محمد محمود إبراهيم عطية
Member
بريق الوامض ببيان فوائد حديث : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ "
عَنْ أَبِى ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِىِّ - جُرْثُومِ ْبِن نَاِشٍر - t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ e قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا ، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا ، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ ، غَيْرَ نِسْيَانٍ ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا " .
التخريج : رواه الدارقطني ( 4350 ) ، والطبراني في الكبير:22/221(589) وقال الهيثمي في المجمع : 1 / 171 رجاله رجال الصحيح . ا.هـ . وأبو نعيم في الحلية : 9 / 17 ، والحاكم : 4 / 115 ، وسكت عنه هو والذهبي ، ومن طريقه رواه البيهقي في الكبرى ( 20284 ) ، ورواه ( 20283 ) موقوفًا ، كلهم من حديث أبي ثعلبة الخشني ؛ وصوب الدارقطني المرفوع ، وانظر علله : 7 / 6 ؛ وحسنه النووي في أربعينه .
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في ( جامع العلوم والحكم ) : حديثُ أبي ثعلبة قُسِّم فيه أحكام الله أربعة أقسام : فرائض ، ومحارم ، وحدود ، ومسكوت عنه ؛ وذلك يجمع أحكام الدِّين كلَّها ؛ قال أبو بكر ابن السمعاني : هذا الحديث أصل كبير من أصول الدِّين ؛ قال : وحُكي عن بعضهم أنَّه قال : ليس في أحاديث رسول الله e حديثٌ واحد أجمعَ بانفراده لأصول العلم وفروعِه من حديث أبي ثعلبة ؛ قال : وحُكي عن واثلة المزني أنَّه قال : جمع رسول الله e الدِّين في أربع كلمات ، ثم ذكر حديث أبي ثعلبة ؛ قال ابن السمعاني : فمَن عمل بهذا الحديث فقد حاز الثواب ، وأمن العقاب ؛ لأنَّ مَن أدَّى الفرائضَ ، واجتنب المحارمَ ، ووقف عند الحدود ، وترك البحث عما غاب عنه ، فقد استوفى أقسامَ الفضل ، وأوفى حقوق الدِّين ؛ لأنَّ الشرائعَ لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث . ا.هـ.
فقوله e : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ " أي : أوجب على عباده وألزمهم فرائض معلومة ، كالصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج ، وبر الوالدين وصلة الأرحام وغير ذلك ؛ وقد قسم أهل العلم الفرائض قسمين : فرض كفاية ، وهو ما قصد فعله بقطع النظر عن فاعله ، وحكمه إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين ، كالأذان والإقامة وصلاة الجنازة وغيرها ؛ وفرض عين وهو ما قصد به الفعل والفاعل ، ووجب على كل أحد بعينه ؛ كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ؛ وقوله e : " فَلاَ تُضَيِّعُوهَا" أي : لا تهملوها إما بترك أو بتهاون وكسل ، أو بإخلال في أدائها .
وقوله e : " وَحَدَّ حُدُودًا " أي : شرع شرائع وحدَّ لها شروطًا ، " فَلاَ تَعْتَدُوهَا " أي : فلا تتجاوزوها ؛ قال ابن رجب ما خلاصته : أما حدودُ الله التي نَهَى عن اعتدائها ، فالمرادُ بها جملة ما أَذِنَ في فعله ، سواء كان على طريقِ الوجوبِ،أوالندب،أوالإباحة؛ واعتداؤها : هو تجاوزُ ذلك إلى ارتكاب ما نهى عنه،كما قال تعالى : ] وتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [[الطلاق:1]، والمراد : من طلَّقَ على غير ما أمرَ الله به وأذن فيه ؛ وقال تعالى : ] تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[[البقرة:229]،والمراد : من أمسك بعد أنْ طلَّق بغير معروف ،أو سرَّح بغير إحسانٍ ، أو أخذ ممَّا أعطى المرأة شيئًا على غير وجه الفدية التي أذِنَ الله فيها ؛ وقال تعالى : ] تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ [ إلى قوله : ] وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ[[النساء:13، 14 ] ، والمراد : من تجاوز ما فرضه الله للورثة ، ففضَّلَ وارثاً ، وزاد على حقه ، أو نقصه منه .
والمعنى : أنَّ من لم يُجاوز ما أُذِنَ له فيه إلى ما نُهِي عنه ، فقد حفظ حدودَ الله ، ومن تعدَّى ذلك ، فقد تعدَّى حدود الله .
