أسامة عبد الرحمن المراكبي
New member
هل نسي آدم (عليه السلام ) أم عصى ؟
2. وقال سبحانه : (وعصى آدم ربه فغوى ) 'طه 121
الإشكال : هل كان أكل آدم من الشجرة نسيانا أم عصيانا، فالناسي ليس بعاص والعاصي لا يكون ناسيا ؟
الجواب من ستة أوجه :
الأول : أن النسيان هنا بمعنى الترك فآدم عليه السلام ما كان ساهيا حتى يقال كيف عوقب بسهوه . قال القرطبي في قوله تعالى (فنسي ) أي ترك الأمر والعهد، وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين"[1]. قال ابن عطية : لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب " [2] .
وقال محمد بن أبي بكر الرازي: إن قيل إن الله تعالى أخبر أن آدم عليه السلام نسي عهد الله ووصيته وأكل من الشجرة , وإذا كان فعل ذلك ناسيا فكيف وصفه بالعصيان والغواية فعاقبه بأعظم أنواع العقوبة وهو الإخراج من الجنة ؟
قلنا : النسيان هنا بمعنى الترك كما في قوله( إنا نسيناكم)[3] وقوله( نسوا الله فنسيهم)[4] فمعناه أنه ترك عهد الله ووصيته ، وكيف يكون من النسيان الذي هو ضد الذكر وقد جرى بينه وبين إبليس من المجادلة والمناظرة في أكل الشجرة فصول كثيرة ؟! منها قوله( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة ..)[5] الآية فكيف يبقى مع هذا نسيان "[6] .
ولا ينافي ذلك في عصمة الأنبياء لما ذكر من أن ذلك كان قبل البعثة ولم يكن كبيرة . والدليل على أنه لم يكن نبيا قوله تعالى ( وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) قال الطبرسي : (ثم اجتباه ) أي اصطفاه الله تعالى واختاره للرسالة "[7]
وقال في تنزيه الأنبياء : آدم عليه السلام لم يكن عند أكله من الشجرة نبيا والعصمة لا تشترط للنبي إلا بعد ثبوت النبوة له فمن الناس من ذكر الإجماع على أنه لم يكن نبيا عندما أكل من الشجرة ومنهم من اكتفى بظاهر قوله تعالى (ثم اجتباه ربه فتاب عليه) فعطف بثم التي تعطي المهلة ، ثم ذكر الاجتباء والهداية . والاجتباء هنا النبوة بدليل قوله تعالى في سورة مريم عليها السلام عندما عدد الأنبياء عليهم السلام ومناقبهم على التفصيل قال( وممن هدينا واجتبينا) يعني من النبيين أجمعهم ، وقال في قصة يونس عليه السلام بعد قصة الحوت( فاجتباه ربه) وهذا وجه من الوجوه يثبت أكله من الشجرة قبل نبوته لا بعدها "[8] .
الثاني : أنه فعله ناسيا لكنه عوتب على ترك التحفظ حتى وقع في النسيان .
قال الطبري:في تفسير قوله تعالي (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا ...) إن قال لنا قائل وهل يجوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطئوا [9] فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك قيل إن النسيان على وجهين : ـ
أحدهما : على وجه التضييع من العبد والتفريط .
والآخر : على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به وضعف عقله عن احتماله . فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط فهو ترك منه لما أمر بفعله فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به وهو النسيان الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة فقال في ذلك (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) "[10].
قال الزمخشري : يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة ، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان .."[11]
قال البيضاوي .إنه فعله ناسيا لقوله سبحانه وتعالى ( فنسي ولم نجد له عزما) ولكنه عوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان. ولعله [ يعني النسيان] وإن حط عن الأمة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم "[12]
وقال القرطبي :يحتمل أن يكون آدم عليه السلام في ذلك الوقت مأخوذا بالنسيان ، وإن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا "[13] .
ورجحه الآلوسي فقال : والأحوط نظرا إلى مقام آدم عليه السلام أن يقال : إن صدور ما ذكر منه كان قبل النبوة وكان سهوا أو عن تأويل ، إلا أنه عُظّم الأمر عليه وعَظُم لديه نظرا إلى علو شأنه ومزيد فضل الله تعالى عليه وإحسانه ، وقد شاع حسنات الأبرار سيئات المقربين .
