بحثٌ منهجيٌ في تفسير آية القصاص من سورة البقرة

إنضم
06/03/2015
المشاركات
51
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
مصر
بحث مفصل في تفسير آية القصاص من سورة البقرة
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} (البقرة 178،179)
السبر الموضوعي للآيات:
انتقل الحديث عن البر الذي هو الترجمة العملية لمعنى الإسلام في الصدور؛ حديثا موجزاً [SUP]([SUP][1][/SUP])[/SUP]، وعلى وجازته فهو حديثٌ جامعٌ للمعاني القلبية المتمثلة في الإيمان، والمعاني العملية المتعلقة بالصلاة والزكاة وأعمال البر الاجتماعية التي تمثل نواةً مهمةً للدور الذي يمثله القرآن كدستور وعقد اجتماعي يبني مجتمعاً سماوياً حقيقياً قابلاً للتنفيذ على أرض الواقع...
انتقل الحديث في رشاقةٍ قرآنيةٍ أسلوبيةٍ عجيبةٍ إلى بيان تشريع السماء العادل بعد تهيئة القلوب والعقول بحديثه عن البر، وقبله تقرير مبدأ وحدة التشريع- الذي ذكرناه آنفاً...
هنا نتحدث عن استبدال تشريع السماء المنصِف الرحيم، بتشريع الغاب الذي ملأ مجتمعاً جاهلياً [SUP]([SUP][2][/SUP])[/SUP] حتى صارت فيه الحروب التي استمرت في بلاد العرب مئات السنين وحصدت مئات الأرواح مثل حرب (داحس، والغبراء) بسبب عادةٍ وحكمٍ اجتماعيٍ سفيه.
إنها (آية القصاص) أول آيات الأحكام التشريعية الجنائية التي تقابلنا في المصحف الشريف.
ولكن لماذا الحديث هنا عن القصاص؟ لأن الإسلام حينما جعل أمهات منهجه في مقاصده الخمسة: حفظ الدين، وحفظ النفس، والعِرض، والمال، والعقل؛ لما كانت هذه هي مقاصد تشريع الإسلام التي استقرأها العلماء؛ بدأ بحفظ الدين في آية البر ثم انتقل إلى حفظ النفوس وتأكيد حرمتها بتشريعاته العادلة في الدماء...
قال العلامة ابن عاشور:
أُعيد الخطاب ب {يا أيها الذين آمنوا} لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بالٍ في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعةً ذاتَ استقلالٍ بنفسها ومدينتها، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعد هذا: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] الآية.
تلك أحكامٌ متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع، وابتدئ بأحكام القصاص، لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلال حفظ نفوس الأمة، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل، يعلم ذلك من له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامِه وعبيدِه ونسائه فيدافع المُغارُ عليه وتَتْلَف نفوسٌ بين الفريقين، ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات فيسعى كل من قتل له قتيل في قتل قاتل ولِيِّه، وإن أعوزه ذلك قتل به غيرَه من واحدٍ كُفء له، أو أى عددٍ يراهم لا يوازونه، ويسمون ذلك ب(التكايل في الدم)، أي كأن دم الشريف يُكال بدماءٍ كثيرة، فربما قدَّروه باثنين أو بعشرةٍ أو بمائة، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايدا فاحشا حتى يصير تفانيا قال زهير:
تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعَدَ مَا ... تَفَانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشِمِ.
وينتقل الأمر من قبيلةٍ إلى قبيلة بالولاء والنسب والحِلْف والنُصرة، حتى صارت الإحَن فاشية ً فتخاذلوا بينهم، واستنصر بعضُ القبائل على بعضٍ فوجد الفرس والروم مدخلا إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرهبوهم، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، أي كنتم أعداءً بأسباب الغارات والحروب فألَّف بينكم بكلمة الإسلام، وكنتم على وِشك الهلاك فأنقذكم منه فضرب مثلا للهلاك العاجل الذي لا يُبقي شيئا بحفرة النار، فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلا أقل حركة. انتهى [SUP]([SUP][3][/SUP])[/SUP]
فتأمل كيف أن التشريع الحكيم يراعي بصورةٍ متزامنةٍ إصلاح المجتمع الذي نزل فيه الآيات في إطارها التاريخي ثم ينتقل منه إلى إصلاح اجتماعي عالمي يرسم فيه معاني كبيرة جدا تبدأ من جمع كلمة المجتمع العربي الذي يمثل مهدا للرسالة ثم ينتقل إلى المجتمع العالمي الذي يمثل مسرحا لحركة الرسالة في الحاضر والمستقبل. ولعل هذا- للمتدبر- يعد وجهاً ساطعاً من وجوه الإعجاز القرآني.
جاء في تفسير المنار ما مختصره:
ذكر المفسر وغيره أن القصاص على القتل كان محتما عند اليهود (كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج والعشرين من التثنية)، وأن الدية كانت محتمة عند النصارى، وأن القرآن جاء وسطا يفرض القصاص إذا أصر عليه أولياء المقتول، ويجيز الدية إذا عفوا...
وإذا نظرنا في أعمال الأولين والآخرين وشرائعهم في القتل نجد القرآن وسطا حقيقيا لا بين ما نقل عن اليهود والنصارى فقط بل بين مجموع آراء البشر من أهل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، فقد كانت العرب تتحكم في ذلك على قدر قوة القبائل وضعفها، (كما بينَّا)...
ولكن يوجد في الناس ولا سيما أهل القوانين في زماننا هذا من ينكر المعاقبة بالقتل ويقولون إنه من القسوة وحب الانتقام في البشر، ويرون أن المجرم الذي يسفك الدم يجب أن تكون عقوبته تربية لا انتقاما، وذلك يكون بما دون القتل، ويشددون النكير على من يحكم بالقتل إذا لم تثبت الجريمة على القاتل بالإقرار، بأن ثبتت بالقرائن أو بشهادة شهود يجوز عليهم الكذب، ويرون أن الحكومة إذا علمت الناس التراحم في العقوبات فذلك أحسن تربية لهم، ومنهم من يقول إن المجرمين لا يكونون إلا مرضى العقول فالواجب أن يوضعوا في
مستشفيات الأمراض العقلية ويعالجوا فيها إلى أن يبرءوا.
وإذا دققنا النظر في أقوال هؤلاء نرى أنهم يريدون أن يشرعوا أحكاما خاصة بقوم تعلموا وتربوا على الطرق الحديثة وسِيسُوا بالنظام والحكم حتى لا سبيل لأولياء المقتول أن يثأروا له من القاتل ولا أن يسفكوا لأجله دماء بريئة، وحتى يُؤمَن من استمرار العداوة والبغضاء بين بيوت القاتلين وبيوت المقتولين.
وكذلك وجدت عندهم جميع وسائل التربية والمعالجة.
تلك الأحكام التي يريدوها هي احكام خاصة تليق بقومٍ هذا حالهم لا أحكاما عامة لجميع البشر، في البدو والحضر.
ومع هذا نرى كثيرا من الناس حتى المنتسبين إلى الإسلام يغترون بآرائهم ويرونها شُبْهةً على الإسلام.
وأما النافذ البصيرة العارف بمصالح الأمم الذي يزن الأمور العامة بميزان المصلحة العامة لا بميزان الوجدان الشخصي الخاص بنفسه أو ببلده فإنه يرى أن القصاص بالعدل والمساواة هو الأصل الذي يربي الأمم والشعوب والقبائل كلها، وأن تركه بالمرة يغري الأشقياء بالجراءة على سفك الدماء، وأن الخوف من الحبس والأشغال الشاقة إذا أمكن أن يكون مانعا من الإقدام على الانتقام بالقتل في البلاد التي غلب على أهلها التراحم أو الترف والانغماس في النعيم كبعض بلاد أوربا فإنه لا يكون كذلك في كل البلاد وكل الشعوب، بل إن من الناس في هذه البلاد وفي غيرها من يحبِّب إليه الجرائمَ أو يسهِّلها عليه كون عقوبتها السجن الذي يراه خيرا من بيته أحيانا...ولا يبعد على المجرم من هؤلاء أن يقتل لأن عقاب القتل في هذه السجون - وإن ثبت عليه - أهون من عيشته الشقية، فما القول في أهل البوادي أصحاب الثارات التي لا تموت؟
فقتلُ القاتل هو الذي يربي الناس في كل زمان ومكان، ويمنعهم من القتل...
وقد تقع في كل بلاد صور من جرائم القتل يكون فيها الحكم بقتل القاتل ضارا وتركه لا مفسدة فيه، كأن يقتل الإنسان أخاه أو أحد أقاربه لعارض دفعه إلى ذلك، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت، وإذا قتل يفقدون بقتله المعين والظهير، بل قد يكون في قتل القاتل أحيانا مفاسد ومضار وإن كان أجنبيا من المقتول، ويكون الخير لأولياء المقتول عدم قتله لدفع المفسدة، أو لأن الدية أنفع لهم، فأمثال هذه الصور توجب ألا يكون الحكم بقتل القاتل حتما لازما في كل حال، بل يكون هو الأصل، ويكون تركه جائزا برضاء أولياء المقتول وعفوهم، فإذا ارتقت عاطفة الرحمة في شعب أو قبيل أو بلد إلى أن صار أولياء المقتول منهم يستنكرون القتل ويرون العفو أفضل وأنفع فذلك إليهم، والشريعة لا تمنعهم منه بل ترغبهم فيه، وهذا الإصلاح الكامل في القصاص هو ما جاء به القرآن، وما كان ليرتقي إليه بنفسه علم الإنسان. قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية... [SUP]([SUP][4][/SUP])[/SUP]
قلتُ- جامعه: والقصاص معنى شاملٌ هو أرقى من مجرد القود الذي هو قتل القاتل، بل يحتمل قبول الدية، والعفو، كما سيأتي في بحثٍ ضافٍ.


