلبون عوضا و لا ينتظرون أجرا من أحد من الناس . بل مقصدهم الأكبر و همهم الأعظم الهداية فقط و الإرتقاء بالإنسان من حضيض الجاهليّة و ظلماتها إلى قمة الإسلام و أنواره . الإسلام الذي هو دين الله و دين الفطرة و دين الوجود جميعا. و إن إنسانا يدعوك إلى شئ ما و هو لا يبغي من ورائه تحقيق رغبة أو تحصيل مصلحة لحري أن ينظر في دعوته بعين العقل و بنور البصيرة . لأن معنى ذلك في حكم العقل الراشد : أن هذا الإنسان الداعي دعوته إنما يبغي لك الخير و الهدى و يدفع بك نحو الصلاح و الفلاح و يجهد لك في الخيرة و النصيحة ..
و يزيد ذلك الإنسان المؤمن قومه بصيرة بضرورة اتباع الرسل بالتأكيد على أنهم : مهتدون .. يا الله .. شهادة يقدما مؤمننا للرسل .. و ما أدراك أنهم مهتدون ؟ و من أين تستمد الدليل على صدق يقينك ؟ ..
إنها الفطرة .. تلك الفطرة التي ما إن تلاقي الهدى و ما إن تتحسس النور حتى تتفتح مداركها و حتى تتفتق مساربها فلا تجد بدا من الإستجابة لهذا الهدى و لذلك النور .. إنها الفطرة التي خرجت من يد الله تعالى المبدعة . و لقد سبق القول من الحق تعالى أن يكون منهجه في الحياة على مقاس الفطرة الإنسانية بل أن يكون صورة حقيقتها و شاكلة معانيها فلا تزيد عليها شيئا فترهقها عنتا و لا تنقص عنها شيئا فتبخسها قيمتها .. إنها كلمة الله و إبداع الله فليت شعري أنى يفترقان ؟ و أني يتناقضان ؟
بهذا الإحساس النبيل السامي أحس المؤمن الصادق عمق الهداية و فسحة النور الذي جاء به الرسل لهداية قومه . فلم يجد ضرورة على تأكيد تلك الحقيقة أمام قومه لعلهم يهتدون ..
بعد هذا البيان من مؤمن آل يس لقومه .. يبدو أنه قد أحس منهم نكرانا لدعوته و لتأييده رسالة الرسل . أو قد وجهت إليه فعلا سهام النقد و السخرية لإتباعه الرسل و اُنحرافه عن دين الأجداد و الآباء . فيأخذ في المجادلة معهم و الحجاج دون الدين الجديد الذي رضي الإنتماء إليه . و إن بعض النفوس السافلة و قد ران على قلوبها أكنة من الضلال و غمرتها حجب من السفاهة ليس ينفع معها إلا المجادلة و ليس يصلحها إلا الحجاج . فكأن هذه المجادلة و ذلك الحجاج دواء لدائها العضال بل كأنه صفعات شديدة تحمل صاحبه الغافل على التنبه و اليقظة لما يلقى إليه ..
و هو في مجادلته و حجاجه بدأ معهم من الأصل الأول الذي يبنى عليه كل شئ . الأصل الذي بمجرد أن تكون حقيقته واضحة بينة في الحس و العقل حتى تتجلى حقائق كل شئ تباعا فلا يبقى مجال للمجادلة بعدها أبدا .. و من ثم راح مؤمننا يبدأ جداله قومه الضالين بالإستفهام الإنكاري التعجبي : " وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [22] " .. لقد جمع في هذه الكلمة البسيطة و الخاطفة حقيقتين من أعمق حقائق هذا الوجود المهيب .. إنهما حقيقتا : الفطرة و الرجوع إلى الله .. و لقد أحسب أن مؤمننا إنما نحا هذا النحو من الجدال و انصرف إلى هذا الضرب من الحجاج لفهمه طبيعة النفس البشرية .. تلك الطبيعة التي لا تلين و لا تخضع إلا لما كان منبثقا عن جذر حقيقتها و تلمس أصول معالمها . و النفس البشرية بطبيعتها تنصرف إلى البساطة حتى و هي تخوض لجج النظر في أعماق حقائق الوجود . و ما ذلك في حسباني إلا لتلك الحاسة التي وضعها الحق تعالى في أصل بنيتها و التي ليس يمكن للعقل البشري تفهم معناها لأنها سر من الأسرار الفائقة .. و أمثل برهان على هذه الحاسة و أصدق دليل على هذا المعنى الذي ترغب فيه النفس البشرية حتى و هي تتفكر في أمر الحقيقة الخالدة . ما يجده الإنسان في ضميره من الراحة في البساطة الفطرية المفعمة بالنور و النماء و الحركة و الحياة . دون المنطق الجاف البليد الذي تجده يبني و يبني ثم فجأة يهدم ما بناه لأنه يجد بناءه أشبه بحجر صامت على حجر صامت ..