ومما يدل على استعظام ذلك منه لعلو شأنه عليه السلام ما أخرجه البيهقي في شعب الأيمان[14] عن أبي عبد الله المغربي قال تفكر إبراهيم في شأن آدم عليهما السلام فقال يا رب خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس من ذكر معصيته فأوحى الله تعالى إليه يا إبراهيم أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة [15] " [16] .
الثالث : أن النسيان على حقيقته لكنه نسي تحذير الله له من عداوة الشيطان "[17] ولا ينافي أنه قد أكل عامدا وعليه كان العتاب أو العقاب .
الرابع: يحتمل أن يكون الذي وقع من آدم نسيانا، فسمي ـ تفخيما لأمره ـ عصيانا"[18]
الخامس : أنه عليه السلام أقدم عليه بسبب اجتهاد أخطأ فيه فإنه ظن أن النهي للتنزيه أو الإشارة إلى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها، وكان المراد بها الإشارة إلى النوع "[19] ذكره البيضاوي وفيه ما لا يخفى .
السادس : أن النسيان على حقيقته وأوخذ به عليه السلام لأن عدم المؤاخذة بالنسيان من خصائص هذه الأمة . أشار إليه صاحب المنار في أقوال ذكرها [20].
وذكره الشنقيطي في أحد وجهين ذكرهما في هذه المسألة ، فبدأ به في دفع إيهام الأضطراب[21] ،واستظهره وانتصر له في أضواء البيان وذكر عددا من الأدلة على أن العذر بالنسيان والخطأ والإكراه من خصائص هذه الأمة! وفي كون هذا العذر خاصا بالأمة المحمدية نصر يأتي في بحث آخر بإذن الله تعالى.
وبعد فهذه ستة أوجه في التوفيق بين الآيتين ولكل وجه حظ من الصواب وفي بعضها مقال وفيما ذكر أولا رجحان لا يخفى لأسباب منها :
1- أن عليه أكثر المفسرين ويد الله مع الجماعة وقديما قال قائلهم :
ورأيان خير من واحد ** ورأي الثلاثة لا ينقض .
2- المقاولة التي دارت بين آدم وإبليس يستبعد معها النسيان خاصة وأن سياق القرآن يدل على أن الأكل كان عقب هذه المحادثة مباشرة ، قال تعالى (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ )[28] وقال (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا )[29] . فعطف بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب بلا مهلة . وبهذا يعلم ضعف قول البيضاوي : عن قوله تعالى (ما نهاكما ربكما) و( قاسمهما) إنه ليس فيهما ما يدل على أن تناوله حين ما قال له إبليس فلعل مقاله أورث فيه ميلا طبيعيا ثم إنه كف نفسه عنه مراعاة لحكم الله تعالى إلى أن نسي ذلك وزال المانع فحمله الطبع عليه"[30].
3- قوله تعالى (وعصى آدم ربه فغوى ) والساهي لا يقال فيه " عصى وغوى " .
4- ويؤيد هذا أيضا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث الشفاعة وفيه (فيأتونه فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟
فيقول ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ونهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي..) " [31] والله أعلم .
الأدب مع الأنبياء :
قال الآلوسي :"وعلى العلات لا ينبغي لأحد أن ينسب اليه العصيان اليوم وأن يخبر بذلك إلا أن يكون تاليا لما تضمن ذلك أو راويا له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أن يكون مبتدئا من قبل نفسه فلا. وقد صرح القاضي أبو بكر بن العربي بعدم جواز نسبة العصيان للآباء الأدنين إلينا المماثلين لنا فكيف يجوز نسبته للأنبياء الأقدام والنبي المقدم الأكرم ؟
ثم إن ما وقع كان في الحقيقة بمحض قضاء الله تعالى وقدره وإلا فقد روى عن أبي أمامة الباهلي والحسن أن عقله عليه السلام مثل عقل جميع ولده وعداوة إبليس عليه اللعنة له عليه السلام في غاية الظهور وفي ذلك دليل على أنه لا ينفع عقل ولا يغنى شئ في جنب تقدير الله تعالى وقضائه"[32]
[1] -الجامع لأحكام القرآن :11/267 .
[2] - المحرر الوجيز :4/66.
[3] - السجدة : 14.
[4] -التوبة :67.
[5] - الأعراف :20.
[6] -مسائل الرازي وأجوبتها من غرائب آي التنزيل :222-223
[7] - مجمع البيان ك 7/51.
