عيسى السعدي
New member
بسم1
تفرّد الربّ سبحانه بصفات الكمال من أعظم أدلّة صحّة التّوحيد ووجوبه وبطلان الشّرك وتحريمه ؛ قال تعالى : { لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}[ النّحل : 60 ] ؛ فجعل مثل السّوء المتضمّن لكلّ عيب ونقص للمشركين وآلهتهم المزعومة ، وأخبر أنّ المثل الأعلى المتضمّن لجميع صفات الكمال لله وحده . وهذا يستلزم عقلاً بطلان الشّرك وصحّة التّوحيد . وعلى هذا المعنى الجامع والتلازم الضّروريّ قامت براهين التّوحيد وإبطال الشّرك ؛ وهي أربعة أنواع : ـ
الأوّل : الاستدلال بتوحيد الرّبوبيّة على توحيد العبادة ؛ فإنّ تفرّد الربّ بمعاني الرّبوبيّة يستلزم إفراده بالعبادة ؛ وذلك لاعتبارات متعدّدة ، منها : ـ
1 ـ أنّ التّفرّد بالربوبيّة يعني التّفرّد بتربية العباد بنعمه وإحسانه ؛ وأصل ذلك الخلق ، إذ كلّ ما بعده من النّعم تابع له ، وفرع عنه ، ولا شكّ أنّ شكر من تفرّد بالخلق والإنعام أوجب شيء في العقول .
2 ـ أنّ التّفرّد بالربوبيّة يعني التّفرّد التامّ بجلب المنافع ودفع المضارّ ؛ وهذا يقتضي عقلاً أن يكون الربّ وحده محلّ محبّة العبد ورغبته ورهبته .
3 ـ أنّ التّفرّد بالربوبيّة يعني التّفرّد بالخلق والملك والغنى الذاتي ، وأنّ ما عدا الربّ مخلوق مملوك فقير لا يصحّ عقلاً أن يكون محلاًّ لمحبّة العبد ورغبته ورجائه ، ولا لشيء ممّا ينشأ عن ذلك من عباداته !! وعلى هذه الاعتبارات وما يجري مجراها جاء هذا النّوع من براهين القرآن على صحّة التّوحيد وبطلان الشّرك ؛ فمن تفرّد بمعاني الربوبيّة من خلق وتدبير وملك وعناية وهداية ونفع وضرّ فهو المستحقّ عقلاً وشرعًا للعبادة وحده ، قال تعالى : { إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إلا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[ يونس : 3 ] ، وقال : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إلَهَ إلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}[ الزّمر : 6 ] ، وقال : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ...} الآيات [ النّمل : 60 ـ 64 ] .
الثّاني : الاستدلال بتوحيد الصّفات على توحيد العبادة ؛ فإنّ التفرّد بصفات الكمال المطلق يستلزم تعلّق القلب بالموصوف بها محبّة وخوفًا ورجاءً وتألّهًا في الظّاهر والباطن ، وهذا البرهان ينتظم جميع ما ورد من صفات الكمال ؛ فكلّها أدلّة على توحيد العبادة سواء أصرّح بذكر لازمها ، أو ذكرت مجرّدة ؛ فمما ذكر مجرّدًا قوله تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}[ الأنعام : 61 ] ، وقوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[ طه : 5 ] ، وقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}[ المائدة : 64 ] ، وقوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}[ الحديد : 4 ] ، وقوله : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[ الذّاريات : 58 ] ؛ فهذه النّصوص ونظائرها لم تذكر لمجرّد تقرير الكمال وإنّما ذكرت لبيان أنّ الموصوف بها هو المستحقّ للعبادة وحده ، يقول ابن تَيْمِيَّة : (( الله سبحانه لم يذكر هذه النّصوص لمجرّد تقرير الكمال له ، بل ذكرها لبيان أنّه المستحقّ للعبادة دون ما سواه ، فأفاد الأصلين اللذين بهما يتمّ التّوحيد ؛ وهما : إثبات الكمال ؛ ردًّا على أهل التّعطيل ، وبيان أنّه المستحقّ للعبادة لا إله إلاّ هو ردًّا على المشركين ))(http://vb.tafsir.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn1) .