استعمل مؤمننا حقيقة الفطرة لينبه عشيرته لتلك الحقيقة التي يحملونها في أعماق ضمائرهم . الفطرة التي لا تعترف إلا بالله ربا و إلها و التي لا تبغي عنه بدلا محبة و تعظيما و خضوعا و عبودية . و حتى عندما تغفل و حتى عندما تنسى جراء الصخب و الضجيج الذي يملؤ وجودها و هي بعيدة عن الله و هي منبتة السبب عن السماء . حتى في هذه الفترة الكالحة الحالكة ما إن يصدمها القدر بصدمة من صدماته و يقلبها يمنة و يسرة حتى تجد نفسها منتفضة و متوجهة توجها تلقائيا قبلة الملأ الأعلى .. نحو الله .. ذلك لتعلموا أن في النفس البشرية أبعادا و آمادا ليس يملؤها إلا وجود الله في حياتها . و مهما بعدت عن الله ظلت تلك الأبعاد المجهولة و بقيت تلك الآماد السحيقة فارغة يبابا فلا تجد النفس البشرية جراء الحاسة التي وضعها الحق تعالى فيها من التوجه إليه أثناء الشدة و إبان الكربات .. لقد ضلت الآلهة و بقي الحي القيوم ..
هذا المعنى هو الذي أراد مؤمننا تنبيه قومه إليه ليقول لهم : أنتم خلق الله و الله أعلم بما خلق فدعوا الفطرة توجهكم نحو الخالق تعالى فهي أعلم به و أرغب فيه . و ما تعطوا الفطرة حقها في التذكر و حريتها في الحركة حتى تعود إلى الله إلى أصلها الأول و لن تطلب عنه مصرفا و لا دونه بدلا ..
و هو في هذا التعبير يذكر قومه الضالين بحقيقة كبيرة .. تلك هي حقيقة مهمتهم في هذا الوجود و معنى خلقهم من قبل الخالق تعالى ابتداءًا .. إنه يذكرهم بمهمة العبودية التي خلقوا لأجلها .. ذلك لعلمه أن الإنسان متعبد بفطرته لشئ ما يكون مقدسا و متعاليا في حسه و ضميره و عاقلته .. و لذلك لم يتحدث معهم في اتباع الرسل في استفهامه الإستنكاري ..
و استعمل مؤمننا حقيقة ثانية .. حقيقة الرجوع إلى الله تعالى .. و هو تذكير لهم بالموت .. الموت الذي لا ترغب في تذكره النفوس الجاهلية و إن كانت على يقين من ملاقاته .. إنه يذكرهم بالعودة إلى الله و من ثم فهو يقول لهم : أنتم خلقتم في هذا العالم لأجل مهمة معينة و لأجل وظيفة محددة .. مهمة العبودية و وظيفة الخلافة في الأرض .. و لذلك فأنتم لا جرم مسؤولون أمام الله خالقكم يوم لقائه .. و هو لقاء لن تجدوا عنه ملتحدا و لن تجدوا عنه مصرفا..
و تاالله إن النفس البشرية ما يصدمها شئ ما يصدمها الموت بهوله و فزعه .. إنها يذكرها بحقيقتها الأولى .. إنه يذكرها بعالمها الحقيقي .. إنه يذكرها بالمسؤولية الجسيمة أمام الله تعالى الذي لا يضل و لا ينسى سبحانه جل مجده . فمن أجل ذلك قيل لنا : أكثروا من ذكر هادم اللذات . ذلك لأن النفس البشرية طبعت على الغفلة و النسيان . و لأنها خلقت لشئ عظيم . شئ لا يخولها البقاء في عالم الحدود و القيود كان لزاما في حكمة الباري تعالى النقلة لعالم آخر .. عالم تجد فيه ما قدمت من العمل و ما قامت به من السلوك و ما حققته من معاني المهمة التي نيطت بها حتى تكتمل حكمة الله في الوجود ..
