الحسن محمد ماديك
New member
حوار مع الحركات الحهادية
في مرحلة الاستضعاف
حوار مع التنظيمات السرية
إن الله أرسل خاتم النبيين محمدا بالقرآن ولا يزال القرآن غضا طريا كما أنزل ومنه قوله فاصدع بما تؤمر الحجر 94 ومن المثاني معه قوله فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء الأنبياء 109 ويعني أنه لم يخف عن بعض الناس رسالة الله إليهم وإنما صدع بها وجهر ليستوي الجميع في العلم بها وهو مدلول الإيذان على سواء ، ومن زعم أن رسول الله محمدا كانت له تنظيمات سرية يسر إليها بعض رسالته ويخفيه عن العامة فقد أعظم الفرية .
إن حرف الحجر يعني الأمر بوجوب إعلان أن الأوثان لا تضر ولا تنفع وأن الناس في ضلال مبين إن لم يهتدوا إلى أن محمدا مرسل من ربه بالقرآن ، وهي الحقائق الكبرى التي أخفى إعلانها عن جمهور أهل مكة وحدث بها خواصه قبل نزول حرف الحجر .
ويحتج أصحاب التنظيمات السرية بأن إقامة الخلافة واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولست أدري من أين علموا وجوب إقامة الخلافة على المسلم المغلوب على أمره ، وهل يصح اعتقاد أن النبيين والرسل الذين لم يستخلفوا ومنهم نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وعيسى ومثل هود وصالح وشعيب قد تركوا واجبا .
ويعني حرف الأنبياء أن النبي الأمي قد أبلغ رسالته وهي القرآن علنا لكل الناس سواء منهم المؤمنون الذين اتبعوه والكفار الذين تولوا عنه .
ولم يكن من تفصيل القرآن أن نبيا أو رسولا أنشأ تنظيمات سرية وإذاً لكان موسى وهارون أولى الناس بها لإنقاذ شعبهما المستضعف من الإبادة الجماعية .
إن قوله :
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف 108
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه الأحزاب 45
الـر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد إبراهيم
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه المائدة 16
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله النساء 64
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا السجدة 24
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات الأنبياء 73
لتعني أن الدعوة إلى الله ليست عملا يختاره المسلم لنفسه يدعو كيف شاء .
إن الرسول النبي كان يدعو إلى الله على بصيرة أي بوحي من الله إليه يرشده ويأمره بتكليف الله ، وأرسله الله داعيا إليه بإذنه أي أن الله أذن له بالدعوة إليه وأذن له كذلك في أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور وأذن للناس في طاعته كما في حرف النساء ، وهل يستطيع الدعاة أو قادة التنظيمات السرية والجهادية ادّعاء أن الله قد أذن لهم في دعوة الناس وقيادتهم وأذن للناس في طاعتهم .
إن قوله وداعيا إلى الله بإذنه ليعني أن سيكون دعاة بغير إذن الله وهكذا أصبحوا يدعون إلى الله على غير بصيرة وبغير إذنه .
إن قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله عمران 110 وقوله لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس النساء 114 وقوله وافعلوا الخير الحج 77 لظاهر في أعمال البر وإشاعتها بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لن تستطيع التنظيمات السرية تمثله .
حوار مع الفقهاء والحركات الجهادية في هـذه المرحلة
دلالة في سبيل الله
إن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن (سبيل الله)حيث وصف به في الكتاب المنزل تكليف فإنما لبيان أن رسولا قد تنزل عليه الوحي ليأمر الذين آمنوا معه خاصة بالتكليف الموصوف بأنه (في سبيل الله) كالهجرة والجهاد والقتال والإنفاق (في سبيل الله) ، وبانقطاع الوحي بموت الرسول فلن يصح وصف تكليف مثله بأنه (في سبيل الله) ولو تمثله صحابته من بعده فضلا عمن بعدهم وهكذا فلم يهاجر (في سبيل الله) منذ نزل القرآن إلى يومنا هذا إلا من خرج من بيته مهاجرا إلى محمد رسول الله وخاتم النبيين في حياته أو أمره بهجرة كالمهاجرين إلى أرض الحبشة في العهد المكي ، ولم ينفق أو يجاهد أو يقاتل (في سبيل الله) عبر تاريخ البشرية إلا من وقع عليه مباشرة أمر نبي أو رسول فأطاعه .
وقد يقع من المؤمنين بعد حياة رسولهم هجرة أو إنفاق أو جهاد أو قتال شرعي ولكن ليس هو الموصوف في الكتاب المنزل بأنه (في سبيل الله) وليس من لم يوافقهم من المؤمنين قد صد عن (سبيل الله) أو تخلف عن الجهاد (في سبيل الله) ، ومتى كان الصحابة الذين اعتزلوا القتال بين الصحابة في آخر الخلافة الراشدة قد تخلفوا عن الجهاد (في سبيل الله) .
وإن الصد عن (سبيل الله) لم يوصف به إلا الذين عاصروا نبيا أو رسولا ومنعوا الناس أن يؤمنوا به ويتبعوه أو أن يجتمعوا إليه ويسمعوا منه للتلقي أو للتأمل كما في قوله ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به الأعراف 86 من قول رسول الله شعيب يصف نفسه ورسالته بسبيل الله وكما في المثاني معه في قوله ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله الأنفال 47 يعني قريشا يوم خرجوا من ديارهم إلى بدر ليصدوا عن سبيل الله أي عن الرسول النبي الأمي ورسالته .
إن لفظ (سبيل الله) لوصف دقيق كامل لرسالة الله قبل موت الرسول ، فإن مات النبي وترك الكتاب في أمته فلن يوصف شيء من الأعمال التي في الكتاب بأنه في سبيل الله ولو تمثله المسلمون جميعا ومن تحقيق ذلك أن قوله واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الأنفال 41 وقوله ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الحشر 7 ليعني أن قوله فأن لله خمسه وللرسول في الأنفال وقوله فلله وللرسول في الحشر هما للدلالة على (سبيل الله) في الحرفين أي أن السهم الأول لا يقسم بين المؤمنين وإنما للرسول خالصا عفوا صفوا ، أما قوله إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل التوبة 60 فيعني أن سابع الثمانية من الأسهم يصرف (في سبيل الله) أي في ما يأمر به الرسول كتجهيز معسر في الجهاد معه ونحوه من مأمورات الرسول خاصة ، وليس هذا السهم السابع للرسول يصرفه على نفسه إذ تأخر ذكره ولم يأت على رأس المذكورين كما في حرفي الأنفال والحشر مما يعني صحة الحديث أن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد كما بينت في كلية الرسالة من بيان القرآن ، وكذلك قوله وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب البقرة 177 وكله من الصدقة ولم يجعل لرسول الله فيها نصيبا إذ لم يذكره على رأس المذكورين فاعلم فرق ما بين الإنفاق على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وهو من الصدقة تطوعا وبين الإنفاق (في سبيل الله) الواجب لأنه إنفاق المال ممن أمرهم الرسول به كما في تجهيز جيش العسرة ولم يتخلف عن الطاعة إلا معلوم النفاق .
إن الإذن بالقتال للرسول وأصحابه بعد الهجرة كما في قوله :
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الحج 39
كتب عليكم القتال وهو كره لكم البقرة 216
وقاتلوا في سبيل الله البقرة 244
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة… النساء 74
لا يعني أنهم مأذونون أبدا أي في كل وقت شاءوه أو شاءه أحدهم بقتل أو قتال من قدروا عليه من الكفار وإنما الإذن يعني أنهم قد أصبحوا في مرحلة الدفاع كما في قوله والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون الشورى 39 وقوله وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين البقرة 190 وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم البقرة 194 وأنهم قد تجاوزوا المرحلة الابتدائية الأولى مرحلة الصبر وكف الأيدي عن القتال التي كان الخطاب والتكليف فيها كما في قوله :
كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة النساء 77
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما الفرقان 63
ويدرأون بالحسنة السيئة الرعد 22 القصص 54
إن عليك إلا البلاغ الشورى 48
وفي مرحلة الدفاع أي بعد نزول الإذن من الله به فلن يستطع إنفاذ القتال المأذون به ليجعل المسلمين عمليا في مرحلة التنفيذ غير رسول الله الذي يتلقى الوحي يأمره ربه بإنفاذه على فلان وفلان أو على طائفة معلومة أو على أصحاب قرية معلومة من الكفار ، وإذا خرج الرسول والصحابة لإنفاذه فقد خرجوا في سبيل الله وجاهدوا في سبيل الله فإن قاتلوا ففي سبيل الله الذي أمرهم بتلك الغزوة كما هي دلالة قوله ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله الحشر 5 يعني أن الله أذن لهم بذلك أي أمرهم به ، والمقتول منهم هو المقتول في سبيل الله لا غيره .
إن الرسول لم يخرج من بيته غازيا أو يجهز سرية أو يبعث بعثا إلا طاعة لله الذي أمره بتلك الغزوة أو السرية بذاتها وكما هي دلالة قوله :
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الأنفال 5
وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال عمران 121
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الأنفال 24
ويقول الذين آمنوا لولا نزّلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال القتال 20
وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله التوبة 86
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض التوبة 38
وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا عمران 167
ويعني أول الأنفال وأول عمران أن الله قد أمر رسوله بالخروج من بيته إلى العدو بالحق وهو الوحي من الله ، وأن النبي لم يخرج من بيته اجتهادا منه أو قصد الإنتقام من قريش ، وقد أعلن النبي هذه الكليات الكبرى قبيل غزوة أحد بحديثه " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله " أي لن يلبسها إلا بأمر الله أي بوحيه ليخرج إلى الجهاد (في سبيل الله) لقتال عدو الله ولن يتخلف النبي عن أمر الله ولن يضعها حتى يحكم الله أي بالوحي إليه كذلك .