أمّا ما صرّح بذكر لازمه من نصوص الصّفات فقوله تعالى : { اللَّهُ لا إلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[ البقرة : 255 ] ، وقوله : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ . هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[ الحشر : 22 ، 23 ] ، وقوله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[ الزّمر : 67 ] ، فصرّح بذكر لازم صفات كماله ؛ وهو البراءة من الشّرك وأهله ، وإفراد الله بجميع العبادات الظّاهرة والباطنة ، ومحلّ الدلالة في قوله : { لا إلَهَ إلا هُوَ} ، وقوله : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ؛ فإنّ الشّهادة تدلّ على توحيد العبادة مطابقة ، والتّنزيه عن الشّرك يستلزم إفراد الله بالعبادة .
وصفات الكمال لا تدلّ على التّوحيد فحسب ، بل إنّها تدلّ مع ذلك على ما يليق بالربّ من الأفعال ؛ ولهذا نزّه الربّ نفسه عن كلّ ما ينافي كماله من الأفعال ؛ قال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}[ الأنبياء : 16 ] ، وقال : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[ المؤمنون : 115 ] ، وقال : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[ القلم : 35 ، 36 ] ، وقال : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ . لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[ الحاقّة : 44 - 47 ] ، فنزّه نفسه عن اللعب والعبث والظّلم وتصديق المتنبئ بما لا معارض له من البراهين ؛ لأنّ هذه الأفعال تنافي كماله وحكمته وعدله ورحمته ([ii]) .
الثّالث : الاستدلال بأوصاف الآلهة الباطلة على التّوحيد ؛ فإنّ كلّ ما يعبد من دون الله تعالى من بشر ، أو شجر ، أو حجر ، أو غير ذلك يجمعهم مثل السوء من الحدوث والعجز والفقر ؛ وهي كلّها صفات نقص تبطل ألوهيّتهم المزعومة ؛ وقد فصّل القرآن هذه الصّفات في نصوص كثيرة بطرق متعدّدة ، منها : ـ
1 ـ تقرير أنّ كلّ ما يعبد من دون الله مخلوق مربوب لا قدرة له على الخلق ؛ وهذا يقتضي ضرورة بطلان الشّرك ، وأنّ الإله الحقّ هو خالق هذه المعبودات والخلق أجمعين ؛ قال تعالى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[ النّحل : 20 ] ، وقال : { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}[ الأعراف : 191 ] ، وقال : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}[ لقمان : 11 ] ، يقول ابن القيّم : (( إن زعموا أنّ آلهتهم خلقت شيئًا مع الله طولبوا بأن يروه إيّاه ، وإن اعترفوا بأنّها أعجز وأضعف وأقلّ من ذلك كانت إلهيتها باطلاً ومحالاً ))([iii]) .
2 ـ أن الآلهة المزعومة ليست أهلاً للعبادة ؛ وذلك لتجرّدها من جميع معاني الرّبوبيّة ؛ فهي لا تنفع ولا تضرّ ، ولا ترزق ولا تضر ، ولا تملك مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض ، قال تعالى : { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا}[ المائدة : 76 ] ، وقال : { إنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ}[ العنكبوت : 17 ] ، وقال : { وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}[ الأعراف : 192 ] ، وقال : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}[ فاطر : 13 ] ، وقال : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ . وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[ سبأ : 22 ، 23 ] ، يقول ابن القيّم : (( أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطّرق الَّتي دخلوا منها إلى الشّرك ، وسدّتها عليهم أحكم سدّ وأبلغه ، فإنّ العابد إنّما يتعلّق بالمعبود لما يرجو من نفعه ، وإلاّ فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلّق قلبه به ، وحينئذٍ فلا بُدّ أن يكون المعبود مالكًا للأسباب الَّتي ينتفع بها عابده ، أو شريكًا لمالكها ، أو ظهيرًا ، أو وزيرًا ، أو معاونًا له ، أو وجيهًا ذا حرمة وقدر يشفع عنده ، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كلّ وجه وبطلت انتفت أسباب الشّرك وانقطعت مواده ؛ فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرّة في السموات والأرض ، فقد يقول المشرك هي شريكة لمالك الحقّ . فنفى شركتها له ، فيقول المشرك : قد تكون ظهيرًا أو وزيرًا ومعاونًا ، فقال : وماله منهم من ظهير ، فلم يبق إلاّ الشّفاعة فنفاها عن آلهتهم ، وأخبر أنّه لا يشفع عنده أحد إلاّ بإذنه ))([iv]) .