و لأن بعض النفوس المنكوسة لا تستطيع الإرتقاء إلى هذا المرتقى السامق في التفكير و النظر و التذكر .. عدل مؤمننا إلى منهج آخر من مناهج الحجاج و إن ظل يدور في إطار الحجاج الفطري . لأنه كما قلنا آنفا النفس البشرية ليس يصلح لها و ليس يصلحها إلا منهجها المنبثق عن فطرتها حتى و هي تخوض الحجاج و التفكير .. إنه منهج التذكير بحقيقة مهمة يلمس معاني وجودها كل شخص في هذا العالم ضل سبيله فراح يضرب في التيه .. و من ثم يطرح عليهم هذا السؤال الذي يحمل في طياته معنى التعجب و الإستنكار : " أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ [ 23] " .. أيحسن في منطق العقل و قانون العدل اتخاذ آلهة من دون الله تعالى و هو المصرف لمجريات الوجود و المدبر لحركات المخاليق ؟ و هو فوق ذلك إن يرد أحدا بشئ ما خيرا أو شرا فلا راد لقضائه و لا معقب على حكمه ؟ لقد استعمل مؤمننا منطق الفطرة و حجة الواقع الذي يعيشه كل الناس .. فكم مرة عجزت الآلهة – كيفما كانت صور هذه الآلهة سواء أشخاصا أم أصناما أم أشياءا – التي يتخذها الإنسان الجاهلي من دون الله . عن دفع الضر عنه و قد هجم عليه ؟؟ اللهم إنهم لا يستطيعون ..
و نلحظ هنا أن مؤمننا يريد تنبيه قومه إلى جزء من حقيقة القدر الإلهي في الوجود .. أعني الشر و معنى وجوده في حياة الكائنات . ليذكرهم بعظمة الباري جل مجده و أنه المهيمن على حركة الوجود جميعا.. و هو لم يذكر لهم جانب الخير في القدر الإلهي . لأنه أمر يلاقي هوى من النفس البشرية فلا تكاد تلتفت إلى سر معناه في حركة الوجود و سنة الحياة . بل الذي يهزها هزا عنيفا و ينفض عنها غبار الغفلة و النسيان هو جانب الشر و الضر في حياتها كما تراه و تعتقده شرا و ضرا..
و يضيف هذه الحقيقة بيانا في تنبيههم إلى طبيعة العلاقة بين الله الذي صار يؤمن به و بين الآلهة التي يعبدون .. فهو يقول لهم أن طبيعة تلك العلاقة الكبيرة قائمة على قانون الرحمة .. إنها الرحمة المتجليّة في كل شئ حتى فيما يراه الإنسان بعينه القاصرة و فهمه المحدود ضرّا و شرا .. فالله جل مجده إله رحيم كريم ودود غفور و ما خلق عباده الضعفاء إلا ليصبغ عليهم نعمة الرحمة في كل جزء مهما بدا صغيرا و تافها .. بل نزيد بأن مؤمننا استخدم صفة " الرحمن " و لم يستخدم صفة " الرحيم " ليوحي إليهم بطبيعة الذات الإلهية المقدسة الجليلة . و لينبههم إلى محبة الله تعالى لعباده و أنه لا يبغي بهم إلا خيرا و صلاحا و إلا هداية و فلاحا . فالرحمن صفة مبالغة توحي بالعمق و الإتساع و الشمول في الرحمة .. و هكذا الإنسان المؤمن عندما يأخذ في الدعوة إلى الله و الدعوة إلى هذا الدين العظيم .. يكون قصده الكبير ليس إخراج المستمع من دينه و مذهبه إلى دين الإسلام و منهجهه بقدر ما يكون همه منصبا على تحبيب إله الإسلام إلى قلبه و عقله حتى يأتي إلى حضيرة هذا الدين طائعا مختارا محبا مشتاقا .. إنه اللطف في الدعوة .. إنها الرحمة في الدعوة ..