تحليل الآية وبحث في التفسير.
(قبل الشروع في التفسير لا بد من ذكر سبب النزول، وفيه أوجه:
أحدها : أن سبب نزوله إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل مبعث محمد عليه السلام ، وذلك لأن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط ، وأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل ، وأخرى يوجبون الدية لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من هذين الحكمين ، إما في القتل فلأنه إذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى ، فالأشراف كانوا يقولون : لنقتلنَّ بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم ، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن واحداً قتل إنساناً من الأشراف ، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول ، وقالوا : ماذا تريد؟ فقال إحدى ثلاث قالوا: وما هي؟ قال: إما تحيون ولدي، أو تملئون داري من نجوم السماء، أو تدفعوا إلى جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً.
وإما الظلم في أمر الدية فهو أنهم ربما جعلوا دية الشريف أضعاف دية الرجل الخسيس، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أوجب رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص وأنزل هذه الآية.
والرواية الثانية: في هذا المعنى وهو قول السدي: إن قريظة والنضير كانوا مع تدينهم بالكتاب سلكوا طريقة العرب في التعدي). [SUP]([SUP][5][/SUP])[/SUP]
وعلى هذا فالآية تعم تصحيح التشريعات في ذلك الجو الظالم الذي ملأ الأفق بتمييزٍ عنصريٍ اجتماعيٍ بغيض.
ولكن السؤال هنا، هل يقتضي سبب النزول الوارد في الآية نزول معناها على معنىً خاصٍ بحادثة وحال النازل فيهم الآية، أم نقف بالآية عند القاعدة المستفيضة في علوم القرآن: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، هنا –خصوصا- تبرز إشكاليةٌ ضخمة في قراءة النص القرآني الحكيم...
يصنع محور تلك الإشكالية مساعدة النظم والنسق التي وردت به الآية في تخصيص معناها بسبب نزولها، ثم يعارض ذلك عموم مضمونها في سياق التشريع الجنائي القرآني.
ولفهم محاور تلك الإشكالية نبدأ-بعون الله- فنقول:
قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ}، معناها هنا فُرض عليكم.
كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصيامُ}.. وأصله: أن من أراد إحكام شيء والاستيثاق منه كَتَبَه؛ لئلا ينساه، فقيل في كل مفروضٍ واجبٍ: كُتِب، بمعنى: أُحكِم فرضُهُ.
وقيل: أصلُه: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، ومن هذا قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، أي: قَضى الله ذُلك، وفَرَغَ منه، وحَكَم به، ومثله قوله: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} [الحشر: 3]، أي: حكم بإخراجهم من دورهم، وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وقوله: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} [آل عمران: 154]، كل هذا من القضاء.
ويكون (كتب) بمعنى: جعل، كقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22]، وقوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] وقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156].[SUP] ([SUP][6][/SUP])[/SUP]
فَمَعْنَى {كُتب عليكم} أَنَّهُ حَقٌّ لَازِمٌ لِلْأُمَّةِ لَا مَحِيدَ عَنِ الْأَخْذِ بِهِ.
فَضَمِيرُ {عَلَيْكُمُ} لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، ولِمَنْ تَوَجَّهَ لَهُ حَقُّ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ وَلِيَّ الدَّمِ لَهُ الْعَفْوُ عَنْ دَمِ وَلِيِّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ...}. [SUP]([SUP][7][/SUP])[/SUP]
قال العلامة ابن جرير الطبري:
فإن قال قائل: أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه؟
[قلتُ: يقصدُ-رحمه الله: هل تنص الآية نصاً لا خلاف فيه أن القود- وهو أن يقتَل القاتلُ كما قتل، جاءت من معنى أن ولى الأمر يقوده لولى الدم ليأخذ حقه- هل هذا القود هو الفرض على ولى القتيل ولا سبيل سواه؟]
قيل: لا، ولكنه مباحٌ له ذلك، والعفو، وأخذُ الدية.
[قلتُ: رد- رحمه الله- بأن ولى المقتول مباحٌ له إما أن يقتل القاتل، أو يعفو عنه بغير أخذ الدية، أو يأخذ الدية ويتركه]
قال الطبري موضحاً بداية الإشكال في فهم الآية: فإن قال قائل: وكيف قال: "كُتِب عليكم القصاص"؟
[قلتُ: والكتابة بمعنى الفرض كما تقدم، وكذلك مفهوم لفظ "عليكم"]
قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه: يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ، والعبدُ بالعبد، والأنثى بالأنثى، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ، فَدم القاتل كُفءٌ لدم القتيل، والقَصاصُ منه دون غيره من الناس، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممَّن لم يقتل، فإنه حرامٌ عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتلِهِ.
والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه، لم يكن لقوله: "فَمن عُفي لهُ من أخيه شيء"، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القِصاص فيقال: "فمن عُفِي له من أخيه شيء".
وقد قيل: إن معنى القصاص في هذه الآية، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض.
[هنا يأتي دور التحليل والدرس اللغوي في توجيه التأويل. فالقصُّ في اللغة يطلق في أكثر استعمالاته على معنيين: القطع، تتبع الأثر. يُقال: قص الثوب والشعر أي قطعه، ويقال: قص الأثرَ أي تتبعه. [SUP]([SUP][8][/SUP])[/SUP]
يقول بعض اللغويين عن معنى القصاص في اللغة أنه المماثلة والمساواة[SUP]([SUP][9][/SUP])[/SUP]، وأصله من قولهم: قصصت أثره، إذا تتبعته، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} (القصص: 11) أي اتبعي أثره، ومنه استخرجوا معنى القود والقصاص في الجراح، لأن المفعول به يتتبع ما عُمِلَ به فَيَعْمَلُ مثله في الجاني، وأرادوا بالقصاص هاهنا: المماثلة في النفوس والجروح.
قالوا: والقِصَاص مصدره لأنه فِعال من المفاعلة، مثل: قتال من المقاتلة.
قال الفراء في كتاب المصادر: قاصَصْته قَصَصا، وأَقْصَصْتُه: إذا أقدته من أخيه إِقْصَاصًا، ويقال: قَصَصْتُ أثره قَصصًا وقَصًّا، وقَصصْتُ عليه الحديثَ قَصَصًا، قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]. فكأنه من تتبع الأحداث لروايتها.
وقال في قَصِّ الأثر: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]، أي عاد يتتبعان أثر طريقهما، والقَصُّ جائز في هذين. هذا كلامه.
تقول العرب: (تَقاصَّ القومُ) أى قاصَّ كلُّ واحدٍ منهم صاحِبَه في حِسابٍ وغيرِه. ويعنون أنه قطع كلُ واحدٍ منهم ما كان له من ديْنٍ عند صاحبه من أموالٍ عنده، وأمثال ذلك.
وقال الأزهري: أصل القَصّ: القطع. يُقال: قَصَصتُ ما بينهما، أي: قطعت. قال الأزهري: والقِصَاص في الجِرَاح مأخوذٌ من هذا، وهو أن يُجْرحَ مثلَ ما جَرَح، أو يُقْتل مثل ما قتل، والقول الأول أشهر؛ لأن القصاص والمقاصة في غير الجراح، يقال: قَاصَّه في الحساب وغيره: إذا أخذ الشيء مكان غيره.
وقال الليث: القصاص والتقاص في الجراحات والحقوق شيءٌ بشيء.
قال الواحدي- معلِّقا على هذا الاستطراد اللغوي الثَمين: وهذا يبين أن معنى القصاص اعتبار المماثلة والمساواة. وليس معنى الآية أن القصاص واجبٌ علينا حتى لا يسعنا تركه، ولكن معناه: أن اعتبار المماثلة بين القتلى فرضٌ علينا، فالفَرْضِية ترجع إلى اعتبار المماثلة بين الدماء، لا إلى نفس القصاص حتى يلزم قتْلُ القاتلِ حتمًا.
فالقصاص حيث يجب إنما يجب إذا وُجِدَتْ المساواة، وهذا يؤكدُ أنَ القولَ في اشتقاق القِصَاص في اللغة إنما هو من الاتباع، لا من القطع كما قاله الأزهري؛ لأنه لو كان من القطع لوجب القصاص حتى لا يسعنا تركه. انتهى كلام الواحدي.
ويكون المعنى في الآية: يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم وأوجب القصاص بسبب القتلى. بأن تقتلوا القاتل عقوبة له على جريمته مع مراعاة المساواة التي قررها الشارع الحكيم، فلا يجوز لكم أن تقتلوا غير القاتل، كما لا يجوز لكم أن تسرفوا في القتل بأن تقتلوا القاتل وغيره من أقاربه.
فمعنى القصاص هنا أن يقتل القاتل لأنه في نظر الشريعة مساوٍ للمقتول فيقتل به. وقد بين العلماء أن القصاص يفرض عند القتل الواقع على وجه التعمد والتعدي، وعند مطالبة أولياء القتيل بالقود- أى القصاص- من القاتل. [SUP]([SUP][10][/SUP])[/SUP]
يقول ابن عاشور:
وَالْقِصَاصُ اسْمٌ لِتَعْوِيضِ حَقِّ جِنَايَةٍ، أَوْ حَقِّ غُرْمٍ عَلَى أَحَدٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ الْمَحْقُوقِ إِنْصَافًا وَعَدْلًا، فَالْقِصَاصُ يُطْلَقُ عَلَى عُقُوبَةِ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا جَنَى، وَعَلَى مُحَاسَبَةِ رَبِّ الدَّيْنِ بِمَا عَلَيْهِ لِلْمَدِينِ مِنْ دَيْنٍ يَفِي بِدَيْنِهِ، فَإِطْلَاقَاتُهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّعَادُلِ وَالتَّنَاصُفِ فِي الْحُقُوقِ وَالتَّبِعَاتِ الْمَعْرُوضَةِ لِلْغَمْصِ.
قال: فقوله تعالى: {كُتِب عليكم القصاص في القتلى...} يتحمل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل، وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمثل، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شَرَكة له في قتل القتيل فأفاد قوله تعالى: {كتب عليكم} حقَّ المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى، فلا يذهب حقُّ قتيلٍ باطلا ولا يُقتَل غيرُ القاتلِ باطلا، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية ...[SUP]([SUP][11][/SUP])[/SUP]
ذلك أن الآية عندهم نزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بعضهم بعضًا، فأُمِر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بهذه الآية أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين، ودياتُ رجالهم بديات رجالهم، وديات عبيدهم بديات عبيدهم، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى "القصاص" في هذه الآية.
قال الطبري- رحمه الله: فإن قال قائلٌ: فإنه تعالى ذكره قال: "كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى"، فما لنا ألا نقتص للحُرِّ إلا من الحُرِّ، ولا للأنثى إلا من الأنثى؟
[يعني هنا-رحمه الله- استعمال منطوق الآية وظاهره في تقييد قتل الحر بالحر، والأنثى بالأنثى، بحيث لو قتل عبدٌ حراً لا قصاص، أو قتل ذكرٌ أنثى لا نقتص منه]
قيل: بل لنا أن نقتص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [سورة الإسراء: 33]، وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم). [SUP]([SUP][12][/SUP])[/SUP] .انتهى كلام الطبري...
ويؤيده قوله تعالى في الآية: {في القتلى}، ولفظ «في» للسببية، أى: فرض عليكم القصاص بسبب القتلى. كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم «دخلت امرأة النار في هرة» أى بسببها.
قال الشافعي-رضى الله عنه: ولَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنْ يُقْتَلَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ. وهو دَلِيلُ أَنْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ غَيْرَ خَاصَّةٍ- كَمَا قَالَ مَنْ وَصَفْتُ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ- لَمْ يُقْتَلْ ذَكَرٌ بِأُنْثَى» انتهى. [SUP]([SUP][13][/SUP])[/SUP]
وَجُمْلَةُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى} بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ لِجُمْلَةِ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْحُرِّ وَمَا بَعْدَهُ، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْقِصَاصِ.
وَتقْدِيرِ المعنى: الْحُرُّ يَقْتَصُّ منه أَوْ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ إِلَخْ...
وقد اتفق علماء الإسلام على أن هذا المفهوم غير معمول به باطراد، لكنهم اختلفوا في المقدار المعمول به منه بحسب اختلاف الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة وفي المراد من هذه الآية ومحمل معناها، ففي «الموطأ» «قال الإمام مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية أن قوله تعالى: {الحرُّ بالحر والعبد بالعبد} فهؤلاء الذكور، وقوله: {والأنثى بالأنثى} أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور.
والمرأة الحرة تُقتَل بالمرأة الحرة، كما يقتل الحر بالحر، والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد. والقصاص يكون بين النساء كما يكون يبن الرجال.
والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء». [SUP]([SUP][14][/SUP])[/SUP]
يعني: وخُصَّت الأنثى احترازاً بالخطاب لئلا يتوهم متوهمٌ أن صيغة التذكير في قوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد} مراد بها خصوص الذكور، بل القصاص أيضاً بين الإناث، ولم يفصِّل (الحرة بالحرة، والأَمَة بالأمة) لفهم ذلك من التفصيل قبلها، إيجازاً بليغاً.
ومن البلاغة وجميل الدلالة أيضا أنْ صُدِّرت الآية بخطاب الَّذِينَ آمَنُوا، تقويةً لداعية إنفاذ حكم القصاص الذي شرعه الخبير بنفوس خلقه، لأن من شأن الإيمان الصادق أن يحمل صاحبه على تنفيذ شريعة الله التي شرعها لإقامة الأمان والاطمئنان بين الناس، ولسد أبواب الفتن التي تحل عرا الألفة والمودة بينهم.
وقد وجه- سبحانه- الخطاب إلى المؤمنين كافة مع أن تنفيذ الحدود من حق الحاكم لإشعارهم بأن عليهم جانبا من التبعة إذا أهمل الحكام تنفيذ هذه العقوبات التي شرعها الله.
وإذا لم يقيموها بالطريقة التي بينتها شريعته، ولإشعارهم كذلك بأنهم مطالبون بعمل ما يساعد الحكام على تنفيذ الحدود بالعدل. وذلك بتسليم الجاني إلى المكلفين بحفظ الأمن، وأداء الشهادة عليه بالحق والعدل، وغير ذلك من وجوه المساعدة. انتهى من الوسيط لطنطاوي.
ويقول العلامة محمد عبد الله دراز في كتابه الرائع (النبأ العظيم):
وانظر الاستدراج إلى الطاعة في افتتاح الآية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وترقيق العاطفة بين الواترين (= أصحاب الجناية) والموتورين (= المجني عليهم) في قوله: {أَخِيهِ} وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ}
وقوله: {بِإِحْسَانٍ}، والامتنان في قوله: {تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} والتهديد في ختام الآية. ثم انظر في أي شأن يتكلم؟ أليس في فريضة مفصَّلة وفي مسألةٍ دموية؟ وتتبع هذا المعنى في سائر آيات الأحكام حتى أحكام الإيلاء والظهار، ففي أي كتاب من كتب التشريع تجد مثل هذا الروح؟ بل في أي لسان تجد هذا المزاج العجيب؟ تالله لو أن أحدًا حاول أن يجمع في بيانه بين هذين الطرفين ففرق همه ووزع أجزاء نفسه، لجاء بالأضداد المتنافرة ولخرج بثوب بيانه رقعًا ممزعة. انتهى.