3 ـ بيان ما عليه الآلهة المزعومة من صفات النّقص المنافية للألوهيّة ؛ فهي إمّا مخلوقات محتاجة ، لا قيام لها بنفسها ، أو جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلّم ، قال تعالى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[ المائدة : 75 ] ، وقال : { إنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}[ فاطر : 14 ] ، وقال ـ حكاية عن الخليل u ـ : { يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}[ مريم : 42 ] ، وقال : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}[ الأعراف : 148 ]([v]) .
الرّابع : الاستدلال على التّوحيد بضرب الأمثال في المعاني([vi]) ؛ وهي عبارة عن براهين وحجج تفيد توضيحًا للمعنى أو دلالةً على الحكم عن طريق تصوير المعقول في صورة المحسوس ، أو تصوير أحد المحسوسين في صورة أظهرهما ، واعتبار أحدهما بالآخر . وهي أقوى في النّفس ، وأبلغ في الإقناع ؛ لقوّة التّشبيه ، وقربه من الحسّ ، واقتران دلالته بالترغيب والترهيب ([vii]) . وأمثال التّوحيد ممّا يدخل في معنى المثل الأعلى ؛ ولهذا فسّره ابن كيسان بما ضربه الله للتّوحيد والشّرك من الأمثال ([viii]) ، وهو تفسير للمثل الأعلى باعتبار أثره لا باعتبار حقيقته ؛ وهو يعمّ تفسيره بكلمة التّوحيد ، أو بمدلولاتها ، أو بأدلّتها وبراهينها كما تقدّم في التّمهيد ([ix]) .
وقد ذكر الله في كتابه كثيرًا من الأمثال المشتملة على ذكر ما في الآلهة المزعومة من نقائص وأمثال سوء تنفر القلب ، وتهدي العقل بالبرهان لبطلان الشّرك وصحّة التّوحيد ، والتزامه قولاً وعملاً ، رغبًا ورهبًا ؛ ومنها : ـ
1 ـ قوله تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[ النّحل : 75 ] ؛ فهذا مثل ضربه الله لنفسه وللأوثان ، فللأوثان مثل السّوء ولله المثل الأعلى في السموات والأرض ؛ فالله تعالى هو مالك كلّ شيء ، ينفق على عباده سرًّا وجهرًا وليلاً ونهارًا ، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء ، فكيف يقبل عقل أن تكون شريكةً لله ومعبودة معه مع هذا التّفاوت العظيم ([x]) !
2 ـ قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[ النّحل : 76 ] ؛ وهذا مثل آخر ضربه الله لنفسه وللوثن ؛ فإنّ القادر على الحقّ قولاً وأمرًا وفعلاً لا يماثل الأبكم الَّذي لا يقدر على شيء ألبتة لا نطقًا ولا فعلاً ؛ وهكذا شأن الله مع الأوثان ـ ولله المثل الأعلى ـ فإنّ كماله المطلق يحيل أن تماثله الأوثان العاجزة في شيء من كمالاته أو حقوقه ([xi]) !
3 ـ قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ . مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[ الحجّ : 73 ، 74 ] ؛ وقد ضرب الله هذا المثل بأوجز عبارة وأحلاها ، وبيّن فيه ما يعمّ المعبودات الباطلة من عجز حتَّى حال الاجتماع والتّعاون ؛ فهي لا تقدر على إيجاد مخلوق من أضعف المخلوقات ، ولا حتَّى على الانتصار منه ؛ وذلك لكمال عجزها المستلزم بطلان ألوهيّتها ضرورة ؛ إذ من لوازم الألوهيّة الحقّ القدرة التامّة على كلّ شيء ؛ ولهذا فإنّ من عرف الله حقّ المعرفة ، وآمن بصفاته الكاملة ، وقدرته التامّة عصمه إيمانه من شرك العبادة ؛ إذ لا يبتلى به إلاّ من لم يقدر الله حقّ قدره . وهذا المثل يقطع مواد الشّرك ، وهو من أبلغ ما أنزله الله في إبطال الشّرك وتجهيل أهله ([xii]) .