و من ثم يقول لقومه : إن آلهتكم التي تؤمنون بها ليس تغني عنكم شيئا . بل ليس تجلب لكم إلا الشر و الضر الذي تفرون منه .. ذلك لأن الله تعالى هو خالق الكل و هو مدبر الجميع و هو المهيمن على مسيرة الوجود و حركة الإنسان في الحياة .. و ما تلك الآلهة المزيفة التي تدعون من دون الله إلا ضلال لا يليق بفضيلة الإنسانية التي تحملونها في أعماقكم . فهي لا تملك لكم نفعا و لا ضرا و لا تستطيع عنكم مدافعة و لا انتصارا و حتى التي تتخذونها شريكا مع الله لا تنفعكم شفاعتهم من شئ ..
و بعد أن بلغ مؤمننا هذا المستوى من التوضيح و البيان .. أعلن في وجه قومه كلمته المدوية : " إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ [24] إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [25] " يا الله .. إنها صدمة للكفر و الجاهلية .. إني إذا لم أؤمن بالله و بالدين الجديد الذي جاء الرسل يهدونكم إليه فأنا إذا في ضلال مبين .. و إنه حقا لضلال واضح لا لبس فيه ممن اتخذ من دون الله آلهة شتى رجاء أن يغنوا عنه شيئا أو يجلبوا له نفعا ..
و في حسباني أن مؤمننا بقولته تلك إنما جرى كما جرى في حجاجه لهم .. سبيل اللطف و الرحمة و التنبيه الخفي و التذكير الذكي .. فكأنه يقول لهم : إذا لم تؤمنوا بالله و إذا لم تخضعوا للدين الجديد و تعاليم الرسل فأنتم لا جرم في ضلال مبين و على خطير عظيم .. من باب إياك أعني و اسمعي يا جارة ..
ثم زادهم صدمة أخرى أشد من الأولى و أعنف : " إني آمنت بربكم فاسمعون " .. إنه التحدي العنيف الذي يترجم عن الإيمان القوي التي يملأ جوانح الإنسان المؤمن في مواجهة الباطل و الشرك و الجاهلية .. إني آمنت فافعلوا ما شئتم فليس يهم .و اقضوا إلي و لا تنظرون فما هذه الحياة الدنيا إلا لعب و لهو يوشك أن ينادي المنادي : حي على الرحيل .. و ما يغيض الجاهلية و الطواغيت شئ ما يغيضهم التحدي و إعلان العصيان لمبادئهم و الخضوع لهم ..
و إنه لموقف كبير جدا .. يذكرنا بمواقف الأنبياء الكبار و بالصالحين الكرام .. كذلك مضت قصة خليل الرحمن إبراهيم صلى الله عليه و سلم مع قومه . و كذلك مضت قصة كليم الله موسى صلى الله عليه و سلم . و كذلك مضت قصة حبيب الله محمد صلى الله عليه و سلم .. و كذلك مضت قصص نماذج كثيرة منثورة على صفحات التاريخ ..
و لكي تكتمل عناصر القصة التي ابتدأت بتبني عقيدة جديدة ثم ممارسة و سعي حثيث لتفعيل مضامينها في الواقع و الثورة على الجاهلية . لم يخبرنا الحق تعالى بعاقبة مؤمننا مع قومه لأن الأمر بين واضح فما وقف أحد في وجه الطغيان و الجاهلية إلا كانت عاقبته معها العذاب الأليم حتى الموت . و لكن الله تعالى تجاوز هذا ليحدثنا عن عاقبة مؤمننا في عالم الخلد .. إنها الجنة .. " قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [26] بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [27] " يا الله لا إله إلا أنت .. هكذا بهذا التعبير الموحي المعبر العميق : " قيل ادخل الجنة " من قال له ذلك ؟؟ لكأن الوجود جميعا قال له ذلك احتفاءا بمواقفه العظيمة و إجلالا لشهادته لدينه الله تعالى و إعظاما لمغالبته طغيان الجاهلية المقيتة .. قيل ادخل الجنة .. فعل مبني للمجهول . تركه الحق هكذا مجهولا حتى يترك لخيال المتلقي مجالا للحركة في تتبع القائل بل القائلين و حتى تذهب النفس في مذاهب التصور و الخيال و هي تحاول معرفة القائل بل القائلين كل مذهب .. لله ما أعظمه من تعبير جليل جميل . و لله ما أعظم مواقف ذلك الإنسان الفاضل الذي نحس في جنبه بالضآلة و الفخر معا .. و هي ضآلة ناتجة عن إحساسنا تضييع أمر الله في ذات أنفسنا و تبليغ دعوته للعالمين .. و هو فخر منبثق عن اعتزازنا بوجود مثل هاتيك النماذج الخالدة في موكب الإيمان العظيم ..