ويعني ثاني الأنفال أمر الذين آمنوا بطاعة الله ورسوله إذا دعاهم لما يحييهم وهو الجهاد في سبيل الله لما في القتل في سبيل الله من الحياة البرزخية كما في قوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون عمران 169 ومن المثاني معه قوله ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون البقرة 154 .
ويعني حرف القتال وثاني التوبة أن الإذن بالقتال في سبيل الله متجدد لن يقع الإذن بإنفاذه إلا إذا أنزلت سورة يأمر الله فيها بإنفاذه على عدو معلوم مخصوص ، وأن الوحي هو الذي يأمر النبي بالقتال في كل مرة ، وإلا لما تمنى الصحابة بعد منتصف العهد المدني أن ينزل الله سورة يأمر فيها بالقتال ، ولما تجدد في السنة التاسعة بعد الهجرة نزول حرف التوبة يأمر بالجهاد مع النبي في غزوة تبوك بعد نزول الإذن الأول في حرف الحج في السنة الثانية من الهجرة ، ولقد كان بعض الصحابة الذين لم يحضروا بدرا قد عاهدوا الله أن يصدقوا في اللقاء ليكرمهم بالقتل في سبيل الله إذا أذن الله لنبيه بقتال آخر وتأخر عنهم الإذن سنة كاملة حتى نزل الإذن بالقتال في غزوة أحد ، وأي من الصحابة يومئذ كان يملك شرعية أن يضرب رأس من قدر عليه من الكفار أو يغتاله ، ولقد استأذن بعض الصحابة النبي ليأذن لهم بضرب رؤوس بعض الكفار والمنافقين فلم يأذن ، ولو فعلوا دونما إذنه لما كان في سبيل الله ، كما لم يكن قتل خالد بن الوليد ـ وهو من أمراء الجند في فتح مكة ـ بعض المشركين من القتال في سبيل الله ، وإنما أعلن النبي براءته مما صنع خالد ، وودى القتلى ، وهل يصح اعتقاد أن النبي قد تبرأ من قتال في سبيل الله .
ويعني القول المجهل " قيل " في أول التوبة وثاني عمران أن الوحي كان يتنزل في كل مرة يأمر الله فيها بالقتال أوالنفير في سبيل الله .
وإن من تفصيل الكتاب وأصول التشريع والخطاب أن قوله قيل حيث وقعت في الكتاب المنزل فإنما للدلالة على الوحي لا غيره ومنه قوله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم البقرة 59 أي بدلوا الوحي الذي أنزل على موسى وهو قوله وإذ قلنا ادخلوا هـذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة البقرة 58 ، ومنه قوله وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوّوا رؤوسهم المنافقون 5 والقول الذي قيل لهم هو قوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما النساء 64 ، ومنه قوله ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين التوبة 46 والقول الذي قيل لهم هو قوله فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين التوبة 83 وكذلك قوله سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل الفتح 15 ، ولا يخفى أن قول الله من قبل هو قوله وقيل اقعدوا مع القاعدين وقوله فاقعدوا مع الخالفين ، فاعلم تأخر نزول حرف الفتح عن حرفي التوبة .
إن الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة هم بنوا إسرائيل بعد أن أمروا بالقتال في سبيل الله في التوراة ، وعلق إنفاذه بسبب قولهم يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون المائدة 24 ، وبعد موسى سلّط الله عليهم عدوا جبارا أخرجهم من الديار والأبناء كما في قولهم وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا البقرة 246 وكان نبيهم يومها قد قال لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة النساء 77 أي كفوا أيديكم عن القتال رغم استضعافهم واحتلال جالوت وجنوده ديارهم ورهن الأبناء فيها وإخراج الآباء منها ولم يأذن لهم بالقتال إلا لمّا بعث الله لهم طالوت ملكا ، وكان القتال مع طالوت هو القتال في سبيل الله لا غيره ، ولو سارع بعضهم لأجل الحماس إلى القتل والاغتيال في صفوف جالوت وجنوده قبل نزول الإذن بالقتال مع طالوت لما كانوا من المقاتلين في سبيل الله وكما هو صريح حرف البقرة في قوله ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله البقرة 246 ويعني أن إخراجهم من الديار والأبناء لا يجعل قتال المعتدي الظالم الذي احتل الديار وأخرج الآباء ورهن الأبناء قتالا في سبيل الله ، إن أولئك اليهود أفقه في الكتاب المنزل من عند الله من فقهائنا الذين يوجبون القتال في هـذه المرحلة المشابهة لتلك ، ولأنهم حانقون على العدو ولأن نبيّهم شيخ كبير فقد سألوه أن يبعث لهم ملكا أي قائدا شابا يختاره لقيادتهم ولن يفعل النبي ذلك إلا بأمر الله وإنما سألوا نبيّهم التزاما منهم بإنفاذ الأمر لو نزل من عند الله وأنهم لن يقولوا كما قال سلفهم لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هـاهنا قاعدون المائدة 24 .
إن إنفاذ بعث أسامة بالجيش بعد موت النبي لمن الجهاد في سبيل الله إذ أمر به النبيّ في حياته ، أما قتال الصحابة بعد النبيّ الذين يلونهم من الكفار فهو شرعي لقوله يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار التوبة 123 ولقوله قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون الفتح 16 ويعني أن الصحابة وهم الذين آمنوا ـ كما بينت في مقدمة تفسيري من تفصيل الكتاب وبيان القرآن ـ قد كلّفهم الله في الكتاب المنزل بقتال من يليهم من الكفار كفارس والروم ووجب عليهم السمع والطاعة ولم يوصف هذا القتال المأمور به في حرفي التوبة والفتح بأنه في سبيل الله لتأخر نفاذه عن حياة النبي .
إن المخلفين من الأعراب قد دعاهم أبو بكر وعمر إلى قتال أهل الردة بعد حياة النبي وتلك دلالة قوله قل في القرآن دون سائر الكتاب ويعني أنه لن يقع في حياة النبي وإنما بعده في أمته ، كما بينت في "من أصول التفسير" ، ولا يخفى أن المخلفين من الأعراب هم المخلفون عن جهاد النبي في حياته الذين لم يلتحقوا به وإنما دعاهم بعده أبو بكر أما بعد جيل الصحابة فقد مضى وانقرض المخلفون من الأعراب .
ولم يخاطب الكتاب جماعة المسلمين بقتال بعد الصحابة إلا قوله وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمرالله الحجرات 9 ويعني أن لجماعة المسلمين بعد حياة النبي أن تقاتل الفئة الباغية كما هي دلالة تجريد هـذا القتال المأذون به من الوصف بسبيل الله .
أما قتال الدولة الأموية فما بعده فليس شيء منه شرعيا فضلا عن وصفه بأنه في سبيل الله ولا يخفى فقه عمر ابن عبد العزيز إذ أوقف المد الإسلامي بالحملات العسكرية لما تسلم السلطنة ........
أما الدفع كما في قوله وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أوادفعوا عمران 167 ومن المثاني معه قوله وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هـذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا النساء 75 فليس من القتال في سبيل الله إذ غاير بينهما وإنما هو سلوك الذي يقاتل حمية ، وهـكذا ندب إلى المنافقين فعله للدفاع عن المدينة في غزوة أحد كما في حرف عمران ولتخليص المستضعفين في مكة كما في حرف النساء لما أعرضوا عن القتال في سبيل الله أي طاعة لله ورسوله .
وإن من الدفع قتال صلاح الدين الأيوبي في ظل دولته إذ دفع عن شعبه صولة الصليبيين وقتال قطز في ظل دولته إذ دفع عن شعبه صولة التتار ، وليس قتالهما في سبيل الله كما بينت .
إن قوله :
• ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا الحج 40
• ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين البقرة 251
ليعني أن من نعمة الله وفضله على العالمين أن أذن للناس كل الناس في العالمين وهم أعم من المسلمين أي أذن لليهود والنصاري والصابئين والمسلمين أن يدفع كل منهم أعتداء الآخر عليه ولتحفظ دور العبادة لكل أهل دين وهي الصوامع والبيع والصلوات والمساجد من الهدم واعتداء الغزاة المعتدين ، وقد وقع الإذن في السورتين في سياق اعتداء الغازي المحتل وهو اعتداء جالوت وجنوده في حرف البقرة وهو اعتداء الأقوياء الذين يقاتلون الضعفاء ظلما في حرف الحج .
والحرفان من الخطاب الجماعي أي للشعوب التي تتعرض للاحتلال والقهر ولا يقع الخطاب فيهما على الأفراد كما يأتي تحقيقه قريبا .
احتجاج الحركات الجهادية في الميزان
إن مدار احتجاج الحركات الجهادية في هذه المرحلة لرفع السلاح والقتال هو على رواية أبي هريرة المتواترة عن النبي أنه قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلـه إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " وكذلك حديث ابن عمر مرفوعا ، والنبي هو المأمور بقتال الكفار على الإسلام وكما هو صريح الحديث " أمرت " .