وقد تُطلق الحدودُ ، ويراد بها نفسُ المحارم ، وحينئذٍ فيقال : لا تقربوا حدودَ الله ، كما قال تعالى : ] تِلْكَ حُدُوْدُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها [ [ البقرة : 187 ] ، والمراد : النَّهي عن ارتكاب ما نهى عنه في الآية من محظورات الصِّيام والاعتكاف في المساجد ؛ ومن هذا المعنى - وهو تسميةُ المحارم حدودًا - قولُ النَّبيِّ e : " مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ " ( [1] ) الحديث المشهور ، وأراد بالقائم على حدود الله : المنكِر للمحرَّمات والناهي عنها .
وقد تُسمى العقوباتُ المقدرة الرادعةُ عن المحارم المغلظة حدودًا ، كما يقال : حدُّ الزنا ، وحدُّ السرقة ، وحدُّ شرب الخمر ، ومنه قول النَّبيِّ e لأسامة : " أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ " ( [2] ) ، يعني : في القطع في السَّرقة ؛ وهذا هو المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء .
وقد حمل بعضُهم قوله e : " وحدَّ حُدُودا فلا تعتدوها " على هذه العقوبات الزَّاجرة عَنِ المحرَّمات ، وقال : المراد النَّهيُ عن تجاوُزِ هذه الحدود وتعديها عند إقامتها على أهل الجرائم ؛ ورجَّح ذلك بأنَّه لو كان المراد بالحدود الوقوف عند الأوامر والنَّواهي لكان تكريرًا لقوله : " فرض فرائضَ فلا تُضيِّعُوها ، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها " ؛ وليس الأمر على ما قاله ، فإنَّ الوقوفَ عندَ الحُدودِ يقتضي أنَّه لا يخرج عمَّا أذِنَ فيه إلى ما نهى عنه ، وذلك أعمُّ من كونِ المأذون فيه فرضًا أو ندبًا أو مباحًا كما تقدَّم ، وحينئذٍ فلا تكريرَ في هذا الحديث ، والله أعلم .ا.هـ .
وقوله e : " وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ " أي : أمر بالامتناع عنها ، مثل الشرك ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق ، والخمر والسرقة والزنا وغير ذلك ، " فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا "أي : فلا تقعوا فيها ؛ فالمحارم هي التي حماها الله تعالى ، ومنع من قُربانها وارتكابها وانتهاكها .
وقوله e : " وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ " أي : فلم يفرضها ولم يوجبها ولم يحرمها ،قال ابن رجب : وأمَّا المسكوتُ عنه ، فهو ما لم يُذكر حكمُه بتحليل ولا إيجاب ولا تحريم ، فيكون معفوًّا عنه لا حرج على فاعله ؛ " رَحْمَةً بِكُمْ ، غَيْرَ نِسْيَانٍ " أي : إنَّما سكت عن ذكرها رحمةً بعباده ورفقًا ؛ حيث لم يحرِّمْها عليهم حتَّى يُعاقبَهم على فعلها ، ولم يُوجِبها عليهم حتَّى يعاقبَهم على تركها ، بل جعلها عفوًا ، فإنْ فعلوها ، فلا حرجَ عليهم ، وإنْ تركوها فكذلك ؛ وأما قوله : " فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا " فهو موافق لقوله e : " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ " ( [3] ) ؛ فلا ينبغي البحث والسؤال عما سكت عنه ؛ لأنه على الأصل ؛ قال العثيمين - رحمه الله : فإذا استشكل علينا حكم الشيء : هل هو واجب أم ليس بواجب ؟ ولم نجد له أصلا في الوجوب ، فهو مما عفا الله عنه ؛ و إذا شككنا : هل هذا حرام أم ليس حرامًا ؟ و هو ليس أصله التحريم ؛ كان هذا - أيضًا - مما عفا الله عنه .ا.هـ .
هذا والعلم عند الله تعالى .
[1] - البخاري ( 2493 ) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، وانظر فتح الباري لابن حجر : 5 / 362 .
[2] - جزء من حديث رواه البخاري ( 3475 ، 6788 ) ، ومسلم ( 1688 ) من حديث عائشة رضي الله عنها .
[3] - جزء من حديث رواه مسلم ( 1337 ) وغيره عن أبي هريرة t .