و يزيدنا ربنا تعالى بيانا عن عظمة مؤمننا فيقول : " قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [26] بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [27] " ياه .. أي إنسان كان ذلك الرجل ؟ و أي نفس كان يحمل بين جنبيه ؟ إنسان يقال له : ادخل الجنة . فلا تنسيه تلك الحفاوة البالغة قومه الضالين : " يا ليت قومي يعلمون " .. و إنه لتعبير عميق الدلالة يترجم تلك الحسرة و ذلك الألم الذي وجده مؤمننا في نفسه و هو يشهد كيف فضل قومه الجاهلية بظلامها و ظلمها و معاناتها على الإسلام بنوره و عدله و سلامه و من ثم حرموا أنفسهم نعيم الجنة الذي أكرمه الله تعالى به ..
تلك كانت عاقبة الإنسان المؤمن ..
أما الجاهلية فعاقبتها فهي بئيسة بئيسة جدا .. " وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ [28] إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [29] "
إن قومه الذين اختاروا الجاهلية على الإسلام .. الذين فضلوا الظلام على النور .. الذين رغبوا في الموت بدل الحياة .. إن هؤلاء البؤساء و هؤلاء المخلوقات الهزيلة لا تساوي عند الله شيئا .. حتى في العذاب لم تستحق من الله الجليل إلا صيحة واحدة لتجعلهم خامدين فصاروا أثرا بعد عين و خبرا مقيتا بعد كل ذلك الضجيج الذي أصموا به سمع الإنسانية .. إنها قدرة الله العظيمة التي يأتي أمرها بين الكاف و النون فإذا بالأمر قد تحقق كأحسن ما يكون التحقق في حيز الوجود .. أجل إنها صيحة واحدة فقط ذهبت بالجاهلية و خيلائها و تجبرها بغير الحق في الأرض ..
و بعد هذا كله .. و بعد فصول تلك القصة المعبرة الموحية .. بعد كل هذا يأتي تعليق الحق تعالى على الأحداث : " يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [30] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ [31] وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [32] "..
أجل يا حسرة عليهم ..
يا حسرة عليهم لأنهم كفروا بالله و أشركوا به آلهة شتى لا تنفع و لا تضر و لا تغني عن صاحبها شيئا ..
يا حسرة عليهم لأنهم حرموا أنفسهم الهدى و النور و الخير و الصلاح و الأمن و السلام . و راحوا يضربون في التيه و يخبطون في الظلام و يتعثرون في الركام ..
يا حسرة عليهم لأنهم حرموا أنفسهم رضا الله تعالى و قربه و جنة عرضها السموات و الأرض في عالم الأبدية الخالد . فعوضوا عن ذلك كله الغضب و المقت و العذاب الأليم مهما امتدت الأبدية في سيرها السرمدي ..
يا حسرة عليهم ..
ثم ..
يعجب ربك الجليل من قوم تمر بهم الآيات و تعبر بهم العبر البيات التي خلت في التاريخ القريب و البعيد . فلا تحرك فيهم ساكنا و لا تهز فيهم جامدا للنظر و الفكر و التأمل : " أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ [31] وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [32] "..
على أن الحقيقة الكبيرة التي يذكر بها الحق تعالى هي حقيقة أن الكل محضر أمام الله تعالى يوم العرض الأكبر ليحاسب على ما قدمته يداه من خير و من شر ..
و الله أعلم .
 
بارك الله فيك أخي نور الدين ونفع بك ، ومرحبا بك بين إخوانك في ملتقى أهل التفسير .
هذه آيات عظيمة ، والعبر فيها كثيرة نسأل الله أن يرزقنا الاتعاظ والاعتبار بها ، وكأني بهذا الكلام أو بعضه منقول من (في ظلال القرآن) .
 
بارك الله فيك

بارك الله فيك

اخي عبد الرحمن بارك الله فيك ... على اني لم اخذ شيئا من الظلال و ان كنت قبل شهور خلت قد قرات المجلدين الاولين منه , ثم يا اخي الحبيب ما كنت لاكتب ان الموضوع غير منقول و هو منقول من كتاب اخر
 
عودة
أعلى