وكذلك تحتج الحركات الجهادية في هذه المرحلة بحديث ابن مسعود المرفوع " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلـه إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة " وقد رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، وبحديث عائشة المرفوع ، وهو صريح في القتل على هذه الخصال ولو لم تحصل مقاتلة من أصحابها غير أنه من التشريع الجماعي في الكتاب المنزل للمجتمع المدني المسلم .
ولن يقوم الإحتجاج به للأفراد إذ لم يأت في الكتاب أمر فرد بقتل فرد ولا جماعة ، وإنما جاء في الكتاب أمر الجماعة المسلمة بقتل فرد شذ أو حارب كما في قوله ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق الأنعام 151 الإسراء 33 في خطاب الجماعة المسلمة لا في خطاب الفرد وإنما بيان قتلها بالحق هو ما بيّنه الكتاب وبيّنه النبي بالحديثين المرفوعين عن ابن مسعود وعائشة ، أما غير الثيب الزاني والقتل للقصاص والمحارب المفارق للجماعة التارك لدينه فإذا قتلته الجماعة فإنما ظلما وعدوانا منها على الفرد .
ولا يخفى نزول حرفي الأنعام والإسراء في مكة قبل قيام الدولة النبوية في المدينة ولكن الجماعة المسلمة المخاطبة بهذا التكليف لم توجد في مكة البتة قبل الهجرة وإنما وجدت ونشأت وكان لها سلطانها الذي اكتسبت به صفة الجماعة في المدينة ، وظلت الجماعة المسلمة بعد قيامها في المدينة لا تعلم دلالة قوله بالحق الذي يجعل لها سلطانا أي حجة من الله بقتل فرد منها شذ أو حارب حتى نزل حد الزاني المحصن وهو الشاذ بعد غزوة الأحزاب وتجاوز الدولة مرحلة الدفاع ونزل الإذن بالقصاص في البقرة والمائدة ونزل حد الحرابة في المائدة في السابعة للهجرة .
ولم يوصف قتل الجماعة للفرد الذي شذ أوحارب بأنه (في سبيل الله) فظهر أن للمؤمنين بعد الرسول أن يتمثلوا القيام بالحدود إذا كان لهم جماعة وسلطان أي تمكين في الأرض إذ لم يوصف قطع يد السارق وجلد الزاني والقاذف والقصاص بأنه (في سبيل الله) وتجردت جميع الحدود من هذا الوصف ، وكما هي دلالة الحديثين " لا يحل " أي لا يحل للجماعة قتل الفرد إلا بإحدى ثلاث .
ولقد تأخر الإذن بالقصاص منذ قتل ابن آدم الأول بيد شقيقه الخاسر إلى أن أنزلت التوراة على أول مجتمع مدني مسلم بعد هلاك فرعون ، أما قبلهم فلم توجد على ظهر الأرض جماعة مسلمة إذ لم يتجاوز الناجون مع الرسل بالآيات كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب العد بالأصابع ، وتلك دلالة قوله من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس حميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا المائدة 32 بعد تلاوة نبإ ابني آدم بالحق على هـذه الأمة ، ودلالة قوله وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص المائدة 45 ويعني فرض القصاص في التوراة ، أما قبلها فلم يوجد تشريع جماعي كما حققت .
إن قوله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم الفتح 25 ، ليعني أن حرمة دم وعرض الذين يكتمون إيمانهم في مكة في السادسة من الهجرة هو الذي فرض على النبي صلح الحديبية ومنعه من دخول مكة عنوة لئلا تنتهك ـ بغير علم ـ دماء وأعراض الذين يكتمون إيمانهم فتصيب الصحابة المعرة عند الله يوم الحساب ، ولن تصح إذن شرعية العمليات الإرهابية والسيارات المفخخة ولا العمليات الإنتحارية التي يقتل فيها المنتحر نفسه ليتعدى حدود الله ومنها قوله ولا تقتلوا أنفسكم النساء 29 فيقتل نفسه ، وقد يقتل فيها من يكتم إيمانه ومن يعلنه .
أقول : أدعوكم قادة التنظيمات السرية والجهادية إلى التوبة وإعلانها للناس على سواء للنجاة من عذاب الله ومن ظلم الافتراء على الله أن ما تقومون به من تنظيمات وعمليات انتحارية وإرهابية هو دين الإسلام وإني لأعجب إن كنتم أفقه في دين الله من الرسل والنبيين الذين لم يعملوا مثل عملكم هذا كما يأتي قريبا تحقيقه ، وسيوفق الله للتوبة من دخل ابتداء في التنظيمات السرية والجهادية بحثا عن الحق ليتخلى عنها إذا أبصر الحق في غيرها .
فقه المرحلية
إن قوله ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل الزمر 27 لتعني أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان إذ حوى القرآن مثالا لكل حالة ومرحلة سيتعرض لها المسلم فأكثر منذ نزول القرآن إلى قيام الساعة ، وعلى كل مسلم أن يتمثل المثل الذي ضرب الله له في القرآن فإن كان سجينا فقد ضرب الله له مثل يوسف الذي شهد له صاحبا السجن بقولهما إنا نراك من المحسنين يوسف 36 ، وإن كان فردا مسلما طليقا في أرض لا يعبد الله فيها فقد ضرب الله له مثل إبراهيم الذي كان أمة وحده ، وإن كانت قلة تخاف أن تفتن عن دينها فقد ضرب الله لها مثلا بأصحاب الكهف الذين اعتزلوا من يخافون فتنته وتركوه وشأنه وكما في الأحاديث الصحيحة أن سيوشك أن يكون خير مال المسلم غنيمات يرعى بها رؤوس الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ، وإن كانوا ممكنين في الأرض فقد ضرب الله لهم مثل داوود وسليمان وذي القرنين والنبي الأمي بعد غزوة الأحزاب ، وحوى القرآن جميع المواقف التي سيقفها أعداء الدين من أهله إلى نهاية المستقر والمتاع في الأرض للإنسان .
إن ما يقع علي المسلم خطابا وتكليفا من نصوص الوحي ـ وحده من جهة ومع جماعة من جهة أخرى ـ هو متغير ومتجدد حسب الزمان والمكان والعلم والقوة والأسباب ، وقد يختلف الخطاب باختلاف المكان للمسلمين المتعاصرين بل وللذين يعرف بعضهم بعضا ويتصل بعضهم ببعض .
ولقد كان المسلمون داخل الدولة النبوية في المدينة المنورة مكلفون بجميع الخطاب الجماعي خلافا للملك النجاشي ورجال مؤمنين ونساء مؤمنات في مكة قبل الفتح إذ لم يخاطبوا بشيء من التكاليف الجماعية كالجمعة والقضاء والحدود والجهاد والقتال .
ولا يخفى وصف النجاشي بالإيمان إذ صلى عليه النبي صلاة الغائب يوم موته في التاسعة من الهجرة ، ولا يخفى وصف المؤمنين المستضعفين في مكة قبل الفتح بالإيمان كما في قوله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الفتح 25 فوصفوا بالإيمان رغم عدم قيامهم بشيء من التكاليف الجماعية لأنهم كانوا مستضعفين ، وكانوا خارج نفوذ الدولة الإسلامية ، ولقد أسقط الاستضعاف عن الرسول النبي هارون معاقبة عبدة العجل كما في قوله قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني الأعراف 150 وأقره موسى ، وجعل الله عذره عبرة لأولي الألباب كما في قوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب يوسف 111 ، وأسقط الاستضعاف كذلك عن بني يعقوب الوفاء بموثقهم فلم يرجعوا بأخيهم كما في قوله قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم يوسف 66 فكان وجودهم في ظل حاكم أقوى منهم ، من الإحاطة بهم ، ولم يكلفهم أبوهم يعقوب بالعمليات الآنتحارية ولا بالاغتيالات في صفوف المصريين .
إن قوله وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هـذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا النساء 75 ليعني أن المستضعفين في مكة لم ينشئوا التنظيمات السرية ولم يقوموا باغتيال زعماء مكة ، وشكر الله سلوكهم فجعله قرآنا يتلى للذكر والعبرة ، إذ لم يكن منهم إلا دعاء ربهم ليخرجهم من مكة حيث استضعفوا فيزول عنهم الاستضعاف .
إن القرآن حدثنا أن الانشغال بالصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر التكاليف الفردية والكف عن القتل والقتال والاغتيال هو سلوك رسول الله وخاتم النبيين محمد في العهد المكي على نسق جميع النبيين والرسل الذين لم يمكّن لهم في الأرض مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ومثل موسى وهارون قبل هلاك فرعون ولو جاز لهم لسارع إليه موسى وهارون ولهما أكبر الدوافع بما يعانيه قومهما من فرعون وملئه الذين يسومونهم سوء العذاب بقتل الذكور واستحياء النساء لإبادة شعب بكامله ولو جاز لهم لما اكتفى محمد في العهد المكي بأمر أصحابه بالصبر وهم يعذبون حتى ماتت سمية بالتعذيب ولما منع أصحاب بيعة العقبة الكبرى في السنة الثالثة عشر من البعثة على عتبة الهجرة من اغتيال زعماء مكة في منى لتصبح بانقلاب أحمر دار إسلام وهجرة .
