براءة نبي الله يوسف مما نسب إليه

إنضم
02/11/2015
المشاركات
43
مستوى التفاعل
3
النقاط
8
الإقامة
مصر
قد تمسك من تكلم وطعن في عصمة نبي الله يوسف عليه السلام وما جاء في قصته عليه السلام بعدة شبهات منها :
1 – قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } يوسف: ٢٤، قالوا : هم بها كما همت به واحتجوا بأثر عن ابن عباس رضى الله عنه .
2 – وبقوله تعالى : {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} يوسف: ٥٣ . قالوا : فهذا اعتراف من يوسف عليه السلام .
3 – وتمسكوا أيضاً بقوله للذي كان معه في السجن : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} يوسف: ٤٢ . قالوا: كيف يعول على غير الله في الخلاص من السجن .
4 - إدخاله صواع الملك في وعاء أخيه ولم يعلم بذلك سائر إخوته ثم أمر من هتف{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} يوسف: ٧٠ ، وهم لم يسرقوا شيئا . ثم إنه قد حبس أخيه عن الرجوع لأبيه مع علمه بما يلحق أباه من الحزن؟ وهل هذا إلا ضرر بأبيه؟
5 – قوله تعالى : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} يوسف: ١٠٠ . قالوا: وكيف رضى بأن يسجدوا له والسجود لا يكون إلا لله، وكيف رضى باستخدام الأبوين؟
والجواب عن ذلك :
أن نقول وبالله تعالى التوفيق لابد أن نعلم أن يوسف عليه السلام كان نبياً قبل المراودة والهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يوسف: ٢٢ . قال جمهور المفسرين : آتيناه الفقه والعقل
والنبوة.
ثم إنه لو لم تثبت نبوته قبل ذلك لم تهتم الأمة بذكر همه لأن العصمة المجمع عليها لا تشترط للنبي إلا بعد ثبوت نبوته لا قبلها .
من ثم نجيب على الشبهة الأولى :
أنه قد شهد ببراءة يوسف من الذنب كل من له تعلق بتلك الواقعة من زوج، وحاكم، ونسوة، وملك، وادعى يوسف ذلك، واعترف له خصمه بصدق ما قاله مرتين، وشهد بذلك رب العالمين الذي هو أصدق القائلين، واعترف بذلك إبليس اللعين، فكيف يلتفت إلى قول هؤلاء؟!
* أما شهادة الزوج ففي قوله تعالى : {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}يوسف: ٢٨ – ٢٩ .
* أما شهادة الحاكم ففي قوله تعالى : {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}يوسف: ٢٦ – ٢٧ .
* وأما شهادة النسوة ففي قوله تعالى : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ }يوسف: ٥١ .
* وأما شهادة الملك ففى قوله تعالى : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ }
يوسف: ٥٤ .
* وأما إدعاء يوسف عليه السلام وهو الصادق المصدوق ففي قوله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} يوسف: ٢٦ ، وقوله : {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} يوسف: ٣٣ .
* وأما إعتراف الخصم ففي قوله تعالى : {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ }يوسف: ٣٢ ، وقوله : {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} يوسف: ٥١ .
* وأما شهادة رب العالمين ففي قوله تعالى : {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} يوسف: ٢٤ .
ونسأل هؤلاء عن الهم بالزنا سوء هو أم غير سوء؟ فلا بد أنه سوء ولو قالوا إنه ليس بسوء لعاندوا الإجماع فإذ هو سوء وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهم بيقين.
وكذلك قوله تعالى : {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} يوسف: ٣٣ – ٣٤ . فصح عنه أنه قط لم يصب إليها.
* وأما اعتراف إبليس بذلك ففي قوله تعالى حكاية عنه : {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ص: ٨٢ – ٨٣، فبين أنه يغوي الكل إلا المخلصين ويوسف من المخلصين .
فأي شبهة تبقى مع هذه الشهادات في براءة يوسف عليه السلام من الذنب.
قال الرازي رحمه الله : إن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضا من منكرات الذنوب، وأيضا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضاً من منكرات الذنوب، وأيضا الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون الغرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكمال قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال.
إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام! المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة.
ثم إن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة، أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم هاهنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية. ([1])
ذكر أقوال العلماء في الهم :
فأول ما ينبغي أن نقدم أن الهم في لسان العرب يقع على معان أربعة :
الأولى : يقع بمعنى «العزم»، ومنه قوله تعالى :{إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}المائدة: ١١ . المعنى : أرادوا ذلك وعزموا عليه.
الثانية: يقع بمعنى «خطور الشئ بالبال» قال الله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا }آل عمران: ١٢٢. فإنما أراد الله تعالى أن الفشل خطر ببالهم ولو كان المراد هاهنا العزم لما صح أن يكون الله وليا لهم، لأن العزم على المعصية معصية .
الثالثة : أن يستعمل بمعنى «المقاربة» يقولون هم بكذا أي كاد يفعله قال ذو الرمة:
أقول لمسعود بجرعاء مالك *** وقد هم دمعي أن يلج أوائله
والدمع لا يجوز عليه العزم وإنما أراد أنه كاد وقارب .
الرابعة: يقع بمعنى «الشهوة وميل الطباع» لأن الإنسان قد يقول فيما يشتهيه، ويميل طبعه إليه: هذا أهم الاشياء إلي.([2])
وبناء على ذلك فقد صار للمحقيق عدة أقوال في تأويل الهم في قصة يوسف عليه السلام نوضحها ونبين منها المختار لدينا :
- قال بعضهم: معناه: ولقد همت المرأة بيوسف، وهمَّ بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمِّها به مما أرادته من المكروه، لولا أنّ يوسف رأى برهان ربه، وكفَّه ذلك عما همّ به من أذاها لا أنها ارتدعت من قِبَل نفسها. قالوا: والشاهد على صحة ذلك قوله: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} قالوا: فالسوء هُو ما كان همَّ به من أذاها، وهو غير«الفحشاء».