****
دقائق فقهية.
جاء في التحرير لابن عاشور: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذَا كَانَ حُكْمًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: 45] وَنَقَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ حِكَايَةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَيْفَ تَصْلُحُ نَسْخًا لِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ حَتَّى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَمَحَلُّهُ مَا لم يَأْتِي فِي شَرْعِنَا خِلَافُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» عَنِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فِي الْقَتْلى هُوَ نِهَايَةُ الْكَلَامِ وَقَوْلَهُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ عُمُومُ الْمُسَاوَاةِ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} لِأَنَّ الْقَتْلَى عَامٌّ وَخُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ لَا يُبْطِلُ عُمُومَ أَوَّلِهَا، وَلِذَلِكَ قَالُوا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ.
قُلْتُ- والكلام لابن عاشور: يَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّفْصِيلِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا وَأَنَّ الْكَلَامَ بِأَوَاخِرِهِ فَالْخَاصُّ يُخَصِّصُ الْعَامَّ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ مِنِ اعْتِبَارِ كَوْنِهِ تَفْصِيلًا إِلَّا أَنْ يَقُولُوا إِنَّ ذَلِكَ كَالتَّمْثِيلِ (اى امثلةً للقصاص وليس حصراً وتفصيلاً). [SUP]([SUP][15][/SUP])[/SUP]
وهو الذي قاله العلامة الجصاص (الحنفي) لتأييد مذهبه الفقهي وحمل الآية على مفهومها حين يقول:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى] وهَذَا كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى مَا بَعْدَهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَكَانَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا مِنْ لَفْظِهِ وَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الْقَتْلَى. انتهى [SUP]([SUP][16][/SUP])[/SUP]
قلتُ: والحق أن الشيخ أغفل بنية النص تماماً، لأنه إن نظرت إلى صدر الآية وتوهمتَ أنه مكتفٍ بنفسه، ترى ما بعده مفتقراً إليه، فلا يستقيم بناء قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد.... إلخ} إلا على البناء على صدر الآية قبلها لبيان موضوع هذا الحكم ابتداءً. فالسياق البنيوي مستقيم في ارتباط الآية بعضها ببعضٍ.
ثم وجدت ما قاله العلامة علي بن محمد بن علي، المعروف بالكيا الهراسي الشافعي [SUP]([SUP][17][/SUP])[/SUP]:
ظن ظانُّون أن أول الكلام تامٌ في نفسه، وأن الخصوص بعده في قوله: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) لا يمنع من التعلق بعموم أوله، وهذا غلط منهم، لأن الثاني ليس مستقلا دون البناء على الأول، إذ قول القائل: «الحر بالحر والعبد بالعبد» لا يفيد حكم القصاص إلا على وجه البناء على الأول، فإن الثاني ليس الأول، وتقديره: كتب عليكم القصاص وهو الحر بالحر قصاصا، والعبد بالعبد قصاصا، فوجب بناء الكلام عليه. انتهى.
قال ابن عاشور:
وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ سَأَلْتُ الْعَلَّامَةَ الْجِدَّ الْوَزِيرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَجْهِ مَجِيءِ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الْمُشْعِرَةِ بِأَلَّا يُقْتَصَّ مِنْ صِنْفٍ إِلَّا لِقَتْلِ مُمَاثِلِهِ فِي الصِّفَةِ فَتَرَكَ لِي وَرَقَةً بِخَطِّهِ فِيهَا مَا يَأْتِي:
الظَّاهِرُ -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- أَنَّ الْآيَةَ : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ...} [المائدة: 45] نَزَلَتْ إِعْلَامًا بِالْحُكْمِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تَأْنِيسًا وَتَمْهِيدًا لِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِذَلِكَ تَضَمَّنَتْ إِنَاطَةَ الْحُكْمِ بِلَفْظِ (النَّفْسِ) الْمُتَنَاوَلِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَلَمْ تَتَضَمَّنْ حُكْمًا لِلْعَبِيدِ وَلَا لِلْإِنَاثِ، وَصُدِّرَتْ بِقَوْلِهِ :{وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها}.
وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] صُدِّرَتْ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}.
وَنَاطَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْحُرِّيَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِلْأَصْنَافِ كُلِّهَا، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْعَبِيدِ وَالْإِنَاثِ رَدًّا عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ لَهُمْ.
وَخَصَّصَ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى لِلدَّلَالَةِ على أَن دمهَا مَعْصُومٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اقْتَصَّ لَهَا مِنَ الْأُنْثَى وَلَمْ يَقْتَصَّ لَهَا مِنَ الذَّكَرِ صَارَ الدَّمُ مَعْصُومًا تَارَةً لِذَاتِهِ غَيْرَ مَعْصُومٍ تارةً أُخْرَى، [وهذا لا يقوم في العقل، فالدلالة على القصاص للأنثى من الذكر مفهومٌ بدلالة السياق العقلي المنطقي، أو القرينة العقلية المعنوية] [SUP]([SUP][18][/SUP])[/SUP]، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ التَّبْلِيغِ حَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ مُتَضَمِّنًا لِدَلِيلِهِ، فَقَوْلُ الشاعر:
كَتَبَ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ.
حكمٌ جاهلي اهـ.
يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا إِلَّا إِبْطَالُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَرْكِ الْقِصَاصِ لِشَرَفٍ أَوْ لِقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ، فَقَصَدَتِ التَّسْوِيَةَ بِقَوْلِهِ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} أَيْ لَا فَضْلَ لِحُرٍّ شَرِيفٍ عَلَى حَرٍّ ضَعِيفٍ، وَلَا لِعَبِيدِ السَّادَةِ عَلَى عَبِيدِ الْعَامَّةِ.
وَقَصَدَتْ مَنْ ذِكْرِ الْأُنْثَى إِبْطَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِجِنَايَةِ الْأُنْثَى، وَاعْتِبَارِهَا غَيْرَ مُؤَاخَذَةٍ بِجِنَايَاتِهَا.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: (حُكْمٌ جَاهِلِيٌّ) أَنَّهُ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْبَيْتَ لِعُمَرَ ابْن أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ شَاعِرٌ إِسْلَامِيٌّ مِنْ صَدْرِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ الْوَجْهُ أَلَّا يَقُولَ: {والأنثى بِالْأُنْثى} الْمُشْعِرُ بِأَنَّ الْأُنْثَى لَا تُقْتَلُ بِالرَّجُلِ مَعَ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يُقْتَصُّ مِنْهَا لِلرَّجُلِ.
قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَيْدَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْجَارِيَ فِي الْعُرْفِ أَنَّ الْأُنْثَى لَا تَقْتُلُ إِلَّا أُنْثَى، إِذْ لَا يَتَثَاوَرُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَذِكْرُ بِالْأُنْثى خَارِجٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ كَمَخْرَجِ وَصْفِ السَّائِمَةِ فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ».
وَالْخُلَاصَةُ أَنَّ الْآيَةَ لَا يَلْتَئِمُ مِنْهَا مَعْنًى سَلِيمٌ مِنَ الْإِشْكَالِ إِلَّا مَعْنَى إِرَادَةِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ لِقَصْدِ إِبْطَالِ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ. انتهى [SUP]([SUP][19][/SUP])[/SUP]
يقول صاحب المنار: إن مفهوم اللفظ بحد ذاته وسياق مقابلة الأصناف بالأصناف يُفْهَم أنه لا يُقْتَل فريقٌ (أو جنسٌ) بفريق آخر، وهو غير مُراد على إطلاقه ; فقد جرى العمل من زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن على قتل الرجل بالمرأة، واختلفوا في قتل الحر بالعبد، فذهب أبو حنيفة وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به إذا لم يكن سيده، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل به مطلقا، والاختلاف في قتل الرجل بالمرأة أضعف، ولهذه الخلافات زعم بعضهم أن في الآية نسخا.
وإنما منشأ الخلاف أدلة أخرى من السنة وغيرها، والاعتبار بمفهوم المخالفة [SUP]([SUP][20][/SUP])[/SUP]
في الآية وعدمه، والقرآن فوق كل خلاف. فمنطوق الآية لا مجال للخلاف فيه، وهو أن الحر يقتل بالحر إلخ، وأما كون الحر يقتل بالعبد والرجل بالمرأة فهذا يؤخذ من لفظ القصاص ولا يعارضه مفهوم التفصيل، فإن بعض أهل الأصول لا يعتبر المفهوم المخالف للمنطوق، وبعضهم يعتبره بشرط لا يتحقق هنا لما ذكروه في سبب النزول منطبقا على ما ذكرناه عن العرب. انتهى[SUP]([SUP][21][/SUP])[/SUP]
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَا عَلَى إِثْبَاتِهِ مِنْ جِهَةِ مَا وَرَدَ عَلَى كُلِّ تَأْوِيلٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِنِ انْتِقَاضٍ بِجِهَةٍ أُخْرَى،
فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى} مَحْمَلُهُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ مُسَاوَاةُ أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ دُونَ تَفَاضُلٍ بَيْنَ الْأَفْرَادِ.
ثُمَّ أَدِلَّةُ الْعُلَمَاءِ فِي تَسْوِيَةِ الْقِصَاصِ بَيْنَ بَعْضِ الْأَصْنَافِ مَعَ بَعْضٍ الذُّكُورِ بِالْإِنَاثِ وَفِي عَدَمِهَا كَعَدَمِ تَسْوِيَةِ الْأَحْرَارِ بِالْعَبِيدِ عِنْدَ الَّذِينَ لَا يُسَوُّونَ بَيْنَ صِنْفَيْهِمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَدَاوُدَ أَدِلَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذَا الْقَيْدِ الَّذِي فِي ظَاهِرِ الْآيَةِ...
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَخَذَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: {كتب عليكم القصاص في الْقَتْلى}
وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ مُخَصِّصًا [SUP]([SUP][22][/SUP])[/SUP] وَلَمْ يَسْتَثنِ مِنْهُ إِلَّا الْقِصَاصَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ وَاسْتِثْنَاؤُهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ غَيْرُ مَعْصُومِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْمَعَاهَدُ فَفِي حُكْمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ إِيَّاهُ مَذَاهِبُ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَنَفَيَا الْقِصَاصَ مِنَ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ وَأَخَذَا بِحَدِيثِ «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ».
، وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ قَالَا لَا قِصَاصَ مِنَ الْمُسْلِمِ إِذَا قَتَلَ الذِّمِّيَّ وَالْمُعَاهَدَ قَتْلَ عُدْوَانٍ وَأَثْبَتَا الْقِصَاصَ مِنْهُ إِذَا قَتَلَ غِيلَةً.
وَأَمَّا الْقِصَاصُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي قَطْعِ الْأَطْرَافِ فَلَيْسَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [الْمَائِدَة: 45] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ.
وَنَفَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ الْقِصَاصَ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ اسْتِنَادًا لِعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَسُكُوتِ الصَّحَابَةِ، وَاسْتِنَادًا لِآثَارٍ مَرْوِيَّةٍ، وَقِيَاسًا عَلَى انْتِفَاءِ الْقِصَاصِ مِنَ الْحُرِّ فِي إِصَابَةِ أَطْرَافِ الْعَبْدِ فَالنَّفْسُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ. وَالْقِصَاصُ مِنَ الْعَبْدِ لِقَتْلِهِ الْحُرَّ ثَابِتٌ عِنْدَهُمَا بِالْفَحْوَى، وَالْقِصَاصُ مِنَ الذَّكَرِ لِقَتْلِ الْأُنْثَى ثَابِتٌ بِلَحْنِ الْخِطَابِ (أي بمفهوم الموافقة- الذي بيناه في الهامش- بمعنى أنه إذا كان دم المرأة معصوم ونص الشارع على قتل المرأة بها، فهو كذلك معصومٌ إذا قتلها رجلٌ فيُقتل بها). انتهى [SUP]([SUP][23][/SUP])[/SUP]
قال إسماعيل بن إسحاق: وقد قال قوم: يقتل الحرُّ بالعبد، والمسلم بالذمي. هذا قول الثوري، والكوفيين، واحتجوا بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45]. [SUP]([SUP][24][/SUP])[/SUP]
وقال مالك والليث والشافعي وأبو ثور: لا يقتَل حرٌ بعبد. وهذا مذهب أبى بكر وعمر وعلى وزيد بن ثابت، قال إسماعيل بن إسحاق: وغلط الكوفيون في التأويل؛ لأن معنى قوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] إنما هي النفس المكافئة للنفس في حرمتها وحدودها؛ لأن القتل حد من الحدود، ولو قذف حرٌ عبدًا لما كان عليه حد القذف وكذلك الذمي. والحدود في الأحرار من الرجال والنساء واحدة، وحرمتهم واحدة، ويبين ذلك قوله تعالى في نسق هذه الآية: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} [المائدة: 45] فعلمنا أن العبد والكافر خارجان من ذلك؛ لأن الكافر لا يسمى بأنه متصدق ولا مكفَّر عنه، وكذلك العبد لا يجوز أن يتصدق بدمه ولا بجرحه؛ لأن ذلك إلى سيده، قال تعالى: {فمن عُفِى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} [البقرة: 178].
وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس؛ كانت النفس أحرى بذلك، ومن فرَّق منهم بين ذلك فقد ناقض. [SUP]([SUP][25][/SUP])[/SUP]
ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد رواية: أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة. وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير، وعبد الملك بن مروان والزهري ومحمد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابت؛ ثم قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة لمن أباح قتل جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر. [SUP]([SUP][26][/SUP])[/SUP]
****
الدية والعفو وبناء مجتمع التسامح.
قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}
عن ابن عباس: {فمن عفي له من أخيه شيء} يقول: فمن تُرِكَ له من أخيه شيء [SUP]([SUP][27][/SUP])[/SUP]
يعني: أخذ الدية بعد استحقاق الدم، وذلك العفو. أو ترك القود والدية كليهما.
ولفظ {من أخيه} يوحي بترقيق القلوب بالتذكير بأخوة النسب لآدم، ونسب الدين وذلك لتمهيد قلوبهم لقبول العفو والأداء بإحسان والاتباع بالمعروف.
واشتق منها العلماء الرد على الخوارج، حيث لم يرفع صفة أخوة الإسلام عن القاتل.
ولفظ {شيء} نكرة موغلةٌ في التنكير. و{من} للتقليل، تقديرها (فَمن تُرك أو عُفى له من أخيه شيئاً من العفو...)، واستدلوا بها أنه إذا رضي بالدية بعضُ أولياء الدم دون بعضٍ، أُخذت الدية، وحُفظت نفس القاتل.
وجاء التعبير بلفظ شيء منكرا لإفادة التقليل. أى: فمن عفى له من أخيه ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز ولو أقل قليل، تم العفو وسقط القصاص، ولم تجب إلا الدية، وذلك بأن يعفو بعض أولياء الدم، لأن القصاص لا يتجزأ.
وفي ذلك تحبيب من الشارع الحكيم لولى الدم، في العفو وفي قبول الدية، إذ العفو أقرب إلى صفاء القلوب، وتجميع النفوس على الإخاء والتعاطف والتسامح. وفيه- أيضا- إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية من التعيير من قبول أخذ الصلح في قتل العمد، وعدهم ذلك لونا من بيع دم المقتول بثمن بخس. قال بعضهم يحرض قومه على الثأر.
فلا تأخذوا عقلا من القوم إننى ... أرى العار يبقى والمعاقل تذهب
وقال شاعر آخر يذكر قوما لم يقبلوا الصلح عن قتيل لهم:
فلو أنَّ حيّاً يَقْبل المالَ فِديةً ... لسُقْنا لهم سَيِّبا من المال مُفْعَما.
ولكنْ أَبَى قومٌ أُصيب أخوهمُ ... رضا العارِ فاختاروا على اللبنِ الدما.
قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}
يُرِيدُ فَمَنْ عَفَا عَنِ الدَّمِ، فَلْيَتَّبِعْ بِالدِّيَةِ اتِّبَاعًا بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: يُطَالِبُ مُطَالَبَةً جَمِيلَةً، لَا يُرْهِقُ الْمَطْلُوبَ، وَلْيُؤَدِّ الْمُطَالَبُ الْمَطْلُوبَ، أَدَاءً بِإِحْسَانٍ، لَا مَطْلَ فِيهِ وَلَا دِفَاعَ عَنِ الْوَقْتِ.
ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} يَعْنِي تَخْفِيفًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أُلْزِمُوه، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيٍّ إِلَّا أَنْ يَقْتَصَّ أَو يعْفُو.ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أَيْ: بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ فَقَتَلَ.
{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم}. قَالُوا: يُقْتَلُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ. [SUP]([SUP][28][/SUP])[/SUP]
وقيل: يرد الدية إلى أهل القاتل، وعليه العذاب في الآخرة. وقيل: يعزره أولوا الأمر. والأول أشبه بالمعنى، وذلك لوصف العذاب الأليم ومن أجل حفظ أصل وروح التشريع في الآية...
واختلف الفقهاء فيمن قَتَلَ بعد أخذ الدية، فقال مالك والشافعي، وكثير من العلماء هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة، وقال آخرون عذابه أن يقتل ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام.
أقول: وبهذا نرى أن الإسلام قد جمع في تشريعه الحكيم لعقوبة القتل بين العدل والرحمة. إذ جعل القصاص حقا لأولياء المقتول إذا طالبوا به لا ينازعهم في ذلك منازع وهذا عين الإنصاف والعدل.
وجعل الدية عوضا عن القصاص إذا رضوا بها باختيارهم، وهذا عين الرحمة واليسر.
وبالعدالة والرحمة تسعد الأمم وتطمئن في حياتها إذ العدالة هي التي تكسر شره النفوس، وتغسل غل الصدور، وتردع الجاني عن التمادي في الاعتداء، لأنه يعلم علم اليقين أن من وراء الاعتداء قصاصا عادلا.
والرحمة هي التي تفتح الطريق أمام القلوب لكي تلتئم بعد التصدع وتتلاقى بعد التفرق، وتتوادد بعد التعادي، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو. فلله هذا التشريع الحكيم الذي ما أحوج العالم إلى الأخذ به، والتمسك بتوجيهاته.