إن النبي محمدا قد كلف باتباع النبيين قبله وبالاهتداء بهداهم ومنهم إبراهيم الذي حطم أصنام قومه كما في قوله وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم الأنبياء 57 ـ 58 وقوله فراغ عليهم ضربا باليمين الصافات 93 ولم يتبع خاتم النبيين محمد إبراهيم في هذا السلوك إذ لم يحطم الأصنام حول الكعبة بل ظل يصلي ويطوف حول الكعبة قبل الهجرة ولم يمس الأصنام بسوء ، وكان محمد قد أطاع الله في قوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم الأنعام 108 ، فكان استثناء من عموم الأمر في قوله فبهداهم اقتده الأنعام 90 ، وعلم النبي أن النهي عن سب الأصنام يعني نهيا أكبر منه عن تحطيمها في مرحلة الاستضعاف .
وحدثنا القرآن أن كل عملية قتل وقعت عبر التاريخ منذ قتل ابن آدم الأول بيد شقيقه الخاسر وإلى أن نزلت التوراة وقتل قتيل بني إسرائيل الذي ضرب ببعض أجزاء البقرة التي ذبحت - إنما كانت من جانب الكفار والمشركين ، إذ لم يتضمن القرآن القتل ومحاولته والقتال والاغتيال في مرحلة ما قبل التمكين إلا من جانب الكفار ، ومنه تهديد نوح وإبراهيم وشعيب بالرجم ، ومحاولة اغتيال صالح وأهله من جانب تسعة رهط من قومه ، ومنه رمي إبراهيم في النار التي نجاه الله منها ، ومنه المجزرة الجماعية لأصحاب الأخدود الذين حرقوا بالنار ، ومنه قتل السحرة لما آمنوا برب العالمين رب موسى وهارون من جانب فرعون ، ومنه قتل أصحاب القرية الرجل الذي جاء من أقصى المدينة ليعز الرسل الثلاثة الذين هددوا بالرجم ومنه محاولة اليهود قتل عيسى لولا أن رفعه الله ، ومنه عمليات قتل أنبياء وأتباعهم لم يفصلها القرآن .
أقول نعم ! لقد ذكر القرآن أن موسى قتل قبطيا خطأ قبل الرسالة وقد استغفر منها وعاتبه الله عليها وتاب عليه فمن يحتج بها ؟ وأن الخضر قتل غلاما بأمر الله لقوله وما فعلته عن أمري الكهف 82 ، وأما تفكير الأسباط إخوة يوسف في قتله فقد تراجعوا عنه واستغفروا منه وكان قبل نبوتهم وبدافع الغيرة وهم فتيان لا زالوا يلعبون ويمرحون ويستبقون .
إن القرآن حدثنا أن ابن آدم الأول المقتول إنما منعه دينه عن الدفاع عن نفسه وذلك قوله لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين المائدة 28 .
وما كان جواب نوح لما هدد بالرجم إلا كما في قوله قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين الشعراء 117ـ 118 .
وما كان جواب الرسل الثلاثة الذين هددوا بالرجم إلا كما في قوله قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون يس 19 .
وما كان من الرسل بالآيات لما هددوا بالإخراج أو الإكراه إلا أن قالوا ولنصبرن على ما آذيتمونا إبراهيم 12 واستفتحوا ربهم طلبا للنصر .
وما كان من النبيين الذين قتلوا إلا أن صبروا .
إن المرحلة التي يعيشها الفلسطينيون والعراقيون اليوم قد عاشها بنو إسرائيل مرتين قبل نزول القرآن :
أولاهما : في ظل فرعون قبل وبعد رسالة موسى ذاقوا من العذاب كما في قوله وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون الأعراف 127 ـ 129 ويعني أن موسى رغم تهديد فرعون بإبادتهم أكثر مما مضى ، لم يأمر قومه بالإرهاب والاغتيال والقتل ، وإنما بقوله استعينوا بالله واصبروا واستفتح ربه طلبا للنصر بقوله عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض .
وثانيهما : بعد نزول التوراة التي تضمنت التكليف بالقتال في سبيل الله ، وكان نبيهم من بعد موسى بين أظهرهم يوم اجتاح جالوت وجنوده ديارهم وأخرجهم منها ورهن فيها الأبناء ، ولم يأذن لهم بإنفاذ القتال في سبيل الله إلا لمّا بعث الله لهم طالوت ملكا ، وكان القتال معه هو القتال في سبيل الله لا غيره كما في قوله ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله البقرة 246 كما بينت ، ولو سارع بعضهم لأجل الحماس إلى القتل والاغتيال في صفوف جالوت وجنوده لما كانوا من المقاتلين في سبيل الله ، كما لم يكن قتل خالد بن الوليد ـ وهو من أمراء المسلمين في فتح مكة ـ بعض المشركين من القتال في سبيل الله ، وإنما أعلن النبي براءته مما صنع خالد ، وودى القتلى ، ولست أدري كيف علم تنظيم القاعدة وغيرهم في هـذا العصر أن قتالهم هو في سبيل الله .
إن المرحلة التي عاشها بنو إسرائيل في ظل فرعون هي نفسها المرحلة التي يعيشها الفلسطينيون اليوم في ظل الدولة اليهودية ولم يكن بنو إسرائيل يومها مأذونين بالجهاد والقتال فلو قاتلوا فرعون لما كان قتالهم من الجهاد أو القتال في سبيل الله .
إن موسى بدأ رسالته إلى فرعون بقوله فأرسل معي بني إسرائيل الأعراف 105 وقوله فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل الشعراء 16 ـ 17 وقوله فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم طـه 47 وقوله وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون الدخان 21 ويعني أنه يريد الهجرة بقومه واعتزال فرعون وشأنه ، وإن هـذا لهو الهدى الذي أرسل الله به موسى ونبّأ به خاتم النبيين في القرآن تذكرة وعبرة لأولي الألباب .
ولقد هاجر إبراهيم ، وهاجر أصحاب الكهف ، وهاجر المسلمون إلى أرض الحبشة بأمر النبي وهاجر النبي وأصحابه إلى المدينة تمثلا بقوله يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون العنكبوت 56 ويعني إذا منعتم من عبادة ربكم فابحثوا عن أرض تتمكنون فيها من عبادة ربكم فأين هذا السلوك في مرحلة عدم التمكين من المقام مع من يفتنهم وإنشاء التنظيمات السرية والجهادية والعمليات الانتحارية .
إن المسلم مخاطب بالتكاليف الشرعية وهو في إحدى وضعيتين أو مرحلتين لن يخلو منهما أحد : مرحلة الاستضعاف ومرحلة التمكين .
ولقد غاير الكتاب المنزل كثيرا بين الوضعيتين فجعل التكاليف الفردية وهي ما يسع كل فرد مسلم فعله كالصلاة والبر والإنفاق والصيام ـ وكذا المنهيات في جميع الوحي ـ هي التكليف في مرحلة الاستضعاف وهي التي لم يتجاوزها نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وسائر الرسل الذين لم يمكّن لهم في الأرض ولم يتجاوزها خاتم النبيين محمد في المرحلة الابتدائية وهي ما قبل الهجرة أو ما يسمى بالعهد المكي .
وجعل التشريع الجماعي ومنه القصاص والحدود والمعاملات هو ما خوطب به السلطان والمجتمع المسلم معه وهم من يقع عليهم الوصف بجماعة المسلمين .
إن قوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم في الأنعام 151 ـ 153 إلى آخر الوصايا العشر هي التكاليف التي يجب أن يتمثلها المسلمون الذين لا سلطان لهم ولذلك جاء بعدها قوله ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون الأنعام 154 ويعني أن الوصايا العشر هي التي اقتصرت عليها كل نبوة وكل رسالة قبل التوراة والعجيب أن القرآن المكي قبل الأمر بالهجرة لم يتجاوزها كذلك ، وتكرر ذكرها في الإسراء ولقمان ووصفت بالحكمة ويعني موضع الأنعام أن النبي يدعو الناس جميعا إلى تأمل ما تعبدهم به ربهم من التكاليف وأنه مثل ما نزل على جميع الرسل والنبيين قبل موسى وإنما نزل التشريع الجماعي على موسى في التوراة بعد هلاك فرعون كما هي دلالة قوله ثم آتينا موسى الكتاب لبيان تأخر نزول التشريع الجماعي في الكتاب عن الحكمة .
إن القتل والقتال والخطف والإغتيال في هذه المرحلة مرحلة الاستضعاف هو بدعة ابتدعتها التنظيمات الجهادية في الثلث الأخير من القرن العشرين من عند أنفسهم مخالف لهدي القرآن وسنة النبيين جميعا ، ولقد كان الاشتراكيون العرب في الشام هم أول من سنّ عمليات خطف الطائرات والأفراد والعمليات الفدائية ضد العدو منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين ، ومن قبل اعتمد القرامطة الحشاشون في قلعة آلموت بقيادة الحسن بن الصباح في القرن الرابع الهجري أسلوب الاغتيالات والعمليات الانتحارية ضد مخالفيهم .
وإنما وقع الخلط على الإسلاميين وعلى الفقهاء وعلى المؤمنين بحمل السلاح في هـذه المرحلة بسبب عدم دراية هـذه الحقائق الكبرى في الكتاب المنزل على خاتم النبيين .