قالوا : وفيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صونا للنفس عن الهلاك، والثاني: أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به، فكان يتمزق ثوبه من قدام، وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن، ولو كان ثوبه ممزقا من خلف لكانت المرأة هي الخائنة، فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هاربا عنها، حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية.
- منهم من قال إن في الكلام تقديماً وتأخيراً وترتيبه أن يكون ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، كما قيل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا}، قالوا: والتقديم والتأخير في لسان العرب سائغ. وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري، واختاره الشيخ أبو حيان في «البحر المحيط»، ونظيره في القرآن قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}، فما قبل لولا دليل الجواب، أي: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به.
- وقال آخرون وهو الراجح عندي إن المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى، وقيل: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه ; لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث عنه ﷺ أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ»([3]). يعنى ميل القلب الطبيعى .
ومثال هذا ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد، مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم، وقد قال ﷺ: «وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ كَامِلَةٌ»([4]). لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفا من الله، وامتثالا لأمره .
أما هم امرأة العزيز، فإنه هم عزم وتصميم، بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها، ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه.
ومثل هذا التصميم على المعصية معصية يؤاخذ بها صاحبها، بدليل الحديث الثابت عنه ﷺ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْنَا الْقَاتِلَ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»([5]). فصرح ﷺ بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصية أدخله الله بسببها النار.([6])
بهذا تعلم أن يوسف عليه السلام لم يقع منه معصية وأن همه دفعه بتقواه لله عز وجل فكان له به حسنة، ولو أنه وقعت منه المعصية لذكرت توبته كما تم لآدم ونوح عليهما السلام وكما سيأتي لموسى وداود عليهما السلام.
ثم إننا قد بينا ولله الحمد براءته بنصوص القرآن الكريم كما تقدم .
فإن قيل: قد صح عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : «قعد منها مقعد الرجل من المرأة ».
قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله ﷺ فقط ولعل ابن عباس لم يقطع بذلك إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ولا شك في أنه شيء سمعه فذكره لأنه رضي الله عنه لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله ﷺ ومحال أن يقطع ابن عباس بما لا علم له به، ومثل هذا لا مجال للرأي فيه، ثم إنه لم يرفع منه قليل ولا كثير، والغالب على الظن أنه تلقاه من الأسرائليات، ثم إننا لا نترك المقطوع به من كلام الله سبحانه وتعالى إلى المظنون به من كلام البشر، والعصمة ثابتة للأنبياء غير ثابتة للصحابة فلا يلتفت لقول ابن عباس رضى الله عنه أو أحد غيره ما لم يرد نص عن الله أو رسوله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأما ما ينقل: من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذباً على الأنبياء وقدحاً فيهم وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله؛ لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا ﷺ حرفاً واحدا.اهـ([7])
وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف بأنه جلس بين رجلي كافرة أجنبية، يريد أن يزني بها، اعتماداً على مثل هذه الروايات ، وقد قدمنا دلالة القرآن على براءته من جهات متعددة .
الجواب على الشبهة الثانية:
فإن قيل : قد اعترف يوسف على نفسه في قوله :{ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} يوسف: ٥٣ .
قلنا : إن هذا ليس من كلام يوسف عليه السلام بل هو من كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}يوسف: ٥٠ – ٥٣ .
فهذا كله من كلام امرأة العزيز ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه؛ ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته فحينئذ: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} يوسف: ٥٤ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه؛ بل الأدلة تدل على نقيضه ... إنما يناسب حال امرأة العزيز لا يناسب حال يوسف فإضافة الذنوب إلى يوسف في هذه القضية فرية على الكتاب والرسول وفيه تحريف للكلم عن مواضعه وفيه الاغتياب لنبي كريم وقول الباطل فيه بلا دليل ونسبته إلى ما نزهه الله منه وغير مستبعد أن يكون أصل هذا من اليهود أهل البهت
الذين كانوا يرمون موسى بما برأه الله منه فكيف بغيره من الأنبياء؟اهـ([8])