تؤخَذ الدية من قاتل العمد بشرط رضاه أم بغير هذا الشرط؟
اختلف العلماء في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولى المقتول بالخيار؛ إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يرضَ القاتل. رُوى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي، والشافعي وأحمد، وإسحاق وأبو ثور.
وقال آخرون: ليس لولى المقتول عمدًا إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا أن يرضى القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك، وهو المشهور عنه، وبه قال الثورى والكوفيون.
وحجة القول الأول: قوله تعالى: {فمن عفى له من أخيه شيء} [البقرة: 178] أى ترك له دمه، ورضى منه بالدية {فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178] ، أى فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف فى المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء بإحسان{ ذلك تخفيف من ربكم} [البقرة: 178] ومعناه: أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم غير النفس بالنفس كما قال تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] فتفضل الله على هذه الأمة بالتخفيف والدية إذا رضى بها ولى الدم. واحتجوا أيضًا بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما أن يقاد)، وهذا نص قاطع في أنه جعل أخذ الدية أو القود إلى أولياء الدم.
وأيضًا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن عليه فرضًا إحياء نفسه، وقد قال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} [النساء: 29].
قال الطحاوي: وحجة أهل المقالة الثانية: حديث أنس بن مالك في قصة الرُّبيِّع حين كسرت ثنية المرأة؛ فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكسر ثنيتها، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (يا أنس، كتاب الله القصاص) فلما حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقصاص، ولم يخيرها بين القصاص وأخذ الدية؛ ثبت بذلك أن الذى يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد هو القصاص؛ إذ لو كان يجب للمجنى عليه الخيار بين القصاص والعفو لأعلمها النبى -صلى الله عليه وسلم- بما لها أن تختار من ذلك. [SUP]([SUP][29][/SUP])[/SUP]
ألا ترى أن حاكمًا لو تقدم رجلٌ إليه في شيءٍ يجب له فيه أحد شيئين، فثبت عنده حقه أنه لا يحكم بأحد الشيئين دون الآخر، وإنما يحكم له بأن يختار ما أحب منهما فإن تعدى ذلك فقد قصر عن فهم الحكم، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-أحكم الحكماء، فلما حكم بالقصاص وأخبر أنه كتاب الله ثبت ما قلناه [SUP]([SUP][30][/SUP])[/SUP]، ووجب أن يعطف عليه حديث أبى هريرة، ويجعل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهما فهو بالخيار بين أن يعفو، أو يقتص، أو يأخذ الدية على الرضا من الجاني بغُرْم الدية حتى تتفق معانى الآثار.
وأما قولهم: إن عليه فرضًا إحياء نفسه، فإنا رأيناهم قد أجمعوا أن الولي لو قال للقاتل: قد رضيت أن آخذ دارك هذه على ألا أقتلك؛ أن الواجب على القاتل فيما بينه وبين الله تسليم ذلك وحقن دم نفسه، فإن أبى لم يجبره عليها، ولم يؤخذ منه كرهًا، ويُدفَع إلى الولي، فكذلك الدية لا يُجْبَر عليها، ولا تؤخَذ منه كرهًا. [SUP]([SUP][31][/SUP])[/SUP]
قلتُ- متأمله: استدلال الإمام الطحاوي ضعيف لا يقف على قدمين أمام أدلة القول الأول.
******