ملاحظة :
هـذا البحث ملخص من تفسيري القرآن
الحسن ولد ماديك
باحث أكاديمي في علوم القرآن
متخصص منذ 1981 في الحركات الباطنية عبر التاريخ
متخصص منذ 1981 في الجماعات الإسلامية
متخصص منذ 1989 في القراءات العشر الكبرى
متفرغ منذ 2001 لتفسير القرآن تحت الطبع
انواكشوط ـ موريتانيا
الجوال : 002226728040
المكتب : 002225210953
E.MAIL : [email protected]
في مرحلة الاستضعاف
حوار مع التنظيمات السرية
إن الله أرسل خاتم النبيين محمدا بالقرآن ولا يزال القرآن غضا طريا كما أنزل ومنه قوله فاصدع بما تؤمر الحجر 94 ومن المثاني معه قوله فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء الأنبياء 109 ويعني أنه لم يخف عن بعض الناس رسالة الله إليهم وإنما صدع بها وجهر ليستوي الجميع في العلم بها وهو مدلول الإيذان على سواء ، ومن زعم أن رسول الله محمدا كانت له تنظيمات سرية يسر إليها بعض رسالته ويخفيه عن العامة فقد أعظم الفرية .
إن حرف الحجر يعني الأمر بوجوب إعلان أن الأوثان لا تضر ولا تنفع وأن الناس في ضلال مبين إن لم يهتدوا إلى أن محمدا مرسل من ربه بالقرآن ، وهي الحقائق الكبرى التي أخفى إعلانها عن جمهور أهل مكة وحدث بها خواصه قبل نزول حرف الحجر .
ويحتج أصحاب التنظيمات السرية بأن إقامة الخلافة واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولست أدري من أين علموا وجوب إقامة الخلافة على المسلم المغلوب على أمره ، وهل يصح اعتقاد أن النبيين والرسل الذين لم يستخلفوا ومنهم نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وعيسى ومثل هود وصالح وشعيب قد تركوا واجبا .
ويعني حرف الأنبياء أن النبي الأمي قد أبلغ رسالته وهي القرآن علنا لكل الناس سواء منهم المؤمنون الذين اتبعوه والكفار الذين تولوا عنه .
ولم يكن من تفصيل القرآن أن نبيا أو رسولا أنشأ تنظيمات سرية وإذاً لكان موسى وهارون أولى الناس بها لإنقاذ شعبهما المستضعف من الإبادة الجماعية .
إن قوله :
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف 108
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه الأحزاب 45
الـر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد إبراهيم
ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه المائدة 16
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله النساء 64
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا السجدة 24
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات الأنبياء 73
لتعني أن الدعوة إلى الله ليست عملا يختاره المسلم لنفسه يدعو كيف شاء .
إن الرسول النبي كان يدعو إلى الله على بصيرة أي بوحي من الله إليه يرشده ويأمره بتكليف الله ، وأرسله الله داعيا إليه بإذنه أي أن الله أذن له بالدعوة إليه وأذن له كذلك في أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور وأذن للناس في طاعته كما في حرف النساء ، وهل يستطيع الدعاة أو قادة التنظيمات السرية والجهادية ادّعاء أن الله قد أذن لهم في دعوة الناس وقيادتهم وأذن للناس في طاعتهم .
إن قوله وداعيا إلى الله بإذنه ليعني أن سيكون دعاة بغير إذن الله وهكذا أصبحوا يدعون إلى الله على غير بصيرة وبغير إذنه .
إن قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله عمران 110 وقوله لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس النساء 114 وقوله وافعلوا الخير الحج 77 لظاهر في أعمال البر وإشاعتها بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لن تستطيع التنظيمات السرية تمثله .
حوار مع الفقهاء والحركات الجهادية في هـذه المرحلة
دلالة في سبيل الله
إن من تفصيل الكتاب وأصول الخطاب أن (سبيل الله)حيث وصف به في الكتاب المنزل تكليف فإنما لبيان أن رسولا قد تنزل عليه الوحي ليأمر الذين آمنوا معه خاصة بالتكليف الموصوف بأنه (في سبيل الله) كالهجرة والجهاد والقتال والإنفاق (في سبيل الله) ، وبانقطاع الوحي بموت الرسول فلن يصح وصف تكليف مثله بأنه (في سبيل الله) ولو تمثله صحابته من بعده فضلا عمن بعدهم وهكذا فلم يهاجر (في سبيل الله) منذ نزل القرآن إلى يومنا هذا إلا من خرج من بيته مهاجرا إلى محمد رسول الله وخاتم النبيين في حياته أو أمره بهجرة كالمهاجرين إلى أرض الحبشة في العهد المكي ، ولم ينفق أو يجاهد أو يقاتل (في سبيل الله) عبر تاريخ البشرية إلا من وقع عليه مباشرة أمر نبي أو رسول فأطاعه .
وقد يقع من المؤمنين بعد حياة رسولهم هجرة أو إنفاق أو جهاد أو قتال شرعي ولكن ليس هو الموصوف في الكتاب المنزل بأنه (في سبيل الله) وليس من لم يوافقهم من المؤمنين قد صد عن (سبيل الله) أو تخلف عن الجهاد (في سبيل الله) ، ومتى كان الصحابة الذين اعتزلوا القتال بين الصحابة في آخر الخلافة الراشدة قد تخلفوا عن الجهاد (في سبيل الله) .
وإن الصد عن (سبيل الله) لم يوصف به إلا الذين عاصروا نبيا أو رسولا ومنعوا الناس أن يؤمنوا به ويتبعوه أو أن يجتمعوا إليه ويسمعوا منه للتلقي أو للتأمل كما في قوله ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به الأعراف 86 من قول رسول الله شعيب يصف نفسه ورسالته بسبيل الله وكما في المثاني معه في قوله ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله الأنفال 47 يعني قريشا يوم خرجوا من ديارهم إلى بدر ليصدوا عن سبيل الله أي عن الرسول النبي الأمي ورسالته .
إن لفظ (سبيل الله) لوصف دقيق كامل لرسالة الله قبل موت الرسول ، فإن مات النبي وترك الكتاب في أمته فلن يوصف شيء من الأعمال التي في الكتاب بأنه في سبيل الله ولو تمثله المسلمون جميعا ومن تحقيق ذلك أن قوله واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الأنفال 41 وقوله ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الحشر 7 ليعني أن قوله فأن لله خمسه وللرسول في الأنفال وقوله فلله وللرسول في الحشر هما للدلالة على (سبيل الله) في الحرفين أي أن السهم الأول لا يقسم بين المؤمنين وإنما للرسول خالصا عفوا صفوا ، أما قوله إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل التوبة 60 فيعني أن سابع الثمانية من الأسهم يصرف (في سبيل الله) أي في ما يأمر به الرسول كتجهيز معسر في الجهاد معه ونحوه من مأمورات الرسول خاصة ، وليس هذا السهم السابع للرسول يصرفه على نفسه إذ تأخر ذكره ولم يأت على رأس المذكورين كما في حرفي الأنفال والحشر مما يعني صحة الحديث أن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد كما بينت في كلية الرسالة من بيان القرآن ، وكذلك قوله وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب البقرة 177 وكله من الصدقة ولم يجعل لرسول الله فيها نصيبا إذ لم يذكره على رأس المذكورين فاعلم فرق ما بين الإنفاق على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وهو من الصدقة تطوعا وبين الإنفاق (في سبيل الله) الواجب لأنه إنفاق المال ممن أمرهم الرسول به كما في تجهيز جيش العسرة ولم يتخلف عن الطاعة إلا معلوم النفاق .
إن الإذن بالقتال للرسول وأصحابه بعد الهجرة كما في قوله :
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الحج 39
كتب عليكم القتال وهو كره لكم البقرة 216
وقاتلوا في سبيل الله البقرة 244
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة… النساء 74
لا يعني أنهم مأذونون أبدا أي في كل وقت شاءوه أو شاءه أحدهم بقتل أو قتال من قدروا عليه من الكفار وإنما الإذن يعني أنهم قد أصبحوا في مرحلة الدفاع كما في قوله والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون الشورى 39 وقوله وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين البقرة 190 وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم البقرة 194 وأنهم قد تجاوزوا المرحلة الابتدائية الأولى مرحلة الصبر وكف الأيدي عن القتال التي كان الخطاب والتكليف فيها كما في قوله :
كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة النساء 77
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما الفرقان 63
ويدرأون بالحسنة السيئة الرعد 22 القصص 54
إن عليك إلا البلاغ الشورى 48
وفي مرحلة الدفاع أي بعد نزول الإذن من الله به فلن يستطع إنفاذ القتال المأذون به ليجعل المسلمين عمليا في مرحلة التنفيذ غير رسول الله الذي يتلقى الوحي يأمره ربه بإنفاذه على فلان وفلان أو على طائفة معلومة أو على أصحاب قرية معلومة من الكفار ، وإذا خرج الرسول والصحابة لإنفاذه فقد خرجوا في سبيل الله وجاهدوا في سبيل الله فإن قاتلوا ففي سبيل الله الذي أمرهم بتلك الغزوة كما هي دلالة قوله ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله الحشر 5 يعني أن الله أذن لهم بذلك أي أمرهم به ، والمقتول منهم هو المقتول في سبيل الله لا غيره .
إن الرسول لم يخرج من بيته غازيا أو يجهز سرية أو يبعث بعثا إلا طاعة لله الذي أمره بتلك الغزوة أو السرية بذاتها وكما هي دلالة قوله :
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الأنفال 5
وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال عمران 121
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الأنفال 24
ويقول الذين آمنوا لولا نزّلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال القتال 20
وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله التوبة 86
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض التوبة 38
وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا عمران 167
ويعني أول الأنفال وأول عمران أن الله قد أمر رسوله بالخروج من بيته إلى العدو بالحق وهو الوحي من الله ، وأن النبي لم يخرج من بيته اجتهادا منه أو قصد الإنتقام من قريش ، وقد أعلن النبي هذه الكليات الكبرى قبيل غزوة أحد بحديثه " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله " أي لن يلبسها إلا بأمر الله أي بوحيه ليخرج إلى الجهاد (في سبيل الله) لقتال عدو الله ولن يتخلف النبي عن أمر الله ولن يضعها حتى يحكم الله أي بالوحي إليه كذلك .