4 ـ قوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[ العنكبوت : 41 ] ؛ فمثل اتّخاذ الأولياء من دونه ، واعتماد المشركين عليهم في حصول المنافع بما في ذلك العزّة والقدرة والنّصرة مثله باعتماد العنكبوت على أضعف البيوت ؛ فإنّ اعتمادهم عليها ما زادهم إلاّ ضعفًا ، وموالاتهم لها ما زادتهم إلاّ ذلّة ؛ جزاءً وفاقًا ، ومعاملةً للمشرك بنقيض مقصوده ، كما هي سنّة الله مع المشركين ([xiii]) .
5 ـ قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[ الرّوم : 28 ] ، والمعنى هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في ملكه حتَّى يساويه في التّصرّف ، ويخافه على ماله كما يخاف أمثاله من الشّركاء الأحرار ؟! فإذا لم ترضوا بهذا لأنفسكم فلم جعلتم خلق الله وعبيده شركاء له في العبادة ([xiv]) ؟!
وقد رأى القرطبي أنّ مقصود المثل المضروب في الآية إبطال أن يكون شيء من العالم شريكًا لله في شيء من أفعاله ؛ ولهذا قال في تحرير المثل : (( كيف يتصوّر أن تنزّهوا نفوسكم عن مشاركة عبيدكم وتجعلوا عبيدي شركاء في خلقي ؟! ))([xv]) . وهذا ليس بصحيح ؛ لأنّ مقصود المثل إقامة البرهان على توحيد العبادة ـ وهو يتضمّن توحيد الأفعال ـ ، ودعوة الخلق له قولاً وعملاً ، إذ هو محلّ الخصومة بين الرّسل وأممهم ، قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}[ الزّخرف : 9 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى}[ الزّمر : 3 ] ، وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[ النّحل : 36 ] .
6 ـ قوله تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[ الزّمر : 29 ] ، وهذا المثل للدّلالة على حسن التّوحيد وقبح الشّرك ، وعدم استواء الموحّد والمشرك في صفتيهما وحاليهما ؛ فالمشرك الَّذي يعبد آلهة شتى بمنزلة عبد يملكه شركاء مختلفون متعاسرون ، لا يلقاه أحدهم إلاّ جرّه واستخدمه ، ومع ذلك لا يُرضي واحدًا منهم بخدمته ؛ لكثرة الحقوق في رقبته ، وتعاسر مواليه ، وسوء أخلاقهم !! والموحّد الَّذي يعبد الله وحده مثله كمملوك سالم لرجل واحد ؛ لا ينازعه فيه أحد ، قد عرف مقاصده وطرق رضاه ؛ فهو في راحة من تشاحن الشّركاء ، وفي نعمةٍ ورغد عيش من إحسان سيّده وتولّيه لمصالحه !! فهذا مثل المؤمن في حياته الطبيّة ، وذاك مثل المشرك فيما يبتلى به من ضنك الحياة ؛ قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}[ النّحل : 97 ] ، وقال : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [ طه : 124 ] ، أي عيشًا ضيّقًا في الدّنيا ، يقول ابن كثير : (( لا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ، بل صدره ضيّق حرج ؛ لضلاله وإن تنعّم ظاهره ، ولبس ما شاء ، وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ؛ فإنّ قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشكّ ؛ فلا يزال في ريبه يتردّد ؛ فهذا من ضنك المعيشة))([xvi]) .
%%%%%
() مجموع الفتاوى 6/83 .
([ii]) انظر : شرح الطحاوية لابن أبي العزّ الحنفي ص36 .
([iii]) الصواعق المرسلة 2/465 .