"ولكم في القصاص حياةٌ".
يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] .
وهنا وجدت بحثاً بديعا للأستاذ الأديب مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله- يرد فيه على أحد السفهاء الذي ادعى أن كلمة العرب (القتل أنْفَى للقتل) أبلغ فقال:
1- بدأ الله تعالى الآية بقوله {وَلَكُمْ} [البقرة: 179]، وهذا قيد يجعل هذه الآية خاصة بالإنسانية المؤمنة التي تطلب كمالها في الإيمان، وتلتمس في كمالها نظام النفس، وتقرر نظام النفس بنظام الحياة؛ فإذا لم يكن هذا متحققًا في الناس فلا حياة في القصاص، بل تصلح حينئذ كلمة الهمجية: القتل أنفى للقتل، أي اقتلوا أعداءكم ولا تدعوا منهم أحدًا، فهذا هو الذي يبقيكم أحياء وينفي عنكم القتل؛ فالآية الكريمة بدلالة كلمتها الأولى موجهة إلى الإنسانية العالية، لتوجه هذه الإنسانية في بعض معانيها إلى حقيقة من حقائق الحياة.
2- قال: {فِي الْقِصَاصِ} [البقرة: 179] ولم يقل في القتل، فقيده بهذه الصيغة التي تدل على أنه جزاء ومؤاخذة، فلا يمكن أن يكون منه المبادأة بالعدوان، ولا أن يكون منه ما يخرج عن قدر المجازاة قل أو كثر.
3- تفيد هذه الكلمة "القصاص" بصيغتها "صيغة المفاعلة" ما يشعر بوجوب التحقيق وتمكين القاتل من المنازعة والدفاع، وألا يكون قصاص إلا باستحقاق وعدل؛ ولذا لم يأت بالكلمة من اقتص مع أنها أكثر استعمالًا؛ لأن الاقتصاص شريعة الفرد، والقصاص شريعة المجتمع.
4- من إعجاز لفظة القصاص هذه أن الله -تعالى- سمى بها قتل القاتل، فلم يسمه قتلًا كما فعلت الكلمة العربية؛ لأن أحد القتلين هو جريمة واعتداء، فنزه -سبحانه- العدل الشرعي حتى عن شبهه بلفظ الجريمة؛ وهذا منتهى السمو الأدبي في التعبير.
5- ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى أنه سيأتي في عصور الإنسانية العالمة المتحضرة عصر لا يرى فيه قتل القاتل بجنايته إلا شرًّا من قتل المقتول؛ لأن المقتول يهلك بأسباب كثيرة مختلفة، على حين أن أخذ القاتل لقتله ليس فيه إلا نية قتله؛ فعبرت الآية باللغة التي تلائم هذا العصر القانوني الفلسفي، وجاءت بالكلمة التي لن تجد في هذه اللغة ما يجزئ عنها في الاتساع لكل ما يراد بها من فلسفة العقوبة.
6- ومن إعجاز اللفظة أنها كذلك تحمل كل ضروب القصاص من القتل فما دونه، وعجيب أن تكون بهذا الإطلاق مع تقييدها بالقيود التي مرت بك؛ فهي بذلك لغة شريعة إلهية على الحقيقة، في حين أن كلمة القتل في المثل العربي تنطق في صراحة أنها لغة الغريزة البشرية بأقبح معانيها؛ وبذلك كان تكرارها في المثل كتكرار الغلطة؛ فالآية بلفظة القصاص تضعك أمام الألوهية بعدلها وكمالها، والمثل بلفظة القتل يضعك أمام البشرية بنقصها وظلمها.
7- ولا تنس أن التعبير بالقصاص تعبير يدع الإنسانية محلها إذا هي تخلصت من وحشيتها الأولى وجاهليتها القديمة، فيشمل القصاص أخذ الدية والعفو وغيرهما؛ أما المثل فليس فيه إلا حالة واحدة بعينها كأنه وحش ليس من طبعه إلا أن يفترس.
8- جاءت لفظة القصاص معرفة بأداة التعريف، لتدل على أنه مقيد بقيوده الكثيرة؛ إذ هو في الحقيقة قوة من قوى التدمير الإنسانية فلا تصلح الإنسانية بغير تقييدها.
9- جاءت كلمة "حياة" منونة، لتدل على أن ههنا ليست بعينها مقيدة باصطلاح معين؛ فقد يكون في القصاص حياة اجتماعية، وقد يكون فيه حياة سياسية، وقد تكون الحياة أدبية، وقد تعظم في بعض الأحوال عن أن تكون حياة.
10- إن لفظ "حياة" هو في حقيقته الفلسفية أعم من التعبير "بنفي القتل"؛ لأن نفي القتل إنما هو حياة واحدة، أي ترك الروح في الجسم، فلا يحتمل شيئًا من المعاني السامية، وليس فيه غير هذا المعنى الطبيعي الساذج؛ وتعبير الكلمة العربية عن الحياة "بنفي القتل" تعبير غليظ عامي يدل على جهل مطبق لا محل فيه لعلم ولا تفكير، كالذي يقول لك: إن الحرارة هي نفي البرودة.
11- جعل نتيجة القتل حياة تعبير من أعجب ما في الشعر يسمو إلى الغاية من الخيال، ولكن أعجب ما فيه أنه ليس خيالًا، بل يتحول إلى تعبير علمي يسمو إلى الغاية من الدقة، كأنه يقول بلسان العلم: في نوع من سلب الحياة نوع من إيجاب الحياة.
12- فإذا تأملت ما تقدم وأنعمت فيه تحققت أن الآية الكريمة لا يتم إعجازها إلا بما تمت به من قوله: {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] [SUP]([SUP][32][/SUP])[/SUP]
فهذا نداء عجيب يسجد له من يفهمه؛ إذ هو موجه للعرب في ظاهره على قدر ما بلغوا من معاني اللب، ولكنه في حقيقته موجه لإقامة البرهان على طائفة من فلاسفة القانون والاجتماع، هم هؤلاء الذين يرون إجرام المجرم شذوذًا في التركيب العصبي، أو وراثة محتومة، أو حالة نفسية قاهرة، إلى ما يجري هذا المجرى؛ فمن ثم يرون أن لا عقاب على جريمة؛ لأن المجرم عندهم مريض له حكم المرضى؛ وهذه فلسفة تحملها الأدمغة والكتب، وهي تحول القلب إلى مصلحة الفرد وتصرفه عن مصلحة المجتمع، فنبههم الله إلى ألبابهم دون عقولهم، كأنه يقرر لهم أن حقيقة العلم ليست بالعقل والرأي، بل هي قبل ذلك باللب والبصيرة، وفلسفة اللب هذه هي آخر ما انتهت إليه فلسفة الدنيا.
13- وانتهت الآية بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، وهي كلمة من لغة كل زمن، ومعناها في زمننا نحن: يا أولي الألباب، إنه برهان الحياة في حكمة القصاص تسوقه لكم، لعلكم تتقون على الحياة الاجتماعية عاقبة خلافه فاجعلوا وجهتكم إلى وقاية المجتمع لا إلى وقاية الفرد.
وبعد فإذا كان في الآية الكريمة -على ما رأيت- ثلاث عشرة وجهًا من وجوه البيان المعجز، فمعنى ذلك من ناحية أخرى أنها أسقطت الكلمة العربية (القتل أنفى أو أوقى للقتل) ثلاث عشرة مرة. [SUP]([SUP][33][/SUP])[/SUP]
*****