ويعني ثاني الأنفال أمر الذين آمنوا بطاعة الله ورسوله إذا دعاهم لما يحييهم وهو الجهاد في سبيل الله لما في القتل في سبيل الله من الحياة البرزخية كما في قوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون عمران 169 ومن المثاني معه قوله ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون البقرة 154 .
ويعني حرف القتال وثاني التوبة أن الإذن بالقتال في سبيل الله متجدد لن يقع الإذن بإنفاذه إلا إذا أنزلت سورة يأمر الله فيها بإنفاذه على عدو معلوم مخصوص ، وأن الوحي هو الذي يأمر النبي بالقتال في كل مرة ، وإلا لما تمنى الصحابة بعد منتصف العهد المدني أن ينزل الله سورة يأمر فيها بالقتال ، ولما تجدد في السنة التاسعة بعد الهجرة نزول حرف التوبة يأمر بالجهاد مع النبي في غزوة تبوك بعد نزول الإذن الأول في حرف الحج في السنة الثانية من الهجرة ، ولقد كان بعض الصحابة الذين لم يحضروا بدرا قد عاهدوا الله أن يصدقوا في اللقاء ليكرمهم بالقتل في سبيل الله إذا أذن الله لنبيه بقتال آخر وتأخر عنهم الإذن سنة كاملة حتى نزل الإذن بالقتال في غزوة أحد ، وأي من الصحابة يومئذ كان يملك شرعية أن يضرب رأس من قدر عليه من الكفار أو يغتاله ، ولقد استأذن بعض الصحابة النبي ليأذن لهم بضرب رؤوس بعض الكفار والمنافقين فلم يأذن ، ولو فعلوا دونما إذنه لما كان في سبيل الله ، كما لم يكن قتل خالد بن الوليد ـ وهو من أمراء الجند في فتح مكة ـ بعض المشركين من القتال في سبيل الله ، وإنما أعلن النبي براءته مما صنع خالد ، وودى القتلى ، وهل يصح اعتقاد أن النبي قد تبرأ من قتال في سبيل الله .
ويعني القول المجهل " قيل " في أول التوبة وثاني عمران أن الوحي كان يتنزل في كل مرة يأمر الله فيها بالقتال أوالنفير في سبيل الله .
وإن من تفصيل الكتاب وأصول التشريع والخطاب أن قوله قيل حيث وقعت في الكتاب المنزل فإنما للدلالة على الوحي لا غيره ومنه قوله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم البقرة 59 أي بدلوا الوحي الذي أنزل على موسى وهو قوله وإذ قلنا ادخلوا هـذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة البقرة 58 ، ومنه قوله وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوّوا رؤوسهم المنافقون 5 والقول الذي قيل لهم هو قوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما النساء 64 ، ومنه قوله ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين التوبة 46 والقول الذي قيل لهم هو قوله فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين التوبة 83 وكذلك قوله سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل الفتح 15 ، ولا يخفى أن قول الله من قبل هو قوله وقيل اقعدوا مع القاعدين وقوله فاقعدوا مع الخالفين ، فاعلم تأخر نزول حرف الفتح عن حرفي التوبة .
إن الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة هم بنوا إسرائيل بعد أن أمروا بالقتال في سبيل الله في التوراة ، وعلق إنفاذه بسبب قولهم يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون المائدة 24 ، وبعد موسى سلّط الله عليهم عدوا جبارا أخرجهم من الديار والأبناء كما في قولهم وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا البقرة 246 وكان نبيهم يومها قد قال لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة النساء 77 أي كفوا أيديكم عن القتال رغم استضعافهم واحتلال جالوت وجنوده ديارهم ورهن الأبناء فيها وإخراج الآباء منها ولم يأذن لهم بالقتال إلا لمّا بعث الله لهم طالوت ملكا ، وكان القتال مع طالوت هو القتال في سبيل الله لا غيره ، ولو سارع بعضهم لأجل الحماس إلى القتل والاغتيال في صفوف جالوت وجنوده قبل نزول الإذن بالقتال مع طالوت لما كانوا من المقاتلين في سبيل الله وكما هو صريح حرف البقرة في قوله ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله البقرة 246 ويعني أن إخراجهم من الديار والأبناء لا يجعل قتال المعتدي الظالم الذي احتل الديار وأخرج الآباء ورهن الأبناء قتالا في سبيل الله ، إن أولئك اليهود أفقه في الكتاب المنزل من عند الله من فقهائنا الذين يوجبون القتال في هـذه المرحلة المشابهة لتلك ، ولأنهم حانقون على العدو ولأن نبيّهم شيخ كبير فقد سألوه أن يبعث لهم ملكا أي قائدا شابا يختاره لقيادتهم ولن يفعل النبي ذلك إلا بأمر الله وإنما سألوا نبيّهم التزاما منهم بإنفاذ الأمر لو نزل من عند الله وأنهم لن يقولوا كما قال سلفهم لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هـاهنا قاعدون المائدة 24 .
إن إنفاذ بعث أسامة بالجيش بعد موت النبي لمن الجهاد في سبيل الله إذ أمر به النبيّ في حياته ، أما قتال الصحابة بعد النبيّ الذين يلونهم من الكفار فهو شرعي لقوله يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار التوبة 123 ولقوله قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون الفتح 16 ويعني أن الصحابة وهم الذين آمنوا ـ كما بينت في مقدمة تفسيري من تفصيل الكتاب وبيان القرآن ـ قد كلّفهم الله في الكتاب المنزل بقتال من يليهم من الكفار كفارس والروم ووجب عليهم السمع والطاعة ولم يوصف هذا القتال المأمور به في حرفي التوبة والفتح بأنه في سبيل الله لتأخر نفاذه عن حياة النبي .
إن المخلفين من الأعراب قد دعاهم أبو بكر وعمر إلى قتال أهل الردة بعد حياة النبي وتلك دلالة قوله قل في القرآن دون سائر الكتاب ويعني أنه لن يقع في حياة النبي وإنما بعده في أمته ، كما بينت في "من أصول التفسير" ، ولا يخفى أن المخلفين من الأعراب هم المخلفون عن جهاد النبي في حياته الذين لم يلتحقوا به وإنما دعاهم بعده أبو بكر أما بعد جيل الصحابة فقد مضى وانقرض المخلفون من الأعراب .
ولم يخاطب الكتاب جماعة المسلمين بقتال بعد الصحابة إلا قوله وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمرالله الحجرات 9 ويعني أن لجماعة المسلمين بعد حياة النبي أن تقاتل الفئة الباغية كما هي دلالة تجريد هـذا القتال المأذون به من الوصف بسبيل الله .
أما قتال الدولة الأموية فما بعده فليس شيء منه شرعيا فضلا عن وصفه بأنه في سبيل الله ولا يخفى فقه عمر ابن عبد العزيز إذ أوقف المد الإسلامي بالحملات العسكرية لما تسلم السلطنة ........
أما الدفع كما في قوله وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أوادفعوا عمران 167 ومن المثاني معه قوله وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هـذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا النساء 75 فليس من القتال في سبيل الله إذ غاير بينهما وإنما هو سلوك الذي يقاتل حمية ، وهـكذا ندب إلى المنافقين فعله للدفاع عن المدينة في غزوة أحد كما في حرف عمران ولتخليص المستضعفين في مكة كما في حرف النساء لما أعرضوا عن القتال في سبيل الله أي طاعة لله ورسوله .
وإن من الدفع قتال صلاح الدين الأيوبي في ظل دولته إذ دفع عن شعبه صولة الصليبيين وقتال قطز في ظل دولته إذ دفع عن شعبه صولة التتار ، وليس قتالهما في سبيل الله كما بينت .
إن قوله :
• ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا الحج 40
• ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين البقرة 251
ليعني أن من نعمة الله وفضله على العالمين أن أذن للناس كل الناس في العالمين وهم أعم من المسلمين أي أذن لليهود والنصاري والصابئين والمسلمين أن يدفع كل منهم أعتداء الآخر عليه ولتحفظ دور العبادة لكل أهل دين وهي الصوامع والبيع والصلوات والمساجد من الهدم واعتداء الغزاة المعتدين ، وقد وقع الإذن في السورتين في سياق اعتداء الغازي المحتل وهو اعتداء جالوت وجنوده في حرف البقرة وهو اعتداء الأقوياء الذين يقاتلون الضعفاء ظلما في حرف الحج .
والحرفان من الخطاب الجماعي أي للشعوب التي تتعرض للاحتلال والقهر ولا يقع الخطاب فيهما على الأفراد كما يأتي تحقيقه قريبا .
احتجاج الحركات الجهادية في الميزان
إن مدار احتجاج الحركات الجهادية في هذه المرحلة لرفع السلاح والقتال هو على رواية أبي هريرة المتواترة عن النبي أنه قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلـه إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " وكذلك حديث ابن عمر مرفوعا ، والنبي هو المأمور بقتال الكفار على الإسلام وكما هو صريح الحديث " أمرت " .