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: الصواب أنه من تمام كلامها فإن الضمائر كلها في نسق واحد يدل عليه وهو قول النسوة {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} وقول امرأة العزيز {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فهذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر ثم اتصل بها قوله {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} فهذا هو المذكور أولا بعينه فلا شيء يفصل الكلام عن نظمه ويضمر فيه قول لا دليل عليه فإن قيل فما معنى قولها {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قيل هذا من تمام الاعتذار قرنت الاعتذار بالاعتراف فقالت ذلك أي قولي هذا وإقراري ببراءته ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته وإن خنته في وجهه في أول الأمر فالآن يعلم أني لم أخنه في غيبته ثم اعتذرت عن نفسها بقولها وما أبرىء نفسى ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرىء نفسها وهي أن النفس أمارة بالسوء فتأمل ما أعجب أخر هذه المرأة أقرت بالحق واعتذرت عن محبوبها ثم اعتذرت عن نفسها ثم ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت ثم ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله ورحمته وأنه إن لم يرحم عبده وإلا فهو عرضة للشر فوازن بين هذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام لفظا ومعنى وتأمل ما بين التقديرين من التفاوت ولا يستبعد أن تقول المرأة هذا وهي على دين الشرك فإن القوم كانوا يقرون بالرب سبحانه وتعالى وبحقه وإن أشركوا معه غيره ولا تنس قول سيدها لها في أول الحال {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}.اهـ([9])
وهذا تحقيق في غاية النفاسة من الإمامين الجليلين رحمهما الله، فهلا تراجع أهل الأهواء وحثالة الأغبياء عما نسبوه إلى الأنبياء .
أما الشبهة الثالثة : وهى كونه عليه السلام عول على غير الله تعالى،{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} يوسف: ٤٢.
والجواب من وجوه:
الأول : أن الدنيا دار أسباب فالتمسك بالأسباب لا ينافي حقيقة التوكل، بل قد قال يوسف: {إن الحكم إلا لله} كما أن قول أبيه: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} لم ينافي توكله، وما علمنا الرغبة في الخروج من السجن محظورة على أحد حتى تحظر على الأنبياء.
الثاني: أنه ليس في قوله هذا دليل على أنه قد أغفل الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، بل قد شهد الله له أنه من عباده المخلصين والمخلص لا يكون مخلصا مع توكله على غير الله؛ فإن ذلك شرك ويوسف لم يكن مشركا لا في عبادته ولا توكله بل قد توكل على ربه في فعل نفسه بقوله: {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} فكيف لا يتوكل عليه في أفعال عباده.
الثالث: أنه يتوجب عليه السعى في كف الظلم عن نفسه وإن كان ذلك بترغيبه الغير إلى فعل المعروف .
الرابع : أن الضمير في قوله تعالى {فأنساه الشيطان ذكر ربه} راجع إلى الفتى الذي كان معه في السجن أي أن الشيطان أنساه أن يذكر ربه أمر يوسف عليه السلام ويحتمل أيضا أن يكون أنساه الشيطان ذكر الله تعالى ولو ذكر الله عز وجل لذكر حاجة يوسف عليه السلام وبرهان ذلك قول الله عز وجل {وادكر بعد أمة}، فصح يقينا أن المذكور بعد أمة هو الذي أنساه الشيطان ذكر ربه حتى تذكر، ثم إن الضمير يعود إلى
القريب إذا لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك.
والثاني: أن يوسف لم ينس ذكر ربه بل كان ذاكرا لربه. وقد دعاهما قبل تعبير الرؤيا إلى الإيمان بربه .
والثالث: أنه ليس للشيطان على يوسف عليه السلام سبيل حيث أنه من المخلصين، وحتى لو صح أن الضمير من أنساه راجع إلى يوسف عليه السلام لما كان في ذلك نقص ولا ذنب إذ ما كان بالنسيان فلا يبعد عن الأنبياء.
الخامس: لبثه في السجن كان كرامة من الله في حقه؛ ليتم بذلك صبره وتقواه فإنه بالصبر والتقوى نال ما نال؛ ولهذا قال: {أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} ولو لم يصبر ويتق بل أطاعهم فيما طلبوا منه جزعا من السجن لم يحصل له هذا الصبر والتقوى وفاته الأفضل باتفاق الناس.
السادس: أن يوسف لم يفعل ذنبا ذكره الله عنه وهو سبحانه لا يذكر عن أحد من الأنبياء ذنبا إلا ذكر استغفاره منه ولم يذكر عن يوسف استغفارا من هذه الكلمة. كما لم يذكر عنه استغفارا من مقدمات الفاحشة؛ فعلم أنه لم يفعل ذنبا في هذا ولا هذا.([10])
أما الشبهة الرابعة: وهى قوله ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭼ يوسف: ٧٠ ، وهم لم يسرقوا شيئا . ثم إنه قد حبس أخيه عن الرجوع لأبيه مع علمه بما يلحق أباه من الحزن؟ وهل هذا إلا ضرر بأبيه؟
فالجواب عن ذلك:
أن يوسف عليه السلام قد صدق عليهم لأنهم سرقوه من أبيه وباعوه ولم يقل عليه السلام أنكم سرقتم الصواع وإنما قال تفقد صواع الملك وهو في ذلك صادق لأنه كان غير واجد له فكان فاقد له بلا شك .
ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى. وذكر أنه أعلم أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسك به. وعلى هذا الوجه لا يكون ذلك سببا لإدخال الغم في قلب أخيه.
وأما ما يلحق أباه من الحزن والضرر، أن الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثر فيه فقد بنيامين كل التأثير، أولا تراه لما فقده قال: { يا أسفى على يوسف }ولم يعرج على بنيامين، ولعل يوسف فعل ذلك بوحي من الله تعالى إليه زيادة في امتحان أبيه. ([11])
أما الجواب عن الشبهة الخامسة : وهى قوله تعالى : {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا }يوسف: ١٠٠ . فإن ذلك لم يكن محظوراً في شريعتهما بل كان فعلا حسنا وتحقيق رؤياه الصادق من الله تعالى ولعل ذلك السجود كان تحية كسجود الملائكة لآدم عليه السلام إلا أن الذي لا شك فيه أنه لم يكن سجود عبادة ولا تذلل وإنما كان سجود كرامة فقط بلا شك، لأن ذلك ممتنع على الأنبياء عليهم السلام فلا يعقوب يفعله ولا يوسف يقبله وقد نفى الله سبحانه وتعالى عنهم الشرك وصرف العبادة لغير له سبحانه حيث قال تعالى : {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} البقرة: ١٣٣ . وقال يوسف عليه السلام كما أخبر الله عنه:{ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}يوسف: ٣٧ – 38 .
فتبين بذلك ما قررناه وانتفت الشبهات بحول الله، وما توفيقي إلا بالله .