([1] قال تعالى: " لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (177).

([2] تسمى الباء هنا باء الاستبدال أو العوض، وتدخل غالبًا على المتروك، مثاله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}.

([3] التحرير والتنوير (2/ 134)

([4] تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا (2/99- 101)

([5] تفسير الرازي (3/ 59، بترقيم الشاملة آليا)

([6] كُتِبَ هاهنا، بمعنى: فُرض وأُوجب،
راجع التفسير البسيط (3/ 529). وقال الراغب: ويعبر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفرض والعزم، بالكتابة، ووجه ذلك: أن الشيء يراد، ثم يقال، ثم يكتب، فالإرادة مبدأ، والكتابة منتهى، ثم يعبر عن المراد الذي هو المبدأ إذا أريد توكيده بالكتابة التي هي المنتهى.

([7] التحرير والتنوير (2/ 135)

([8] راجع لذلك الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (3/ 1051)

([9] راجع الواحدي-رحمه الله في التفسير البسيط (3/ 530) بزيادات شرحٍ وتعليق.

([10] التفسير الوسيط للشيخ سيد طنطاوي عفا الله عنا وعنه (1/ 368)

([11] التحرير والتنوير (2/ 135)

([12] رواه أحمد في المسند: 6797، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - وهو عبد الله بن عمرو بن العاص: "المسلمون تكافأ داؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". ورواه بنحوه أيضًا ابن ماجه: 2685. ورواه أحمد، بألفاظ مختلفة، مطولا ومختصرًا

([13]قال: «وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ فِي حَيَّيْنِ -مِنْ الْعَرَبِ- اقْتَتَلُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلٍ وَكَانَ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ: فَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ
لَيَقْتُلُنَّ بِالْأُنْثَى الذَّكَرَ، وَبِالْعَبْدِ مِنْهُمْ الْحُرَّ. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: رَضُوا وَسَلَّمُوا»
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالُوا مِنْ هَذَا، بِمَا قَالُوا-: لِأَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- إنَّمَا أَلْزَمَ كُلَّ مُذْنِبٍ ذَنْبَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ جُرْمَ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ، فَقَالَ: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ): إذَا كَانَ -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- قَاتِلًا لَهُ (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ): إذَا كَانَ قَاتِلًا لَهُ (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) إذَا كَانَتْ قَاتِلَةً لَهَا. لَا أَنْ يُقْتَلَ بِأَحَدٍ مِمَّنْ لَمْ يَقْتُلْهُ لِفَضْلِ الْمَقْتُولِ عَلَى الْقَاتِلِ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ» كَمَا فى الْأُم (ج 6 ص 21) ، وَقد روى مُخْتَصرا عَن الشّعبِيّ: فِي أَسبَاب النُّزُول للواحدى (ص 33) ، وروى مطولا عَن مقَاتل بن حَيَّان: فى السّنَن الْكُبْرَى (ص 26). انظر أحكام القرآن للشافعي - جمع البيهقي (1/ 271)

([14] التحرير والتنوير للعلامة ابن عاشور (2/ 137)


([15] التحرير والتنوير (2/ 138)

([16]أحكام القرآن للجصاص ت قمحاوي (1/ 164).

([17] (المتوفى: 504هـ) في أحكام القرآن (1/ 42):


([18] إضافة من الباحث لبيان المقصود.