([iv]) الصواعق المرسلة 2/461 ، 462 .
([v]) وانظر في هذه البراهين الثلاثة : القول السّديد لعبد الرّحمن ابن سعدي ص61 ـ 69 ، دعوة التّوحيد لمحمّد خليل هرّاس ص35 ـ 41 ، الأدلّة العقليّة على أصول الاعتقاد لسعود العريفي ص390 ـ 450 .
([vi]) هذا لإخراج المثل اللغوي ؛ وهو القول السائر الممثل مضربه بمورده ؛ وهو الَّذي عني به علماء اللّغة ، وأفردوا له مؤلّفات مستقلّة ؛ كمجمع الأمثال لأبي الفضل الميداني . وفائدة هذه الأمثال ترجع إلى التّعبير اللغوي ولا دلالة فيه على الأحكام ؛ لأنّ الدّلالة على الأحكام مخصوصة بأمثال المعاني سواءٌ أكانت معينة أو كلية ؛ فالأمثال المعينة هي الَّتي يقاس فيها الفرع بأصل معيّن إما موجود أو مقدّر ، وفي بعض المواضع يذكر الأصل من غير تصريح بذكر الفرع ، والقصص القرآني من هذا الباب ، فإنها كلّها أصول قياس ولا يمكن تعديد ما يلحق بها من الفروع . والأمثال المعينة ترجع إلى القياس الفقهيّ المشهور بقياس التّمثيل .
أمّا الأمثال الكليّة فهي الَّتي يقاس فيها الفرع ( المثل ) بالمعنى الكليّ ؛ لأنّ القضيّة الكليّة في قياس الشّمول تماثل كلّ ما يندرج فيها من الأفراد ؛ فإنّ الذّهن يرتسم فيه معنى عام يماثل الفرد المعين ؛ فصار هذا قياسًا حقيقة ، وهو ضرب مثل في نفس الوقت ؛ لأنّ ضرب المثل هو القياس بعينه . انظر : مجمع الأمثال للميداني 1/5 ، مجموع الفتاوى لابن تيمية 14/54 ـ 68 ، 16/41 .
([vii]) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 14/56 ، أعلام الموقعين لابن القيم 1/148 ، البرهان للزركشي 1/486 ـ 496 .
([viii]) انظر : الصواعق المرسلة لابن القيّم 3/1033 .
([ix]) انظر : ص ( 6 ) من البحث
([x]) انظر : أعلام الموقعين لابن القيّم 1/157 ، 158 .
([xi]) انظر : تفسير القرطبي 10/149 ، 150 ، أعلام الموقعين 1/158 ـ 161 .
([xii]) انظر : أعلام الموقّعين لابن القيّم 1/174 ، 175 ، الصواعق المرسلة 2/466 ، 467 .
([xiii]) انظر : المحرّر الوجيز لابن عطيّة 4/318 ، تفسير القرطبي 13/345 ، أعلام الموقّعين لابن القيّم 1/152 ، 153 .
وممّا يدلّ مع الآية على معاملة المشرك بنقيض قصده حديث عمران بن حصين مرفوعًا : (( انزعها فإنّها لا تزيدك إلاّ وهنًا )) ، وحديث عقبة بن عامر مرفوعًا : (( من تعلّق تميمة فلا أتمّ الله له ، ومن تعلّق ودعة فلا ودع الله له )) ؛ أي لا تركه في دعة وراحة وسكون بل حرّك عليه كلّ مؤذ . انظر فيما يتعلّق ببيان معنى الحديثين وتخريجهما : كتاب التّوحيد بشرحه فتح المجيد وتخريجه لعبد القادر الأرنؤوط ص125 ـ 130 .
([xiv]) انظر : تفسير القرطبي 14/23 ، أعلام الموقعين 1/156 ، 157 .
([xv]) تفسير القرطبي 14/23 .
([xvi]) تفسير ابن كثير 3/168 ، وانظر : تفسير القرطبي 11/258 ، 259 ، 5/253 ، أعلام الموقعين لابن القيّم 1/179 ، مدارج السّالكين 1/422 ، 423 .