وكذلك تحتج الحركات الجهادية في هذه المرحلة بحديث ابن مسعود المرفوع " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلـه إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة " وقد رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، وبحديث عائشة المرفوع ، وهو صريح في القتل على هذه الخصال ولو لم تحصل مقاتلة من أصحابها غير أنه من التشريع الجماعي في الكتاب المنزل للمجتمع المدني المسلم .
ولن يقوم الإحتجاج به للأفراد إذ لم يأت في الكتاب أمر فرد بقتل فرد ولا جماعة ، وإنما جاء في الكتاب أمر الجماعة المسلمة بقتل فرد شذ أو حارب كما في قوله ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق الأنعام 151 الإسراء 33 في خطاب الجماعة المسلمة لا في خطاب الفرد وإنما بيان قتلها بالحق هو ما بيّنه الكتاب وبيّنه النبي بالحديثين المرفوعين عن ابن مسعود وعائشة ، أما غير الثيب الزاني والقتل للقصاص والمحارب المفارق للجماعة التارك لدينه فإذا قتلته الجماعة فإنما ظلما وعدوانا منها على الفرد .
ولا يخفى نزول حرفي الأنعام والإسراء في مكة قبل قيام الدولة النبوية في المدينة ولكن الجماعة المسلمة المخاطبة بهذا التكليف لم توجد في مكة البتة قبل الهجرة وإنما وجدت ونشأت وكان لها سلطانها الذي اكتسبت به صفة الجماعة في المدينة ، وظلت الجماعة المسلمة بعد قيامها في المدينة لا تعلم دلالة قوله بالحق الذي يجعل لها سلطانا أي حجة من الله بقتل فرد منها شذ أو حارب حتى نزل حد الزاني المحصن وهو الشاذ بعد غزوة الأحزاب وتجاوز الدولة مرحلة الدفاع ونزل الإذن بالقصاص في البقرة والمائدة ونزل حد الحرابة في المائدة في السابعة للهجرة .
ولم يوصف قتل الجماعة للفرد الذي شذ أوحارب بأنه (في سبيل الله) فظهر أن للمؤمنين بعد الرسول أن يتمثلوا القيام بالحدود إذا كان لهم جماعة وسلطان أي تمكين في الأرض إذ لم يوصف قطع يد السارق وجلد الزاني والقاذف والقصاص بأنه (في سبيل الله) وتجردت جميع الحدود من هذا الوصف ، وكما هي دلالة الحديثين " لا يحل " أي لا يحل للجماعة قتل الفرد إلا بإحدى ثلاث .
ولقد تأخر الإذن بالقصاص منذ قتل ابن آدم الأول بيد شقيقه الخاسر إلى أن أنزلت التوراة على أول مجتمع مدني مسلم بعد هلاك فرعون ، أما قبلهم فلم توجد على ظهر الأرض جماعة مسلمة إذ لم يتجاوز الناجون مع الرسل بالآيات كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب العد بالأصابع ، وتلك دلالة قوله من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس حميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا المائدة 32 بعد تلاوة نبإ ابني آدم بالحق على هـذه الأمة ، ودلالة قوله وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص المائدة 45 ويعني فرض القصاص في التوراة ، أما قبلها فلم يوجد تشريع جماعي كما حققت .
إن قوله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم الفتح 25 ، ليعني أن حرمة دم وعرض الذين يكتمون إيمانهم في مكة في السادسة من الهجرة هو الذي فرض على النبي صلح الحديبية ومنعه من دخول مكة عنوة لئلا تنتهك ـ بغير علم ـ دماء وأعراض الذين يكتمون إيمانهم فتصيب الصحابة المعرة عند الله يوم الحساب ، ولن تصح إذن شرعية العمليات الإرهابية والسيارات المفخخة ولا العمليات الإنتحارية التي يقتل فيها المنتحر نفسه ليتعدى حدود الله ومنها قوله ولا تقتلوا أنفسكم النساء 29 فيقتل نفسه ، وقد يقتل فيها من يكتم إيمانه ومن يعلنه .
أقول : أدعوكم قادة التنظيمات السرية والجهادية إلى التوبة وإعلانها للناس على سواء للنجاة من عذاب الله ومن ظلم الافتراء على الله أن ما تقومون به من تنظيمات وعمليات انتحارية وإرهابية هو دين الإسلام وإني لأعجب إن كنتم أفقه في دين الله من الرسل والنبيين الذين لم يعملوا مثل عملكم هذا كما يأتي قريبا تحقيقه ، وسيوفق الله للتوبة من دخل ابتداء في التنظيمات السرية والجهادية بحثا عن الحق ليتخلى عنها إذا أبصر الحق في غيرها .
فقه المرحلية
إن قوله ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل الزمر 27 لتعني أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان إذ حوى القرآن مثالا لكل حالة ومرحلة سيتعرض لها المسلم فأكثر منذ نزول القرآن إلى قيام الساعة ، وعلى كل مسلم أن يتمثل المثل الذي ضرب الله له في القرآن فإن كان سجينا فقد ضرب الله له مثل يوسف الذي شهد له صاحبا السجن بقولهما إنا نراك من المحسنين يوسف 36 ، وإن كان فردا مسلما طليقا في أرض لا يعبد الله فيها فقد ضرب الله له مثل إبراهيم الذي كان أمة وحده ، وإن كانت قلة تخاف أن تفتن عن دينها فقد ضرب الله لها مثلا بأصحاب الكهف الذين اعتزلوا من يخافون فتنته وتركوه وشأنه وكما في الأحاديث الصحيحة أن سيوشك أن يكون خير مال المسلم غنيمات يرعى بها رؤوس الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ، وإن كانوا ممكنين في الأرض فقد ضرب الله لهم مثل داوود وسليمان وذي القرنين والنبي الأمي بعد غزوة الأحزاب ، وحوى القرآن جميع المواقف التي سيقفها أعداء الدين من أهله إلى نهاية المستقر والمتاع في الأرض للإنسان .
إن ما يقع علي المسلم خطابا وتكليفا من نصوص الوحي ـ وحده من جهة ومع جماعة من جهة أخرى ـ هو متغير ومتجدد حسب الزمان والمكان والعلم والقوة والأسباب ، وقد يختلف الخطاب باختلاف المكان للمسلمين المتعاصرين بل وللذين يعرف بعضهم بعضا ويتصل بعضهم ببعض .
ولقد كان المسلمون داخل الدولة النبوية في المدينة المنورة مكلفون بجميع الخطاب الجماعي خلافا للملك النجاشي ورجال مؤمنين ونساء مؤمنات في مكة قبل الفتح إذ لم يخاطبوا بشيء من التكاليف الجماعية كالجمعة والقضاء والحدود والجهاد والقتال .
ولا يخفى وصف النجاشي بالإيمان إذ صلى عليه النبي صلاة الغائب يوم موته في التاسعة من الهجرة ، ولا يخفى وصف المؤمنين المستضعفين في مكة قبل الفتح بالإيمان كما في قوله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الفتح 25 فوصفوا بالإيمان رغم عدم قيامهم بشيء من التكاليف الجماعية لأنهم كانوا مستضعفين ، وكانوا خارج نفوذ الدولة الإسلامية ، ولقد أسقط الاستضعاف عن الرسول النبي هارون معاقبة عبدة العجل كما في قوله قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني الأعراف 150 وأقره موسى ، وجعل الله عذره عبرة لأولي الألباب كما في قوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب يوسف 111 ، وأسقط الاستضعاف كذلك عن بني يعقوب الوفاء بموثقهم فلم يرجعوا بأخيهم كما في قوله قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم يوسف 66 فكان وجودهم في ظل حاكم أقوى منهم ، من الإحاطة بهم ، ولم يكلفهم أبوهم يعقوب بالعمليات الآنتحارية ولا بالاغتيالات في صفوف المصريين .
إن قوله وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هـذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا النساء 75 ليعني أن المستضعفين في مكة لم ينشئوا التنظيمات السرية ولم يقوموا باغتيال زعماء مكة ، وشكر الله سلوكهم فجعله قرآنا يتلى للذكر والعبرة ، إذ لم يكن منهم إلا دعاء ربهم ليخرجهم من مكة حيث استضعفوا فيزول عنهم الاستضعاف .
إن القرآن حدثنا أن الانشغال بالصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر التكاليف الفردية والكف عن القتل والقتال والاغتيال هو سلوك رسول الله وخاتم النبيين محمد في العهد المكي على نسق جميع النبيين والرسل الذين لم يمكّن لهم في الأرض مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ومثل موسى وهارون قبل هلاك فرعون ولو جاز لهم لسارع إليه موسى وهارون ولهما أكبر الدوافع بما يعانيه قومهما من فرعون وملئه الذين يسومونهم سوء العذاب بقتل الذكور واستحياء النساء لإبادة شعب بكامله ولو جاز لهم لما اكتفى محمد في العهد المكي بأمر أصحابه بالصبر وهم يعذبون حتى ماتت سمية بالتعذيب ولما منع أصحاب بيعة العقبة الكبرى في السنة الثالثة عشر من البعثة على عتبة الهجرة من اغتيال زعماء مكة في منى لتصبح بانقلاب أحمر دار إسلام وهجرة .