([1] ) مفاتيح الغيب ( 18/440 ) بتصرف يسير.

([2] ) انظر: عصمة الأنبياء ص55 للرازي، تهذيب اللغة ( 5/248 ) باب الهاء والميم، معجم الفروق اللغوية (1/356 - 357) للعسكرى، الكليات (1/960 -961 ) لأبي البقاء الحنفي، تاج العروس ( 34/118) فصل الهاء مع الميم .

([3] ) صحيح: أخرجه أبو داود برقم ( 2134 )، والترمذي برقم ( 1140 )، والنسائي برقم ( 3934 )، وابن ماجه برقم ( 1971 )، والحاكم برقم ( 2761 ) وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الأرنؤوط ، كلهم من حديث عائشة رضى الله عنها.

([4] ) متفق عليه: أخرجه البخاري برقم ( 7501 )، ومسلم برقم ( 130 ) واللفظ له من حديث أبي هريرة رضى الله عنه .

([5] ) متفق عليه: أخرجه البخاري برقم ( 6875 ) واللفظ له، ومسلم برقم ( 2888 ) من حديث أبو بكرة الثقفي رضى الله عنه .

([6] ) انظر: تفسير الطبري (16/33 وما بعدها)، تفسير الرازي ( 18/440 وما بعدها )، تنزيه الأنبياء ص 45 وما بعدها ، الفصل في الملل والنحل ( 4/10 -11 ) ، تفسير القرطبي ( 9/165 وما بعدها )، أضواء البيان للشنقيطي ( 2/205 وما بعدها)

([7] ) مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 10/297 ).

([8] ) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 10/298 – 15/149).

([9] ) روضة المحبين لابن القيم ص219 – 220 .

([10] ) انظر: الفصل لابن حزم ( 4/10 )، مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 15/112 ما بعدها ).

([11] ) انظر: تفسير القرطبي ( 9/231 )، الفصل لابن حزم ( 4/9 )، عصمة الأنبياء للرازي ص 61 .
 
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاكم الله تعالى خيرا.
 
عودة
أعلى