([19] التحرير والتنوير (2/ 139)

([20] في أصول الفقه: الْمَنْطُوق هُوَ الْأَمر الَّذِي يفهم من القَوْل فِي مَحل اللَّفْظ.
كوجوب الزَّكَاة فِي سَائِمَة الْغنم من قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة"، ففهمنا منها بمنطوقها أن الزكاة في السائمة من الغنم خصوصا.
وبعضهم يفهم منها بمفهوم المخالفة أنه لا زكاة في المعلوف من الغنم غير السائمة. فيرى انتفاء الحكم عما يخالف صفة المخصوص بالحكم.
والْمَفْهُوم هُوَ الْمَعْنى الَّذِي يُفْهَم من القَوْل فِي غير مَحل النُّطْق كفهم انْتِفَاء الزَّكَاة عَن المعلوفة، ثمَّ الْمَفْهُوم قد يكون مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وَقد يكون مَفْهُوم الْمُخَالفَة، أما مَفْهُوم الْمُخَالفَة فَكَمَا ذكرنَا وَهُوَ الَّذِي يكون وصف منطوقه يُخَالف وصف المسكوت عنه.
وَمَفْهُوم الْمُوَافقَة مَا يكون وصف المسكوت عنه يُوَافق وصف منطوقه، وَقد يكون أولى بذلك الْوَصْف الَّذِي هُوَ مَظَنَّة الحكم وَمُقْتَضى الْحِكْمَة، وَيُسمى فحوى الْخطاب ولحن الْخطاب وَمِنْه: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ}. فالمعنى أنه ما دام التأفف للوالدين منهىٌ عنه، فما فوقه من الإساءة حرامٌ (من باب أوْلى).
ويرى الإمام الشافعي وغيره أن مفهوم الموافقة يعد كالنص في قوته لأنه يستمد قوته من حكمة النص ومآله، بينما اختلفوا في قبول مفهوم المخالفة وعلَّق الكثير من علماء الأصول قبوله بشروطٍ ذكروها، وأنكر حجيته الإمام أبو حنيفة.


([21] تفسير المنار (2/ 102)

([22] لإنكاره مفهوم المخالفة- كما قدمنا- في قوله تعالى {الحر بالحر والعبد بالعبد... الآية}، وكذلك لاعتباره هذا الجزء من الآية تاما بنفسه عند قوله { كتب عليكم القصاص في القتلى} وأن ما بعده إما على التمثيل أو الحكم المنفصل- كما ذكرنا آنفا- في المتن.

([23] التحرير والتنوير (2/ 140)

([24] مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود،
وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والحكم، وقال البخاري، وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة: "من قتل عبده قتلناه، ومن جذعه جذعناه، ومن خصاه خصيناه" (رواه أبو داود والترمذي في السنن = وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".).
وخالفهم الجمهور وقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم تجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته، وأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق أولى. ، وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر، كما ثبت في البخاري عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" (صحيح البخاري) ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
راجع تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 490)

([25]شرح صحيح البخارى لابن بطال (8/ 499)

([26] تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 490)

([27] وأصل العفو هنا: الترك. إما ترك القصاص أو ترك القصاص والدية.... قال (ابن فارس) في مقاييس اللغة (4/ 56):
(عفو) العين والفاء والحرف المعتل أصلان يدل أحدهما على ترك الشيء، والآخر على طلبه. ثم يرجع إليه فروع كثيرة لا تتفاوت في المعنى.
فالأول: العفو: عفو الله -تعالى -عن خلقه، وذلك تركه إياهم فلا يعاقبهم، فضلا منه. قال الخليل: وكل من استحق عقوبة فتركته فقد عفوت عنه. يقال: عفا عنه يعفو عفوا. وهذا الذي قاله الخليل صحيح،ألا ترى أن النبي -عليه الصلاة والسلام -قال: «عفوت عنكم عن صدقة الخيل» معناه تركت أن أوجب عليكم الصدقة في الخيل.
ومن هذا الباب: العفو: المكان الذي لم يوطأ (أي المتروك). قال:
قبيلة كشراك النعل دارجة ... إن يهبطوا العفو لا يوجد لهم أثر
أي إنهم من قلتهم لا يؤثرون في الأرض.
وتقول: هذه أرض عفو (أي متروكة): ليس فيها أثر فلم تُرْعَ. وطعامٌ عفو: لم يمسه قبلك أحد.
فأما قولهم عفا: درس، فهو من هذا; وذلك أنه شيء يترك فلا يتعهد ولا ينزل، فيخفى على مرور الأيام. قال لبيد:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها.
فهذا معنى العفو، وإليه يرجع كل ما أشبهه.
وقول القائل: عفا، درس، وعفا: كثر -وهو من الأضداد -ليس بشيء، إنما المعنى ما ذكرناه، فإذا ترك ولم يتعهد حتى خفي على مر الدهر فقد عفا، وإذا ترك فلم يقطع ولم يجز فقد عفا. والأصل فيه كله الترك كما ذكرناه.
ومن هذا الباب قولهم: عليه العفاء، فقال قوم هو التراب; يقال ذلك في الشتيمة. فإن كان صحيحا فهو التراب المتروك الذي لم يؤثر فيه ولم يوطأ; لأنه إذا وطئ ولم يترك من المشي عليه تكدد فلم يك ترابا. وإن كان العفاء الدروس فهو على المعنى الذي فسرناه. قال زهير:
تحمل أهلها عنها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء
يقال عفت الدار فهي تعفو عفاء، والريح تعفو الدار عفاء وعفوا. وتعفت الدار تعفيا.
قال الخليل: عفا الماء، أي لم يطأه شيء يكدره. وهو عفوة الماء. وعفا المرعى ممن يحل به عفاء طويلا.
قال أبو زيد: عفوة الشراب: خيره وأوفره. وهو في ذلك كأنه ترك فلم يتنقص ولم يتخون. انتهى
فخلصنا من استعمال العفو في لغة العرب وفي اللغة القرآنية أنه يختص بالترك، ثم يأتي السياق التركيبي والمعنوي ليحدد أى الاضافات تناسب هذا الترك، وهو ما نرمي إليه هنا في دراسة الآية التي نحنن بصددها.



([28]تأويل مختلف الحديث (ص: 107)

([29] الحديث في صحيح البخاري (3/ 186):
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، أَنَّ أَنَسًا، حَدَّثَهُمْ: أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ، وَطَلَبُوا العَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ»، فَرَضِيَ القَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» زَادَ الفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَرَضِيَ القَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ.
أخرجه مسلم في القسامة باب (إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها رقم 1675). (ثنية) مفرد ثنايا وهي مقدم الأسنان. (جارية) هي المرأة الشابة هنا لا الأمة. (الأرش) دية الجراحة أو الأطراف. (العفو) النزول عن حقهم وعدم أخذ الدية أو غيرها. (كتاب الله القصاص) حكم كتاب الله تعالى القصاص وهو أن تكسر السن مقابل السن. (لأبره) أى لصدَّقه وحقق رغبته لما يعلم من صدقه وإخلاصه.
وبذلك يكون الحديث فيه الحجة التي ادعاه الإمام الطحاوي لنص الحديث أن أولياء الجارية المعتَدى عليها رفضوا الأرش ورفضوا العفو فصار الأمر إلى القصاص، وليس الأمر الأمر بحكم رسول الله ابتداءاً، وقد نص الحديث على قبولهم الأرش بعد. فسقط استدلال الطحاوي كله. وبقيت أدلة القول الأول قويةً لا تجد ردا مع اعتمادها على نص الآية.

([30] بناء على ما سيق في الهامش السابق سقط استدلال الطحاوي كله. وبقيت أدلة القول الأول قويةً لا تجد ردا مع اعتمادها على نص الآية.

([31] شرح صحيح البخارى لابن بطال (8/ 506)

([32] وفي قوله: يا أُولِي الْأَلْبابِ تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص.
والْأَلْبابِ: جمع لب وهو العقل الخالص من شوائب الأوهام، أو العقل الذكي الذي يستبين الحقائق بسرعة وفطنة، ويستخرج لطائف المعاني من مكانها ببراعة وحسن تصرف.
وخص النداء بأولى الألباب مع أن الخطاب بحكمة القصاص شامل لهم ولغيرهم لأنهم الذين يتدبرون عواقب الأمور، ويعرفون قيمة الحياة ويقدرون حكم التشريع قدرها.
وفي هذا النداء تنبيه على أن من ينكرون مصلحة القصاص وأثره النافع في تثبيت دعائم الأمن، يعيشون بين الناس بعقول غير سليمة، ولا يزال الناس يشاهدون في كل عصر ما يثيره القتل في صدور أولياء القتلى من أحقاد طاغية، لولا أن القصاص يخفف من سطوتها لتمادت بهم في تقاطع وسفك دماء دون الوقوف عند حد. انتهى من التفسير الوسيط لسيد طنطاوي.

([33] وحي القلم (3/ 364)
 
عودة
أعلى