إن النبي محمدا قد كلف باتباع النبيين قبله وبالاهتداء بهداهم ومنهم إبراهيم الذي حطم أصنام قومه كما في قوله وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم الأنبياء 57 ـ 58 وقوله فراغ عليهم ضربا باليمين الصافات 93 ولم يتبع خاتم النبيين محمد إبراهيم في هذا السلوك إذ لم يحطم الأصنام حول الكعبة بل ظل يصلي ويطوف حول الكعبة قبل الهجرة ولم يمس الأصنام بسوء ، وكان محمد قد أطاع الله في قوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم الأنعام 108 ، فكان استثناء من عموم الأمر في قوله فبهداهم اقتده الأنعام 90 ، وعلم النبي أن النهي عن سب الأصنام يعني نهيا أكبر منه عن تحطيمها في مرحلة الاستضعاف .
وحدثنا القرآن أن كل عملية قتل وقعت عبر التاريخ منذ قتل ابن آدم الأول بيد شقيقه الخاسر وإلى أن نزلت التوراة وقتل قتيل بني إسرائيل الذي ضرب ببعض أجزاء البقرة التي ذبحت - إنما كانت من جانب الكفار والمشركين ، إذ لم يتضمن القرآن القتل ومحاولته والقتال والاغتيال في مرحلة ما قبل التمكين إلا من جانب الكفار ، ومنه تهديد نوح وإبراهيم وشعيب بالرجم ، ومحاولة اغتيال صالح وأهله من جانب تسعة رهط من قومه ، ومنه رمي إبراهيم في النار التي نجاه الله منها ، ومنه المجزرة الجماعية لأصحاب الأخدود الذين حرقوا بالنار ، ومنه قتل السحرة لما آمنوا برب العالمين رب موسى وهارون من جانب فرعون ، ومنه قتل أصحاب القرية الرجل الذي جاء من أقصى المدينة ليعز الرسل الثلاثة الذين هددوا بالرجم ومنه محاولة اليهود قتل عيسى لولا أن رفعه الله ، ومنه عمليات قتل أنبياء وأتباعهم لم يفصلها القرآن .
أقول نعم ! لقد ذكر القرآن أن موسى قتل قبطيا خطأ قبل الرسالة وقد استغفر منها وعاتبه الله عليها وتاب عليه فمن يحتج بها ؟ وأن الخضر قتل غلاما بأمر الله لقوله وما فعلته عن أمري الكهف 82 ، وأما تفكير الأسباط إخوة يوسف في قتله فقد تراجعوا عنه واستغفروا منه وكان قبل نبوتهم وبدافع الغيرة وهم فتيان لا زالوا يلعبون ويمرحون ويستبقون .
إن القرآن حدثنا أن ابن آدم الأول المقتول إنما منعه دينه عن الدفاع عن نفسه وذلك قوله لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين المائدة 28 .
وما كان جواب نوح لما هدد بالرجم إلا كما في قوله قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين الشعراء 117ـ 118 .
وما كان جواب الرسل الثلاثة الذين هددوا بالرجم إلا كما في قوله قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون يس 19 .
وما كان من الرسل بالآيات لما هددوا بالإخراج أو الإكراه إلا أن قالوا ولنصبرن على ما آذيتمونا إبراهيم 12 واستفتحوا ربهم طلبا للنصر .
وما كان من النبيين الذين قتلوا إلا أن صبروا .
إن المرحلة التي يعيشها الفلسطينيون والعراقيون اليوم قد عاشها بنو إسرائيل مرتين قبل نزول القرآن :
أولاهما : في ظل فرعون قبل وبعد رسالة موسى ذاقوا من العذاب كما في قوله وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون الأعراف 127 ـ 129 ويعني أن موسى رغم تهديد فرعون بإبادتهم أكثر مما مضى ، لم يأمر قومه بالإرهاب والاغتيال والقتل ، وإنما بقوله استعينوا بالله واصبروا واستفتح ربه طلبا للنصر بقوله عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض .
وثانيهما : بعد نزول التوراة التي تضمنت التكليف بالقتال في سبيل الله ، وكان نبيهم من بعد موسى بين أظهرهم يوم اجتاح جالوت وجنوده ديارهم وأخرجهم منها ورهن فيها الأبناء ، ولم يأذن لهم بإنفاذ القتال في سبيل الله إلا لمّا بعث الله لهم طالوت ملكا ، وكان القتال معه هو القتال في سبيل الله لا غيره كما في قوله ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله البقرة 246 كما بينت ، ولو سارع بعضهم لأجل الحماس إلى القتل والاغتيال في صفوف جالوت وجنوده لما كانوا من المقاتلين في سبيل الله ، كما لم يكن قتل خالد بن الوليد ـ وهو من أمراء المسلمين في فتح مكة ـ بعض المشركين من القتال في سبيل الله ، وإنما أعلن النبي براءته مما صنع خالد ، وودى القتلى ، ولست أدري كيف علم تنظيم القاعدة وغيرهم في هـذا العصر أن قتالهم هو في سبيل الله .
إن المرحلة التي عاشها بنو إسرائيل في ظل فرعون هي نفسها المرحلة التي يعيشها الفلسطينيون اليوم في ظل الدولة اليهودية ولم يكن بنو إسرائيل يومها مأذونين بالجهاد والقتال فلو قاتلوا فرعون لما كان قتالهم من الجهاد أو القتال في سبيل الله .
إن موسى بدأ رسالته إلى فرعون بقوله فأرسل معي بني إسرائيل الأعراف 105 وقوله فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل الشعراء 16 ـ 17 وقوله فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم طـه 47 وقوله وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون الدخان 21 ويعني أنه يريد الهجرة بقومه واعتزال فرعون وشأنه ، وإن هـذا لهو الهدى الذي أرسل الله به موسى ونبّأ به خاتم النبيين في القرآن تذكرة وعبرة لأولي الألباب .
ولقد هاجر إبراهيم ، وهاجر أصحاب الكهف ، وهاجر المسلمون إلى أرض الحبشة بأمر النبي وهاجر النبي وأصحابه إلى المدينة تمثلا بقوله يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون العنكبوت 56 ويعني إذا منعتم من عبادة ربكم فابحثوا عن أرض تتمكنون فيها من عبادة ربكم فأين هذا السلوك في مرحلة عدم التمكين من المقام مع من يفتنهم وإنشاء التنظيمات السرية والجهادية والعمليات الانتحارية .
إن المسلم مخاطب بالتكاليف الشرعية وهو في إحدى وضعيتين أو مرحلتين لن يخلو منهما أحد : مرحلة الاستضعاف ومرحلة التمكين .
ولقد غاير الكتاب المنزل كثيرا بين الوضعيتين فجعل التكاليف الفردية وهي ما يسع كل فرد مسلم فعله كالصلاة والبر والإنفاق والصيام ـ وكذا المنهيات في جميع الوحي ـ هي التكليف في مرحلة الاستضعاف وهي التي لم يتجاوزها نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وسائر الرسل الذين لم يمكّن لهم في الأرض ولم يتجاوزها خاتم النبيين محمد في المرحلة الابتدائية وهي ما قبل الهجرة أو ما يسمى بالعهد المكي .
وجعل التشريع الجماعي ومنه القصاص والحدود والمعاملات هو ما خوطب به السلطان والمجتمع المسلم معه وهم من يقع عليهم الوصف بجماعة المسلمين .
إن قوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم في الأنعام 151 ـ 153 إلى آخر الوصايا العشر هي التكاليف التي يجب أن يتمثلها المسلمون الذين لا سلطان لهم ولذلك جاء بعدها قوله ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون الأنعام 154 ويعني أن الوصايا العشر هي التي اقتصرت عليها كل نبوة وكل رسالة قبل التوراة والعجيب أن القرآن المكي قبل الأمر بالهجرة لم يتجاوزها كذلك ، وتكرر ذكرها في الإسراء ولقمان ووصفت بالحكمة ويعني موضع الأنعام أن النبي يدعو الناس جميعا إلى تأمل ما تعبدهم به ربهم من التكاليف وأنه مثل ما نزل على جميع الرسل والنبيين قبل موسى وإنما نزل التشريع الجماعي على موسى في التوراة بعد هلاك فرعون كما هي دلالة قوله ثم آتينا موسى الكتاب لبيان تأخر نزول التشريع الجماعي في الكتاب عن الحكمة .
إن القتل والقتال والخطف والإغتيال في هذه المرحلة مرحلة الاستضعاف هو بدعة ابتدعتها التنظيمات الجهادية في الثلث الأخير من القرن العشرين من عند أنفسهم مخالف لهدي القرآن وسنة النبيين جميعا ، ولقد كان الاشتراكيون العرب في الشام هم أول من سنّ عمليات خطف الطائرات والأفراد والعمليات الفدائية ضد العدو منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين ، ومن قبل اعتمد القرامطة الحشاشون في قلعة آلموت بقيادة الحسن بن الصباح في القرن الرابع الهجري أسلوب الاغتيالات والعمليات الانتحارية ضد مخالفيهم .
وإنما وقع الخلط على الإسلاميين وعلى الفقهاء وعلى المؤمنين بحمل السلاح في هـذه المرحلة بسبب عدم دراية هـذه الحقائق الكبرى في الكتاب المنزل على خاتم النبيين .
ملاحظة :
هـذا البحث ملخص من تفسيري القرآن
الحسن ولد ماديك
باحث أكاديمي في علوم القرآن
متخصص منذ 1981 في الحركات الباطنية عبر التاريخ
متخصص منذ 1981 في الجماعات الإسلامية
متخصص منذ 1989 في القراءات العشر الكبرى
متفرغ منذ 2001 لتفسير القرآن تحت الطبع
انواكشوط ـ موريتانيا
الجوال : 002226728040
المكتب : 002225210953
E.MAIL : [email protected]