[8] - تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء : : 66
[9] - قول ابن جرير رحمه : هل يجوز أن يؤاخذ الله عزوجل عباده بما نسوا ؟" في النفس من هذا التعبير شيء فإن الله عزوجل لا يسأل عما يفعل وله سبحانه أن يؤاخذ من شاء بما شاء ، فلو قال الإمام :إن الله سبحانه قد وضع عن عباده الخطأ والنسيان ففيم سؤالهم إياه ألا يؤاخذهم بهما ؟ لكان للسؤال موضعه .
[10] - جامع البيان للطبري : 3/155.
[11] - الكشاف : 2/448. وانظر : التفسير ا لكبير للرازي : 22/107.
[12] - أنوار التنزيل للبيضاوي : 1/304-305.
[13] - الجامع لأحكام القرآن :11/267.
[14] - شعب الإيمان :1/384.
[15] - أبو عبد الله المغربي اسمه محمد بن إسماعيل من أهل المغرب ، قال ابن الجوزي :أسند الحديث عن عمرو بن أبي غيلان وكان المغربي أستاذ إبراهيم الخواص وتوفي على جبل الطور في سنة تسع و تسعين و قيل تسع وسبعين و مائتين " (صفوة الصفوة : 4 / 336) قلت يرحم الله أبا عبد الله من أين لمثله أخبار إبراهيم عليه السلام . أما نحن فلا نقبل شيئا من ذلك ـ أعنى أقوال الأنبياء الأولين وأخبارهم ـ إلا أن يرد ذلك في كتاب الله أو ينقل إلينا بسند صحيح متصل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ونتوقف في قبول كل خبر يأتينا من غير هذين الطريقين مهما كان من أخبر به ومهما كانت منزلته من علم أودين . قال تعالى :( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ) هود :49.
[16] - روح المعاني 16/401-402
[17] - انظر تفسير المنار :1/232.
[18] - تفسير المنار :1/232.
[19] - أنوار التنزيل للبيضاوي :1/304-305.
[20] -تفسير المنار :1/232.
[21] - دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب :202.
[22] - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن :3/72.
[23] - النمل :19.
[24] - رواه بن ماجة :1/659 ، وابن حبان : 16/202 ،والدارقطني : 4/170 ، والطبراني في الصغير : 2/52، والكبير : 2/97، والبيهقى في السنن الكبرى : 6/84. والحاكم في المستدرك :2/216.
[25] - الحديث قال فيه ابن أبي حاتم في العلل سألت أبي عنها فقال هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة وقال في موضع آخر منه لم يسمعه الأوزاعي من عطاء إنما سمعه من رجل لم يسمه أتوهم أنه عبد الله بن عامر الأسلمي أو إسماعيل بن مسلم قال ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده .
وقال عبد الله بن أحمد في العلل سألت أبي عنه فأنكره جدا وقال ليس يروى هذا إلا عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال محمد بن نصر : ليس له إسناد يحتج بمثله .
وقال الحاكم هو صحيح غريب تفرد به الوليد عن مالك .
وقال البيهقي ليس بمحفوظ عن مالك .
ورواه الخطيب في كتاب الرواة عن مالك في ترجمة سوادة بن إبراهيم عنه وقال سوادة مجهول والخبر منكر عن مالك .
ورواه بن ماجة من حديث أبي ذر وفيه شهر بن حوشب وفي الإسناد انقطاع أيضا .
ورواه الطبراني من حديث أبي الدرداء ومن حديث ثوبان وفي إسنادهما ضعف .
وصححه ابن حبان وقال النووي إنه حسن .
قال ابن حجر :وأصل الباب حديث أبي هريرة في الصحيح بلفظ إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم والله أعلم . انظر : العلل ومعرفة الرجال لعبد الله بن الإمام أحمد : 1 / 561 ، وعلل ابن أبي حاتم : 1 / 431، والتلخيص الحبير لابن حجر : 1 / 282 ، كشف الخفاء للعجلوني : 1/ 523 .
[26] - الكهف :73.
[27] - صحيح البخاري :كتاب القدر ، باب تحاج آدم وموسى ثَم الله (6240) .
[28] - الأعراف :20-22.
[29] - طه :120-121.
[30] - أنوار التنزيل : 1/305.
[31] -حديث الشفاعة أخرجه البخاري في صحيحه :كتاب الأنبياء ، باب قول الله تعالى( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم ) (3162) .
[32] - روح المعاني 16/401-402 .